أسبوع باريس للأزياء الراقية الأخير و«موسم الهجرة إلى الشرق»

بالموسيقى ودغدغة المشاعر والذكريات... تغنَّى المصممون بهويتهم وعُروبتهم

توجّه ستيفان رولان إلى الشرق والمغرب مستعيراً ألوانه من الصحراء وقبائل الطوارق (إ.ب.أ)
توجّه ستيفان رولان إلى الشرق والمغرب مستعيراً ألوانه من الصحراء وقبائل الطوارق (إ.ب.أ)
TT

أسبوع باريس للأزياء الراقية الأخير و«موسم الهجرة إلى الشرق»

توجّه ستيفان رولان إلى الشرق والمغرب مستعيراً ألوانه من الصحراء وقبائل الطوارق (إ.ب.أ)
توجّه ستيفان رولان إلى الشرق والمغرب مستعيراً ألوانه من الصحراء وقبائل الطوارق (إ.ب.أ)

هل هي نوستالجيا إلى زمن يبدو جميلاً مقارنة بالواقع؟ أم هو حنين لذكريات الصبا والبراءة؟ أم هي بحث عن الهوية ورغبة في تعزيز الانتماء للبلد الأم؟ أسئلة كثيرة أثارت الانتباه في موسم «الهوت كوتور» لربيع وصيف 2024. أخذت هذه الـ«نوستالجيا» وجوهاً متنوعة، لكنها تصب في النبع نفسه، ألا وهو الشرق والمغرب الأقصى.

توغّل ستيفان رولان جنوب المغرب إلى أفريفيا ليأخذ من الطوارق اللون الأزرق (ستيفان رولان)

اللافت فيها أنها لم تداعب مخيلة العرب فحسب، بل أيضاً مخيلة عدد من المصممين الأجانب، نهلوا من هذا النبع متوغلين في عُمق الصحراء الأفريقية أحياناً، مثل ستيفان رولان الذي يبدو وكأنه يتقفى أثر الراحل إيف سان لوران في مراكش والصحراء، مستعيراً ألوان الكثبان الذهبية والأزرق اللذين تشتهر بهما قبائل الطوارق، وكذلك حدائق ماجوريل التي ترتبط بالراحل سان لوران وبيته في مراكش. المصممة ديليك حنيف هي الأخرى صوّبت أنظارها نحو الشرق وتحديداً تركيا، مسقط رأسها؛ لتأخذ من تاريخها وتراثها، مفردات مزجتها بأسلوب أندلسي - مغربي. وكانت النتيجة قِطعاً تستوحي خطوطها من القفطان المغربي وتطريزاته نسقتها مع طرابيش الدراويش والسلاطين.

عادت ديليك حنيف إلى جذورها التركية لتستمد منها قفاطين وطرابيش مبتكرة (ديليك حنيف)

بيد أن هذه النوستالجيا ظهرت أكثر في عروض المصممين العرب. إيلي صعب توجّه إلى مراكش وجورج حبيقة إلى بيروت الستينات، وزهير مراد إلى لبنان في عهدها الفينيقي، وسارة الشرايبي إلى جبال الأطلس، وهكذا. هذه الأخيرة أطلقت على تشكيلتها عنوان «الأرض» لتؤكد لنا أهمية التمسك بالجذور. وعن غير قصد سلّطت الضوء على موجة تشهدها أوروبا حالياً تتمثل في شبه هجرة عكسية لجيل وُلد في المهجر، لكن ظل معلَّقاً لا يعرف أين يُرسخ أقدامه ويحلم بأرض أجداده.

الفرق بين المصممين الأجانب والعرب، أنه بينما يستند هؤلاء إلى المخيلة ونظرتها الرومانسية إلى الشرق، فإن العرب يتكئون على ذكريات الطفولة والشباب وتاريخ حافل من البطولات. والمقصود هنا، أن هذه العلاقة شخصية أكثر. ما يلفت النظر فيها أنها تؤكد أن المصممين العرب تحديداً اتفقوا أخيراً أن يتفقوا، من خلال تخاطر الأفكار ولقاء المشاعر. المتتبع لمسيرتهم منذ ثمانينات القرن الماضي إلى عهد قريب، يلفته أنهم خرجوا هذه المرة عن السيناريو الذي بدأوا به رحلتهم إلى العالمية. حينها كانوا يركزون على لغة الغرب في تصاميمهم وعروضهم على حد سواء. كانت هذه اللغة مفروضة عليهم؛ حتى ينجحوا في التواصل مع الآخر، ويقنعوه بمهاراتهم في وقت كانت في المنطقة العربية تستهلك أكثر مما تُنتج أو تُبدع.

المصمم السعودي العالمي محمد آشي شرح هذه النقطة في أحد لقاءاته السابقة مع الـ«الشرق الأوسط» قائلاً إنه كان متحفِظاً بعض الشيء عندما كان الأمر يتعلق بالخوض في جذوره. كان الدافع رغبةً تسكن أي مصمم في بداياته، في أن يفرض اسمه في الساحة العالمية. يشرح: «النظرة العامة إلى المصممين العرب آنذاك لم تكن تُشجع على فتح هذا الباب والخوض فيه بإسهاب».

من عرض محمد آشي (أ.ف.ب)

لكن شتان بين الأمس واليوم. فقد تغيَّر المشهد تماماً في السنوات القليلة الأخيرة. هناك اعتزاز بالهوية اجتاح العالم العربي ككل. انفتاح المملكة العربية السعودية كان له دور مهم في فرض منطقة الشرق الأوسط كقوة لا يستهان بها على المستوى العالمي. كل المصممين وبيوت الأزياء العالمية تتمنى رضاها وتتودد إليها. المغرب الأقصى هو الآخر يشهد حركة ديناميكية ملموسة تجعل المهاجرين الذين غادروه إلى أوروبا في الستينات والسبعينات بحثاً عن فرص العمل وحياة أفضل، يفكرون جدياً في العودة. ازدواجية المعايير السياسية والمصاعب الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا وتنامي السياسات الشعبوية قضت على أحلامهم وجعلتهم يعيدون التفكير في مفهوم الهوية والانتماء بمنظور جديد.

استعان ستيفان رولان بالعازف إبراهيم معلوف ليرافق ببوقه العارضات ويثير المشاعر (إ.ب.أ)

سواء كان السبب هذا أو ذاك أو مجرد تخاطر أفكار في اللاوعي، فإن المصممين العرب ترجموا هذه الموجة في أسبوع باريس للأزياء الراقية الأخير، بعروض تستدعي العاطفة والاعتزاز بالهوية. استعملوا كل العناصر التي من شأنها أن تحقق ذلك، وعلى رأسها الموسيقى. فهي أكثر ما ينجح في نقل المشاعر وتعزيز مشاعر «النوستالجيا». حتى ستيفان رولان، الذي يحب أن يصف نفسه بالمصمم المستشرق، استعان بالعازف إبراهيم معلوف ليرافق ببوقه العارضات على منصة «صحراوية». أما المصممة المغربية سارة الشرايبي، فاستعانت بصوت المغنية التونسية آمال المثلوثي، وجورج حبيقة بكل من فيروز وأم كلثوم.

بتسريحاتهن الكلاسيكية والمنمقة وماكياجهن المستوحى من الستينات أراد جورج حبيقة أن يستحضر بيروت أيام البساطة والسلام (جورج حبيقة)

يقول المصمم جورج حبيقة عن تشكيلته: إنها «الأولى من نوعها بالنسبة لي... لأنها مستلهمة من العالم العربي. حرصت فيها على أن أُبرز كل ما يكتنزه عالمنا من جمال وثقافة وحب وإنسانية تلمسها في كل بلد عربي تزوره». يعود حبيقة بمخيلته إلى بيروت في الخمسينات والستينات والسبعينات، عندما كانت الحياة هنية وبسيطة. يستيقظ العرب على صوت فيروز وينامون على صوت «الست» أم كلثوم. كان هناك تفاؤل بالمستقبل، وهو ما جسده المصمم في خطوط عصرية محددة على الجسم وألوان متوهجة وتفاصيل أنيقة ومُبهجة مثل الورود التي ترتبط بالمنطقة وطاولة لعب الزهر وغيرها. تخايلت بها العارضات على نغمات أغنية «اعطني الناي لأغني» لفيروز، ثم أغنية «ألف ليلة وليلة» لأم كلثوم. بتسريحاتهن الكلاسيكية والمنمقة وماكياجهن المستوحى من الستينات يُخلفن الانطباع بأنهن متوجهات إلى حفلة، وما أكثر الحفلات في ذلك الوقت. فالستينات كانت حقبة فارقة بالنسبة للمرأة. انطلقت فيها شرارة تحررها ودخولها ميادين عمل كانت حكراً على الرجل. هذه الحركات النسوية العالمية لم تؤثر على اهتمام المرأة العربية بأناقتها.

الأنسجة التقليدية ذات الطابع الشرقي التي تستعمل في السجاد أو على الكنبات كانت أيضاً حاضرة في عرض جورج حبيقة (جورج حبيقة)

هذه الروح التواقة للحياة، بكل أشكالها، لم تظهر في ألوان تتباين بين الأحمر، والأخضر، والوردي، والبنفسجي والأزرق فحسب، بل امتدت إلى إكسسوارات مبتكرة مثل أقراط أذن على شكل فنجان قهوة، في إشارة إلى أهمية قهوة الصباح العربية في المشرق. لتعزيز هذه الصورة، استعمل بقاياها التي تترسب في قعر الفنجان في نقشات وزخارف طبعت بعض القطع. الأنسجة التقليدية ذات الطابع الشرقي التي تستعمل في السجاد أو على الكنبات كانت أيضاً حاضرة في تنورات بشراشيب مطبوعة بالورود وصور الحلي العربية والهندسة المعمارية.

بالنسبة للمصممة سارة الشرايبي، فإن لا شيء يشد الإنسان إلى الأرض ويجعله يلتحم بها أكثر من مأساة طبيعية. الزلزال الذي تعرّض له المغرب في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي أظهر معادن الناس وأحيا روح الانتماء. فبقدر ما زعزع الزلزال جبال الأطلس، بقدر ما أيقظ روح الوطنية والإنسانية. لهذا لم تحلم الشرايبي ولم تشطح بخيالها إلى السماء أو النجوم أو الموتيفات الهندسية التي غلبت على تصاميمها من قبل. اختارت في المقابل «الأرض» لتكون تيمتها وعنواناً لثالث مشاركة لها كضيفة في أسبوع «الأزياء الراقية» الباريسي.

في تشكيلتها «الأرض» تستعير المصممة سارة الشرايبي مفرداتها من الحِرف التقليدية واعتزازها بهويتها المغربية (أ.ف.ب)

أرادت أن يُعبّر كل ما في العرض عن «ارتباط المرء بوطنه الأم... ألوانه، ترابه وروائحه» وفق قولها. تشققات هذه الأرض ومنحنياتها، إلى جانب ألوان مدينة مراكش الحمراء وألوان الرمال والكثبان والأزرق المطفي كانت العناصر التي لعبت عليها، من دون أن تتجاهل الحِرف اليدوية التي حمّلتها بمخزون غني من التقاليد أضفت عليها المصممة لمساتها العصرية. مثل جورج حبيقة وستيفان رولان وآخرين استعملت الموسيقى لتُخرج إلى السطح كل العواطف الجياشة التي كانت تعتمل بداخلها وهدفها أن تصيب الحضور بعدواها. وهذا ما حدث فعلاً وهم يستمعون إلى صوت الفنانة التونسية آمال المثلوثي وهي تصدح على الخلفية، فتزيد من درامية الحدث.

عاد زهير مراد في تشكيلته إلى الحضارة الفينيقية ليستحضر لنا صور نساء قويات مثل عشتروت وأليسار وتانيت (زهير مراد)

هذا الاحتفال بالصمود وروح المقاومة امتدت خيوطه إلى عرض زهير مراد، مع اختلاف في التفاصيل وأسلوب السرد. لم يحصُر المصمم نفسه في التاريخ القريب. بل توغّل إلى الحضارة الفينيقية ليستحضر لنا صور نساء مثل عشتروت وأليسار وتانيت. جسّد قوتهن من خلال الكثير من البريق والمعادن التي صاغها على شكل دروع تغطي كل الجسم تارة أحياناً. وفي حين كانت الصورة العامة لمحاربات يقاومن القُبح بالجمال والفوضى بالأناقة، فإن الحبكة السردية، ركّزت على الشغف الفينيقي بالبحر، حيث حاول المصمم اكتشاف «خبرة شعب قديم من الملاحين التجار، كانت مهمتهم تنصبّ على استكشاف العالم»، وفق ما جاء في البيان الصحافي.

كانت مدينة صور هي الوجهة التي تخيَّلها. استعار منها زخرفات معدنية بتدرجات ألوان الزجاج القزحي، وهي مادة شرح أنها اكتُشفت بحسب الأسطورة، من بين بقايا حريق اندلع ليلاً على رمال صور «هذه المدينة التي صمدت لمدة سبعة أشهر في وجه حصار الإسكندر الأكبر، وباتت ترمز إلى لبنان المعاصر، حيث الجمال هو عمل من أعمال المقاومة والصمود».

كل ما في تشكيلة زهير مراد كان مشدوداً إلى الجذور... بالسلاسل (زهير مراد)

وهكذا تناغمت في تشكيلته الثنيات وطيات الأقمشة مع زخرفات بأسلوب الأرابيسك طرزت على الموسلين والكريب واللوريكس البراق لتخلق تماوجاً يستحضر حركة البحار وتمايل السفن. كانت القطع عصرية بتفصيلها وخطوطها المحددة تخاطب كل لغات العالم، لكن التفاصيل التي قد تظهر في فستان مستوحى من الكيمونو مصنوع من الساتان العاجي بأطراف مزينة ببلورات تشبه رذاذ البحر، أو في فستان على شكل عباءة وآخر مزين بنقشات من فن الفسيفساء، فشدّت التشكيلة ككل إلى الجذور... بالسلاسل.


مقالات ذات صلة

أولمبياد باريس: الصراع على الذهبية بين المجموعات الضخمة والمصممين المستقلين

لمسات الموضة الأزياء التي صمّمتها دار «كنزو» لفريق الجودو الفرنسي (كنزو)

أولمبياد باريس: الصراع على الذهبية بين المجموعات الضخمة والمصممين المستقلين

أكثر من 160 قارباً، يحمل 10500 رياضي على طول نهر السين يتألقون بأزياء تُمثل بلدانهم. لكن المناسبة ليست عرض أزياء كما تعوَّدنا عندما يُذكر اسم باريس...

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة أقراط أذن من مجموعة «شوتينغ ستار» من الماس والذهب الأصفر والجمشت (تيفاني أند كو)

«تيفاني أند كو» تُشعل مجوهراتها بالنيران والشهب

للكثير من بيوت الأزياء أو المجوهرات ولادتان: ولادة تأسيسية؛ بمعنى تاريخ انطلاقها، وولادة ثانية تكون في الغالب إبداعية تبث فيها روحاً فنية تغير مسارها وتأخذها…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة حشد من رجال الشرطة والجيش لتأمين العاصمة الفرنسية قبل افتتاح ألعاب باريس (رويترز)

ماذا أرتدي في الأولمبياد؟ كن أنيقاً وابقَ مرتاحاً

الإرشادات المناسبة للملابس لتحقيق التوازن بين الأناقة والراحة عند حضور الألعاب الأولمبية الصيفية هذا العام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
لمسات الموضة من مجموعة "عريس صيف 2024" للمصمّم اللبناني نمر سعادة (دار أزياء نمر سعادة)

«عرسان» نمر سعادة يرتدون البدلة الملوّنة

ذهب مصمّم الأزياء اللبناني المتخصّص في الموضة الرجاليّة إلى أقصى الجرأة، عندما قرّر أن يُلبِس عريس الموسم بدلة ملوّنة.

كريستين حبيب (بيروت)
لمسات الموضة يقدر سعرها بأكثر من مليون دولار والأحجار هي السبب (فابيرجيه)

بيضة «فابيرجيه» الجديدة بمليون دولار… فمن يشتري؟

بيضة بمليون دولار.

جميلة حلفيشي (لندن)

أولمبياد باريس: الصراع على الذهبية بين المجموعات الضخمة والمصممين المستقلين

الأزياء التي صمّمتها دار «كنزو» لفريق الجودو الفرنسي (كنزو)
الأزياء التي صمّمتها دار «كنزو» لفريق الجودو الفرنسي (كنزو)
TT

أولمبياد باريس: الصراع على الذهبية بين المجموعات الضخمة والمصممين المستقلين

الأزياء التي صمّمتها دار «كنزو» لفريق الجودو الفرنسي (كنزو)
الأزياء التي صمّمتها دار «كنزو» لفريق الجودو الفرنسي (كنزو)

كل الأنظار ستتوجه اليوم نحو باريس. فالكل موعود بمشهد لا مثيل له. يقال إنه سيتضمن موكباً لأكثر من 160 قارباً، يحمل 10500 رياضي على طول نهر السين يتألقون بأزياء تُمثل بلدانهم. لكن المناسبة ليست عرض أزياء كما تعوَّدنا عندما يُذكر اسم باريس، بل مناسبة رياضية ربما تكون أهم نظراً لقاعدتها الجماهيرية الكبيرة: ألا وهي الألعاب الأوليمبية لعام 2024.

على مدى 16 يوماً، سيعيش عشاق كل أنواع الرياضات مباريات، سترفع من نسبة الأدرينالين في الجسم، وتُمتع العيون بمنافسات عالمية على الميداليات.

المنافسات على الميداليات تحتدم... والمصممون المستقلون هم الفائزون حتى الآن (د.ب.أ)

ومع ذلك لا يمكن أن نكون في باريس لأي حدث كان، ولا تحضر الموضة. فبموازاة هذه المنافسات الرياضية، سنتابع صراعاً على مستوى آخر يدور بين مصممين مستقلين نجحوا في استقطاب رياضيين شباب إلى صفهم، أو حصلوا على دعم من بلدانهم مثل لورا ويبر من آيرلندا وستيفان أشبول من فرنسا ولولوليمون من كندا، وعلي الإدريسي من المغرب، والمجموعات ذات الإمكانات الضخمة التي تُخوّل لها اقتحام أي فعالية أو حدث بسهولة، مثل مجموعة «أرماني» التي صممت ملابس الفريق الإيطالي، ومجموعة LVMH الفرنسية.

فريق المغرب على متن قارب في العرض العائم على نهر السين خلال حفل الافتتاح بأزيائه أزياء المستوحاة من رمال الصحراء والعلم المغربي (رويترز)

هذه الأخيرة، تنضوي تحتها 75 شركة منها «ديور» و«بيرلوتي» و«لوي فويتون» و«كنزو» وغيرها إلى جانب عدد من دور مجوهرات مثل «شوميه» التي ستصمم الميداليات الذهبية تحديداً. لهذا ليس غريباً أن يتوقَّع أن يكون لها نصيب الأسد.

ثم إن المجموعة لا تملك الإمكانات المادية واللوجيستية التي تخوِّل لها التعاقد مع أي فريق أو رياضي فحسب، بل تمتلك أيضاً الدعم الحكومي لما ضخّته من ملايين لتمويل هذا الحدث. في صورة تاريخية تداولتها وسائل الإعلام، في شهر يوليو (تموز) من العام الماضي، ظهر برنار آرنو، أغنى رجل في فرنسا وصاحب مجموعة «إل في إم آش» ليعلن في مؤتمر صحافي، مشاركة كلٍّ من «ديور» و«بيرلوتي» و«لوي فويتون» و«شوميه» وغيرهم في الأوليمبياد. كلٌّ حسب اختصاصه. «ديور» و«بيرلوتي» بتوفير الأزياء والإكسسوارات، و«لوي فويتون» بالعلب التي ستقدَّم فيها الميداليات الذهبية، و«شوميه» بتصميم الميداليات الذهبية تحديداً.

الأزياء التي صمَّمتها دار «بيرلوتي» للفريق الفرنسي (بيرلوتي)

مصممون مستقلون يدخلون المباريات

هذا الخطاب وكون الفعالية تجري في عقر عاصمة الموضة العالمية، التي تحتكرها المجموعة تقريباً، خلّف الانطباع بأنها ستأكل الأخضر واليابس، لكن ما حدث كان غير ذلك. اكتسبت الأزياء نكهات متنوعة مستمدة تارةً من التراث مثل ملابس فريق منغوليا التي سرقت الأضواء، أو من خبرات مصممين محليين، كما هو الحال بالنسبة لفرق كل من كندا وآيرلندا وإسبانيا.

فريق منغوليا على متن قارب في العرض العائم على نهر السين خلال حفل الافتتاح

حتى الفريق الفرنسي لم يكتفِ بما ستقدمه «ديور» أو «كنزو» أو «بيرلوتي» من منتجات، بعد أن تولت اللجنة الأوليمبية، ولأول مرة في تاريخ الأولمبياد، اختيار مصمم مستقل يقوم بهذه المهمة لأكثر من 60 رياضة.

يحمل رياضيو فريق إسبانيا الأعلام الإسبانية خلال حفل الافتتاح ويرتدون أزياء استوحتها شركة «جوما» الرياضية من العَلم الإسباني (أ.ف.ب)

كانت هذه اللفتة من نصيب الفرنسي ستيفان أشبول، مؤسس «بيغال»، ماركة طليعية متخصصة في الأزياء الرياضية. طُلب منه توفير ملابس عالية التقنية لمشاركين في أكثر من 60 رياضة عبر الألعاب الأولمبية والبارالمبية، من ركوب الدراجات إلى الرماية مروراً بكرة السلة على الكراسي المتحركة، علماً بأن هذه مهمة كانت تحتكرها شركات كبيرة مثل «نايكي» و«أديداس» من قبل. وفيما استغرق تصميم هذه المجموعات نحو ثلاث سنوات من أشبول، حسب قوله، فإن تصنيعها نفذته شركة فرنسية أخرى لها إمكانات لوجيستية لإنتاجها هي «لوكوك سبورتيف Le Coq Sportif».

شركة «جوما» الرياضية استوحت من العَلم الإسباني ألوانه للفريق ووردة القرنفل لرمزيتها الثقافية (موقع الشركة)

الفريق الإسباني أيضاً ظهر بأزياء من علامة إسبانية متخصصة في الأزياء الرياضية هي «جوما Joma»، التي تأسست عام 1965 في طليطلة.

مجموعة «تجمع بين التقاليد الكلاسيكية والحداثة، وهو أسلوب ظهر في الأقمشة عالية الأداء التي تم اختيارها». من الناحية الجمالية، زينتها زهرة القرنفل، كونها رمزاً متجذراً في الثقافة الإسبانية، واللونين الأحمر والأصفر، ألوان العَلم الإسباني.

المصممة الآيرلندية لورا ويبر، التي صممت أزياء فريق آيرلندا وباقي إكسسواراته، حرصت هي الأخرى على أن تجمع الأناقة بالراحة، مضيفةً لمسة شخصية على كل زي، من خلال تطريزات على طرف الأكمام تشير إلى المقاطعة التي ينتمي لها كل رياضي.

علي الإدريسي اختار للفريق المغربي أزياء مستوحاة من رمال الصحراء والعلم المغربي

المصمم المغربي علي الإدريسي الذي صمم ملابس الفريق الأولمبي المغربي هو أيضاً فكّر في تفاصيل تجعل هذه الأزياء خاصة. طرَّز على الجزء الداخلي من السترات أسماء لأبطال أولمبيين سابقين لتكريمهم من جهة وفتح حوار بين الأجيال من جهة ثانية. اختار للسترات لون البيج وطرّز أحد جوانبه بنجمة خضراء، فيما اختار للبنطلونات اللون الأحمر، في إشارة إلى العَلم المغربي. حتى الأحذية، التي جاءت ثمرة تعاونه مع فنان «بوب آرت» محمد أمين البلاوي، المعروف بـ«ريبل سبيريت»، غلبت عليها هذه الألوان من خلال أربطة حمراء وخضراء.

فريق كندا اختار ماركة «لولوليمون» لتصميم ملابس وإكسسوارات لاعبيه (أ.ب)

العلامة الكندية، «ليفت أون فرايداي Left On Friday»، التي أسسها مديرون تنفيذيون سابقون لشركة «Lululemon» في عام 2018، كان لها دور في تصميم أزياء وإكسسوارات فريق كرة الطائرة، فيما تولت «لولوليمون» تصميم باقي الملابس والإكسسوارات.

يلوح رياضيو فريق كندا بأعلامهم (رويترز)

هولندا أيضاً اختارت علامة محلية هي «ذي نيو أوريجينلز The New Originals» لتصميم ملابس فريق رقص «البريك دانس» الهولندي، فيما اختارت اللجنة الأولميبية النيجيرية علامة «أكتيفلي بلاك Actively Black»، للملابس الرياضية ومقرها لوس أنجليس.

ستيلا جين أبدعت مجموعة أنيقة استعملت فيها رسمة للفنان فيليب دودار (من موقعها على «إنستغرام»)

لا يختلف اثنان على أن تفويض الاتحادات الرياضية مسؤوليات التصميم للعلامات التجارية المتخصصة في المجال الرياضي، وغير المعروفة على المستوى العالمي، خطوة شجاعة من شأنها أن تسلط الأضواء عليها، وتنعش تجارتها بالنظر إلى الجمهور العالمي الذي يتابع هذه الفعاليات.

حفل الافتتاح وحده يتوقع أن يستقطب نحو مليار شخص من المشاهدين، في حين سيحضره 326000 شخص، بعد أن تم تقليص العدد من 600000 لأسباب أمنية، وهذا ما صرحت به المصممة الهايتية ستيلا جين، التي صممت أزياء فريق هايتي وكرمت من خلالها الفنان فيليب دودار، أيضاً ابن تاهيتي، باستعمال إحدى رسماته، ليأخذ هو الآخر نصيبه من الشهرة.

بداية علاقة الموضة بالأولمبياد

في عام 1992، دخلت الموضة أول مرة الألعاب الأولمبية. كان ذلك عندما طُلب من الياباني إيسي مياكي تصميم أزياء فريق ليتوانيا لحضور أولمبياد برشلونة. كانت هذه أول مرة تشارك فيها ليتوانيا كبلد مستقل بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. حينها تبرع المصمم بخدماته من دون أي مقابل. حازت التصاميم الكثير من الإعجاب لا سيما أنه دمج فيها أسلوبه الحداثي المتطور بعناصر ثقافية جسد فيها كيف يمكن أن تُعبِّر الرياضة عن حالة فنية.

كانت هذه هي نقطة التحول. بعدها بدأت مشاركات بيوت الأزياء والمصممين لتصبح منافساتهم تقليداً إلى اليوم.