مهما أسهب وأغدق المصمم إيلي صعب على تصاميمه من تطريزات وأغرقها بالزخرفات والتفاصيل، فإنها لن تصيب الناظر بالتخمة أو الملل. بالعكس تخرج من العرض وأنت تتوق للمزيد. لم تختلف هذه التشكيلة الموجهة لربيع وصيف 2024 عن غيرها. المغرب كان مصدر إلهامه ومكمن قوته هذه المرة. حتى جنيفر لوبيز، التي حضرت عرضه بفستان مثير يتميز بديكولتيه مفتوح و«كاب» لم يترك فيه المصمم أي سنتيمتر من دون أن يغرس فيه وروداً وأزهاراً، لم تنجح أن تسرق من «وردته المغربية» بريقها وسحرها.
يبدأ العرض وتتوالى الإطلالات، 64 بالتمام والكمال، ومعها صور تُلهب الخيال. تستحضر أميرة مغربية بدماء أندلسية مفعمة بالشاعرية تارة، أو صحراوية تضج بالعنفوان والقوة تارة أخرى، أو سمراء مراكشية بكل زهوها و«بهجتها» المُعدية. أطلق إيلي صعب على هذه التشكيلة عنوان «وردة الصحراء» قائلاً إن غموض المغرب استهواه، فغاص في تاريخه العريق وحضارته المتنوعة ليُبدع تشكيلةً سخيةً بقطع مستوحاة من القفطان المغربي وتفاصيله الفريدة، أو من البُرنس التقليدي الذي أخذ هنا شكل «كاب» طويل.
يقول إن مراكش كانت الوجهة الأساسية، حيث الأسواق الشعبية التي تفوح منها روائح التوابل المرصوصة على الواجهات وكأنها سجاد منسوج بألوان دافئة، والأضواء التي تنبعث من الصحراء في أوقات الغروب. الفضول والاختلاف كانا دافعين أساسيين له للسفر إلى هذه المنطقة وفق قوله: «المغرب يختلف عن لبنان... هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا وفي الوقت ذاته هناك اختلافات واضحة وكثيرة».
هذا الاختلاف التقطه بحسه الفني وترجمه بطريقته الخاصة. أخذ الموتيفات الهندسية التي تشتهر بها فنون العمارة المغربية وجسدها في «كابات» فخمة وفساتين سهرة مطرزة بخيوط من الذهب أو مرصعة بالأحجار. تقترب من هذه التطريزات، فتشدك بجمالية تستحضر حرفية اليد العاملة بالمغرب، سواء كانت هذه الأيادي تنقش الخشب أو تُزين الأسقف والأعمدة بالجص. عبقرية هؤلاء تتجلى في فنيتهم العفوية وفي حرفية متوارثة تطمح لابتكار أشكال جديدة تراعي كل ما من شأنه أن يُضفي عليها العملية والمعاصرة، مثل خلق شقوق تسمح بتسلل الضوء، لكن من دون أن يتجاهلوا قديمهم. أمر احترمه المصمم وترجمه في فساتين لعب فيها هو أيضاً على الضوء والظل من خلال خلقه تخريمات بالليزر، فضلاً عن خطوط وموتيفات هندسية وأخرى طبعتها ورود.
ورغم أنه قال في بيانه الصحفي إن مراكش كانت الوجهة التي جال في أسواقها وقصورها، فإن عنوان التشكيلة «وردة الصحراء» خلق فضولاً وتساؤلاتٍ عن موقعها الجغرافي. تساؤلات سرعان ما بدَدتها الإطلالات الأولى التي كشفت أنه لم يكتف بالمدينة الحمراء، وبأنه توغَل جنوباً، تحديداً إلى «وادي الورود» بوارزازات. منطقة تقع على بعد حوالي 6 ساعات بالسيارة جنوب شرق مراكش، وارتبطت في المخيلة بالسينما أكثر، حيث صورت فيها عدة أفلام عالمية مثل «لورانس العرب»، و«المصارع»، و«بابل»، وغيرها. عدد قليل من الناس يعرفون أنها تتوفر على «قصبات» وحدائق تداعب روائحها الزكية كل الحواس، وتختلط ألوانها الزاهية مع الألوان الذهبية لكثبان الرمل فتنقل الزائر إلى أجواء ألف ليلة وليلة.
هذه الأجواء، بغموضها وشاعريتها، طوَعها إيلي صعب بمرونة وبراعة. صحيح أنها جزء من جيناته، ينسجها في كل تشكيلاته بخيوط تجمع الإثارة بالإبهار، إلا أنها هنا كانت بلغة مغربية، من ناحية الألوان والموتيفات والتطريزات. يعترف أن مدينة مراكش بأزقتها وساحاتها وكذلك حاراتها القديمة غمرته بسحرها الممتد عبر التاريخ وفي الوقت ذاته بديناميكية معاصرة مثيرة. كل هذا التقطه بحسه الفني. لكنه لم يتجاهل أو يتنازل عن الأساسات التي تُميز أسلوبه الخاص، أو بالأحرى تعويذته التي يجذب بها نساء العالم، على الأقل في خط «الهوت كوتور». فعلى العكس من غيره، لم يكن هذا الخط بالنسبة له في أي وقت من الأوقات مجرد «بريستيج» أو أداة للترويج للأزياء الجاهزة أو لبيع العطور. كان دائماً العمود الفقري لـ«ميزون إيلي صعب» الذي يحقق له الربح والجاذبية على حد سواء. فمن الصعب أن لا تحلم أي امرأة لها الإمكانات، بغض النظر عن بيئتها وثقافتها وعمرها، بأن تتألق بزي من تصميمه في حفل مهم أو في ليلة العمر.
في هذه التشكيلة جمع تعويذته بسحر المغرب ليرسم لنا حديقةً غنيةً بالتطريز والفخامة. مثل حكواتي مخضرم، خاطب فيها كل الأذواق، ما عدا عاشقات اللون الأسود. فلوحة الألوان التي اعتمدها لربيع وصيف 2024 خلت منه تماماً. ربما لأنها مراكش الحمراء، وربما لأنها ورود الصحراء التي فرضت عليه أن يتجاهله ويستغني عنه تماماً.