عرض «روكساندا»... بين نوستالجيا الماضي وفنون الحاضر

من رحم الذاكرة استوحت المصممة تشكيلة تتراقص على القديم والمعاصر

تميزت التشكيلة بمفردات مترسخة في ذاكرة المصممة لراهبات من دير جراشانيكا (الشرق الأوسط)
تميزت التشكيلة بمفردات مترسخة في ذاكرة المصممة لراهبات من دير جراشانيكا (الشرق الأوسط)
TT

عرض «روكساندا»... بين نوستالجيا الماضي وفنون الحاضر

تميزت التشكيلة بمفردات مترسخة في ذاكرة المصممة لراهبات من دير جراشانيكا (الشرق الأوسط)
تميزت التشكيلة بمفردات مترسخة في ذاكرة المصممة لراهبات من دير جراشانيكا (الشرق الأوسط)

عندما تحضر شخصية كبيرة في السن والمقام عرض أزياء لأي شيء كان، متحدية آلام الركبة وصعوبة المشي، فهذا أكبر شهادة للمصمم بأنه يستحق الجُهد والعناء. هذا ما أكدته الصورة التي تم تداولها للنجمة البريطانية المخضرمة فانيسا ريدغريف البالغة من العمر 86 عاما، وهي تصل إلى عرض روكساندا إلينشيك بشعرها الأبيض وقميص واسع يحمل توقيع «روكساندا». كانت تتكئ على عكازها من جهة وتستند على ذراع آنا وينتور، عرّابة الموضة العالمية من الجهة الثانية. وبهذا أعطت العرض وأسبوع لندن للموضة على حد سواء نكهة مثيرة.

الممثلة البريطانية فانيسا ريدغريف لدى وصولها مكان العرض برفقة آنا وينتور (غيتي)

لم يذهب تعبها سُدى، فروكساندا لم تُخيب الآمال. قدمت لربيع وصيف 2024، عرضا تنوعت فيه الأفكار والاقتراحات، واختزلت فيه عشقها للفن والتاريخ. مكان العرض كان مركز «الباربيكان»، الذي صرّحت أنه من الأماكن المفضلة لديها في لندن لما يحتضنه من معارض فنية وأيضا لمعماره الخاص.

بدأ العرض بصوت السوبرانو البريطانية إيزابيل بيترز وهي تصدح بأوبرا لبوتشيني، وتوالت ألوان تتباين بين الهدوء والتوهج. أشعة الشمس الخفيفة سرت بين الأوصال تلتها قشعريرة لا تعرف كُنهها. هل هي بسبب الهواء البارد أم الرهبة التي أثارتها الإطلالات ذات الإيحاءات الدينية والخطوط الفنية.

كانت هناك أيضاً فساتين عصرية تخاطب كل الأذواق (الشرق الأوسط)

صرّحت المصممة بعد العرض أن مركز الباربيكان كان مناسباً جداً لتشكيلة تغلب عليها الأبعاد الانسيابية ونوع من البناء اقتبست بعض مفرداته من الأسلوب الوظيفي للمكان والمنطقة المحيطة به، وأيضاً من ذكريات ساكنة في الذاكرة لمعالم صربية؛ مثل جراشانيكا وستودينيكا وجيتسا الثقافية، بأبراجها المُقببة وألوانها المستمدة من الطوب الوردي المائل للأحمر. هذا إلى جانب ما تحتويه من لوحات جدارية وتفاصيل فنية يعود بعضها إلى القرن الـ15. هذه ليست المرة الأولى التي تستلهم منها المصممة من الفن. في تشكيلتها لخريف وشتاء 2023 مثلاً استمدت من الفنان الياباني أتسوكو تاناكا فستانا متوهجا.

أما كيف جسّدت روكساندا كل هذا، فمن خلال تدرجات ألوان هادئة وخطوط مستوحاة من ملابس الراهبات والقساوسة الأورتوذكس في الصرب، بلدها الأم. لتعزيز فكرة هذا التأثير، زينت مجموعة من القطع بخيوط ذهبية تارة وفضية تارة أخرى حرصت على نسجها يدوياً.

ظهرت فساتين بأسلوب عصري لم تبخل عليها المصممة بطبعات مرسومة على الحرير (الشرق الأوسط)

قطع أخرى تمت حياكتها بأسلوب عصري لم تبخل عليه بالتفاصيل والطبعات المرسومة على الحرير. وبما أن الأحجام الكبيرة لعبة المصممة، ولصيقة بأسلوبها، فقد كانت متوقعة. المفاجأة كانت في الألوان. فمن تابع مسيرتها منذ أكثر من عقد من الزمن، يعرف أنها تكون عادة متوهجة وصارخة. هذه المرة كانت هادئة باستثناء قطع معدودات. وحتى في هدوئها هذا كانت قوية من ناحية تأثيرها بفضل الأحجام الهندسية التي تُذكرنا دائماً أن روكساندا خريجة قسم هندسة معمارية.

الأحجام والأشكال المبتكرة أكسبت الألوان الهادئة قوة لافتة (الشرق الأوسط)

تشرح المصممة أن عودتها إلى القرون الوسطى وإلى ملابس الراهبات التي ترتبط عادة بالتقشف والبساطة لا يجب أن تكون غريبة أو صادمة، لأنها ليست بعيدة عن أسلوبها المألوف. فهو دائماً محتشم يتميز بأكمام طويلة وياقات عالية وأحجام واسعة بطيات تُخفي تضاريس الجسم أكثر مما تُبرزها. الفرق أنها لم تكن سابقاً تحت عنوان «ديني» بقدر ما كانت رؤية فنية، وقراءة لمتطلبات العصر، وامرأة ترغب في ملابس تُعبّر عنها وعن ميولها. وحتى في هذه التشكيلة، فإن الأمر لا يختلف سوى في طريقة العرض والسرد، لأنه يظل فنياً أكثر من كونه دينياً. يمكن القول إنه كان من الممكن أن يمر مرور الكرام من دون أن ينتبه أحد إلى إيحاءاته الدينية لو لم تُشر إليها المصممة أو تُبرزها في إكسسوارات الرأس المقببة والأقمشة البسيطة والخطوط الواسعة التي تستحضر ملابس الراهبات. وتؤكد روكساندا على هذا الرأي بقولها إنها وظفت فقط بعض الرموز لهذه الغاية، موضحة أن أكثر ما ألهب مخيلتها كان «ملابس الراهبات في دير جراشانيك الذي كانت تديره نساء فقط ولعقود طويلة». كان هناك تنوّع في ملابسهن حسب المناسبة، على أساس «لكل مقام مقال»، وهذا يعني أن ما كن يعتمدنه في الأيام العادية كان مختلفاً عما كن يُخصصنه لمناسبات مهمة مثل أعياد الميلاد والفصح.

كانت هناك أيضاً فساتين عصرية تخاطب كل الأذواق (الشرق الأوسط)

العرض احترم هذا الاختلاف بين اليومي والاحتفالي، من خلال تنوع كبير، بدليل أنه ليس كل ما في العرض كان محتشماً. فمن بين كل زي يغطي العارضة من الرأس إلى أخمص القدمين، كانت هناك تصاميم جريئة، مثل فستان يظهر فيه الجزء العلوي بقماش شفاف من دون بطانة مع تنورة لولبية. المراد لم يكن أبدا إحداث الصدمة بقدر ما كان إبراز التقنيات المستعملة في كل قطعة، ومنح المرأة حرية الاختيار وفق ما صرحت به المصممة «أردت أن أقدم اقتراحات متنوعة تغطي كل الأذواق والميول، إذ ليس من حق أحد أن يفرض أسلوباً واحداً على الكل. المهم أن تكون كل الاقتراحات أنيقة ومحترمة شكلاً ومضموناً».

إلى جانب الفساتين الطويلة كانت هناك أيضاً سترات مستلهمة من خزانة الرجل (الشرق الأوسط)

إلى جانب الفساتين الطويلة الموجهة لمناسبات السهرة والمساء، ظهرت سترات مفصلة بخطوط بارزة عند الأكتاف ذات طابع رجولي يجمع الوظيفي العملي بالراقي، فضلاً عن تنورات ضيقة تمازج فيها الصوف بالحرير، قطع أخرى مطبوعة بنقشات تداخل فيها الأبيض مع تدرجات الوردي والأصفر الليموني والأخضر، والأحمر، وتدرجات الأزرق وهلم جرا. هذا التنوَع الذي لعب على التناقضات، شمل أيضا الأقمشة، بدءا من الحرير الناعم والتافتا المعاد تدويرها والصوف إلى الساتان المغسول بالرمل والجورجيت وحرير الكريب.


مقالات ذات صلة

«بيربري» تحتفل بتقلبات الطقس البريطاني بحملة تجمع البريق وروح الفكاهة

لمسات الموضة اصبح المعطف الممطر أيقونة لكل المواسم والفصول (بيربري)

«بيربري» تحتفل بتقلبات الطقس البريطاني بحملة تجمع البريق وروح الفكاهة

كشفت دار «بيربري» حديثاً عن حملتها الترويجية لصيف 2025. اختارت لها عنواناً معبراً: «إنه دائماً طقس (بيربري). لندن في حالة عشق»، لأنه يُلخّص الكثير من جوانب…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة جانب من المعرض الذي يحتضنه متحف الشندغة (كارتييه)

رحلة عجائب بدأتها «كارتييه» رسمياً منذ 25 عاماً وتتجسد حالياً في معرض

دار «كارتييه» أصبحت ضليعة في تنظيم المعارض. فبين كل فترة وأخرى تُتحفنا بمعرض جديد يحتفل بإبداعاتها ويُغذي الحواس بكل ما لذ وطاب من مجوهرات فريدة. ويبدو أنها…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة ثمرة هذا التعاون هو 3 إصدارات مختلفة يضمّ كلّ منها 33 قطعة فقط (إم بي آند إف)

«سيربانتي» بولغاري X إم بي آند إف… تستمد قوتها من السيارات

ما الذي يمكن أن يجمع «إم بي آند إف» MB&F و«بولغاري» BVLGARI؟ فالفرق بينهما شاسع بالنسبة لعشاق الساعات الفاخرة. بيد أنهما في تعاوناتهما الأخيرة قرَّبتا الفجوة…

لمسات الموضة كان لأميرة ويلز ونجوم الغناء دور في انتعاش مجموعة «الحمرا» من جديد (غيتي)

إبداعات نجحت بالصدفة وتحولت إلى أيقونات

في عالم الترف، تحصل مفاجآت سارة قد لا تكون متوقعة أو محسوبة حتى بالنسبة لصناعها. تكون أقرب إلى ضربات حظ منها إلى مجرد تصاميم مبتكرة.

لمسات الموضة من عرض «فيلفيتي كوتور» (مجلس الأزياء العربي)

بعد طول مكابرة... صناع الموضة يُراهنون على منطقة الشرق الأوسط بكثافة

صناع الموضة أدركوا أن المكابرة والاستمرار في تجاهل سوق الشرق الأوسط خسارة. كلهم يتوددون لهذه السوق أملاً في كسب زبائن مقتدرين ويقدِّرون الموضة

جميلة حلفيشي (لندن)

«سيربانتي» بولغاري X إم بي آند إف… تستمد قوتها من السيارات

ثمرة هذا التعاون هو 3 إصدارات مختلفة يضمّ كلّ منها 33 قطعة فقط (إم بي آند إف)
ثمرة هذا التعاون هو 3 إصدارات مختلفة يضمّ كلّ منها 33 قطعة فقط (إم بي آند إف)
TT

«سيربانتي» بولغاري X إم بي آند إف… تستمد قوتها من السيارات

ثمرة هذا التعاون هو 3 إصدارات مختلفة يضمّ كلّ منها 33 قطعة فقط (إم بي آند إف)
ثمرة هذا التعاون هو 3 إصدارات مختلفة يضمّ كلّ منها 33 قطعة فقط (إم بي آند إف)

ما الذي يمكن أن يجمع «إم بي آند إف» MB&F و«بولغاري» BVLGARI؟ فالفرق بينهما شاسع بالنسبة لعشاق الساعات الفاخرة. بيد أنهما في تعاوناتهما الأخيرة قرَّبتا الفجوة بينهما مؤكدتين أن روابط مهمة تجمع بينهما، منها رغبة محمومة على كسر المعايير التقليدية، وأيضاً الشغف بعالم السيارات جمع بين فابريزيو بوناماسا ستيلياني، مدير الابتكار الساعاتي لدى «بولغاري»، وماكسيميليان بوسير، المؤسس والمدير الإبداعي لـ«إم بي آند إف».

لم تعد «سيربانتي» ساعة أنثوية بل أيضاً تحفة تقنية بفضل خبرة «إم بي آند إف» (إم بي آند إف)

هذا التأثير كان واضحاً في علبة تشبه هيكل سيارة أنيقة، وبلور سافيري معقد يتّخذ شكل اللوحات الموجودة على النافذة الخلفية لسيارة رياضية، وتيجان يمكن الخلط بينها وعجلات السيارة بسهولة... كما يتضمن الجزء الظاهر من الحركة مكونات تشبه محرك السيارة، بما في ذلك شبكة تحمل تصميم الحرشفة السداسية الشهيرة التي سبقت رؤيتها في إبداعات «سيربانتي» السابقة. وعلى غرار سيارة، يختلف المنظور تماماً عند النظر إليها من الأمام، أو الجانب، أو الأعلى، أو الخلف.

يتّخذ دماغ هذه الزاحفة الميكانيكية شكل عجلة توازن ضخمة بقياس 14 مم (إم بي آند إف)

«بولغاري» التي تأسست في عام 1884 بنت سمعتها على خبرة طويلة تمزج فيها بين الأناقة الإيطالية والدقة السويسرية، وهو ما يظهر جلياً في مجموعات أيقونية مثل «سيربانتي»، «أكتو فينيسيمو»، و«بولغاري بولغاري».

«إم بي آند إف»، في المقابل لم تر النور حتى عام 2005 على يد ماكسيميليان بوسير وأصدقائه. ورغم سنواتها القصيرة، فقد نجحت في استقطاب الهواة، والعارفين باتوا يتوقعون منها ساعات على شكل منحوتات ثلاثية الأبعاد، تستلهمها حيناً من الخيال العلمي، وحيناً من السيارات الفائقة، أو من الكائنات الحية.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا ليس أول تعاون يجمع «بولغاري» مع «إم بي آند إف». فقد بدأ في عام 2021، عندما جمع لقاء عابر بين فابريزيو وماكسيميليان أثمر عن إطلاق إصدار «إم بي آند إف x بولغاري إل إم فلاينغ تي أليغرا»، الذي دمج بين عالم مجوهرات بولغاري المفعم بالحياة والألوان ومجموعة «ليغاسي ماشين» الخاصة بـ«إم بي آند إف».

يتّخذ دماغ هذه الزاحفة الميكانيكية شكل عجلة توازن ضخمة بقياس 14 مم (إم بي آند إف)

نجاح التجربة الأولى شجع فابريزيو وماكس على إعادة الكرّة. فساعة «سيربانتي» الأيقونية وُلدت في عام 1948، وحان الوقت لإدخالها عالم الساعات الميكانيكية الذي تتقنه «إم بي آند إف». والنتيجة كانت ساعة «بولغاري x إم بي آند إف سيربانتي». تطويرها لم يقتصر عند حدود الهندسة الميكانيكية ومفهوم الحركة فحسب، بل شمل أيضاً تصميم العلبة وصناعة القطعة نفسها.

عملية تصميم مكثفة

يكشف تصميم العلبة المفتوحة وجزئها الخلفي عن العمليات المعقدة للحركة (إم بي آند إف)

وفقاً لفابريزيو بوناماسا ستيلياني، كانت جوانب التصميم «متعة خالصة»، ممّا قد يوحي بأن هذه المرحلة كانت سهلة نسبياً، غير أنّ مئات الرسومات وعشرات النماذج ثلاثية الأبعاد المطبوعة تشهد على خلاف ذلك. وعلى نقيض العلبة الدائرية الكلاسيكية التي توفّر عدداً محدوداً من الأبعاد، جاء تصميم «بولغاري x إم بي آند إف سيربانتي» بتعقيد غير مسبوق. كان لا بد من أن تكون جميع الزوايا متناغمة وجذابة بصرياً بنفس القدر. وكما هو الحال في معادلة متوازنة بعناية تملك متغيرات متعددة، قد يؤثّر أي تعديل على زاوية أو منحنى، قصد تحسين جانب معين، سلباً على جانب آخر. وأفضى ذلك إلى ظهور عدد لا يحصى من الإصدارات لتصميم «بولغاري x إم بي آند إف سيربانتي».

علبة بآلية معقدة

يقول فابريزيو بوناماسا ستيلياني: لقد كان تصميم هذه القطعة ممتعاً لكن إنتاجها شكل تحدياً كبيراً من الناحية التقنية (إم بي آند إف)

تصنيع العلبة بمنحنياتها كان معقداً، إذ لم تقتصر هذه المنحنيات على المعدن فحسب، بل امتدت إلى البلورات السافيرية الخمس، بما في ذلك عينا الثعبان، والقسم الخلفي متعدد الأوجه، وتحقيق مقاومة للماء حتى عمق 30 متراً.

هذه العلبة المعقدة حققت رغبة فابريزيو في توفير حركة ميكانيكية لـ«سيربانتي» من خلال تحريك العينين، وقد تجسد ذلك في شكل قبتين دوارتين تعرضان الساعات والدقائق، حيث تدور القبة اليسرى دورة كاملة كل 12 ساعة، بينما تكمل القبة اليمنى دورتها خلال 60 دقيقة. تمّ تصنيع القبتين الرقيقتين مثل الورق من الألمنيوم الصلب لتكونا خفيفتين قدر الإمكان، وتمّ تزيين كلتا القبتين يدوياً بطبقة من سوبر - لومينوڨا، ممّا يسمح لعيني الثعبان بالتوهج حتى في الظلام.