السعودي محمد آشي يقتفي أثر العطر لخريف وشتاء 2023 - 2024

تشكيلة منسوجة بالغموض والتشويق الدرامي

غلبت على مكان العرض إثارة غامضة عزّزها بخار ينبعث من أرضية المسرح (استوديو محمد آشي)
غلبت على مكان العرض إثارة غامضة عزّزها بخار ينبعث من أرضية المسرح (استوديو محمد آشي)
TT

السعودي محمد آشي يقتفي أثر العطر لخريف وشتاء 2023 - 2024

غلبت على مكان العرض إثارة غامضة عزّزها بخار ينبعث من أرضية المسرح (استوديو محمد آشي)
غلبت على مكان العرض إثارة غامضة عزّزها بخار ينبعث من أرضية المسرح (استوديو محمد آشي)

غموض وتشويق وإثارة... ثلاثة عناصر تتمكن منك وأنت تتابع عرض المصمم السعودي العالمي محمد آشي لخريف وشتاء 2023-2024. كان هذا في آخر يوم من أسبوع الـ«هوت كوتور» في باريس. اختار له خشبة مسرح دو شاتليه وأجواء غلّفتها ستارة من الإثارة تشابك فيها الأسود والأبيض مع بعض الألوان الترابية الهادئة، وعزّز من تشويقها وغموضها دُخان ينبعث من الأرض ليُشعر ك في لحظة من اللحظات كما لو أن العارضات يمشين على السحاب لا على الأرض.

غلبت على مكان العرض إثارة غامضة عزّزها بخار ينبعث من أرضية المسرح (استوديو محمد آشي)

كلما توالت الإطلالات زاد عنصر التشويق والحس الدرامي الذي أكد محمد آشي هنا أنه يُتقنه جيدا. صورة واحدة تبدأ في التجلي أمام عينيك، وهي أن وراء القصّات التي أبدعها مقصه قصصاً تربط الخيال بالواقع بشكل مبتكر. فمعروف عن آشي شغفه بالأدب وكل أنواع الفنون. يستوحي منها حيناً أو يغرف منها حيناً آخر ليصوغ تصاميم تمنح المرأة جمالية تخدمها. لم يختلف الأمر هذه المرة. فقط كانت الجُرعة أقوى، ربُما لأنه كان يعرف مسبقاً أن الأنظار ستتوجه إليه هذا الموسم أكثر من أي موسم سبق. فهو هنا ولأول مرة ضيف مُرحّب به في البرنامج الرسمي للفيدرالية الفرنسية لـ«الهوت كوتور» كأول سعودي ينضم إليها.

لعب المصمم على مفهومي الظلام والضوء من خلال اللونين الأسود والأبيض المائل إلى البيج (استوديو محمد آشي)

وبالفعل، يشرح آشي أن هذه التشكيلة وعنوانها «إيسانس»، أي الجوهر، تسعى إلى «استخراج الجمال من الأعماق وإبرازه للخارج». فهي قصة «حب مظلمة» - كما يشير - استلهمها من رواية «العطر» للكاتب باتريك زوسكيند. رواية صدرت في عام 1985 وتدور أحداثها فى القرن الـ18 في فضاءات باريس وأوفرن ومونبيلييه وعاصمة العطور الفرنسية غراس. تتناول الكثير من التناقضات والازدواجية في أجواء من الإثارة والتشويق. بطل الرواية جان باتيست جرونوي له يسكنه ولع بالعطور وصل إلى هوس بات يتحكم في كل سلوكياته ونظرته للغير. بالنسبة له حياة البشر لا تساوي شيئاً مقارنة بعطر فريد. هذا الهوس جعله شخصية غريبة تحركها الكثير من التناقضات. فهو من جهة يعشق الجمال ويُقدر ما تثيره الروائح المتميزة من حب وسكينة بداخل النفس، ومن جهة أخرى يفتقد لأي وازع أخلاقي أو إنساني إلى حد أن كل شيء يهون في سبيل البحث عن هذا التميز.

اتسمت بعض الإطلالات بالإثارة والشقاوة بتفاصيلها المبتكرة (استوديو محمد آشي)

هنا ركّز محمد آشي على الشغف بالجمال والبحث عن التميز، وهو ما ترجمه في تصاميم أنثوية ربما تلعب على التناقضات، لكن بتناغم عجيب.

ما تلمسه في هذه التشكيلة الموجهة للخريف والشتاء المقبلين هو قدرته على إعادة رسم مفاهيم غير مادية مثل الذاكرة والشوق وتجسيدها في أزياء راقية تترك في الذهن ما يتركه العطر من أثر قد لا يختفي أبداً. آشي، مثل عطار مسكون بالرغبة في اكتشاف مواد وأزهار جديدة واستخلاص عصارتها، عكف على البحث عن أساسيات أو حسب قوله «استخراج الجوهر الكامن في مفهوم الأزياء الراقية» للخروج بتصاميم تنقل المرأة من النهار إلى المساء بسلاسة وتكسبها أنوثة طاغية من دون ابتذال.

ازدواجية الضوء والظلام والكثيف والشفاف خلقت تشكيلة متنوعة وساحرة (استوديو محمد آشي)

أدواته لتحقيق هذه الوصفة أقمشة خشنة وأخرى ناعمة وشفافة جعلها تتراقص مع بعض في تناغم لذيذ، معتمداً على المفاهيم الهندسية المعمارية التي تجسدت في الأحجام الكبيرة، وهذا أمر عادي ومتوقع منه بحُكم أن الراحل كريستوبال بالنسياغا كان ولا يزال مثله الأعلى، إلى جانب لعبه على تلك الازدواجية المبطنة بين الفخامة والهدوء وبين الإثارة الحسية والأنوثة الراقية. فقد يبدو فستان وكأن آشي استغنى فيه عن طبقته الخارجية، لكنك تكتشف أنه استعمل فيه أمتاراً من الأورجانزا الحريرية للتمويه وخلق خدع بصرية.

لِعبه على التناقضات كان واضحاً في أغلب القطع التي اقترحها (استوديو محمد آشي)

استعمل أيضاً وصلات مبتكرة تربط التصميم ببعضه، مثل إطلالة تظهر فيها العارضة فيما يُشبه قلنسوة تغطي الرأس في حين تم الكشف فيها عن الذراعين والساقين من خلال فتحة عالية. إطلالة أخرى يتماوج فيها التول الشفاف في صورة ظلية تحيط بالجسم وتتتبع تضاريسه. وكأن هذه الجُرأة لا تكفي، ضيّق الخصور وحدّدها لتستحضر شكل زجاجة عطر. أما فستان آخر، وجّهه للمساء والسهرة فغلبت عليه طيات من فن الأوريغامي الذي يعود إليه آشي دائماً، ووضّح أنه «مصنوع من 150 متراً من القماش، ومصوغ بصورة تمثل زجاجة عطر نصف ممتلئة. فاللعب على السميك والشفاف حاضر هنا أيضاً. أما الشبكة التي استعملت فيه من المخمل فهي في الواقع رسمة رقيقة تُمثل العشب»؛ ليعود بنا إلى النقطة التي انطلق منها، وألا هي العطور، موضحاً أن العُشب لم يكن الوحيد الذي يحاول تذكيرنا بصناعة العطور وتأثيرها على هذه التشكيلة «فالتطريز والخرز والخيوط النحاسية التي تم استعمالها تشير هي الأخرى إلى الأدوات المستخدمة في صناعة العطور».

استحضرت بعض الإطلالات صور قوارير العطور المبتكرة (استوديو محمد آشي)

وبما أن محمد آشي لا يُغرق عادة في التطريز ويعتمد على الأشكال والأحجام في المقابل، فإنه استعمل التطريز هنا بحذر شديد، لتأتي النتيجة متوازنة. حتى في مجموعة الفساتين الموجّهة للمساء والسهرة كان البريق بجرعات محسوبة جداً إلى حد أنها لم تُثر الأنظار مقارنة بالتفاصيل الأخرى مثل ظهر عار في فستان وآخر بطيات عند الصدر تبدو وكأنها بتلات ورود ضخمة يبدو فيها الخصر نحيلاً ليتسع بما يشبه الكورسيه المنفوخ تتدلى منها طبقة شفافة تصل إلى الأرض. كل هذا لتعزيز رؤية المصمم المبنية على جعل المستور والمكشوف واحد وخلق إحساس درامي سلس لكن «مشوب بالخطر».


مقالات ذات صلة

هل حان الوقت ليصالح صناع الموضة ميلانيا ترمب؟

لمسات الموضة في الدورة الأولى من رئاسة زوجها اعتمدت ميلانيا عدة إطلالات أنيقة كان لدار «دولتشي أند غابانا» نصيب كبير فيها (خاص)

هل حان الوقت ليصالح صناع الموضة ميلانيا ترمب؟

قامت ميلانيا بالخطوة الأولى بدبلوماسية ناعمة بإعلانها أنها امرأة مستقلة ولها آراء خاصة قد تتعارض مع سياسات زوجها مثل رأيها في حق المرأة في الإجهاض وغير ذلك

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

في أحدث مجموعاته لموسم خريف وشتاء 2025، يعيد المصمم فؤاد سركيس رسم هوية جديدة لمعنى الجرأة في الموضة. جرأة اعتمد فيها على تفاصيل الجسم وتضاريسه. تتبعها من دون…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة الأميرة المغربية لالة حسناء تتوسط الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني وتانيا فاريس والفائزين بجوائز 2024 (خاص)

7 فائزين بجوائز «فاشن تراست آرابيا» ومراكش ثامنهم

على الرغم من عدم فوز أي مغربي أو مغربية بأي جائزة هذا العام، فإن مراكش كانت على رأس الفائزين.

جميلة حلفيشي (مراكش)
لمسات الموضة ناعومي كامبل في أكثر من عقد من المجموعة (بولغري)

كيف ألهمت أنابيب نقل الغاز «بولغري»؟

احتفلت «بولغري» مؤخراً بطرح نسخ جديدة من مجموعة «توبوغاس» عادت فيها إلى البدايات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق من ألف ليلة (المعرض)

معرض عن ليزا بِين أول عارضة أزياء في العالم

قد لا يبدو اسمها مألوفاً للأجيال الجديدة، لكن ليزا فونساغريفس (1911 ـ 1992) كانت واحدة من أيقونات الموضة في النصف الأول من القرن الماضي.

«الشرق الأوسط» (باريس)

علياء السالمي... تحمل تقاليد الماضي إلى الحاضر

مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي (الشرق الأوسط)
مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي (الشرق الأوسط)
TT

علياء السالمي... تحمل تقاليد الماضي إلى الحاضر

مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي (الشرق الأوسط)
مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي (الشرق الأوسط)

تقول المصممة علياء السالمي لـ«الشرق الأوسط» إن من أهم اللحظات التي أثّرت فيها مؤخراً وزادت من عزيمتها واعتزازها على حد سواء، كانت ظهور البعثة السعودية والمشاركين في العرض الافتتاحي لـ«أولمبياد باريس 2024» بتصاميمها، وحديثاً إطلالة ديما بن باز في «روائع الأوركسترا السعودية» التي أقيمت في لندن.

تصميم ارتدته ديما بن باز خلال حفل «روائع الأوركسترا السعودية» في لندن (الشرق الأوسط)

رغم هذه اللحظات الثمينة، فإن علياء ليست جديدة على عالم الإبداع. في قلب المملكة العربية السعودية، حيث تتلاقى الأصالة مع الحداثة، تبرز بصفتها من ألمع الأسماء في عالم تصميم الأزياء التراثية. وهذا ما يجعلها تتعدى مجرد أنها مصممة، إلى سفيرة للتراث والثقافة.

تقول علياء إنها ومنذ صغرها كانت مفتونة بجمال الأزياء التراثية، والسبب يعود إلى صالون الأزياء النسائية الذي افتتحته جدتها لوالدها في نهاية الثمانينات، وشاركت فيه بحب التصميم مع والدتها. كان من الطبيعي أن تختار التخصص في الأزياء التراثية.

فقد تشبّعت بفكرة أن «لكل تصميم قصة، وكل قصة تحمل في طياتها جزءاً من الهوية السعودية، ونجحت في التقاطها وترجمتها بأسلوب يضمن استمرارها».

تشرح أنها استوحت تصاميم البعثات السعودية «الأولمبية» و«البارالمبية» للنساء، من ثوب «النشل» الذي عكس فخامة الهوية الثقافية بلونه الذهبي ونقوشه الدقيقة، وللرجال من الثوب والبشت، مع اختلاف الألوان وفق أيام الاحتفال؛ وفقاً لبروتوكول لبس البشت في المملكة العربية السعودية.

تصاميم النساء للبعثة السعودية الأولمبية والبارالمبية من ثوب النشل باللون الذهبي (الشرق الأوسط)

لكنها لا تتقيد بالماضي وتقاليده بشكل حرفي، فتصاميمها تعكس التراث والثقافة السعودية في سياق عصري يتناسب مع الفعاليات العالمية ويواكب التطورات فيما يخص النقوش والقصات والخامات، وحتى الألوان، التي تجاري فيها توجهات الموضة العالمية.

لمسات من التراث على تصاميم عصرية تواكب أحدث التصاميم العالمية (الشرق الأوسط)

فهي تؤكد أنها توازن بين التراث والابتكار... الأول يظهر في اهتمامها بالنقوش، التي تعدّها جزءاً أساسياً من تصاميمها، والثاني يظهر في القصات والخامات، «وهذا ما يجعلها غنية بالتفاصيل ومتنوعة وفق كل منطقة تستلهم منها... فلكل منطقه ثقافتها وتطريزاتها وألوانها. حتى الأقمشة المستخدمة تختلف في حياكتها من منطقة إلى أخرى وفق المناخ»؛ ففي المناطق الباردة، كانت تصنع من الصوف والفراء، وفي المناطق الصحراوية والساحلية كانت تحاك بالحرير والقطن صيفاً.

الممثلة السعودية إلهام علي بتصميم بخامة التل من توقيع علياء السالمي (الشرق الأوسط)

ومع تنوع الأقمشة، تنوعت أيضاً الأزياء، ووفق علياء السالمي، فإن «هناك أزياء خاصة بالمناسبات والأفراح، وأزياء خاصة بالعمل، فأزياء المناسبات تكون مزخرفة بخيوط حريرية أو معدنية من الذهب أو الفضة بشكل أكبر من الأزياء العملية اليومية، وتصنع من أفضل أنواع الحرير والصوف والقطن وبألوان مختلفة. وبما أن العروس في الأفراح، مثلاً، ترتدي أكثر من زي، فهناك زي خاص بليلة الحناء يختلف تماماً عن زي يوم الزفاف، كما يجري العمل به في كثير من الثقافات».

تصاميم رجالية شاركت فيها علياء السالمي مع منسق المظهر طارق يحي (الشرق الأوسط)

بعد مشاركتها الأخيرة في «أولمبياد باريس» ونجاحها في جذب الأنظار، تتطلع علياء إلى دخول عوالم أزياء الرجل، لا سيما أن تجربتها لن تكون جديدة؛ فقد سبق أن تعاونت في عام 2022 مع منسق المظهر طارق يحيى عبر مجموعة محدودة كانت ردود الفعل عليها جد إيجابية.

هي الأخرى لن تخلو من اللمسات التراثية التي ترى علياء أنها «ما تُميز المصممين السعوديين، وتظهر في أغلب ما يطرحونه. كل واحد منهم يلتقط خيطاً ينسج منه أساليب مبتكرة بأحدث التقنيات».