تفجيرات واغتيالات في الجزائر لكن «الحرب الأهلية ما زالت بعيدة»

السفير البريطاني: الإرهابيون لن ينجحوا في تحويل الجزائر إلى بلد لا يمكن حكمه (3 من 3)

قوات أمن جزائرية في حي باب الوادي الذي كان يُعد معقلاً لـ الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العاصمة الجزائرية في 17 يناير عام 1992 (أ.ف.ب / غيتي)
قوات أمن جزائرية في حي باب الوادي الذي كان يُعد معقلاً لـ الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العاصمة الجزائرية في 17 يناير عام 1992 (أ.ف.ب / غيتي)
TT

تفجيرات واغتيالات في الجزائر لكن «الحرب الأهلية ما زالت بعيدة»

قوات أمن جزائرية في حي باب الوادي الذي كان يُعد معقلاً لـ الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العاصمة الجزائرية في 17 يناير عام 1992 (أ.ف.ب / غيتي)
قوات أمن جزائرية في حي باب الوادي الذي كان يُعد معقلاً لـ الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العاصمة الجزائرية في 17 يناير عام 1992 (أ.ف.ب / غيتي)

فيما كانت بريطانيا تناقش كيفية تعاملها مع الإسلاميين المتشددين واستقبالهم، وتحلل «اعترافات» المتورطين في تفجيرات إرهابية لتحديد ما إذا كانت قد انتُزعت منهم تحت التعذيب أم لا، لم يكن هناك من شك أن الجزائر كانت تشهد، منذ بداية تسعينات القرن الماضي، حقبة دموية امتدت لسنوات وباتت تُعرف لاحقاً بـ«العشرية السوداء».

فقد كانت تتوالى يومياً أخبار التفجيرات والاغتيالات التي تقوم بها جماعات مسلحة ضد قوات الأمن على وجه الخصوص، ولكن أيضاً ضد المثقفين والإعلاميين والنقابيين الذين يُنظر إليهم على أنهم يساندون الحكم الجزائري. كان مناصرو «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، الحزب الإسلامي الذي كان على وشك الفوز بالسلطة قبل إلغاء الانتخابات في يناير (كانون الثاني) 1992، يقفون وراء كثير من عمليات العنف تلك، كما حصل في تفجير مطار هواري بومدين بالعاصمة الجزائرية في أغسطس (آب) من ذلك العام.

لكن كانت هناك أيضاً جماعات مسلحة أخرى تتخذ مواقف أكثر تشدداً بكثير من «جبهة الإنقاذ» وتقوم ببعض أبشع عمليات العنف التي شهدتها البلاد في تلك الحقبة، برز منها آنذاك «الجماعة الإسلامية المسلحة» (الجيا) التي نجحت لاحقاً (عام 1994) في توحيد جزء من «الإنقاذ» وجماعات أخرى تحت رايتها في إطار ما عُرف آنذاك بـ«لقاء الوحدة». بدت الجزائر في ظل الاغتيالات والتفجيرات شبه اليومية كأنها ذاهبة إلى «حرب أهلية». ظهر انطباع أيضاً بأن الإسلاميين المتشددين يمكن أن ينجحوا في الاستيلاء على السلطة وإطاحة الحكومة المدعومة من الجيش والتي تولّت الحكم عقب تنحي الرئيس آنذاك الشاذلي بن جديد.

كانت تلك إلى حد كبير الصورة التي بدت بها الجزائر آنذاك، على الأقل في كثير من وسائل الإعلام الدولية. لكنها كانت صورة خاطئة، كما أكد السفير البريطاني لدى الجزائر كريستوفر باتيسكوم. أقر السفير، في مراسلات مع وزارة الخارجية بلندن (محفوظة في الأرشيف الوطني البريطاني)، بأن الجزائر تشهد بالفعل أحداث عنف دامية، لكنه تحدث أيضاً عن «الحياة العادية» التي تعيشها العاصمة الجزائرية، مضيفاً أن «الحرب الأهلية» التي يجري الحديث عنها «ما زلنا بالتأكيد بعيدين (عنها) جداً».

عنصر أمن يوقف رجلين من الإسلاميين المشتبه بهم عقب صلاة الجمعة في باب الوادي بالعاصمة الجزائرية يوم 31 يناير 1992 (أ.ف.ب / غيتي)

وبالإضافة إلى قضية الوضع الأمني، تكشف مراسلات السفير أيضاً أن البريطانيين كانوا يبدون آنذاك «تحفظاً» في مواجهة ضغوط فرنسية لتقديم مساعدات مالية من المجموعة الأوروبية للحكومة الجزائرية. وكما هو معروف، كانت السلطات الجزائرية بحاجة ماسة آنذاك لتلك المساعدات، سواء لجهة تمويل حربها ضد الجماعات المسلحة أو لجهة إطلاق مشروعات يمكن من خلالها إرضاء شرائح من المواطنين الذين يمكن أن يستقطبهم الإسلاميون في ظل تردي الأوضاع في البلاد.

الوضع الداخلي في الجزائر

كتب السفير كريستوفر باتيسكوم، في الأول من مارس (آذار) 1993، رسالة إلى أس. فولر في قسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية في لندن، قائلاً:

«الوضع الداخلي في الجزائر

1- جزيل الشكر لرسالتكم في 17 فبراير (شباط) بخصوص المراجعة السنوية ولملاحظاتكم التي تمتدح تقريرنا عموماً.

2- أتفق إلى حد كبير مع ما تقول في الفقرة 2 من رسالتكم بخصوص الحالة الأمنية. مستوى الأحداث الإرهابية بقي إلى حد كبير من دون تغيير على مدى الشهور الـ12 الماضية مع تسجيل سيل ثابت من الهجمات الخفيفة، واغتيالات الشرطيين، وتفجيرات في أماكن عامة... إلخ، تقطعها أحداث كبيرة أحياناً، على غرار قنبلة المطار في أغسطس (آب)، والكمين الذي قُتل فيه 5 شرطيين في ديسمبر (كانون الأول)، وقتل 4 شرطيين آخرين بهجوم بالرشاشات في الجزائر العاصمة الشهر الماضي، ومحاولة الاغتيال الفاشلة ضد الجنرال نزار (الجنرال خالد نزار، وزير الدفاع آنذاك). أشك كثيراً فيما إذا كان يمكن أبداً للسلطات أن تضع حداً لمثل هذه الحوادث، أكثر مما يبدو أن السلطات الأمنية البريطانية قادرة على منع الهجمات الإرهابية للجيش الجمهوري الآيرلندي في المملكة المتحدة. ولكن في حين أن الوضع الأمني في الجزائر بدا، قبل سنة أو نحو ذلك، كأنه متجه للانفلات كلياً، يبدو لي الآن أن الإرهابيين لن ينجحوا في تحويل الجزائر إلى بلد لا يمكن حكمه أو إرغام الحكومة على تغيير جذري في مسارها. ورغم استمرار حظر التجول وانتشار حواجز التفتيش التي يحرسها شرطيون تبدو عليهم معالم القلق، أعتقد أن معظم زائري الجزائر العاصمة يفاجأون بالحياة العادية بشكل عام هنا. ما زلنا بالتأكيد بعيدين جداً عن الحرب الأهلية التي غالباً ما نرى مكتوباً عنها في تحليلات الصحف الغربية.

قادة جبهة الإنقاذ وبينهم عباسي مدني وعلي بن حاج في 13 مارس 1990 في البليدة (غاما-رافو غيتي)

3- من الواضح أن على المرء أن يضع عدداً من التحفظات (عن هذه الخلاصات). التقارير عن الحوادث الأمنية التي نقرأ عنها في الصحف غير كاملة بشكل واضح ومصممة لطمأنتنا بأن الحكومة لها اليد الطولى. نحن لا نتجول كثيراً في المناطق الشعبية بالعاصمة، ولا في المدن الأخرى، ولا نحتك بالدوائر الإسلامية. توقعاتي أنه رغم كل ما حصل فإن التأييد الشعبي للجبهة الإسلامية للإنقاذ يبقى قوياً، وهذا يبدو ما يؤكده تردد الحكومة في المخاطرة بأي نوع من الانتخابات. لكنني أسجل مدى إعجابي بالطريقة التي واصلت فيها قوات الأمن أعمالها خلال سنة بالغة الصعوبة وبطريقة محافظتها على معنوياتها رغم المشاكل التي كان عليها التعامل معها ومع استمرار الهجمات عليهم (عناصر قوات الأمن). كما أنهم حققوا عدداً من النجاحات اللافتة. معركتهم مع الإرهابيين من المرجح أن تستمر لبعض الوقت ويبقى فيها التوازن بين الطرفين. لكنني أواصل الاعتقاد بأن قوات الأمن هي التي تتفوق تدريجياً (كما قلت في مراسلتي) وليس العكس، رغم أنني لا أتوقع أن يكون النجاح سريعاً، وقد يكون، كما أفترض، هذا النجاح قابلاً لأن ينعكس.

4- إنني أتفق، أو على الأقل أقبل، النقاط الأخرى التي وردت في رسالتكم لكنني سأبدي ملاحظة واحدة بخصوص الفقرة 4. النقطة الآنية التي تشكل محور القضية ستكون على الأرجح ليس كمية الأموال الجديدة من المجموعة الأوروبية (رغم أنني أوافق على أن الفرنسيين ربما سيضغطون من أجل هذا أيضاً) لأن الإفراج عن الدفعة الثانية من مدفوعات القرض من المجموعة الأوروبية يبدو أنه جعل هذه المسألة مشروطة باتفاق مع صندوق النقد الدولي، والإفراج المماثل عن قرض بـ70 مليون وحدة مالية أوروبية لمساعدة برنامج الحكومة لبناء المساكن. لقد اتخذت حتى الآن موقفاً متحفظاً من هاتين المسألتين، لكن ليس لدي شك في أننا سنواجه ضغطاً منسقاً ليس في وقت بعيد من أجل أن نكون أكثر مرونة. سي. باتيسكوم».

طالبات في العاصمة الجزائرية... الحياة عادية في نظر البريطانيين رغم تصاعد أعمال العنف في بدايات تسعينات القرن الماضي (سيغما / غيتي)

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الوحدة المالية الأوروبية (The European Currency Unit (ECU)) كانت آنذاك وحدة قياس للعملة في أوروبا قبل اعتماد عملة «اليورو» وقبل تحوّل المجموعة الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي. ودعا البروتوكول الرابع للمجموعة الأوروبية (يغطي الفترة من 1992 إلى 1996) إلى معاملة أكثر سخاء إزاء الدول المتوسطية مثل الجزائر والمغرب وتونس. وزاد البروتوكول إنفاق المجموعة الأوروبية بـ28 في المائة عما كان في البروتوكول الثالث، وقدّم تمويلاً لمشروعات تقوم بها الجزائر وشركاؤها في اتحاد المغرب العربي. وسمح البروتوكول الرابع أيضاً للجزائر بالحصول على قروض أكبر والسحب من مخصصات بـ70 مليون وحدة عملة أوروبية، مقارنة بـ54 مليون وحدة أوروبية في البروتوكول الثالث. وجاء ذلك التحرك آنذاك بموازاة تحرك موازٍ على خط البنك الدولي الذي زاد مساعداته للجزائر في إطار برنامج للإصلاح الاقتصادي.

وليس واضحاً في الواقع سبب التحفظ البريطاني عن التحرك الفرنسي لتقديم المساعدات المالية الأوروبية للجزائر. لكن المعروف أن الإسلاميين المتشددين كانوا يوجهون اتهامات آنذاك للدول الأوروبية التي تقدم دعماً للحكومة الجزائرية بأنها تدعم «حكم العسكر». كما وجّه متشددون تهديدات بالانتقام من الدول التي تقدّم مساعدات للسلطات الجزائرية، وهو أمر قد يكون أثار مخاوف لدى بعض الدول التي خشيت أن تقديمها مساعدة للجزائر يمكن أن يؤدي إلى قيام متشددين بتنفيذ اعتداءات على مصالحها أو رعاياها.


مقالات ذات صلة

تقرير أممي: كابل تواصل تقديم الدعم اللوجيستي والمالي لحركة «طالبان» الباكستانية

آسيا قوات من «طالبان» خلال دورية بالقرب من بوابة الدخول إلى «مطار حميد كرزاي الدولي» في كابل بأفغانستان يوم 31 أغسطس 2021 (رويترز)

تقرير أممي: كابل تواصل تقديم الدعم اللوجيستي والمالي لحركة «طالبان» الباكستانية

كشف تقرير صادر عن فريق الدعم التحليلي للأمم المتحدة عن أن كابل مستمرة بتقديم الدعم اللوجيستي والمالي لـ«طالبان» الباكستانية؛ مما يؤدي لزيادة الهجمات الإرهابية.

«الشرق الأوسط» (نيويورك - إسلام آباد - كابل)
أوروبا شموع وزهور في مكان الحادث الذي قُتل فيه صبي يبلغ من العمر 14 عاماً وأصيب أشخاص آخرون في هجوم طعن في بلدة فيلاخ بالنمسا... 16 فبراير 2025 (رويترز)

قتيل و4 جرحى طعناً بهجوم «إسلاموي» في النمسا

قُتل فتى في الـ14، وجُرح 4 أشخاص آخرين طعناً، في هجوم في جنوب النمسا، السبت، على ما أفادت الشرطة التي أوقفت طالب لجوء سورياً، يبلغ 23 عاماً.

«الشرق الأوسط» (فيينا)
آسيا أشخاص أصيبوا في انفجار قنبلة على مركبة تقل عمال مناجم الفحم يتلقون المساعدة الطبية بمستشفى في كويتا بباكستان في 14 فبراير 2025 (رويترز)

مقتل 4 جنود و15 إرهابياً خلال مواجهات مسلحة شمال غربي باكستان

أعلن الجيش الباكستاني عن مقتل 4 من جنوده، و15 مسلحاً من العناصر الإرهابية خلال مواجهات مسلحة دارت بإقليم خيبر بختونخوا شمال غربي باكستان. وأوضح بيان صادر عن…

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
أوروبا وُضِعَت الزهور والشموع على الرصيف في ميونيخ بالقرب من الموقع الذي صدمت فيه سيارة مجموعة من المتظاهرين في 13 فبراير 2025 (د.ب.أ)

وفاة أُم وطفلتها متأثرتين بإصاباتهما جرَّاء حادث الدهس في مدينة ميونيخ

أعلن مكتب التحقيقات الجنائية في ولاية بافاريا الألمانية، السبت، وفاة أم (37 عاماً)، وطفلتها الصغيرة (عامان) متأثرتين بإصاباتهما الخطيرة.

«الشرق الأوسط» (ميونيخ )
شؤون إقليمية أنصار حزب «العمال الكردستاني» تظاهروا في أنحاء أوروبا السبت في الذكرى 26 لاعتقال أوجلان للمطالبة بإطلاق سراحه (أ.ف.ب)

تركيا: احتجاجات واعتقالات بعد عزل رئيس بلدية مؤيد للأكراد

اعتقلت الشرطة التركية عدداً من أنصار رئيس بلدية وان (شرق تركيا) المعارض عبد الله زيدان، الذي عزلته وزارة الداخلية من منصبه، وعيّنت والي المدينة وصياً عليها.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

سلمان... ماذا سيكتب التاريخ؟

الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)
الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)
TT

سلمان... ماذا سيكتب التاريخ؟

الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)
الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)

بنى الملك عبد العزيز مجداً لأمته بتوحيد أراضي جزيرة العرب وحماية محيطها، وتأسيس دولته الحديثة امتداداً لدولة أسلافه التي أعادت للعرب مكانتهم وهيبتهم بعد قرون من التفرق والشتات. كانت مهمته شاقة وعسيرة استلزمت تضحيات وواجهت تحديات، إلا أن المهمة الأصعب التي ورثها أبناء عبد العزيز حين توفي عام 1953 (1373هـ)، هي الحفاظ على استقرار البلاد.

كانت السنوات التي تلت وفاة الملك المؤسس مليئة بالتحديات والأزمات ومحاولات زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية، وعلى الرغم من ذلك كانت أعوام بناء لكثير من مؤسسات الدولة ومرافقها، وتوسعات للحرمين الشريفين وعمران للمدن، وتطور للتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، والطرق والمواصلات، وبناء الإنسان. كان الشغل الشاغل لقادة المملكة المحافظة على الأمن والاستقرار مع تنمية البلاد وتلبية حاجات إنسانها ونقلها إلى مصافِّ الدول المتقدمة، وكان لهم ذلك.

محاولات زعزعت الاستقرار خطَّطت لها حركات تحمل الآيديولوجيات اليسارية من ماركسية وشيوعية وبعثية وناصرية وقومية، لكنها تصف نفسها بالوطنية. كانت هناك عدة محاولات تستهدف نظام الحكم السعودي، جرى معظمها في الفترة ما بين 1954 و1969، ولنا أن نتخيل لو نجحت أي منها: كيف سيكون العالم اليوم من دون المملكة العربية السعودية؟ وكيف سيكون وضع الحرمين الشريفين؟ وما حال أسواق الطاقة وتأثير ذلك على الأمن والسلم العالميين؟ وماذا عن الأمن والاستقرار في الجزيرة العربية والخليج؟ خصوصاً عندما نرى ما حلَّ ويحلّ بدول محيطة، وتتوالى الأسئلة: ماذا لو لم يوحِّد عبد العزيز (الكيان الكبير)، كما يحلو للمؤرخ الأستاذ محمد حسين زيدان أن يسميه؟ وماذا لو لم يحافظ على هذه الوحدة أبناء عبد العزيز؟

لقد كانت هذه التوطئة ضرورية لإدراك دور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في خدمة الكيان الكبير لما يربو على سبعين عاماً، ومعاصرته ما مرَّت به البلاد من تحديات وتطورات، ومع ذلك لا يمكن لصفحات كهذه الإحاطة بسيرة ومسيرة الملك سلمان بن عبد العزيز، لكن التوقف عند بعض المحطات والمواقف قد يُلقي الضوء على جوانب من شخصيته ورؤيته، ويفسر ما وصلت إليه المملكة العربية السعودية تحت قيادته:شرف الخدمة.

خادم الحرمين الشريفين يرأس أعمال القمة الافتراضية لقادة دول مجموعة العشرين

لم تشر المصادر إلى تولي سلمان بن عبد العزيز أي منصب رسمي في عهد والده، وهو ينظر إلى الخدمة العامة على أنها واجب مَن تُسند إليه المسؤولية، «لأن الوطن أعطانا الكثير والكثير، لذا يجب ألا ننسى واجبه علينا». في حفل افتتاح مركز (الأمير) سلمان الاجتماعي في الرياض الذي أُقيم تحت رعاية الأمير سلطان بن عبد العزيز عام 1997 (1417هـ) ارتجل (الأمير) سلمان كلمة مؤثرة قال فيها:

«لم أسعَ في يوم من الأيام لأن أكون مكرما... لأنني أعتقد أن الإنسان عندما يتولى المسؤولية فهو يعمل واجباً عليه... أنا لم أقدم لهذه المنطقة أو لهذه البلاد شيئاً من عندي؛ بل كنت خادماً لملوك هذه البلاد، وكنت أتمنى أن أخدم والدي الملك عبد العزيز رحمه الله (قالها بتأثر واضح)، لكنني تمكنت من خدمة ديني وبلادي تحت إشراف الملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد وولي عهده (الأمير) عبد الله، لذلك عندما طُرحت (الفكرة) وجاءني بعض الإخوة، رفضت فعلاً... وعندما جاءوني مرة أخرى وعرفت أن المشروع ليس تكريماً في مظهر؛ بل لإقامة عمل يخدم هذه المدينة وأبناءها المتكونين من كل أنحاء المملكة، وافقت، وهذا واجب عليّ...»، وهو هنا يشير إلى الفكرة التي جرى تداولها لتكريمه بمناسبة مرور 40 عاماً على توليه إمارة الرياض، وما تحقق من إنجازات. القصة طويلة وتفاصيلها كثيرة لكنَّ هذا الموقف يُظهر فلسفة خادم الحرمين الشريفين ونظرته إلى الخدمة العامة وأنها شرف للشخص المكلف بها، علاوة على كونها مسؤولية، وهو ما أظهره طوال خدمته المتصلة لدولته وقيادته من تفانٍ فيما أُوكل إليه من مهام وما تولاه من مناصب على مدى سبعة عقود. يقول شقيقه الأمير سلطان: «سلمان خير مَن حكم وجاهد وعمل في مدينة الرياض، لقد كان قوياً بحكمة، حازماً برحمة، وكان وفياً لخدمة دينه وولي أمره وما وُلِّي عليه من شعب، لذلك لا يُستكثر عليه أي أعمال يقوم بها أو قام بها فعلاً». هذا التفكير في الاستدامة والأثر الذي يبقى من خلال الاستفادة من المناسبات الاحتفائية أو التاريخية لم يكن الوحيد، فكثير من المشروعات القائمة اليوم في الرياض، مثل: مكتبة الملك فهد الوطنية، ومركز الملك عبد العزيز التاريخي، من ملامح الفكر السلماني التنموي الذي يستثمر الفرص والمناسبات التي تتوفر للمدينة ويحوِّلها إلى مشروعات مستدامة.

الأمير والإمارة

ارتبط سلمان (الأمير حينها) بالرياض وارتبطت به، فهي المدينة التي عاش بين جوانبها صباه وشبابه، وعاشت في داخله طوال حياته، تولى إمارتها ثلاث مرات: الأولى تكليفاً بالنيابة عن أخيه نايف بن عبد العزيز، أمير الرياض وقتذاك، حيث أصدر الملك سعود أمراً ملكياً في 16 مارس (آذار) 1953 (11 رجب 1373هـ)، بتوليه إمارة الرياض بالنيابة عن الأمير نايف الذي سافر في رحلة علاجية. والثانية بعد استقالة الأمير نايف بسبب ظروفه الصحية، حيث صدر المرسوم الملكي يوم 18 أبريل (نيسان) 1955 (25 شعبان 1374هـ)، بقبول استقالة الأمير نايف وتعيين (الأمير) سلمان أميراً للرياض، واستمر في المنصب حتى استقالته في 21 سبتمبر (أيلول) 1960 (30 ربيع الأول 1380هـ). وفي 4 فبراير (شباط) 1963 (10 رمضان 1382هـ) صدر الأمر الملكي بتعيينه أميراً لمنطقة الرياض للمرة الثانية التي استمرت لمدة 50 عاماً نقل الرياض خلالها نحو آفاق غير مسبوقة عمرانياً واقتصادياً وثقافياً.

خادم الحرمين الشريفين وولي العهد خلال حفل وضع حجر الأساس لمشروع بوابة الدرعية في نوفمبر 2019 (واس)

كانت إمارته للرياض تجربة فريدة في الحكم والإدارة والتنمية، فعلى مدى أكثر من نصف قرن ظل قريباً من قادة البلاد وشؤون الحكم، مطَّلعاً على الملفات ومشاركاً في اللقاءات ومبعوثاً للملوك، وتوسَّعت مهامه وازدادت وظائفه وكبرت مسؤولياته، وأصبح كبير مستشاري الملوك وعميد الأمراء وأمين سر الأسرة المالكة، يعرف أفرادها وتُحال إليه قضاياها ويحل مشكلاتها، وهذه في حد ذاتها مهمة ليست باليسيرة! وسأتوقف عند موقف رواه الدكتور عبد العزيز الثنيان الذي عمل عن قرب مع الملك سلمان عندما كان أميراً للرياض، يقول: «كنت ذات يوم في مكتب الأمير وأنا مدير تعليم الرياض، وكان في المكتب اثنان يعرضان للأمير المعاملات، وفجأة فتح الحارس باب المكتب ودخل أمير طويل القامة، حسن الصورة أحسبه في الـ40 من عمره، وحين رآه الأمير سلمان وقف على الفور ووقفنا وأنَّبه وقرَّعه ووبَّخه، واستمر في تأنيبه وتقريعه، ثم وضع الأمير سلمان يديه خلفه واستدار يمنةً ويسرةً، وعلا صوته، وقال: يا رجل أو تريد هدم المجد الذي بناه الملك عبد العزيز ورجاله؟! أو تريد تشويه الحكم والإمارة؟!

ووقف الرجل صامتاً فاغراً فاه مطأطئاً رأسه، والأمير سلمان يقرِّع ويؤدّب، ثم ختم الأمير سلمان حديثه بأن قال له: اخرج وأصلح ما خرّبت، وإياك أن تتصرف مثل هذا التصرف، واعلم أن خصمك ما تركك خوفاً منك، أو عجزاً عنك، ولكن تركك لأنه يعلم مكانتك ووجاهتك، ولكن اعلم أن مكانتك عندنا لا تسمح لك بالتعدي والتطاول. اخرج وأصلح ما أفسدت وإياك والعودة لمثل هذا التصرف، واعلم أن الشرع لأكبر رجل وأصغر مواطن، لا فرق بين هذا وذاك، ولا بين أمير وآخر، القضاء مطهرة، والقضاء للجميع. وخرج الرجل يندب حظه».

تلخص هذه القصة أسلوب سلمان في الحكم؛ فلا فرق عنده بين أمير وغيره، وأن الانتساب إلى الأسرة مسؤولية قبل أن يكون شرفاً.

خادم الحرمين الشريفين يزور منطقة قصر الحكم في مدينة الرياض 10 نوفمبر 2022 (واس)

كانت معرفة سلمان عميقة برجالات الدولة، وآليات عمل أجهزة الحكومة وبيروقراطيتها، إضافةً إلى تواصله مع مكونات المجتمع من العلماء والوجهاء والأعيان وشيوخ القبائل والمثقفين والأكاديميين والإعلاميين ورجال الأعمال وغيرهم. علاوة على سعة معرفته بالمسؤولين المدنيين منهم والعسكريين، على اختلاف مستوياتهم ومناصبهم ورتبهم ومراتبهم، ناهيك بدقته في معرفة الأسر والقبائل والأنساب والعلاقات الاجتماعية.

ذلك كله وغيره جعل تجربته في إمارة الرياض متفردة، وإنجازاته متميزة، مما جعل الملك فهد يختاره لرئاسة اللجنة التي أعدَّت مسوَّدة مشروع نظام المناطق الذي صدر عام 1992 (1412هـ)، وما مكَّنه، إضافةً إلى ما يتمتع به من بُعد نظر وعمق سياسي وفكر بنَّاء، من إدارة الكثير من الملفات والقضايا المهمة داخلياً وخارجياً، وكان بالنسبة لإخوته الملوك «رجل المهمات الصعبة». كأن نجاحاته في الرياض كانت مقدمة إلى ما حققه عند قيادته البلاد.

أروقة السياسة

مع كل المهام الموكلة إليه في الإمارة، لم يقتصر عمله على إدارته لعاصمة بلاده وشؤون أسرة الحكم والملفات الأخرى التي تتطلب جهداً استثنائياً وعملاً دؤوباً؛ بل كان سلمان حاضراً ومشاركاً في أدق المراحل السياسية التي مرت بها المنطقة.

عرف خلال رحلته الطويلة الأحزاب والحركات والتيارات السياسية في العالم العربي وغيره وتعرف إلى ارتباطاتها وخلفياتها وعقائدها وزعمائها، وتعمق في فهم الخريطة السياسية للدول وتوازنات القوى في العالم.

أعباء الحكم

انتقل من إمارة الرياض صاعداً في سلّم الحكم، فتولى ملف الدفاع عن البلاد في عام 2011 (1432هـ) خلفاً لشقيقه الأمير سلطان، وبدأ في إعادة تنظيم وهيكلة الوزارة والقوات المسلحة السعودية ووضع أسس استراتيجية الدفاع الوطني، وهو ما عُرف لاحقاً ببرنامج تطوير وزارة الدفاع.

ثم في عام 2012 (1433هـ) اختاره الملك عبد الله لولاية العهد خلفاً لشقيقه الأمير نايف، وعيَّنه نائباً لرئيس مجلس الوزراء مع احتفاظه بحقيبة «الدفاع»، فكان خير معين لمليكه، سانده في حماية مكتسبات البلاد وحفْظ أمنها واستقرارها في فترة التقلبات والقلاقل في المنطقة، وناب عنه في فترة مرضه متحملاً مسؤوليات الدولة وأعباء الحكم. وطوال مسيرته العملية رأس عدداً من الهيئات واللجان والجهات ونال كثيراً من الأوسمة.

خادم الحرمين الشريفين يزور منطقة قصر الحكم بالرياض في نوفمبر 2022 (واس)

 

 

كل هذه التجارب والخبرات زادت من معرفته بأبعاد الأمن الوطني السعودي ومهدداته، كما جعلته ينظر نظرةً مختلفة إلى أهمية تماسك الأسرة الملكية كونها الضامنة لاستقرار الحكم ووحدة البلاد وأمن الدولة، وأن أبناء عبد العزيز وبعد ذلك أحفاده هم الأمناء على العرش.

من هنا كان سلمان يعرف أسس استقرار البلاد وأهمها ترتيبات مؤسسة الحكم، والتحديات التي تواجه نقل السلطة إلى جيل أحفاد عبد العزيز، فقام فور مبايعته ملكاً إثر وفاة الملك عبد الله يوم 3 ربيع الآخر (1436هـ)، 23 يناير (كانون الثاني) 2015، بتهيئة ثم تمكين جيل من الأمراء الشباب لتحمل المسؤولية.

أما الأمر الثاني، فكان التحديث السعودي الشامل؛ مواكبةً لمتغيرات المرحلة ومواجهةً لتحديات العصر.

حمل سلمان رسالة عبد العزيز وتعمقت في نفسه، مستشعراً أن مهمته ليس المحافظة على كيان الدولة وحفظ مصالحها فحسب؛ بل توفير احتياجات المجتمع السعودي وخدمة الأمة، تلك هي رسالة عبد العزيز التي حملها أبناؤه من بعده، وكان هاجس كل منهم أن يؤدي الأمانة كاملة كما تسلَّمها، لكن المفارقة أن كل ملك من أبناء عبد العزيز لم يُسلّم البلاد لخلفه كما تسلمها؛ بل أفضل من ذلك!

ودائماً ما تتجلى حكمة وحنكة الملك سلمان في الأوقات العصيبة والأزمات الطارئة. يقول الدكتور توفيق الربيعة: «إنه في أثناء جائحة كورونا وحينما توالى صدور قرارات وقف العمرة ثم الصلاة في الحرمين الشريفين، وشاهد الملك عبر التلفزيون الحرم فارغاً من المصلين حزن وقال: يجب ألا توقَف الصلاة نهائياً في الحرم، يمكن للعاملين وموظفي شؤون الحرمين أن يجري فحصهم ويصلوا في الحرم، لكن يجب ألا توقَف الصلاة نهائياً. كان مهتماً جداً بمثل هذه التفاصيل، مهتماً بألا يُرى الحرمان فارغين وأبوابهما مغلقة بالكامل فأحبَّ أن يضع استثناءً للاستثناء».

لم أسعَ في يوم من الأيام لأن أكون مكرماً... الإنسان عندما يتولى المسؤولية فهو يعمل واجباً عليه

الملك سلمان بن عبد العزيز في كلمة ارتجالية

إن سلمان هنا يستشعر مسؤوليته ليس بصفته ملكاً فحسب؛ بل بصفته إماماً للمسلمين أيضاً، لذا رأى العالم حرصه على إقامة شعائر الحج في بيئة منظمة وبأعداد محدودة خلال جائحة كورونا تعظيماً لشعائر الله واستشعاراً للمسؤولية والواجب الشرعي تجاه المسلمين من جهة، وتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ النفس البشرية من جهة أخرى.

لقد عاش سلمان تاريخ بلاده وشارك في بنائها وأسهم في استقرارها، ووعى المخاطر المحيطة بها، وعاصر تحولاتها وانخرط في تنميتها، وكان أحد أركان الدولة وأعمدتها، كما كان صماماً من صمامات مؤسسة الحكم، وركناً من أركان الدولة لنصف قرن أو يزيد؛ خدم ملوك البلاد في عهود إخوته سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، أميراً ووزيراً وولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء، وفي كل هذه المراحل كان سلمان أكبر من المناصب وأفخم من الألقاب.

عهد ورؤية

وبعد فهذا قليل من كثير عن سلمان بن عبد العزيز الإنسان والمسؤول، ويبقى الأكثر ليُروَى ويدوَّن، لكن المهم أنه حين ينظر السعوديون إلى عهد الملك سلمان فسوف يجدون أنه ضخ تجديداً في شرايين الدولة جعلها أكثر قوة وأقدر على مواكبة العصر والانطلاق نحو المستقبل وفق رؤية واضحة ونهج إصلاحي شامل. لقد كانت خبرات سلمان وتجاربه على مدى سبعة عقود في دواوين الحكم وأروقة السياسة ودهاليز الحكومة وتوازنات الأسرة، علاوة على معرفته بفضاءات الثقافة وقنوات الإعلام ومؤسسات الصحافة، وقربه من جمعيات البر وهيئات الإغاثة والعمل الخيري مطَّلعاً على التفاصيل وملمّاً بالملفات وعارفاً بخلفيات الأشخاص وتوجهاتهم وانتماءاتهم، مدركاً للأخطار التي تحيط بالبلاد والتحديات التي تواجه الدولة والمجتمع... كانت عصارة 70 عاماً أثمرت خططاً ورؤىً مختلفة لمعالجة المشكلات المؤجلة وحلحلة القضايا المعلَّقة، فإذا أضفنا إليها قوة الشخصية ووضوح الرؤية وسرعة اتخاذ القرار أدركنا كيف تم كل ذلك التجديد والإصلاح في أعوام قلائل.

خادم الحرمين الشريفين لدى ترؤسه إحدى جلسات مجلس الوزراء في أكتوبر 2020 (واس)

لقد كان أحد أهم القرارات التي اتخذها الملك سلمان، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، هو اختيار الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد، ضمن رؤية الملك الشاملة لتجديد الدولة ونقل الحكم إلى جيل الشباب، وهي الخطوة الأكثر جرأة وجسارة داخل مؤسسة الحكم منذ تأسيس المملكة العربية السعودية.

أتى هذا الاختيار الذي قُدمت فيه المصالح العليا للدولة على أي اعتبار آخر، ضمن رؤية الملك سلمان التجديدية الشاملة لمستقبل المملكة العربية السعودية، وستسطّر صفحات التاريخ أنه مَن قاد البلاد في هذه المرحلة السياسية بالغة الدقة والمنعطف التاريخي المهم، ونقل الحكم إلى جيل أحفاد عبد العزيز، وأعاد هيكلة الدولة وتجديد شبابها، مع المحافظة على النهج الذي قامت عليه البلاد. وحين تُذكر قائمة إنجازات سلمان ملكاً سيكون هذا الاختيار أولها إن لم يكن أبرزها، لذا نرى هذه العلاقة التكاملية بين الملك وولي عهده، وهذا الدور الكبير الذي قام به الأمير محمد بن سلمان بمتابعة وتوجيه من والده ومليكه سلمان بن عبد العزيز، الذي كأنما أراد أن يكون هو على ضفة العبور وولي عهده على الضفة الأخرى لتأمين انتقال البلاد إلى المستقبل. تصعب الإحاطة بجميع جوانب سيرة الملك سلمان، كما يتعذر حصر كل ما حققه من إنجازات طوال مسيرته؛ أما ما تحقق للبلاد والعباد منذ توليه مقاليد الحكم، فبدأت بإصلاحاته المؤسسية خلال الأسبوع الأول من حكمه بصدور عشرات الأوامر التي كانت مؤشراً وعنواناً للرؤية التجديدية للدولة، من خلال إعادة هيكلة الحكومة بإلغاء اللجان والهيئات والمجالس المتعددة وإنشاء مجلسين؛ أحدهما للشؤون السياسية والأمنية، والآخر للشؤون الاقتصادية والتنمية، وإدماج بعض الوزارات وضخ كفاءات شابة في شرايين الدولة.

خادم_الحرمين الشريفين لدى رعايته حفل وضع حجر الأساس لمشـروع القدية في أبريل 2018 (واس)

كانت تلك هي البداية التي استمرت لتطوير الأداء الحكومي وتسريع وتيرة العمل واستثمار الطاقات والكفاءات والرهان على الشباب. كان «الإصلاح الشامل» هو العنوان الأبرز لـ«الحكم السلماني» وجاء «التخطيط الاستراتيجي» سمةً فارقةً للمرحلة، إذ أعلن الملك سلمان أن هدفه الأول «أن تكون بلادنا نموذجاً ناجحاً ورائداً في العالم على الأصعدة كافة، وسأعمل معكم على تحقيق ذلك». وبعد أن أدى المسؤولون الجُدد القَسَم أمامه قال إنه «يتمنى لهم التوفيق في أداء مهامهم لخدمة شعبنا الذي لن أقبل التقصير في خدمته».

المساءلة والشفافية ومكافحة الفساد برزت عناوين منذ البداية، ولو أردنا أن نلخص باقي العناوين العريضة للمرحلة لاحترنا؛ فمن تطوير القدرات العسكرية والدفاعية، إلى العناية بالأمن بمفهومه الشامل بما في ذلك الأمن الغذائي والسيبراني، ومكافحة التطرف والإرهاب، وتنظيم العمل الإغاثي والخيري، كما غدت الشراكات الاستراتيجية ملمحاً مهماً في السياسة الخارجية السعودية.

ثم أتى المشروع النهضوي الكبير (رؤية المملكة العربية السعودية 2030) ببرامجها ومبادراتها وحوكمتها ومستهدفاتها، فدخلت البلاد مرحلة التحول الكبرى اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، ومُكّنت المرأة كما مُكّن الشباب، وسجلت الصحة والتعليم قفزات نوعية وتقدمت المملكة العربية السعودية في التعليم الإلكتروني وفي مجال الابتكار والتطوير. وجاءت استجابة الحكومة للتعامل مع جائحة كورونا في المركز الأول عالمياً، وقدمت أنموذجاً متفرداً في إدارة الأزمات.

خادم الحرمين الشريفين يطلق 4 مشروعات نوعية كبرى لامست 23 مليار دولار (86 مليار ريال) في مدينة الرياض عام 2019 (واس)

ووصف البنك الدولي الإصلاحات السعودية «من بين أفضل 20 بلداً إصلاحياً في العالم، والثانية من بين أفضل البلدان ذات الدخل المرتفع ودول مجموعة العشرين من حيث تنفيذ إصلاحات تحسين مناخ الأعمال». كما تقدمت في سلم الترتيب العالمي لمؤشر البنية التحتية الرقمية للاتصالات وتقنية المعلومات، وصُنفت ضمن المراتب العشر الأولى عالمياً في سرعة الإنترنت. وحققت المركز الأول في التنافسية الرقمية على مستوى دول مجموعة العشرين. وفي المجال العدلي جرى تطوير الأنظمة والقوانين والبيئة التشريعية، حيث صدرت وعُدلت مئات الأنظمة واللوائح لمواكبة النهضة التشريعية التي تمر بها المملكة. كما حصلت وزارة العدل على جائزة «أفضل اتصال حكومي» على مستوى العالم العربي. وحُلحلت ملفات كان يُظَنّ فيما مضى أنه لا حل لها، كالبطالة والإسكان. أما القطاعات الأخرى: الطرق والنقل والصناعة والبيئة والثقافة والبلديات والتجارة والرياضة والسياحة والترفيه وغيرها، فحققت قفزات نوعية وإنجازات متعددة.

ونتيجة لكل ما تحقق من منجزات، حظيت المملكة بثقة عالمية جعلت منها إحدى الوجهات الأولى للمراكز العالمية والشركات الكبرى، ومراكز لنشاطات دولية متعددة في الرياضة والاستثمار والثقافة وبوابة تواصل حضاري، مما أسهم في اختيارها لاستضافة «إكسبو 2030»، وتنظيم كأس العالم عام 2034.

خادم الحرمين الشريفين يفتتح مشروع قطار الرياض في نوفمبر 2024 (واس)

لكن الثقة الأهم كانت ثقة الشعب السعودي بقيادته، وتقدُّم السعودية سنوياً في مؤشر السعادة العالمي الصادر عن الأمم المتحدة، الذي يقيس مؤشرات السعادة والرفاهية وجودة الحياة.

لقد ترجم ولي العهد رؤى الملك وجعلها واقعاً معيشاً، وبطريقة مذهلة جعلت من سعودية اليوم شيئاً مختلفاً، ومع ذلك تظل امتداداً لما سبقتها من مراحل وليست منفصلةً عنها، يدل على ذلك الثبات على المبادئ والأسس التي قامت عليها الدولة والاتكاء على الإرث التاريخي والعمق الحضاري لها، كأن عهد سلمان هو المسار الذي ربط الماضي بالمستقبل والذي مزج بين مرحلتين تتمِّم إحداهما الأخرى وتكون امتداداً لها وتثبيتاً لدعائمها.

واليوم ونحن نكتب شيئاً من تاريخ سلمان، نقرأ في الوقت ذاته رؤيته وإنجازاته وهذه النهضة الكبرى التي يقودها للعبور إلى المستقبل، يقول الدكتور زين العابدين الركابي: حسب زعيمٍ من النجاح، أن يجتنب العواصف، ويغالب الأنواء وهو يقود سفينته إلى البر الآمن... أما أن يضيف إلى هذه المهمة الصعبة «رؤية تقدمية» في العمل والبناء فإن هذا هو النجاح «النادر» أو «الفريد».

وقبل الختام أود التأكيد أنني هنا قارئ لتاريخ ولست مدوناً لسيرة سلمان بن عبد العزيز، حرصت من خلال هذه القراءة على كتابة قبسات عن زوايا في حياته، وجوانب من مسيرته، وإضاءات عن بعض أدواره ومواقفه، أسطرها؛ وأتوجه من خلالها إلى الباحثين والمؤرخين أن ينقّبوا في ثنايا هذا التاريخ وأن يعتنوا بحثاً وتحليلاً بجوانب هذه السيرة، فسبعون عاماً في خدمة الدولة وفي أعلى المناصب ومن ثم قيادتها في واحدة من أدق المراحل ليست بالقصيرة ولا باليسيرة؛ بل تستحق أن يُحاط بها وأن تُتناول من جميع نواحيها.