بدّد تشكيل الحكومة اللبنانية وحصولها على ثقة البرلمان في الأسبوع الماضي، كل الاعتراضات السابقة على تعيين ياسين جابر وزيراً للمالية. فالاعتراض لم يتخطَّ «تكريس أعراف جديدة متصلة بحصريّة تخصيص حقائب وزارية لطوائف وقوى سياسية»، ولم تطل شخص جابر الذي شارك في وزارات عدة منذ عام 1995، وشغل مقعداً نيابياً منذ 1996 وحتى 2022، وعُرف خلال السنوات الماضية بـ«التكنوقراطي المنفتح»، و«صلة مجلس النواب مع الخارج». جابر الذي يصفه عارفوه بـ«مهندس القوانين الإصلاحية» في البرلمان اللبناني، يحمل «حقيبة التحديات» التي تواجه الحكومة اللبنانية، وأكبرها السؤال: «كيف نغيّر الصورة؟ وكيف نكسب تحدي الإصلاح؟»، كما يقول لـ«الشرق الأوسط». وإذ يشدد على أن «نية العمل الجدي قائمة»، يؤكد أن البداية ستكون «من إعادة هيكلة الدولة وملء الشواغر» فيها.
كما في بدايات ياسين جابر السياسية، كذلك في مهمته الحالية. كان الوضع في عام 2000 صعباً، لجهة تعامل السلطات اللبنانية مع مطالب المجتمع الدولي بالإصلاح، وإقرار القوانين الإصلاحية وتنفيذها، وفي مقدمتها تعيين الهيئات الناظمة لقطاعات حيوية مثل الكهرباء والنفط والطيران المدني والاتصالات وغيرها... وذلك للحصول على حزمات المساعدات المتعاقبة في مؤتمرات دولية، بينها «باريس 1» و«باريس 2». وتشبه المرحلة الحالية المرحلةَ السابقة، ويُضاف إليها الآن نهوض لبنان من ركام الحرب، وإعادة الإعمار، بعد سنوات من المراوحة والوعود أفضت إلى نهاية فترة السماح الدولية، ووضعت لبنان أمام تحديات جِسام.
بطاقة شخصية
يتحدّر ياسين جابر من إحدى أكبر عائلات مدينة النبطية، في جنوب لبنان. ولقد وُلد في مدينة لاغوس، العاصمة السابقة لنيجيريا، يوم 15 يناير (كانون الثاني) 1951. أما والده فهو رجل الأعمال المغترب في أفريقيا كامل جابر.
أنهى جابر دراسته الثانوية في مدرسة الإنترناشونال كوليدج (الآي سي) في بيروت. وتخرّج في الجامعة الأميركية ببيروت، حاملاً درجة بكالوريوس آداب في الاقتصاد. وهو متزوّج من وفاء محمد العلي، وأب لأربعة أولاد هم: كامل وسارة وتمارا ونائل.
عام 1979 هاجر إلى بريطانيا، وأقام فيها حيث أدار أعمال عائلته. إلا أنه دخل العمل السياسي رسمياً في عام 1995 حين تولى حقيبة وزارة الاقتصاد والتجارة في حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري، ثم عُيّن وزيراً للأشغال العامة والنقل في حكومة الرئيس عمر كرامي عام 2004. ومنذ دخوله العمل النيابي في 1996، وانضمامه إلى «كتلة التنمية والتحرير» التي يرأسها رئيس البرلمان نبيه برّي، شغل موقعه بفاعلية في لجنة المال والموازنة، وتنقل إلى لجان أخرى، وكان آخرها رئاسة لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان في 2018.
وبعدما اتخذ قراراً شخصياً بألا يترشح للانتخابات النيابية في دورة 2022، عُيّن وزيراً للمالية في حكومة الرئيس نوّاف سلام خلال فبراير (شباط) 2025.
تحدّيات وزارة المالية
تختصر تحديات جابر في وزارة المالية تحديات كل لبنان الذي يعمل جاهداً للتعامل مع السؤال الأساسي: «هل يستطيع لبنان التقاط الفرصة المتاحة له دولياً وعربياً أو لا؟». وإذا كانت الحكومات تضع جدولاً بأولوياتها، فإن كل الملفات اليوم في لبنان تحتل الأولوية نفسها؛ كونها تضطلع بالأهمية ذاتها، وتبدأ من الإصلاحات الداخلية، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإيجاد حل لأزمة المودعين، مروراً بإعادة إعمار ما دمّرته الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، واستعادة ثقة المؤسسات الدولية، وتفعيل قطاع الجمارك والدوائر العقارية، ولا تنتهي الأولويات بملفات الكهرباء، والاتصالات، والمطار، وتعيين الهيئات الناظمة، ومخاطبة المؤسسات الدولية مثل «البنك الدولي» وصندوق النقد، وغيرها من الملفات.
تتراكم هذه الملفات دفعة واحدة في وجه الحكومة، ويوزّع الوزراء أوقاتهم على مستوى العمل الحكومي ومستوى وزاراتهم. وتبدو نهاراتهم «مزدحمة باللقاءات والعمل الدؤوب لمعالجة مختلف الملفات»، كما يقول جابر الذي يضطلع بأبرز ملفات العمل الحكومي في الوقت الراهن، إلى جانب رئيس الحكومة نوّاف سلام؛ ذلك أن الوزارة، بطبيعتها التكوينية، معنية بقسم كبير من خطط الإصلاح تلك...
يُضاف ذلك إلى أن وزير المال، إلى جانب وزيرين آخرين يحيطان بشكل أساسي برئيس الحكومة، هما وزير الثقافة غسان سلامة، ونائب رئيس الحكومة طارق متري، يُعدّون من الوزراء الذين يمتلكون تجربة سياسية.
ويقول جابر إن أعضاء الحكومة يخوضون في ورشة الإصلاح، ولا يحصر هذا الجهد بالوزراء السابقي الذكر؛ «فنحن الوزراء الثلاثة سبق لنا أن تعاطينا السياسة، وبالتالي فإننا نمتلك خبرات في هذا المجال، ومتآلفون مع الإدارة والسياسة. لكن إلى جانب الرئيس سلام، هناك شخصيات مهمة جداً أيضاً، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، الوزير عامر البساط الآتي من خلفية إدارية ومالية، إضافة إلى الوزيرة حنين السيد الآتية من تجربة في البنك الدولي، والوزير جو صدّي، وغيرهم».
العمل النيابي
ساهمت تجربة ياسين جابر في العملين الحكومي والنيابي لنحو 30 سنة في القفز خطوات كبيرة باتجاه الإسراع في الإصلاحات والإنجازات. طوال تلك السنوات كان جابر يخيط القوانين ويدفع لإقرارها في البرلمان، ثم يضغط على الحكومات المتعاقبة لإصدار المراسيم التنفيذية لها. وحقاً استفاد من تجربته التي بدأت عام 1995 في أول حكومة شارك فيها.
يومذاك، كان وجوده يشبه وجود وزراء كثيرين يحتاجون إلى مراكمة الخبرات في الإدارة والسياسة. وبعد أن تراكمت خبراته، باتت خلفيته القانونية الآن تساعده على تحقيق «انطلاقة جيدة»، تبدأ من معرفته بالقوانين.
الآن، حين وضعت حكومة سلام جدول أعمالها الذي يُفترض أنه يحتاج إلى إقرار قوانين إصلاحية، أحضر جابر جدولاً بعشرات القوانين التي سبق إقرارها في الماضي، وتحتاج فقط إلى مراسيم تطبيقية. ووضع الجدول بعهدة الرئيس سلام، فأصدر الأخير تعميماً على الوزارات المعنية طالب فيه بأن تكون المراسيم جاهزة سريعاً للتطبيق. وبالمثل، عمّم وزير المال على المؤسسات العامة إجراء تدقيق خارجي بحساباتها، بهدف زيادة الشفافية... كما أعرب الوزراء عن «جدية بتعيين الهيئات الناظمة ضمن آلية تعيين شفافة، تستعين بالكفاءات».
جابر قال إن تعيين الهيئات الناظمة لمختلف القطاعات، هو مفتاح الإصلاح في لبنان. ويذكر هنا تفاصيل من لقائه «الإيجابي جداً» مع نائب رئيس البنك الدولي عثمان ديون؛ إذ ناقش المجتمعون برنامج المساعدة الطارئة للبنان (LEAP)، وهو مبادرة متقدمة لإعادة الإعمار بقيمة مليار دولار، يساهم البنك الدولي فيها بـ250 مليون دولار، ويؤمّن الباقي من قبل الشركاء المانحين وأصدقاء لبنان.
ويشير جابر إلى أن البنك الدولي خصص دعماً لتأهيل البنى التحتية وإزالة الردم الناتج عن الحرب بقيمة 250 مليون دولار، و200 مليون لدعم القطاع الزراعي، و250 مليوناً لشبكات المياه، و30 مليوناً للتأهيل المرتبط بالمعلوماتية. وإثر سؤاله من قبل البنك الدولي عن إصلاح قطاع الكهرباء، وقلة التزام لبنان في السابق بهذا المجال، أبلغ عثمان سائليه بأن الحكومة اللبنانية هذه المرة جدية، بدليل تقديم وعود بتعيين الهيئة الناظمة للكهرباء.
مؤسسات دولية
غير أن بناء الثقة مع المؤسسات الدولية الهادفة إلى طمأنة المستثمرين وتحسين بيئة الأعمال، لا يقتصر على «البنك الدولي» الذي يشارك جابر في اجتماعاته بالربيع في واشنطن، بل يشمل أيضاً مخاطبة صندوق النقد الدولي. وهنا يشير وزير المالية إلى أنه بعد مباحثات مع الممثل المقيم للصندوق في لبنان، فريدريكو ليما، كشف خلالها الالتزام بتطبيق الإصلاحات، لم تمضِ ساعات قليلة حتى صدر بيان من واشنطن يرحب بتعهدات الحكومة. وأفاد جابر بأن وفد الصندوق سيزور بيروت يوم الثلاثاء المقبل للانطلاق في المفاوضات مع الصندوق، وهي خطوة رئيسة لتحقيق الإصلاح.
وللعلم، جابر كان أبلغ ليما في الشهر الماضي بأن «الحكومة، ووزارة المالية تحديداً، تولي اهتماماً كبيراً لتحقيق اتفاق مع صندوق النقد الدولي، انطلاقاً من إدراكهما لأهمية دوره في السير على طريق الإصلاح، وإعادة استقطاب المجتمع الدولي وتحفيزه على مساعدة لبنان في هذا المضمار».
لقاءات دولية مكثفة
مروحة اللقاءات تتسع لتشمل سفراء الدول الصديقة للبنان، وممثلي مؤسسات مالية أجنبية رائدة. وبجانب ذلك، فتحت وزارة المال خطاً مع «مؤسسة التمويل الدولية» (IFC) للانطلاق في مشاريع وتمويلها، وتستفيد من القانون الجاهز الذي أنجزه في عام 2017، وهو تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإنشاء «المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة»، وذلك لتسهيل النهوض بالمؤسسات، وجذب المستثمرين من القطاع الخاص، «وخصوصاً أن مشاريع كثيرة تنتظرنا، مثل تأهيل مطار القليعات (شمال لبنان)، وتأهيل المدينة الرياضية على سبيل المثال لا الحصر، وهي تحتاج إلى تعاون وشراكة بين القطاعين العام والخاص»، وتسعى جميعها إلى جذب الاستثمارات الخارجية، وتشجيع المغتربين اللّبنانيين على الاستثمار في البلاد، في ظل الجهود الحكومية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي.
هذه الورشة تبعث بإشارات حول «بداية جديدة» في لبنان. ووفق جابر، فإن هذا الجهد «يبعث برسائل حول جدية الإصلاح، ما دامت المساعدات مشروطة به».
ساهمت تجربته في العملين الحكومي والنيابي لنحو 30 سنة في القفز خطوات كبيرة باتجاه الإسراع في الإصلاحات
القطاع المصرفي
إصلاح القطاع المصرفي يتصدر فعلياً مهام وزارة المال، والبداية من تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان. وهنا يقول جابر: «هذه الخطوة ملحة، وتهيئ الأرضية لإصلاح القطاع المالي والمصرفي، بالنظر إلى أن مصرف لبنان المركزي، قانوناً، هو الهيئة الناظمة للقطاع».
أيضاً يعمل جابر على تعيين مستشارين متخصصين في قطاع البنوك، إلى جانب آخرين متخصصين بملفات الضرائب والتعامل مع الشركات المالية والمؤسسات المالية الدولية. ويشير إلى ضرورة «إحياء القطاع المصرفي، والخروج من الاقتصاد النقدي. وهي مهمة لا يمكن أن تتحقق من دون قطاع مصرفي فاعل ونشط»، لافتاً إلى «أننا وضعنا مع رئيس الحكومة قواعد مهمة للإصلاح، وبعثنا برسائل واضحة إلى المؤسسات الدولية تتضمن إظهار الجدية في العمل لتحقيق الإصلاح، وهو ما شجّع الخارج على مخاطبتنا والتعامل مع الحكومة».
ويؤكد الوزير أن لبنان «ليس الطرف الذي يشطب الودائع، بل يعيد للناس حقوقها؛ لأن تسديد الودائع سيبعث برسالة ثقة لأي مستثمر محلي وخارجي في المستقبل»، موضحاً أنه «أساس خطة العمل التي تنسجم مع مطالب صندوق النقد الدولي، وسيبدأ تنفيذ الخطة بصرف ودائع صغار المودعين، وننتقل تدريجياً لتسديد جميع الودائع العالقة على مراحل».أخيراً، يولي جابر ملف الجمارك والدوائر العقارية أهمية بالغة، وهو من أبرز القطاعات التي تدرّ المداخيل على الخزينة، موضحاً: «أحاول تغيير نظام العمل وترشيقه، بهدف تسهيل معاملات المواطنين، وحماية مصادر دخل الدولة وحفظها»، فضلاً عن مشاريع حماية المستهلك وتشجيع الاستثمار، ومن بينها تخصيص مناطق صناعية على ممتلكات الدولة في مختلف المناطق اللّبنانية لدعم القطاع الإنتاجي، وتعزيز النمو الاقتصادي، وخلق فرص عمل جديدة تساهم في التنمية الاجتماعية.