فترة مادورو الثالثة في فنزويلا مهدّدة برياح واشنطن

مع توقّع فترة عصيبة لليسار في أميركا اللاتينية

من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)
من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)
TT
20

فترة مادورو الثالثة في فنزويلا مهدّدة برياح واشنطن

من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)
من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)

الاتهامات التي وجهتها المعارضة للنظام الفنزويلي بتزوير نتائج الانتخابات أكّدها المراقبون الدوليون المستقلون، مثل «مركز جيمي كارتر» الأميركي الذي يتمتع بسمعة حيادية عالية، وكان النظام دعاه لمتابعة العملية الانتخابية ومراقبتها، منوهاً بما له من مصداقية. لكن عندما أعلن المركز المذكور أنه لا يمكن اعتبار الانتخابات ديمقراطية، وأن النتائج الرسمية المعلنة ليست نزيهة، شنّ النظام عليه حملة واتهمه بالكذب، ولم تنفع جميع الاحتجاجات الإقليمية والدولية في منع الاحتفال بتنصيب مادورو التي قاطعتها معظم الدول الديمقراطية.

مضاعفة العقوبات

يذكر أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي قرّرت مضاعفة العقوبات المفروضة على قيادات النظام الفنزويلي الذي بدت عزلته الدولية والإقليمية واضحة في احتفال التنصيب الذي لم يحضره سوى الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل والنيكاراغوي دانيال أورتيغا. وبعد عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ومعه فريق من «صقور» اليمين، يتوقع أن تواجه القوى اليسارية في أميركا اللاتينية فترة عصيبة.

وحقاً، حتى بعض الأنظمة اليسارية أدانت ما وصفته بانتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها النظام في فنزويلا. إذ صرّح الرئيس التشيلي غابريال بوريتش قائلاً: «من موقع اليسار أقول لكم إن حكومة مادورو ديكتاتورية»، وأعقبت تصريحاته مواقف مماثلة صدرت عن مسؤولين في الحكومتين البرازيلية والمكسيكية.

في أي حال، شهدت بداية الولاية الثالثة لمادورو تصعيداً ملحوظاً في «الخطاب الحربي» للنظام، سبقته حملة واسعة من القمع السياسي ومحاصرة الاحتجاجات الشعبية التي كانت تنظمها المعارضة اليمينية، وإطلاق التهديدات ضد قياداتها. وبلغ التوتر منسوباً عالياً عشية التنصيب عندما ألقت الأجهزة الأمنية القبض على زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، قبل إطلاقها سراحها بعد ساعات، في ظروف ما زال الغموض يكتنفها حتى الآن.

كل هذه التطورات حالت دون تنفيذ مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس أورّوتيا - الذي اعتبرته دول عدة فائزاً في الانتخابات وأخرى رئيساً منتخباً - وعده بالرجوع إلى كاراكاس لتسلم مهامه رئيساً جديداً في الموعد المحدد. وكان غونزاليس قد اتهم الرئيس نيكولاس مادورو بتنفيذ «انقلاب»، وأكّد أنه سيعود إلى فنزويلا لمواصلة النضال من أجل عملية انتقال سلمي للسلطة «متى توافرت الضمانات الكافية لأمنه والظروف المناسبة».

إحباط الداخل... ودور الخارج

لكن، بينما تسود أجواء الإحباط بين القواعد الشعبية المعارضة التي اعتادت على مثل هذه الظروف، دعت قيادات معارضة المجتمع الدولي إلى مضاعفة الضغوط على النظام؛ لمنعه من المضي في حملة القمع والاعتقالات، التي أطلقها منذ أسابيع وكبح سلسلة التجاوزات التي تمارسها الأجهزة الأمنية والقضائية.

من جهة ثانية، لم تسلم المعارضة نفسها هذه المرة من انتقادات قواعدها الشعبية التي اتهمتها برفع منسوب التفاؤل بسقوط النظام إلى مستويات غير واقعية، وأيضاً الرهان على تحرك إقليمي ودولي فاعل لم تظهر له أي بوادر. وللعلم، اكتفى البيان المشترك الذي صدر عن وزراء خارجية «مجموعة الدول الصناعية السبع» بالقول: «إن تسلّم نيكولاس مادورو مقاليد السلطة رئيساً لفنزويلا لا شرعية له»، بينما طالب رئيس كولومبيا الأسبق اليميني ألفارو أوريبي بتدخل عسكري دولي «يجتثّ زمرة الطغاة من السلطة ويعيدها إلى أصحابها الشرعيين». لكن هذه المطالبة أدت إلى حملة اعتقالات واسعة في أوساط القيادات المعارضة الفنزويلية بتهمة «التواطؤ مع جهات خارجية لقلب النظام بالقوة»، بينما كانت القوات المسلحة الفنزويلية ترفع حالة التأهب وتقرر إقفال الحدود مع كولومبيا المجاورة.

في سياق متصل، على صعيد ضيق حكومات يسارية في القارة من الوضع في فنزويلا، أعلن الرئيس الكولومبي غوستافو بترو أن الحكومة الفنزويلية تُمعن في تجاوزاتها وقمعها ضد رموز المعارضة السياسية، لكنه دافع عن امتناعه عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع كاراكاس، قائلاً: «الإبقاء على علاقاتنا الدبلوماسية مع فنزويلا لا يعني الاعتراف بشرعية الانتخابات، التي لم تكن حرّة منذ بداياتها عندما قرّر النظام حرمان زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو من الترشح».

الحكومة البرازيلية التي يقودها لويس إيناسيو لولا - وهي النظام اليساري الوازن حالياً في أميركا اللاتينية - قرّرت بدورها ألا تعترف برئاسة مادورو، لكنها رفضت أيضاً الاعتراف برئاسة مرشح المعارضة. ومن ثم، دعت القوى السياسية الفنزويلية إلى استئناف الحوار لتسوية الخلافات، معربة عن استعدادها - إلى جانب فرنسا - لتسهيل هذا الحوار تمهيداً لمصالحة نهائية. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد بحث مع نظيره البرازيلي لولا في مكالمة هاتفية طويلة الوضع في فنزويلا، واتفقا على مضاعفة جهود الوساطة لتيسير عودة الاتصالات بين مادورو والمعارضة من أجل العودة إلى الديمقراطية وتحقيق الاستقرار، وطالبا النظام بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين.

تصعيد واشنطن

في موازاة ذلك، قبل تولي ترمب، أعلنت الإدارة الأميركية السابقة بعد ساعات من تنصيب مادورو، رفعها مكافأة المساعدة على اعتقال كل من الرئيس الفنزويلي ووزير الداخلية ديوسادو كابيو إلى 25 مليون دولار، كما رفعت أيضاً قيمة المكافأة للقبض على وزير الدفاع فلاديمير بادرينو إلى 15 مليون دولار.

ويذكر أن وزير الخارجية الأميركي (السابق) أنطوني بلينكن قال إن تنصيب مادورو رئيساً «ليس شرعياً»، وطالب بتنصيب مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس وإطلاق عملية انتقال سلمية وديمقراطية للسلطة. كذلك، فرضت الحكومة الكندية عقوبات على 14 من كبار موظفي الحكومة الفنزويلية بسبب «مشاركتهم او دعمهم انتهاكات لحقوق الإنسان».

«عُزلتا» مادورو تعزّزان مكانة صعب

الأوساط الدبلوماسية المراقبة من كثب الوضع الداخلي الفنزويلي ترى أن العزلة الإقليمية والدولية المتزايدة التي يتعرّض لها النظام، توازيها عزلة أكبر على الصعيد الداخلي يعاني منها مادورو الذي لم يعد يثق سوى بحفنة ضئيلة من الأوفياء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. وتعتقد هذه الأوساط أن النظام لن يسقط إلا من الداخل، بفعل التصدّع الذي يتنامى بين قياداته وشخصياته البارزة التي تسعى للحصول على ضمانات بعد انهياره.

من الأوفياء الذين يتمتعون بثقة مادورو التامة، المدّعي العام طارق صعب، الذي قرر الرئيس أخيراً تكليفه ترؤس عملية الإصلاح الدستوري الذي كان أعلن عنه قبل الانتخابات الرئاسية ويريد الآن تسريع وتيرته من غير أن يكشف عن تفاصيل مضمونه أو أهدافه. ووفق كلام مادورو: «طلبت إلى طارق وليام صعب تولي رئاسة اللجنة الوطنية للإصلاح الدستوري استناداً إلى خبرته القانونية الطويلة، ودفاعه عن حقوق الإنسان، وبصفته أصغر أعضاء اللجنة الرئاسية التي شكَّلها القائد هوغو تشافيز لوضع الدستور عام 1998. وهو مؤهل أخلاقياً ومهنياً لأداء هذه المهمة على أكمل وجه».

روبيو مع دونالد ترمب (أ ف ب)
روبيو مع دونالد ترمب (أ ف ب)

التعليق الأول الذي صدر عن المعارضة على هذه الخطوة كان القول إن طارق صعب هو المسؤول عن آلاف الاعتقالات السياسية، وعن «فبركة» عشرات ملفات الاتهام ضد الزعماء المناهضين للنظام. وبحسب زعيمة المعارضة ماريا ماتشادو «دخل مادورو مرحلة الهروب إلى الأمام، وأصبح التغيير حتمياً... وهو آتٍ عاجلاً أو آجلاً».

ختاماً، يذكر أن الزعيم السابق هوغو تشافيز كان قد لجأ في عام 2007 إلى تعديل الدستور لاحتواء الاحتجاجات الطلابية التي اشتعلت في معظم أنحاء فنزويلا، لكنه خسر رهان الاستفتاء الذي كان أولى الهزائم التي مُني بها، حين كان يحاول إرساء نظام شعبي لا يضع حداً لعدد الولايات الرئاسية.


مقالات ذات صلة

ترمب يطالب بإثبات الجنسية الأميركية للسماح بالتصويت في الانتخابات

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرد على أسئلة وسائل الإعلام في البيت الأبيض يوم 25 مارس 2025 (إ.ب.أ)

ترمب يطالب بإثبات الجنسية الأميركية للسماح بالتصويت في الانتخابات

وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمس (الثلاثاء) أمراً تنفيذياً من شأنه أن يلزم الناخبين بإثبات أنهم مواطنون أميركيون.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
خاص الرئيس دونالد ترمب يستمع إلى إيلون ماسك وهو يتحدث في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض (أ.ب)

خاص هل يكون انحدار «تسلا» مدفوعاً بانحيازات إيلون ماسك السياسية؟

كان لتحالف إيلون ماسك مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وانغماسه عميقاً في السياسات الداخلية والخارجية، نتائج قد تكون مقلقة اقتصادياً بالنسبة للشركة ولماسك.

إيلي يوسف (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث بينما يستمع لاعب الغولف تايغر وودز خلال حفل استقبال بمناسبة شهر تاريخ السود في الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض... الخميس 20 فبراير 2025 في واشنطن (أ.ب)

ترمب يثير فكرة الترشح لولاية ثالثة «غير دستورية» مجدداً... وأنصاره: نعم لأربع سنوات أخرى

قالت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أثار، الخميس، مجددا فكرة ترشحه لولاية ثالثة، وذلك على الرغم من أنها فكرة تتعارض مع الدستور

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد صور افتراضية للعملات المشفرة في هذا الرسم التوضيحي (رويترز)

صناعة العملات المشفرة تسعى لفرض نفوذها في واشنطن

منذ تولي ترمب منصبه حقّقت صناعة العملات المشفرة بعض المكاسب المبكرة؛ مثل إلغاء هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية قاعدة محاسبية مثيرة للجدل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب على باب الطائرة الرئاسية «غير فورس ون» (أ.ب) play-circle

مؤلف كتاب «الانتقام»: تهديد إيران باغتيال ترمب كان أكثر خطورة مما كشف عنه

ذكر موقع «أكسيوس» الأميركي أن تهديد إيران باغتيال دونالد ترمب خلال حملته الانتخابية في عام 2024 كان أكثر خطورة بكثير مما نشر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
TT
20

ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

شكّلت الاشتباكات التي شهدتها الحدود الشرقية للبنان منتصف شهر مارس (آذار) الحالي أول اختبار للدولتين اللبنانية والسورية الجديدتين، في مقاربة الملفات المعقّدة والمتراكمة التي كان النظام السوري السابق كما الحكومات اللبنانية التي كان يسيطر عليها «حزب الله» تفضّل أن تبقى مجمّدة على حالها تبعاً لمصالح الطرفين. الحدود اللبنانية - السورية تمتد على طول أكثر من 375 كلم. ويُجمع الخبراء على أن تأخر ترسيمها، ووجود عوامل جغرافية واجتماعية تضاف إليها عوامل أخرى سياسية وأمنية، أمور تجعل منها «خاصرة رخوة» للبلدين، قد تشهد تجدد المواجهات العسكرية في أي وقت كان، وبخاصة أن فيها عشرات المعابر غير الشرعية التي تُستخدم لتهريب الأفراد والسلع والسلاح منذ سنوات طويلة.

شهد ملف ترسيم الحدود اللبنانية - السورية خلال الساعات الماضية خرقاً كبيراً بالإعلان من مدينة جدّة عن توقيع اتفاق برعاية ووساطة المملكة العربية السعودية بين وزير الدفاع اللبناني ميشال منسّى ووزير الدفاع السوري مُرهف أبو قصرة، جرى فيه التأكيد على «الأهمية الإستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية ومتخصصة بينهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليات التنسيق بين الجانبين للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية على أن يُعقد اجتماع متابعة في المملكة العربية السعودية خلال الفترة المقبلة».

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

مصادر مطلعة رأت أن دخول المملكة العربية السعودية على خط الوساطة بين البلدين «يجعل أي اتفاق أو تفاهم أمكن التوصل إليه ملزِماً للطرفين ويعطيه بُعداً أكثر جدية». وما تجدر الإشارة إليه هنا أن الجيش اللبناني ينشر 4 أفواج على طول الحدود اللبنانية - السورية بعدد عناصر يبلغ نحو 4838 عنصراً، يتوزّعون على 108 مراكز من بينها 38 برج مراقبة مجهزين بكاميرات وأجهزة استشعار ليلية، كما كان قد أعلن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. إلا أن هذا الواقع لم يحُل دون مواجهات عنيفة شهدتها هذه الحدود بدأت بين العشائر، وانضم إليها «حزب الله» قبل أن تتحوّل بين الجيش اللبناني وقوات الأمن السورية؛ ما أدى إلى مقتل 7 أشخاص في لبنان و3 من الجانب السوري.

التطورات الميدانية

المناطق الحدودية – في شمال شرقي لبنان بالذات - كانت قد شهدت، بعد سقوط النظام السابق في دمشق، اشتباكات متفرقة بين مهرّبين من الطرفين. وأطلقت قوات الأمن السورية خلال شهر فبراير (شباط) الماضي حملة أمنية في محافظة حمص التي تحدّ شمال لبنان وشماله الشرقي؛ بهدف إغلاق الطرق المستخدمة في تهريب الأسلحة والبضائع. وتتهم هذه القوات «حزب الله» بأنه ينشط في رعاية عصابات التهريب عبر الحدود، وأن المواجهات المسلحة التي خاضتها على الحدود الشرقية للبنان شارك فيها عناصر الحزب بشكل مباشر. غير أن قيادة «حزب الله» نفت أي علاقة له بالموضوع.

وفي منتصف الشهر الحالي، بعد مواجهات دامية بين الطرفين على أثر اتهام سوريا عناصر «حزب الله» بدخول أراضيها وخطف وقتل ثلاثة من أفراد الجيش السوري، دخل الجيش اللبناني على الخط بإيعاز من رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون الذي أعطى توجيهاته بالردّ على مصادر النيران والانتشار في بلدة حوش السيد علي التي شهدت أعنف المواجهات. ومن ثم، أوكل الرئيس عون وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي التواصل مع السلطات السورية لحل الأزمة، قبل أن يتسلّم وزير الدفاع منّسى الملف.

الترسيم أولاًفي أي حال، يرى كثيرون أن حل الأزمة الحدودية بين البلدين تبدأ بترسيم الحدود. وحقاً، هذا ما نصّ عليه قرار مجلس الأمن الدولي في عام 2006، وحمل الرقم 1680، ولحظ إلى جانب الترسيم إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين، كما أكد على وجوب نزع سلاح الميليشيات. غير أن سوريا رفضت، يومذاك، القرار، واعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية، بينما رحّب به عدد من الدول الغربية بجانب الحكومة اللبنانية.

قوات في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان (آ ب)
قوات في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان (آ ب)

العميد المتقاعد خليل الحلو، الباحث اللبناني في الشؤون السياسية والاستراتيجية، يرى أن «مسألة ترسيم الحدود مع سوريا ليست مسألة طوبوغرافية حصراً، إنما لها بُعد اجتماعي باعتبار أن لدى كثيرين من اللبنانيين أملاكاً في الجهة السورية من الحدود، ما يتطلب نقاشات ومفاوضات طويلة». ويلفت الحلو في لقاء مع «الشرق الأوسط» إلى أن «القضية لا تُحل على مستوى وزيري الدفاع أو الجيشين اللبناني والسوري، بل تحتاج إلى مؤتمر قمة بين رئيسي جمهورية البلدين يضم وزراء متخصصين، وهي ورشة إذا ما انطلقت قد تستمر لسنوات».

وفق الحلو، فإن «تطبيق القرار الدولي 1680 مرتبط بشكل أساسي بقدرة الجيش اللبناني على الانتشار لضبط الحدود. وراهناً لديه 4 أفواج حدود برّية وعشرات أبراج المراقبة، كما يمتلك سلاح جو. وبالتالي، إذا ما كُلّف فعلياً ضبط الحدود عبر قرار سياسي واضح، لا بالكلام وحده، فهو قادر على ذلك، من دون تناسي أدوار الأجهزة الأمنية الأخرى في هذا المجال».

للعلم، تربط لبنان وسوريا 6 معابر نظامية، هي:

- معبر المصنع الذي يربط بين بيروت ودمشق من جهة البقاع الشرقي

- معبر جوسية الواقع بين بلدة القاع اللبنانية ومدينة القصير السورية

- معبر مطربا شرقي مدينة الهرمل اللبنانية

- معبر الدبوسية بشمال لبنان

- معبر تلكلخ غربي محافظة حمص، مقابل منطقة وادي خالد في عكار

- ومعبر العريضة قرب الشاطئ الذي يؤدي من شمال لبنان إلى مدينة طرطوس السورية.

أما المعابر غير الشرعية فتعدُ بالمئات.

الرؤية السورية

في هذه الأثناء، ترى جهات رسمية لبنانية، فضَّلت إغفال ذكر هويتها، أن السلطة الجديدة في سوريا «لا تبدو متحمسة أو مستعجلة» لبت الملفات العالقة مع لبنان، سواء الملف الحدودي أو ملف اللاجئين أو سواها من الملفات؛ نظراً لأن أولوياتها لا تزال محصورة بضبط الوضع في الداخل السوري، ومعالجة مئات الملفات لتسهيل أمور الناس داخل البلاد. وتشير مصادر في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى وجود علامات استفهام حول قدرة السلطات الجديدة هناك من الإمساك بكامل الأراضي السورية وضمناً الحدود.

في المقابل، توضح السياسية والباحثة السورية - الأميركية الدكتورة مرح البقاعي لـ«الشرق الأوسط» أن «الدولة الجديدة في سوريا لا تزال في مرحلة التأسيس؛ إذ لم يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر». ومن ثم تتطرق إلى «الكثير من القضايا والمشكلات العالقة في الداخل السوري، خصوصاً بعد سقوط نظام استبدّ بالحكم لمدة خمسين سنة ونصف السنة. لذلك؛ حتى الآن، لم يكتمل المشهد الداخلي السوري بصورته الرسمية والإجرائية».

وترى البقاعي أن «الاشتباكات عبر الحدود هي في منطقة لطالما كانت غير مستقرة لعقود. ثم أنها كانت تحت سيطرة النظام السابق في سوريا، شهدت تفاعلات معقدة، إذ كانت بعض العشائر المحلية على وفاق مع النظام الذي رحل، كما كان لها علاقات مع (حزب الله) في لبنان. هذه العشائر كانت تعمل على طرفي الحدود، وتعتمد بشكل أساسي على التهريب مصدراً للموارد».

وبحسب البقاعي، «تكمن المشكلة الأساسية في هذه المنطقة الحدودية - وتحديداً في المنطقة الشرقية - في غياب الأمن والسيطرة الفعلية، حيث تنتشر عصابات التهريب التي اعتاشت لعقود على هذه الأنشطة في ظل غياب أي تنمية حقيقية. ومع الواقع الجديد في البلدين، أتت الاشتباكات نتيجةً مباشرة لمحاولة الأطراف الجديدة فرض سيطرتها».

أما عن رؤيتها للحل، فتقول الباحثة السورية - الأميركية إنه «من الضروري البدء بوقف عمليات التهريب، لكن الحل الجذري يتطلب العودة إلى مسألة ترسيم الحدود بين البلدين. وهذا أمر معقّد وسيأخذ وقتاً؛ إذ إنه مرتبط بالوضع الإقليمي ككل، وليس فقط بالحدود اللبنانية - السورية، بل يشمل أيضاً الحدود اللبنانية مع إسرائيل».

وللعلم، تعدّ مصادر نيابية لبنانية أن وضع الحدود السورية الراهن مرتبطاً إلى حد كبير بوضع الحدود الجنوبية. وتشير لـ«الشرق الأوسط» إلى «وجود قرار أميركي - إسرائيلي حاسم بتضييق الخناق على (حزب الله)، وقطع كل طرق إمداده بكل الوسائل، ومن هنا تُفهم عمليات القصف الإسرائيلي التي نشهدها للحدود الشرقية بين الحين والآخر».

ولادة متعسّرة

في الحقيقة، بعد سقوط النظام في سوريا، كانت هناك خشية لبنانية كبيرة من تفلّت أمني ينسحب على لبنان. وظلّت السلطات في بيروت تراقب من بعيد التطورات إلى أن قرّر رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي زيارة دمشق للقاء الرئيس السوري أحمد الشرع منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، إلا أن اللقاء بقي دون نتائج. وعملية.

أيضاً، عُقد لقاء بين الشرع وعون على هامش القمة العربية في مارس (آذار) الحالي، شدَّدا خلاله على ضرورة ضبط الحدود بين البلدين. لكن المواجهات المسلحة التي تلت اللقاء أكدت أن الملف يتطلب معالجة أعمق وعلى المستويات كافة.

هنا لا تُنكر مرح البقاعي أن «العلاقات السورية - اللبنانية تشهد ولادة متعسّرة، سواءً في سوريا بعد سقوط النظام، أو في لبنان بعد الفراغ الحكومي الطويل. وكلا البلدين في حاجة ماسة إلى التعاون في مختلف المجالات، وأهمها المجال الأمني».

وهي ترى أيضاً أن «ما يمنح الدولة السورية الجديدة شرعية كبيرة، ويجعل المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، يثق بها، هو أن بعض المجموعات التي كانت في السلطة سابقاً والمصنّفة على قوائم الإرهاب لم تعُد جزءاً من المشهد». وتتابع أن «الدول الأوروبية بدأت بالتعامل بشكل إيجابي مع الدولة الوليدة في سوريا. والسبب الرئيس لهذا التغير هو قدرة السلطات الجديدة في سوريا على إنهاء وجود حزب الله والميليشيات الإيرانية في البلاد خلال وقت قياسي... وهذا إنجاز يحسب لها، ليس فقط على المستويين الدولي والإقليمي، بل أيضاً بالنسبة للشعب السوري نفسه. إذ تم تحرير سوريا، وحياتها العامة، ومجتمعها من قبضة النفوذ الإيراني، الذي تسبّب في حالة من الفساد وانعدام الاستقرار لعقود طويلة».