فترة مادورو الثالثة في فنزويلا مهدّدة برياح واشنطن

مع توقّع فترة عصيبة لليسار في أميركا اللاتينية

من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)
من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)
TT
20

فترة مادورو الثالثة في فنزويلا مهدّدة برياح واشنطن

من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)
من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)

الاتهامات التي وجهتها المعارضة للنظام الفنزويلي بتزوير نتائج الانتخابات أكّدها المراقبون الدوليون المستقلون، مثل «مركز جيمي كارتر» الأميركي الذي يتمتع بسمعة حيادية عالية، وكان النظام دعاه لمتابعة العملية الانتخابية ومراقبتها، منوهاً بما له من مصداقية. لكن عندما أعلن المركز المذكور أنه لا يمكن اعتبار الانتخابات ديمقراطية، وأن النتائج الرسمية المعلنة ليست نزيهة، شنّ النظام عليه حملة واتهمه بالكذب، ولم تنفع جميع الاحتجاجات الإقليمية والدولية في منع الاحتفال بتنصيب مادورو التي قاطعتها معظم الدول الديمقراطية.

مضاعفة العقوبات

يذكر أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي قرّرت مضاعفة العقوبات المفروضة على قيادات النظام الفنزويلي الذي بدت عزلته الدولية والإقليمية واضحة في احتفال التنصيب الذي لم يحضره سوى الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل والنيكاراغوي دانيال أورتيغا. وبعد عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ومعه فريق من «صقور» اليمين، يتوقع أن تواجه القوى اليسارية في أميركا اللاتينية فترة عصيبة.

وحقاً، حتى بعض الأنظمة اليسارية أدانت ما وصفته بانتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها النظام في فنزويلا. إذ صرّح الرئيس التشيلي غابريال بوريتش قائلاً: «من موقع اليسار أقول لكم إن حكومة مادورو ديكتاتورية»، وأعقبت تصريحاته مواقف مماثلة صدرت عن مسؤولين في الحكومتين البرازيلية والمكسيكية.

في أي حال، شهدت بداية الولاية الثالثة لمادورو تصعيداً ملحوظاً في «الخطاب الحربي» للنظام، سبقته حملة واسعة من القمع السياسي ومحاصرة الاحتجاجات الشعبية التي كانت تنظمها المعارضة اليمينية، وإطلاق التهديدات ضد قياداتها. وبلغ التوتر منسوباً عالياً عشية التنصيب عندما ألقت الأجهزة الأمنية القبض على زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، قبل إطلاقها سراحها بعد ساعات، في ظروف ما زال الغموض يكتنفها حتى الآن.

كل هذه التطورات حالت دون تنفيذ مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس أورّوتيا - الذي اعتبرته دول عدة فائزاً في الانتخابات وأخرى رئيساً منتخباً - وعده بالرجوع إلى كاراكاس لتسلم مهامه رئيساً جديداً في الموعد المحدد. وكان غونزاليس قد اتهم الرئيس نيكولاس مادورو بتنفيذ «انقلاب»، وأكّد أنه سيعود إلى فنزويلا لمواصلة النضال من أجل عملية انتقال سلمي للسلطة «متى توافرت الضمانات الكافية لأمنه والظروف المناسبة».

إحباط الداخل... ودور الخارج

لكن، بينما تسود أجواء الإحباط بين القواعد الشعبية المعارضة التي اعتادت على مثل هذه الظروف، دعت قيادات معارضة المجتمع الدولي إلى مضاعفة الضغوط على النظام؛ لمنعه من المضي في حملة القمع والاعتقالات، التي أطلقها منذ أسابيع وكبح سلسلة التجاوزات التي تمارسها الأجهزة الأمنية والقضائية.

من جهة ثانية، لم تسلم المعارضة نفسها هذه المرة من انتقادات قواعدها الشعبية التي اتهمتها برفع منسوب التفاؤل بسقوط النظام إلى مستويات غير واقعية، وأيضاً الرهان على تحرك إقليمي ودولي فاعل لم تظهر له أي بوادر. وللعلم، اكتفى البيان المشترك الذي صدر عن وزراء خارجية «مجموعة الدول الصناعية السبع» بالقول: «إن تسلّم نيكولاس مادورو مقاليد السلطة رئيساً لفنزويلا لا شرعية له»، بينما طالب رئيس كولومبيا الأسبق اليميني ألفارو أوريبي بتدخل عسكري دولي «يجتثّ زمرة الطغاة من السلطة ويعيدها إلى أصحابها الشرعيين». لكن هذه المطالبة أدت إلى حملة اعتقالات واسعة في أوساط القيادات المعارضة الفنزويلية بتهمة «التواطؤ مع جهات خارجية لقلب النظام بالقوة»، بينما كانت القوات المسلحة الفنزويلية ترفع حالة التأهب وتقرر إقفال الحدود مع كولومبيا المجاورة.

في سياق متصل، على صعيد ضيق حكومات يسارية في القارة من الوضع في فنزويلا، أعلن الرئيس الكولومبي غوستافو بترو أن الحكومة الفنزويلية تُمعن في تجاوزاتها وقمعها ضد رموز المعارضة السياسية، لكنه دافع عن امتناعه عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع كاراكاس، قائلاً: «الإبقاء على علاقاتنا الدبلوماسية مع فنزويلا لا يعني الاعتراف بشرعية الانتخابات، التي لم تكن حرّة منذ بداياتها عندما قرّر النظام حرمان زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو من الترشح».

الحكومة البرازيلية التي يقودها لويس إيناسيو لولا - وهي النظام اليساري الوازن حالياً في أميركا اللاتينية - قرّرت بدورها ألا تعترف برئاسة مادورو، لكنها رفضت أيضاً الاعتراف برئاسة مرشح المعارضة. ومن ثم، دعت القوى السياسية الفنزويلية إلى استئناف الحوار لتسوية الخلافات، معربة عن استعدادها - إلى جانب فرنسا - لتسهيل هذا الحوار تمهيداً لمصالحة نهائية. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد بحث مع نظيره البرازيلي لولا في مكالمة هاتفية طويلة الوضع في فنزويلا، واتفقا على مضاعفة جهود الوساطة لتيسير عودة الاتصالات بين مادورو والمعارضة من أجل العودة إلى الديمقراطية وتحقيق الاستقرار، وطالبا النظام بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين.

تصعيد واشنطن

في موازاة ذلك، قبل تولي ترمب، أعلنت الإدارة الأميركية السابقة بعد ساعات من تنصيب مادورو، رفعها مكافأة المساعدة على اعتقال كل من الرئيس الفنزويلي ووزير الداخلية ديوسادو كابيو إلى 25 مليون دولار، كما رفعت أيضاً قيمة المكافأة للقبض على وزير الدفاع فلاديمير بادرينو إلى 15 مليون دولار.

ويذكر أن وزير الخارجية الأميركي (السابق) أنطوني بلينكن قال إن تنصيب مادورو رئيساً «ليس شرعياً»، وطالب بتنصيب مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس وإطلاق عملية انتقال سلمية وديمقراطية للسلطة. كذلك، فرضت الحكومة الكندية عقوبات على 14 من كبار موظفي الحكومة الفنزويلية بسبب «مشاركتهم او دعمهم انتهاكات لحقوق الإنسان».

«عُزلتا» مادورو تعزّزان مكانة صعب

الأوساط الدبلوماسية المراقبة من كثب الوضع الداخلي الفنزويلي ترى أن العزلة الإقليمية والدولية المتزايدة التي يتعرّض لها النظام، توازيها عزلة أكبر على الصعيد الداخلي يعاني منها مادورو الذي لم يعد يثق سوى بحفنة ضئيلة من الأوفياء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. وتعتقد هذه الأوساط أن النظام لن يسقط إلا من الداخل، بفعل التصدّع الذي يتنامى بين قياداته وشخصياته البارزة التي تسعى للحصول على ضمانات بعد انهياره.

من الأوفياء الذين يتمتعون بثقة مادورو التامة، المدّعي العام طارق صعب، الذي قرر الرئيس أخيراً تكليفه ترؤس عملية الإصلاح الدستوري الذي كان أعلن عنه قبل الانتخابات الرئاسية ويريد الآن تسريع وتيرته من غير أن يكشف عن تفاصيل مضمونه أو أهدافه. ووفق كلام مادورو: «طلبت إلى طارق وليام صعب تولي رئاسة اللجنة الوطنية للإصلاح الدستوري استناداً إلى خبرته القانونية الطويلة، ودفاعه عن حقوق الإنسان، وبصفته أصغر أعضاء اللجنة الرئاسية التي شكَّلها القائد هوغو تشافيز لوضع الدستور عام 1998. وهو مؤهل أخلاقياً ومهنياً لأداء هذه المهمة على أكمل وجه».

روبيو مع دونالد ترمب (أ ف ب)
روبيو مع دونالد ترمب (أ ف ب)

التعليق الأول الذي صدر عن المعارضة على هذه الخطوة كان القول إن طارق صعب هو المسؤول عن آلاف الاعتقالات السياسية، وعن «فبركة» عشرات ملفات الاتهام ضد الزعماء المناهضين للنظام. وبحسب زعيمة المعارضة ماريا ماتشادو «دخل مادورو مرحلة الهروب إلى الأمام، وأصبح التغيير حتمياً... وهو آتٍ عاجلاً أو آجلاً».

ختاماً، يذكر أن الزعيم السابق هوغو تشافيز كان قد لجأ في عام 2007 إلى تعديل الدستور لاحتواء الاحتجاجات الطلابية التي اشتعلت في معظم أنحاء فنزويلا، لكنه خسر رهان الاستفتاء الذي كان أولى الهزائم التي مُني بها، حين كان يحاول إرساء نظام شعبي لا يضع حداً لعدد الولايات الرئاسية.


مقالات ذات صلة

هل يكون انحدار «تسلا» مدفوعاً بانحيازات إيلون ماسك السياسية؟

خاص الرئيس دونالد ترمب يستمع إلى إيلون ماسك وهو يتحدث في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض (أ.ب)

هل يكون انحدار «تسلا» مدفوعاً بانحيازات إيلون ماسك السياسية؟

كان لتحالف إيلون ماسك مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وانغماسه عميقاً في السياسات الداخلية والخارجية، نتائج قد تكون مقلقة اقتصادياً بالنسبة للشركة ولماسك.

إيلي يوسف (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث بينما يستمع لاعب الغولف تايغر وودز خلال حفل استقبال بمناسبة شهر تاريخ السود في الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض... الخميس 20 فبراير 2025 في واشنطن (أ.ب)

ترمب يثير فكرة الترشح لولاية ثالثة «غير دستورية» مجدداً... وأنصاره: نعم لأربع سنوات أخرى

قالت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أثار، الخميس، مجددا فكرة ترشحه لولاية ثالثة، وذلك على الرغم من أنها فكرة تتعارض مع الدستور

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد صور افتراضية للعملات المشفرة في هذا الرسم التوضيحي (رويترز)

صناعة العملات المشفرة تسعى لفرض نفوذها في واشنطن

منذ تولي ترمب منصبه حقّقت صناعة العملات المشفرة بعض المكاسب المبكرة؛ مثل إلغاء هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية قاعدة محاسبية مثيرة للجدل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب على باب الطائرة الرئاسية «غير فورس ون» (أ.ب) play-circle

مؤلف كتاب «الانتقام»: تهديد إيران باغتيال ترمب كان أكثر خطورة مما كشف عنه

ذكر موقع «أكسيوس» الأميركي أن تهديد إيران باغتيال دونالد ترمب خلال حملته الانتخابية في عام 2024 كان أكثر خطورة بكثير مما نشر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ دونالد ترمب رئيس الولايات المتحدة يوقع أمراً تنفيذياً (أ.ب)

معارضة تعاني الإرهاق والخيبة في مواجهة ترمب

منذ انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني)، خصوصاً منذ تنصيبه الاثنين، يكافح معارضوه لإسماع صوتهم في خضم خيبة أمل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

تفاعلات إقليمية متشابكة تهدّد نفوذ إثيوبيا في «القرن الأفريقي»

إثيوبيا وإريتريا على شفير مواجهة (رويترز)
إثيوبيا وإريتريا على شفير مواجهة (رويترز)
TT
20

تفاعلات إقليمية متشابكة تهدّد نفوذ إثيوبيا في «القرن الأفريقي»

إثيوبيا وإريتريا على شفير مواجهة (رويترز)
إثيوبيا وإريتريا على شفير مواجهة (رويترز)

تعود الأزمة الأخيرة في منطقة القرن الأفريقي إلى اتهامات إثيوبية لإريتريا بالوقوف وراء تجدد الخلافات في إقليم التيغراي، من بينها اتهامات ساقها الرئيس الإثيوبي السابق مولاتو تيشومي الشهر الماضي، لإريتريا ورئيسها أسياس أفورقي بالعمل على إعادة إشعال الصراع في منطقة شمال إثيوبيا، وإفشال «اتفاقية بريتوريا».

على الأثر، ردت إريتريا عبر وزير الإعلام يماني غبريمسقل، الذي اتهم الرئيس الإثيوبي السابق بـ«إطلاق إنذار كاذب بهدف لإخفاء وتبرير أجندة الحرب». وأضاف أن لا مصلحة لبلاده في «العبث بشؤون إثيوبيا الداخلية»، مشدداً على أن «أسمرا تعتبر اتفاقية بريتوريا مسألة حصرية للحكومة الإثيوبية». ثم اتهم أديس أبابا بأنها «منبع المشاكل التي تعصف بالمنطقة مثل أزمة مذكرة التفاهم مع إقليم أرض الصومال ومشكلة إقليم الأمهرة». وأردف غبريمسقل أن «هذا تكتيك من إثيوبيا لجعل إريتريا كبش فداء لصراعها الداخلي».

علاقات مضطربة

يُذكر أن البلدين الجارين كانا قد وقّعا عام 2018، اتفاق سلام أنهى حالة الجمود في العلاقات دامت 20 سنة. ثم تراجعت العلاقات، إثر توقيع الحكومة الإثيوبية «اتفاقية بريتوريا» للسلام في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، مع جبهة تحرير التيغراي، وهو ما اعتبرته إريتريا انتقاصاً لدورها، رغم دعمها العسكري لإثيوبيا في حربها ضد قوات التيغراي. ومع أن أديس أبابا لم تعلن رسمياً معاداة أسمرة، فإن التوتر الحدودي القائم قد يُنذر بعودة الحرب بين الطرفين مجدداً، وفق المحلل السياسي الإثيوبي أنور إبراهيم.

إبراهيم قال لـ«الشرق الأوسط» إن «التغيرات متسارعة، والتقلبات والتحالفات تبدأ وتنتهي سريعاً، في ضوء انقسام المكونات المسلحة في الإقليم الإثيوبي». وأضاف أن إثيوبيا تواجه تحديات أمنية غير مسبوقة، ما بين «صراعات مسلحة داخلية، في أكبر 3 أقاليم (التيغراي والأمهرة والأورومو)، إلى جانب حدود مشتعلة بسبب الخلاف مع إريتريا، والتطورات الأمنية في السودان وجنوب السودان والصومال».

وجهة نظر إريترية

بحسب الفريق تسادكان غبرتنسائي، نائب حاكم إقليم التيغراي، فإن «الأوضاع الميدانية تزداد تعقيداً مع تراجع الخيارات الدبلوماسية»، محذّراً من امتداد الصراع إلى دول أخرى في المنطقة مثل السودان. أما عبد المنعم أبو إدريس، الكاتب الصحافي المتخصص في شؤون القرن الأفريقي، فيرى في حوار مع «الشرق الأوسط» أن المواجهة المسلحة بين إثيوبيا وإريتريا، بوجود الحشد العسكري للطرفين، قد تقترب من إقليم العفر الإثيوبي (شمال شرقي إثيوبيا)، وأن التحركات الإثيوبية الإقليمية «تأتي سعياً للوصول إلى البحر الأحمر، عبر أي دولة إقليمية».

غبرتنسائي يعتقد أن الانقسامات الداخلية داخل إقليم التيغراي قد تعقّد المشهد السياسي، «فبعض قيادات جبهة تحرير التيغراي تسعى للتحالف مع أفورقي لحماية مصالحها، رغم إدراكها للمخاطر التي قد تترتب على ذلك». ولذا حذّر غبرتنسائي من أن أي صراع جديد بين إثيوبيا وإريتريا قد يؤدي إلى «تغييرات جغرافية وسياسية كبرى في القرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر»، خاصة وسط تركيز المجتمع الدولي على أزمات أخرى مثل حرب أوكرانيا واضطرابات الشرق الأوسط. ودعا إلى تدخل عاجل من المجتمع الدولي والحكومة الإثيوبية لمنع اندلاع الحرب، معتبرًا أن التنفيذ الكامل لاتفاقية بريتوريا يظل الخيار الأفضل.

أسياس أفورقي (أ.ف.ب)
أسياس أفورقي (أ.ف.ب)

أزمة الميناء البحري

للعلم، تتقاسم إثيوبيا حدوداً مع ست دول هي: إريتريا من الشمال، وجيبوتي والصومال من الشرق، والسودان وجنوب السودان وكينيا من الغرب والجنوب الغربي.، لكنها لا تمتلك منفذاً بحرياً يعزّز دورها الإقليمي في معادلة منطقة «القرن الأفريقي» الاستراتيجية.

وعليه، قد يصعب على أديس أبابا أن تحمي نفوذها في المنطقة من دون «منفذ بحري» خاص بها. وهي في سبيل ذلك تسعى لإيجاد صيغة مع جيرانها من جهة الشرق تؤمّن وصولها إلى ساحل البحر الأحمر، كان من بينها إبرام اتفاق مع إقليم «أرض الصومال» الانفصالي، العام الماضي، يقضي بحصول إثيوبيا على ميناء بحري هو ميناء بربرة. بيد أن هذا المسعى جوبه برفض صومالي وعربي كاد أن يصل إلى صدام بين إثيوبيا والصومال، احتوته أخيراً وساطة تركية.

من جانب آخر، الوساطة التركية، التي أدّت لتحوّل إيجابي في علاقات أديس أبابا ومقديشو، يراها مراقبون «تحركاً تكتيكياً» إثيوبياً، خشية مزيد من التصعيد.

وحقاً، تدهورت العلاقات بين إثيوبيا والصومال منذ توقيع إثيوبيا يوم 1 يناير (كانون الثاني) 2024، اتفاقية مع إقليم «أرض الصومال»، تسمح لها باستخدام ميناء بربرة على ساحل البحر الأحمر، لأغراض تجارية وعسكرية لمدة 50 سنة، مقابل الاعتراف باستقلال الإقليم، ما دفع الحكومة الصومالية لطرد السفير الإثيوبي في أبريل (نيسان) من العام الماضي.

وأمام الرفض الصومالي والعربي، للاتفاق، وحشد مقديشو لدعم دولي وإقليمي لموقفها وتعزيز تعاونها العسكري مع حلفاء إقليميين مثل مصر، استطاعت تركيا أن تحقق اختراقاً للأزمة، عبر جولات من الوساطة بين الصومال وإثيوبيا، انتهت بصدور «إعلان أنقرة»، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وهو يقضي بإجراء مباحثات انطلقت في فبراير (شباط) الماضي سعياً إلى اتفاق نهائي بشأن أزمة الميناء البحري في غضون 4 أشهر.

مسار التهدئة في أزمة «الميناء الصومالي»، واكبه تحسن في العلاقات الإثيوبية - الصومالية، بعد تبادل الزيارات الدبلوماسية بين قيادتي البلدين؛ إذ زار رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، مقديشو في نهاية فبراير الماضي، بعد زيارة الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، أديس أبابا في يناير الماضي. وقالت حكومتا البلدين في بيان مشترك إن زيارة آبي أحمد «تأتي في إطار الجهود المتواصلة لتطبيع العلاقات الثنائية».

آبي أحمد (رويترز)
آبي أحمد (رويترز)

وفي خطوة تعكس مزيداً من التقارب الإثيوبي - الصومالي، استعانت مقديشو بأديس أبابا، لشن غارات جوية على مواقع «حركة «الشباب» الإرهابية، وفق وزير الدفاع الصومالي، عبد القادر محمد نور، بعد رفض الصومال مشاركة قوات إثيوبية في البعثة الجديدة للاتحاد الأفريقي لحفظ السلام، التي بدأت مهمتها مطلع العام الحالي.

ووفق أنور إبراهيم، سماح مقديشو بمشاركة إثيوبيا في مواجهة «حركة الشباب»، بقوات خارج بعثة الاتحاد الأفريقي، يعني أن «أديس أبابا ليست غائبة عن قضايا منطقة القرن الأفريقي». وتابع المحلل الإثيوبي أن «إثيوبيا تسعى لاستعادة تأثيرها في ملفات المنطقة، ومن بينها دعم الصومال في مواجهة الإرهاب».

أما حسن شيخ علي، أستاذ العلاقات الدولية في المعهد العالي للدراسات الأمنية بالصومال، فيقول إنه حتى إذا كان الحراك الدبلوماسي الإثيوبي - الصومالي، جاء مدفوعاً بدعم تركي، «فهذا لا ينفي الحذر واستمرار الهواجس داخل الصومال وبخاصة من المساس بسيادته».

ويتابع شيخ علي لـ«الشرق الأوسط» أن «المخاوف الصومالية ما زالت حاضرة بالداخل، لا سيما أن أديس أبابا لم تعلن صراحة التراجع عن اتفاق الميناء البحري، مع إقليم (أرض الصومال)». ويوضح أن المساعي الإثيوبية «لا تعني حسن الجوار بل هي تحركات تكتيكية مرتبطة بالتطورات الإقليمية والصراعات المسلحة داخل إثيوبيا»، ويضيف أن «إعلان أنقرة نص ضمنياً على حماية السيادة الصومالية دون رفض رغبة إثيوبيا في الحصول على منفذ بحري لها».

احتفال شعبي بتقدم مقاتلي التيغراي إلى مدينة ميكيلي (أ.ف.ب)
احتفال شعبي بتقدم مقاتلي التيغراي إلى مدينة ميكيلي (أ.ف.ب)

من جهة ثانية، لم يطوِ الصومال بعد أزمة «الميناء البحري» مع إثيوبيا، إذ قال وزير الدولة الصومالي للشؤون الخارجية، علي محمد عمر، أخيراً إن «بلاده تدرس منح إثيوبيا حق الوصول إلى ميناء على المحيط الهندي بدلاً من البحر الأحمر»، لكن أديس أبابا لم تعلق على المقترح.

رفض مصري

في أي حال، تواجَه المحاولات المتكررة من إثيوبيا للحصول على منفذ بحري، برفض مصري لأي وجود لدولة غير مشاطئة على البحر الأحمر. وكرّرت القاهرة التشديد على موقفها أكثر من مرة، خصوصاً بعد «اتفاق أنقرة»، بين أديس أبابا ومقديشو، كان أحدثها، تأكيدات وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، أثناء زيارته لإريتريا، مطلع مارس (آذار) الحالي، «رفض مشاركة أي دولة غير مشاطئة على البحر الأحمر في أمن وحوكمة البحر الأحمر»، إلى جانب التأكيد على «دعم الصومال في مكافحة الإرهاب وبسط سيادته على كامل أراضيه».

غير أن حسن شيخ علي يعتقد أن «أديس أبابا ستواجه صعوبات في الوصول لمرادها، في ضوء حشد القاهرة، لموقفها إقليمياً، لا سيما من خلال آلية التعاون الثلاثي مع إريتريا والصومال»، وهي آلية عُقدت القمة الأولى لها في أسمرة، شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فيما استضافت مصر الاجتماع الوزاري الأول لها، شهر يناير الماضي، وأكد «دورية الانعقاد، لتعزيز الأمن في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، والحفاظ على وحدة وسيادة دول المنطقة».

صناعة المُسيّرات

وبموازاة التطورات الداخلية والإقليمية، قدّمت الحكومة الإثيوبية رسالة «ردع»، بإعلانها بدء إنتاج «المركبات الجوية من دون طيار للاستخدام المدني والعسكري (المُسيّرات)»، وقال رئيس الوزراء الإثيوبي، على هامش افتتاح شركة «سكاي وين» للصناعات الجوية، الأسبوع الماضي، إن «الهدف من تطوير هذه القدرات مع تطورات صناعة هندسة الذخيرة ليس لتأجيج الصراع، بل منعه من خلال الردع». وتفرض النزاعات المسلحة الداخلية، والتوترات الأمنية، في الشريط الحدودي لإثيوبيا، تطوير التسليح لدعم قدراتها العسكرية، وفق أنور إبراهيم، لكنه يرى أن «خطوة صناعة المُسيّرات، تتنافى مع الواقع الاقتصادي الصعب، الذي يفرض على الحكومة حلولاً عاجلة». وحسب تقارير، استخدمت الحكومة الإثيوبية الطائرات المسيّرة التي حصلت عليها من الصين وتركيا وإيران، في مواجهاتها ضد متمردي جبهة التيغراي عام 2021.

«سد النهضة»

في الواقع تمتد التفاعلات الإثيوبية، إلى دول الجوار غير المباشر، مثل مصر، مع استمرار الخلاف بشأن «سد النهضة»، الذي تشيده أديس أبابا على نهر النيل منذ 2011. وسعت الحكومة الإثيوبية لحشد دعم دبلوماسي لموقفها بترتيب زيارات لوزارات المياه بدول حوض النيل، ضمن برنامج احتفالية «يوم النيل»، التي استضافتها العاصمة الإثيوبية في 22 فبراير الماضي، رغم الاعتراض المصري. واعتبر وزير الري المصري، هاني سويلم، إدراج زيارة لموقع السد الإثيوبي، ضمن برنامج الاحتفالية، «يقحم دول حوض النيل في النزاع القائم». محاولات إثيوبيا الحصول على منفذ بحري تواجه رفضاً مصرياً لأي وجود لدولة غير مشاطئة على البحر الأحمر