النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

بعد قيادة كيكل «حزب الحرية» إلى الصدارة في الانتخابات العامة

هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
TT

النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)

انضمت النمسا إلى قافلة دول أوروبية سبقتها بالتصويت لحزب يميني متطرف حقق فوزاً معنوياً مهماً في الانتخابات العامة. إذ تصدّر نتائج الانتخابات بنهاية سبتمبر (أيلول) المنصرم حزب الحرية، الذي أسّسه في منتصف الخمسينات ضابط سابق في قوات الأمن الخاصة النازية (إس إس)، وغدت هذه المرة الأولى التي يتبوأ فيها حزب يميني متطرف واجهة المشهد الانتخابي في النمسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. من جهة ثانية، مع أنه سبق لحزب الحرية هذا أن تمثّل في حكومات سابقة كشريك في الائتلاف الحاكم، فإنه لم يرأس أياً من تلك الحكومات، وقد يتكرر هذا «السيناريو» اليوم مجدّداً رغم فوزه بالانتخابات. إذ ربما يبقى خارج السلطة كلياً بعد رفض كل الأحزاب الأخرى التحالف معه، خصوصاً بوجود زعيمه هيربرت كيكل. وفي المقابل، يرفض الحزب المتطرف دخول أي حكومة ائتلافية لا يرأسها كيكل شخصياً. وهكذا، زجّت هذه النتائج غير المسبوقة النمسا في حالة غموض، بعد تردّد الرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلن في تكليف زعيم الحزب الفائز بتشكيل الحكومة، كما جرت العادة. فإثر مشاورات أجراها فان دير بيلن مع الأحزاب الرئيسية، دعا الرئيس قادة هذه الأحزاب إلى التشاور في ما بينها حول الائتلافات المحتملة، قبل تقرير مَن سيُكلف تشكيل الحكومة. ولكن في مطلق الأحوال، حتى في حال اتفاق الأحزاب على إبقاء حزب الحرية خارج السلطة، فإن فوزه الانتخابي يؤشر - وفق وصف استخدمه زعيم الحزب - إلى «عهد جديد، ليس في النمسا فقط، بل في كل أوروبا».

خلال 5 سنوات فقط، نجح حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف في رفع شعبيته بشكل كبير، رابحاً 13 نقطة مئوية مقارنة بالانتخابات العامة عام 2019، حين حصل على 16 فى المائة فقط من الأصوات. إذ رفع الحزب نسبة تأييده هذه المرة إلى ما يقارب 29 فى المائة.

المهرجان الانتخابي الختامي لحزب الحرية في العاصمة النمساوية فيينا (رويترز)

كثيرون يعيدون سبب «نهوض» حزب الحرية بعد سلسلة فضائح أحاطت به في السنوات الماضية إلى زعيمه الحالي هيربرت كيكل. ذلك أنه بعد سنوات على ما عُرف بـ«فضيحة إيبيزا» التي أخرجت الحزب من الحكومة عام 2019، وتسبّبت بالدعوة لانتخابات مبكّرة، بدأ كيكل مسيرته بعيداً عن الفضائح، ونجح باستعادة شعبية الحزب والبناء عليها لتحقيق ما هو أكثر.

تداعيات «فضيحة إيبيزا»

الفضيحة، آنذاك، تورط فيها زعيم الحزب السابق هاينز- كريستيان شتراخه، الذي كان نائب المستشار، ومعه نائبه في الحزب يوهان غونيدوس. إذ ظهر الرجلان يومها في شريط فيديو مسرّب يعود إلى عام 2017، وهما يجلسان في شقة بجزيرة إيبيزا الإسبانية مع سيدة روسية، قالت إنها أليونا ماكاروفا حفيدة رجل أعمال روسي ثري ومؤثر. وادّعي في حينه أن الرجلين كانا يناقشان مع ماكاروفا كيف يمكن للحزب مساعدة جدّها على الحصول على عقود مع الحكومة النمساوية مقابل مساعدتهما بتغطية إعلامية إيجابية. وحقاً، كشف ذلك الشريط عن حجم الفساد داخل الحزب وسوء استخدامه دوره في الحكومة لبيع عقود حكومية مقابل خدمات خاصة.

الرئيس النمساوي فون دير بيلن (رويترز)

كيكل، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الداخلية، ظل بعيداً عن الفضيحة. ومن ثم، نجح خلال السنوات التالية بالارتقاء داخل الحزب المتطرف مستفيداً من عدة عوامل ساعدت على بناء شعبيته وانتخابه زعيماً لحزبه مطلع عام 2021. من هذه العوامل أنه إبان جائحة «كوفيد 19»، صار كيكل أحد أعلى الأصوات انتقاداً لإجراءات تقييد التجمعات التي اتخذتها الحكومة. وكان هذا السبب الأول في بدء بناء شعبيته، وأضاف إليه لاحقاً موقفه العدائي المتشدّد من المهاجرين واللاجئين، وانتقاده سياسة الحكومة المؤيدة للحرب في أوكرانيا، واتهامه إياها بالتسبب في التضخّم.

كيكل ... «تلميذ» يورغ هايدر

في الواقع، يُعد كيكل من أكثر زعماء حزب الحرية تطرفاً. وهو يعدّ يورغ هايدر، الزعيم الأسبق للحزب الذي قتل بحادث سير عام 2008، مثاله الأعلى. ويذكر أن هايدر كان شخصية مثيرة للجدل وتسبّب بانقسامات كبيرة داخل حزبه بسبب آرائه وتصريحاته اليمينية المتطرفة. ثم إن والدَي هايدر كانا عضوين فاعلين في الحزب النازي، وهو نفسه دافع مراراً عن تاريخ النمسا النازي وتاريخ عائلته.

أما عن كيكل، فكان لفترة كاتباً لخطابات هايدر وكان مسؤولاً عن عدد من التصريحات المثيرة للجدل التي خرجت عن الزعيم الأسبق الراحل. وأيضاً كان كيكل صاحب شعار حملة الحزب عام 2010، الذي أثار كثيراً من الجدل والانتقادات، وهو «دم فيينا - كثرة الأغراب ليست جيدة لأحد». وهو أيضاً كان مَن كتب في أحد خطابات هايدر منتقداً رئيس الجالية اليهودية في فيينا، آرييل موزكانت، قائلاً: «كيف يمكن لأحد اسمه آرييل أن تكون يداه ملطختين بالقذارة لهذه الدرجة؟»... ولعب كيكل في هذا التصريح على الصور النمطية العنصرية عن اليهود بأنهم قذرون.

واحتفظ كيكل بآرائه المناهضة للمهاجرين في النمسا والرافضة للتنوع عندما أصبح وزيراً للداخلية عام 2017. وخلال فترة توليه الوزارة، تسبّبت تصريحاته غير مرة بجدل واسع، واتهم بأنه يستخدم مقارنات وتعابير نازية. ومن جهة ثانية، أدت سياسته إزاء اللاجئين وإشارته مراراً إلى خطوات تعارض القوانين الأوروبية حول حقوق الإنسان في التعامل مع اللاجئين، إلى توتير علاقته مع الرئيس النمساوي (آنذاك)، الذي كان فان دير بيلن نفسه، والذي لم يتردّد يومذاك بانتقاد كيكل وتحذيره من تخطي القوانين الأوروبية. وهو ما قد يفسّر اليوم تلكؤ الرئيس في تكليفه تشكيل الحكومة بشكل تلقائي كالعادة، بعد إحراز حزب ما المرتبة الأولى في الانتخابات.

جدير بالذكر أن كيكل مع حركة «أيدانتيتارين»، أو حركة «الهوياتية»، وهي حركة قومية متطرفة ترتكز على «عرقية» الشعوب الأوروبية في مواجهة التنوّع الثقافي والهجرة والإسلام. وكان زعيم الحركة في النمسا، مارتن سيلنر، قد شارك في اجتماع سرّي عقد في ألمانيا نهاية العام الماضي، حضره أعضاء من حزب «البديل لألمانيا» الألماني اليميني المتطرف. وطرح سيلنر، حقاً، خلال ذلك الاجتماع خطة لترحيل ملايين المهاجرين واللاجئين من ألمانيا بمن فيهم من يحملون جوازات ألمانية. ولقد فجّر ذلك الاجتماع سخطاً شديداً واستنهض أصداء اجتماع النازيين قبل محرقة «الهولوكست» الذي ناقش «الحل النهائي» الذي كان تمهيداً لتلك المحرقة.

تبنّي أفكار «أيدانتيتارين»... وتأييد موسكو

في العام الماضي، قال كيكل إنه لا يرى مبرّراً لحظر حركة «أيدانتيتارين»، بل بالعكس، روّج لدعم حزب الحرية تلك الحركة، عبر موافقة الحزب على «المشروع السياسي» الذي تقترحه. ثم إنه لا كيكل ولا حزبه يخفيان مثل هذه الأفكار. إذ يشير الموقع الانتخابي لحزب الحرية إلى أن زعيمه يؤيد «إعادة الأجانب غير المدعوين»، وأنه يريد أن يجعل النمسا «ليس دولة غير إنسانية ... بل غير مريحة» للأجانب وطالبي اللجوء، وأنه يريد أن تكون «النمسا محصنة».

وبالفعل، ساعدت هذا المواقف المتطرّفة على بناء رصيد كيكل مع الناخبين النمساويين المتشكّكين من اللاجئين والمهاجرين. وأكثر من هذا، أسهمت آراء كيكل حول روسيا بزيادة شعبية حزبه بشكل كبير. فحزب الحرية معروف أصلاً بقربه من الحكم الروسي، لكن انتقادات زعيمه لدعم الحكومة النمساوية الحرب الأوكرانية، واتهامه إياها بالتسبب بالأزمة الاقتصادية بعد الحرب، لاقت أصداء إيجابية لدى الناخبين المتعبين من استمرار ارتفاع الأسعار منذ بدء تلك الحرب.

إذ عارض كيكل العقوبات الأوروبية التي فُرِضت على روسيا واستمرار التسليح الغربي لسلطات كييف، وهو يدعو بشكل مستمر وعلني لأن تحافظ النمسا على «حياديتها» في التعامل مع الأزمة الأوكرانية الروسية. كذلك وجّه انتقادات حادة للرئيس النمساوي فان دير بيلن بعد زيارة الأخير إلى كييف العام الماضي، وفيها وصف روسيا بأنها «قوة استعمارية». وقال الزعيم المتطرف إن الرئيس بات يشكل «تهديداً للدولة لأنه يعرّض هوية النمسا الحيادية للخطر».

ساعدت المواقف المتطرّفة على بناء رصيد كيكل مع الناخبين النمساويين المتشكّكين من اللاجئين والمهاجرين... وأسهمت آراؤه حول روسيا بزيادة شعبية حزبه بشكل كبير

التطرف على اختلاف وجوهه وأشكاله

هذا، وكما سبقت الإشارة، قبل الحرب في أوكرانيا، كان كيكل قد بدأ يجتذب تأييداً متزايداً برفضه التقيد بإجراءات «كوفيد 19»، ورفضه الصريح وضع قناع وقائي داخل البرلمان. كذلك كان من المشاركين الدائمين في المظاهرات التي خرجت لأشهر ضد قرارات حكومية لتقييد التجمّعات منعاً لانتقال العدوى، واتهم الحكومة في حينه بـ«تقييد الحريات».

ثم إنه رفض الاعتراف بفاعلية اللقاحات ضد الفيروس، وروّج للامتناع عن أخذه مقابل توصيته، بدلاً من اللقاح، بتناول عقار «إيفرميكتين» لمعالجة الفطريات، رغم تحذير الأطباء من ذلك، ومن إمكانية تسببه بحالات تسمم، وهذا ما حصل بالفعل.

هذه الآراء المتطرفة دفعت بكل الأحزاب السياسية الأخرى إلى رفض التحالف معه في حكومة ائتلافية، مع أن الرفض لا يمتد إلى التحالف مع حزبه بالضرورة. وهذا يعني أن الأحزاب الأخرى قد تكون قادرة على تشكيل حكومة من دون حزب الحرية، في حال بقي الحزب مصراً على أن يتسلم كيكل الحكومة أو يشارك فيها.

ويمكن في «سيناريو» كهذا أن يبقى حزب الشعب (اليميني الوسطي)، الذي يرأس الحكومة حالياً، على رأس الحكومة. إذ حلّ ثانياً بـ26 فى المائة من التأييد، مقابل 37 فى المائة في الانتخابات الماضية. وحلّ ثالثاً الحزب الديمقراطي الاشتراكي (يسار الوسط) بحصوله على 21 فى المائة، وهي النسبة ذاتها تقريباً التي نالها عام 2019. وفي المقابل، انهارت شعبية حزب «الخضر» (المشارك في الحكومة الائتلافية حالياً) وتراجع تأييده بأكثر من 11 نقطة، مكتفياً بـ8 فى المائة من التأييد في الانتخابات الحالية، مقارنة مع 14 فى المائة في الانتخابات الماضية.


مقالات ذات صلة

المحكمة الدستورية في رومانيا تلغي الانتخابات الرئاسية

أوروبا أشخاص يمرون بالقرب من ملصقات انتخابية للمرشحين للانتخابات الرئاسية في بوخارست (أ.ف.ب)

المحكمة الدستورية في رومانيا تلغي الانتخابات الرئاسية

ألغت المحكمة الدستورية في رومانيا، الجمعة، الانتخابات الرئاسية قبل الجولة الثانية، بعد عملية فوضوية تشوبها شكوك بشأن تدخّل روسي لصالح مرشّح اليمين المتطرّف.

«الشرق الأوسط» (بوخارست)
أوروبا إيمانويل ماكرون (إلى اليمين) يحيي عن بعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري بمناسبة مؤتمر اقتصادي في الرياض الثلاثاء (أ.ف.ب)

فرنسا تواجه أزمة سياسية حادة وأصوات تطالب برحيل الرئيس ماكرون عن الإليزيه والبلاد تدخل في نفق مجهول.

ميشال أبونجم (باريس)
أوروبا ناشطون ضد اليمين المتطرف يتظاهرون أمام البوندستاغ ويدعون لتسريع خطوات حظر «البديل من أجل ألمانيا» (إ.ب.أ)

«البديل» الألماني يبحث خطوات لتجنب حظره

تبحث قيادات «البديل من أجل ألمانيا» فصل الحزب الأم عن جناح الشباب المصنف من قبل المخابرات بأنه أكثر تطرفاً، في خطوة استباقية ربما لمنع حظر الحزب.

راغدة بهنام (برلين)
شؤون إقليمية وزير الإسكان الإسرائيلي يتسحاق جولدكنبف ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في الكنيست (أ.ف.ب)

اليمين الإسرائيلي يخطط لتقليص تمثيل العرب في الكنيست

حذّر قانونيون وحقوقيون من خطورة خطط يعدها اليمين الإسرائيلي لسن قوانين في الكنيست (البرلمان)، وترمي إلى تقليص أعضائه من النواب العرب وإضعاف تأثيرهم السياسي.

نظير مجلي (تل أبيب)
أوروبا المرشح المؤيّد لروسيا كالين جورجيسكو يتحدث للإعلام بعدما ترشح بوصفه مستقلاً للانتخابات الرئاسية في بوخارست 21 أكتوبر 2024 (أ.ب)

رومانيا: مفاجأة روسية في الانتخابات الرئاسية

تُعد نتيجة الانتخابات بمثابة زلزال سياسي في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 19 مليون نسمة، وبقي إلى الآن في منأى عن المواقف القومية على عكس المجر أو سلوفاكيا.

«الشرق الأوسط» (بوخارست)

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.