نواف سلام... رئيساً لمحكمة العدل الدولية ويبقى مرشحاً بارزاً لرئاسة حكومة لبنان

وسط ترحيب وطني وقلق إسرائيلي

نواف سلام... رئيساً لمحكمة العدل الدولية ويبقى مرشحاً بارزاً لرئاسة حكومة لبنان
TT

نواف سلام... رئيساً لمحكمة العدل الدولية ويبقى مرشحاً بارزاً لرئاسة حكومة لبنان

نواف سلام... رئيساً لمحكمة العدل الدولية ويبقى مرشحاً بارزاً لرئاسة حكومة لبنان

هو القاضي اللبناني نواف سلام... رئيس «محكمة العالم»، الذي اختار العمل بهدوء بعيداً عن ضوضاء السياسة الداخلية وزواريبها، لكنه حمل من حيث هو في الأمم المتحدة، حيث شغل منصب سفير لبنان، وفي محكمة العدل الدولية التي انضم إليها منذ عام 2018، لواء الدفاع عن سيادة لبنان واستقراره وعن القضية الفلسطينية والقضايا الإنسانية.

لم تغر الدكتور نوّاف سلام، ابن البيت السياسي البيروتي العريق، المناصب ولا المراتب، لكنه وصل إليها نتيجة جهوده ومثابرته ليعيّن في شهر فبراير (شباط) الحالي رئيساً لـ«محكمة العدل الدولية» لمدة ثلاث سنوات. وبذا يغدو القانوني اللبناني ثاني عربي يترأس هذه المحكمة منذ إنشائها عام 1945، بعد وزير خارجية الجزائر الأسبق محمد بجاوي.

كان سلام، الذي يتبوأ اليوم أعلى سلطة قضائية في العالم، قد انضم عام 2018 إلى هذه المحكمة التي تتألف من 15 قاضياً يُصار إلى انتخابهم من قبل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. ولقد لقيت خطوة انتخابه لهذا المنصب الرفيع ترحيباً لبنانياً واسعاً في لبنان، ولا سيما من داعميه الذين سبق أن كانوا قد رشّحوه لرئاسة الحكومة وعدّوا الامتناع عن تسميته لرئاسة الحكومة خسارة وطنية للبلاد. وفي المقابل، شكّل تعيين سلام قلقاً لإسرائيل، التي عبّر إعلامها بشكل واضح عن هذا الأمر انطلاقاً من مواقفه المعلنة المساندة للقضية الفلسطينية. إذ عدّت صحيفة «الجيروزاليم بوست» أن سلام صاحب تاريخ طويل بمناهضة إسرائيل عبر تصريحاته ومواقفه، مذكرة بموقف له على وسائل التواصل الاجتماعي حيث كتب عام 2015 متوجهاً إلى إسرائيل بالقول «عيد ميلاد غير سعيد لك، 48 عاماً من الاحتلال». ورأى كذلك أن «تصوير منتقدي سياسات إسرائيل بأنهم معادون للسامية هو محاولة لترهيبهم وتشويه سمعتهم، وهو ما نرفضه»، داعياً إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإلى عضوية فلسطين في الأمم المتحدة.

من القضية الفلسطينية إلى الهم اللبناني

في الواقع شكّلت القضية الفلسطينية محوراً أساسياً في حياة الشاب نواف سلام وأبناء جيله، ولا سيما في مرحلة «منظمة التحرير الفلسطينية» وأيام الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وهو ما ظهر جلياً في ممارساته وحياته الأكاديمية والسياسية والدبلوماسية.

وفي مقابلة سابقة له مع قناة هيئة الإذاعة البريطانية، (البي بي سي)، أكد سلام أنه ناضل خلال فترة دراسته الجامعية من أجل القضية الفلسطينية، وكان لنكسة يونيو (حزيران) 1967 تأثير كبير على شخصيته كما على كل الشباب من أبناء جيله. وأردف أنه إبان ترؤسه مجلس الأمن الدولي في شهر مايو (أيار) 2010 بكى تأثراً عندما تسلم ملف فلسطين لتقديم عضويتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

والواقع أن مؤازرة سلام للقضية الفلسطينية وحراكه وانفتاحه الذي تتميز به شخصيته كانت باباً لعلاقاته الواسعة في لبنان وخارجه. وفي هذا السياق، يصفه صديقه الوزير السابق والنائب الحالي مروان حمادة بـ«السياسي غير التقليدي» على الطريقة اللبنانية.

ويتابع حمادة نواف سلام «يشبه منطقة رأس بيروت المتنوعة والمنفتحة والعابرة للطوائف». ويستطرد «نضاله وانفتاحه أنتجا شخصية هادئة أخذت موقعها الوسطي الذي يميل إلى الأفكار الليبرالية – الاشتراكية، وهو ما ظهر بشكل واضح في كتاباته ومؤلفاته».

وحقاً، شكّل حمله لواء القضية الفلسطينية قاعدة صلبة لحمله لواء القضية اللبنانية منذ أن بدأ مسيرته السياسية والدبلوماسية، وخاصة، عندما شغل مقعد لبنان غير الدائم في الأمم المتحدة بين عامي 2009 و2010.

ومن على منبر مجلس الأمن والأمم المتحدة، حمل سلام الدبلوماسي والقانوني، لواء سيادة لبنان في مواقف قاطعة ضد إسرائيل وانتهاكها للقرارات الدولية، ولا سيما عبر القرار 1559 الذي ينص على احترام سيادة لبنان واستقلاله ووحدة أراضيه، والقرار 1701 الذي أدى إلى وقف إطلاق النار في عام 2006 بين لبنان وإسرائيل. يضاف إلى ذلك العمل على تعزيز «سياسة النأي بالنفس» عن الحرب في سوريا، والسعي إلى إنهاء الإفلات من العقاب من خلال إنشاء «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان» للنظر في قضيّة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1757.

وبالفعل، كان الهم اللبناني، أول ما تحدث عنه، سلام - ابن بيروت - عند انتخابه رئيساً لـ«محكمة العدل الدولية»، إذ قال إن ذلك يحمّله «مسؤولية كبرى في تحقيق العدالة الدولية وإعلاء القانون الدولي». وأردف: «أول ما يحضر إلى ذهني في هذه اللحظة هو همي الدائم أن تعود مدينتي بيروت (أمّاً) للشرائع كما هو لقبها، وأن ننجح - نحن اللبنانيين - في بناء دولة القانون في بلادنا، وأن يسود العدل بين أبنائه».

أسرته وولادته ونشأته

ولد نواف عبد الله سليم سلام يوم 15 ديسمبر (كانون الأول) 1953 في العاصمة اللبنانية بيروت. وهو يتحدّر من عائلة سياسية بيروتية معروفة. إذ كان جده لأبيه «أبو علي» سليم علي سلام (1868 – 1938) أحد أبرز زعماء المدينة في مطلع القرن العشرين، وأحد نوابها في البرلمان العثماني (مجلس المبعوثان)، كما تولى رئاسة بلديتها (عام 1908)، وترأس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية (كبرى الجمعيات الخيرية الإسلامية في لبنان). ولكن، بعدما أسقط الاتحاديون الأتراك (جمعية الاتحاد والترقي) السلطان عبد الحميد الثاني، تغيّرت سياسة الباب العالي تجاه أهل الشام نتيجة اعتماد الاتحاديين سياسة «التتريك». وهكذا، بدأت حركات التحرر العربية تلوح بالأفق، وانضم سليم سلام لـ«المؤتمر العربي الأول» في باريس عام 1913. وساهم بتأسيس «جمعية الإصلاح البيروتية» المناهضة للسياسة التركية في الشرق. وعام 1918 بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ونجاح «الثورة العربية»، وتشكيلها «الحكومة العربية الكبرى»، كان سلام أحد أعضائها، ومديراً لمكتبها في بيروت. ثم إنه انضم لـ«المؤتمر السوري العام» في دمشق عام 1919 ممثلاً عن بيروت، وترأس مؤتمرات الساحل والأقضية الأربعة عام 1936. وأصبح عام 1937 رئيساً للمجلس القومي الإسلامي قبل وفاته بستة أشهر.

أما، والد نواف سلام، عبد الله سلام، فكان رجل أعمال بارزاً وأحد مؤسسي شركة طيران الشرق الأوسط. ومن أعمامه رئيس الوزراء اللبناني السابق صائب سلام، الذي تولى رئاسة حكومة لبنان أربع مرات، ما بين عامي 1952 و1973، والوزير السابق المهندس مالك سلام. ومن أبناء أعمامه تمام صائب سلام رئيس الحكومة السابق (بين عامي 2014 و2016).

بالنسبة لدراسته الجامعية والقانونية، يحمل نواف سلام شهادة دكتوراه دولة في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية (سيانس بو) في باريس، ودكتوراه في التاريخ من جامعة باريس - السوربون، وماجستير في القوانين من جامعة هارفارد، وله مؤلفات عديدة في السياسة والتاريخ والقانون. وعلى الصعيد العملي مارس سلام المحاماة، كما عمل أستاذاً محاضراً في التاريخ المعاصر في السوربون، كما درّس العلاقات الدولية والقانون الدولي في الجامعة الأميركية في بيروت؛ حيث ترأس دائرة العلوم السياسية والإدارة العامة فيها من 2005 إلى 2007. وبالنسبة للمؤلفات والأبحاث، كان بين أحدث مؤلفات سلام «لبنان بين الأمس والغد» الصادر في بيروت عام 2021. ونشير إلى أنه قبل تعيينه رئيساً لمحكمة العدل الدولية، كان قد شغل قبل ذلك منصب سفير لبنان لدى الأمم المتحدة بين 2007 و2017. ومثّله في مجلس الأمن خلال ولايته فيه عامي 2010 و2011 وترأس أعمال هذا المجلس في شهري مايو (أيار) 2010 وسبتمبر (أيلول) 2011.

شدد سلام على أن الهم الأساس هو «إنقاذ لبنان من محنته، وهذا يتطلب التغيير في مقاربة الأزمة نهجاً وممارسة

العائلة وبيروت والجبل

حب لبنان بالنسبة إلى سلام ليس فقط في الكتب ومن على المنابر، فهو البيروتي العتيق الذي بقي على علاقة وثيقة بمدينته بيروت رغم غيابه عنها لفترات بعيدة بسبب عمله. وهو لا يزال يملك في هذه المدينة صداقات من مختلف الطوائف والتوجهات. ويحرص على اللقاء بهم في كل مرة يزور بها العاصمة اللبنانية. وهذه الزيارات لا تقتصر فقط على الإجازات الطويلة إنما قد يأتي إلى بيروت فقط للمشاركة في مناسبة معينة للعائلة وللأصدقاء، ثم المغادرة. وكما لبيروت، كذلك لمنزله في منطقة شملان الجبلية الواقعة في قضاء عاليه (جبل لبنان) حيّز خاص في حياته وحياة زوجته سحر بعاصيري (سفيرة لبنان لدى اليونيسكو)، ولا سيما في فصل الصيف.

وإضافة إلى اللقاءات مع الأصدقاء الكثر، تغري سلام، وهو أب لشابين هما عبد الله ومروان، النوادي ذات الطابع الأكاديمي على غرار نادي هارفارد في نيويورك، الذي هو عضو فيه، إضافة إلى أنه قارئ نهم وشغوف بالموسيقى التي هي بالنسبة له رفيق دائم.

 

«مرشح الانتفاضة الشعبية»

على صعيد آخر، برز اسم نواف سلام بشكل كبير إبان «الانتفاضة الشعبية» عام 2019 وتحديداً بعد استقالة رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري. ويومذاك طرح أفرقاء في المعارضة اسمه على أنه مرشح تسوية حيادي - تكنوقراط، إلا أن «الفيتو» الحاسم من قبل «الثنائي الشيعي» (حزب الله وحركة أمل)، وعدّه «مرشّح الولايات المتحدة»، مع ما رافق ذلك من حملات ضدّه، حالت دون وصوله إلى رئاسة الحكومة. مع هذا، حصل سلام حينئذٍ في الاستشارات النيابية على تأييد كل من كتلة «الحزب التقدمي الاشتراكي»، وحزب «الكتائب اللبنانية»، وعدد من النواب المستقلين، لكن «الفيتو» الشيعي ضده أدى إلى تكليف حسان دياب بترؤس الحكومة.

مع هذا، بعد استقالة حكومة دياب إثر انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2019، عاد فطرح اسم سلام لرئاسة الحكومة، لكن التوافق بين معظم الكتل النيابية، بدعم من المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أدى إلى تسمية السفير مصطفى أديب بحصوله على 90 صوتاً من النواب، لكن أديب اعتذر عن المهمة في وقت لاحق بعد اصطدام اتصالاته لتشكيل الحكومة بحائط مسدود.

وكان سلام، الذي التزم طوال هذه المرحلة الصمت قد عبّر عن تأثره بالثقة التي أولاها إياه عدد من النواب في الاستشارات النيابية الأولى، مؤكداً أن «حملة التشهير لم تستند أصلاً إلى أي دليل، فضلاً عن التزامي مبدأ التحفّظ لكوني اليوم قاضياً في محكمة العدل الدولية». ومن ثم تابع: «فيما لو صح شيء من هذه التهمة الباطلة، فلماذا سكتوا عنها طوال هذه السنين وأنا في هذا الموقع الحساس معيناً ممثلاً للبنان بإجماع مجلس الوزراء؟ وما يؤكد أيضا كذب كل هذه الافتراءات، هو أن مئات المواقف التي اتخذتها والخطب التي أدليت بها دفاعاً عن لبنان وقضايا العرب وفلسطين موثقة بالكامل».

وفيما يشبه «البرنامج الحكومي» شدد سلام على أن الهم الأساس هو «إنقاذ لبنان من محنته، وهذا يتطلب التغيير في مقاربة الأزمة نهجاً وممارسة، بدءاً بالإصلاح في السياسات المالية، والإصلاح السياسي الذي يبقى عنوانه الأول التصدي لعقلية الزبائنية وثقافة المحاصصة». كذلك شدد على أهمية «تحقيق استقلالية القضاء وتحصين مؤسسات الدولة ضد آفات الطائفية والمحسوبية.... ولا معنى لأي من هذه الإصلاحات إن لم تكن مرتكزة على أهداف ومبادئ الإنصاف والعدالة الاجتماعية وصيانة الحقوق والحريات العامة والخاصة». وتعهد بأنه سيبقى دائماً «يعمل إلى جانب كل الملتزمين قضية التغيير من أجل إصلاح الدولة وبسط سيادتها على كامل أراضيها واستعادة بلدنا موقعه ودوره العربي وثقة العالم به».



 


مقالات ذات صلة

لبنان مهدد بالانتقال إلى القائمة «الرمادية» لغسل الأموال في الخريف

المشرق العربي صندوق النقد الدولي بدأ منذ هذا العام بحجب التوقعات والبيانات المالية الخاصة بلبنان (رويترز)

لبنان مهدد بالانتقال إلى القائمة «الرمادية» لغسل الأموال في الخريف

عزّزت ظاهرة حجب البيانات المالية الخاصة بلبنان من قبل المؤسسات المالية العالمية ووكالات التصنيف الائتماني الدولية منسوب الريبة من سياسة عدم الاكتراث الحكومية.

علي زين الدين (بيروت)
المشرق العربي الدخان يتصاعد في جنوب لبنان إثر قصف إسرائيلي استهدف المنطقة (رويترز)

إسرائيل تتوعّد بتغيير الواقع الأمني عند الحدود... و«حزب الله» مستعد للمواجهة

يواصل المسؤولون الإسرائيليون تهديداتهم، متوعدين «بتغيير الواقع الأمني على الجبهة الشمالية»، وفق الجنرال أوري غوردين، الذي قال: «إن الهجوم سيكون حاسماً وقاطعاً».

كارولين عاكوم (بيروت)
المشرق العربي قائد الجيش العماد جوزاف عون (مديرية التوجيه)

باسيل يسعى لإسناد قيادة الجيش اللبناني بالوكالة للواء صعب

يسعى رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل لإسناد قيادة الجيش اللبناني بالوكالة للواء بيار صعب مستبقاً التمديد للعماد جوزاف عون.

محمد شقير (بيروت)
المشرق العربي رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل (رويترز)

باسيل متردد بفصل نواب خشية تضعضع داخلي في «التيار»

لم يحسم رئيس «التيار الوطني الحر» قراره بشأن فصل النائب آلان عون محاولاً أن يستوعب استباقياً أي ردود فعل ستؤدي لتقلص إضافي بعدد نواب التكتل.

بولا أسطيح (بيروت)
المشرق العربي نواب المعارضة خلال لقائهم نواب الحزب «التقدمي الاشتراكي» لطرح خريطة الطريق الرئاسية (موقع القوات)

المعارضة اللبنانية تدرس خطة «المواجهة» بعد فشل مبادرتها الرئاسية

بدأت المعارضة بدراسة أفكار لما بعد «المبادرة الرئاسية» التي سقطت نتيجة أسباب عدة،أبرزها رفض «الثنائي الشيعي» (حزب الله وحركة أمل) البحث بها وحتى اللقاء بالنواب.

كارولين عاكوم (بيروت)

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

هل نجح انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من سباق الرئاسة في تجنيب الديمقراطيين هزيمة... كانت تتجمع نُذُرها حتى من قبل «مناظرته الكارثية» مع منافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب بكثير؟ الإجابة عن هذا السؤال، لا يختصرها الإجماع السريع الذي توافقت عليه تيارات الحزب لدعم كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالية. ذلك أن الصعوبات التي يواجهها الديمقراطيون، والأزمات التي لم يتمكنوا بعد من ابتكار الحلول لها، أكبر من أن يحتويها استعاضتهم عن مرشح مسنّ ضعيف وغير ملهم، بمرشحة شابة ملوّنة. ولكن مع ذلك، يبدو أن الديمقراطيين مقتنعون الآن بأنه باتت لديهم الفرصة لإعادة تصوير السباق على أنه تكرار لهزيمة مرشح «مهووس بالغرور والانتقام»، في حين يعيد خصومهم الجمهوريون تشكيل سياسات حزبهم، وفق أجندة قد تغير وجهه ووجهة أميركا، التي عدّها البعض، «دعوة للعودة إلى الوراء».

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».