حروب اليوم التالي في غزة: تحديات الأمن والمجتمع والتعامل مع تركة «حماس»

مخاوف من مهام القوة الدولية ونطاق صلاحياتها

عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)
عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)
TT

حروب اليوم التالي في غزة: تحديات الأمن والمجتمع والتعامل مع تركة «حماس»

عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)
عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)

ما إن تم الإعلان عن توقف الحرب العسكرية والعمليات الإسرائيلية داخل قطاع غزة، حتى بات السكان يواجهون حروباً أصعب وبأوجه مختلفة، أشد صعوبةً وأكثر قسوةً أحياناً من آلة الحرب ذاتها.

وتنعكس الخروق الإسرائيلية المستمرة، والواقع السياسي وإمكانية تطبيق خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وما يشوبها من بعض العقبات، على ظروف الحروب المصغرة التي يعيشها سكان القطاع بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) 2025.

حرب بأوجه كثيرة

ويرى الكثير من الغزيين ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، أن الظروف الحياتية والاقتصادية اليومية في قطاع غزة، أصعب من الحرب العسكرية التي كانت دائرة على مدار عامين. ويقول المواطن ناجي المسحال (42 عاماً) من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، إن «حياة الطوابير باتت تلازمنا، من طوابير المياه، إلى طوابير التكيات، إلى طوابير المساعدات، كل هذه المشاهد ما زالت تلازم كل غزي».

ويشير المسحال، إلى أن أزمات المياه الصالحة للشرب والاستخدام الآدمي ما زالت كما هي من دون تغيير حقيقي؛ الأمر الذي ينعكس بشكل سلبي على الواقع البيئي والصحي ويتسبب بظهور الكثير من الأمراض، مثل الطفح الجلدي وغيره، كما حصل مع أحد أحفاده واثنين من أبنائه.

فتى يجرّ حاوية مياه بعد انتظار في طابور طزيل أمام خزان التزوّد بمياه نظيفة (أ.ف.ب)

ويضيف: «منذ وقف إطلاق النار، كنا نعتقد أن ظروفنا ستتغير، لكننا ما زلنا تحت تأثير الحرب كما وأنها لم تتوقف... نعاني نقص المياه والطعام، وازدياد الأمراض وانتشارها، وعدم توافر خيام يمكن أن تحمينا من فصل الشتاء على الأبواب، وكل ذلك بسبب عدم التزام إسرائيل بأي من بنود الاتفاق المعلن».

وتتلاحق الأزمات الحياتية من المياه، إلى الأسواق والبضائع التي باتت تتوافر حديثاً، لكن أسعارها باهظة لا يقوى عليها المواطن رباح كتكت من سكان مدينة رفح والنازح إلى مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، حاله، حال مئات الآلاف من سكان القطاع.

ويقول كتكت: «الدواجن واللحوم المجمدة والخضراوات والفاكهة وحتى الشوكولاتة وغيرها مما بات يُسمح بإدخاله لا يستطيع المواطن البسيط شراءه سوى بصعوبة بالغة بعد حرمان استمر عامين». وأشار كتكت إلى أن تلك السلع مخصصة لأصحاب الأموال الفائضة الذين يمكن وصفهم بأصحاب رؤوس الأموال من تجار ومسؤولين وغيرهم، لكن المواطنين البسطاء أو حتى الموظفين الحكوميين فبالكاد يستطيعون توفير بعض الخضراوات لعوائلهم.

ويؤكد كتكت أنه «لم يتغير شيء على حياة سكان قطاع غزة منذ وقف إطلاق النار»، في ظل غلاء الأسعار وعدم توافر البضائع باستمرار. ويقول: «لدي أسرة مكونة من 9 أفراد، لا يستطيع أي منا شراء دجاجة واحدة أو نصف كيلو لحم مجمد حتى نتناوله مثل البشر؛ لأن الأسعار باهظة».

ويتراوح ثمن كيلو الدواجن أو اللحوم من المجمدات التي يسمح بدخولها ما بين 60 و90 شيقلاً، أي ما يعادل 18 إلى 27 دولاراً، بينما كان كيلو الدواجن الطازجة قبيل الحرب يبلغ نحو دولارين، في حين كيلو اللحم الطازج 12 دولاراً، والمجمد 6 دولارات.

ويضيف كتكت: «قبل الحرب، كان لدينا أشغال وأعمال ونستطيع جمع الأموال، لكن حالياً الموظف وغير الموظف سواء، لا أحد منهما يستطيع شراء ما يلزمه وتلبية حاجات أسرته بالحد الأدنى قبل أن يبحث عن اللحوم أو الدواجن».

«حماس» تفرض الضرائب

يرى الشاب أحمد. غ، الذي فضَّل عدم كشف هويته، أن بقاء «حماس» في حكم غزة يعني بقاء القطاع تحت طائلة الأزمات، مشيراً إلى أن حكومتها «عادت لفرض بعض الضرائب على بعض السلع»؛ الأمر الذي دفع التجار إلى رفع أسعارها. وقال: «كان يجب على حكومة (حماس)، أن تشكرنا كمواطنين عايشنا أصعب الحروب في العالم على مدار عامين، وأن تقدّم لنا العون، لا أن تساعد على رفع الأسعار من خلال الإجراءات التي اتخذتها في الأسابيع القليلة الماضية»، في إشارة إلى الضرائب التي تم فرضها على بعض السلع الاستهلاكية.

وفي حين ينفي المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، أنه فرض أي ضرائب على أي من السلع، أكّد التجار أنه فُرضت ضرائب على بعض البضائع والسلع التي تم إدخالها إلى القطاع ومن بينها الدخان والمجمدات؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعارها.

عناصر مباحث التموين التابعة للشرطة الفلسطينية في غزة خلال حملة متابعة للأسواق في 17 مارس 2025 (الشرطة الفلسطينية)

وعلى سبيل المثال، كان سعر علبة الدخان قبل الحرب يتراوح حسب النوع، بين 8 و20 شيقلاً (أي بين 2 و6 دولارات)، بينما تضاعف خلال الحرب من دون ضرائب وإنما بسبب تهريبها بطرق مختلفة من قِبل التجار. أما بعد وقف إطلاق النار فانخفضت أسعارها، ثم عادت وارتفعت بشكل قياسي لتبلغ 40 شيقلاً أو أكثر بعد فرض الضرائب عليها.

ويقول أحد تجار الدخان لـ«الشرق الأوسط»، إنه خلال فترات الحرب كانت هناك طرق عدة للتهريب ولم تكن حكومة «حماس» قادرة على فرض الضرائب، لكن حالياً عادت لتفرضها؛ ما قلل قدرة المواطنين على الشراء، فعمد بعضهم إلى شراء سيجارة واحدة في اليوم فقط بدلاً من علبة كاملة.

«أونروا» والقطاعات الحيوية

لا تزال قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والخدمات البيئية والمياه تديرها بلديات وجهات حكومية تابعة لحركة «حماس»، في وقت تعاني غزة انقطاعاً مستمراً للكهرباء في ظل رفض إسرائيل إدخال الوقود لتشغيل محطة الكهرباء الوحيدة، بما يخالف اتفاق وقف إطلاق النار حسب الحركة.

جنود إسرائيليون أمام مقر رئاسة «أونروا» في قطاع غزة (أ.ف.ب)

وتتلقى الجهات الصحية والتعليمية والبلديات، دعماً مستمراً من جهات ومؤسسات دولية بهدف دعم القطاع المدني، والمساهمة في محاولة تقديم أقصى خدمة ممكنة من توفير الدواء والعلاج المناسب للمرضى والجرحى وغيرهم، إلى جانب محاولات إحياء التعليم من خلال فتح مدارس مؤقتة بعد تعطل استمر عامين. ذلك بالإضافة إلى دعم البلديات بالوقود لتشغيل آبار المياه التي دُمّرت معظمها، وتشغيل آليات هندسية مثل الجرافات لفتح الطرق العامّة المغلقة بفعل الدمار الكبير وردم المنازل، وسط رقابة شديدة من تلك المؤسسات لمنع وصول المساعدات إلى «حماس».

وتشرف المؤسسات الأممية على نقل المساعدات ومقوّمات الدعم من وقود وأدوية وكتب دراسية وخيام وغيرها عبر فرق تابعة لها تقوم بإيصالها للجهات المنفذة على الأرض، من دون نقل أموال؛ حتى لا تستحوذ عليها حركة «حماس» أو أي من المسؤولين الحكوميين أو الإداريين فيها.

ورغم المحاولات الإسرائيلية المستمرة لمنع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من أداء أي مهام داخل قطاع غزة، ومنعها من إدخال المساعدات، رغم أن لديها مخزوناً كبيراً منه يكفي لسد احتياجات السكان لأشهر عدة، لكن المؤسسات التابعة للمنظمة الأممية تحاول بشكل دائم تقديم خدماتها وإنْ بالحد الأدنى، من خلال ما ينقل إليها عبر مؤسسات أخرى تابعة للأمم المتحدة تزود «أونروا» ببعض المساعدات والدعم اللوجيستي من وقود وغيرها لتشغيل مركباتها وآلاتها الهندسية حسبما يسمح بدخوله من كميات وقود أو مساعدات طبية أو عينية.

أطفال فلسطينيون دون الثالثة يتلقون اللقاحات التي يقدمها «الهلال الأحمر» الفلسطيني و«يونيسف» في مركز صحي بمدينة غزة (أ.ب)

وكان المفوض العام للوكالة الأممية فيليب لازاريني، قال في مقالة له نشرت في صحيفة «الغارديان»، إن الأمم المتحدة، بما في ذلك «أونروا»، تمتلك الخبرة والموارد اللازمة لتلبية الاحتياجات الإنسانية الملحة بفاعلية وعلى نطاق واسع، لكن يجب أن يسمح لها بالعمل بحرية واستقلالية، دون قيود تعسفية وغير معقولة على دخول وحركة الإمدادات والأفراد.

ورصدت «الشرق الأوسط»، أن «أونروا» استأنفت أخيراً تقديم الخدمات الصحية عبر عياداتها للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة، كما استأنفت تقديم بعض المساعدات المحدودة غير المؤثرة مثل حفاضات الأطفال، في حين غابت عن دورها المركزي في توزيع المساعدات الغذائية الأساسية الأخرى مثل الطحين، وهو الأمر الذي كان يعتمد عليه السكان كثيراً خلال الحرب ومنذ عقود طويلة سابقة.

وقالت تمارا الرفاعي، مديرة العلاقات الخارجية والإعلامية في «أونروا»، خلال تصريحات صحافية، إن «أونروا» لم تتوقف عن العمل في غزة طوال فترة الحرب، وواصلت فرقها الطبية تقديم الخدمات بشكل مباشر وعن بعد، كما استمر مهندسوها في معالجة المياه والصرف الصحي، ونقل مياه الشرب النظيفة إلى الملاجئ.

وأضافت: «مع وجود 12000 موظف وموظفة على الأرض، تواصل (أونروا) إدارة الملاجئ والعيادات وتقديم الخدمات الأساسية، حتى في ظل إدارة الموظفين الدوليين للعمليات عن بعد بسبب الحظر الإسرائيلي».

الإعمار... أولى الأولويات

في ظل كل هذه التحديات، يبرز تحدي إعادة إعمار قطاع غزة، وهو أحد أهم أولويات السكان الفلسطينيين في ظل الوضع الصعب الذي يعيشونه بعد تدمير أكثر من 80 في المائة من منازل القطاع وبناياته.

صورة ملتقطة بالأقمار الاصطناعية تظهر حجم الدمار وأعمال حفرٍ في موقع عسكري إسرائيلي شرق مدينة غزة (رويترز)

المواطنة ريهام أبو شاربين من سكان مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تواجه تحدياً خطيراً مع قدوم فصل الشتاء، بعد أن دمرت طائرات حربية إسرائيلية منزلها.

تشتكي أبو شاربين من نقص الخيام والشوادر والمواد الإغاثية التي قد تسهم في إنقاذها خلال فصل الشتاء، كما هو حال أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني فقدوا أي مأوى لهم.

وتقول أبو شاربين إنها كانت تتوقع أن تدخل الخيام الجيدة التي يمكن أن تحميها وأسرتها من فصل شتاء قاسٍ يتوقع أن يبدأ في الأيام المقبلة، معربةً عن خشيتها بغرق الخيمة المؤقتة التي تعيش فيها وهي من «القماش» الذي بالكاد يستطيع حمايتهم من أشعة الشمس. وتضيف: «التفكير يقتلنا يومياً كيف سنقضي الشتاء، كما يقتلنا يومياً كيف سنبقى في هذه الحياة والظروف الصعبة التي لا يتحملها بشر؟».

فتيات فلسطينيات يلعبن خارج مخيم أقامته اللجنة المصرية في النصيرات، في غزة (أ.ف.ب)

وتربط إسرائيل، إعادة إعمار القطاع، بنزع سلاح «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى، وتخليها عن حكم القطاع بشكل كامل، في حين تحاول الإدارة الأميركية السعي لبدء إعادة الإعمار في المناطق التي تقع تحت السيطرة الإسرائيلية بشكل أساسي وليس في المناطق التي ما زالت تحكمها «حماس» وتمثل نحو 50 في المائة من مساحة القطاع، وهو ما رفضه غالبية وزراء المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابنيت)، في الأيام الأخيرة خلال جلسة بُحثت فيها هذه القضية بعد أن طرحها رئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو.

المواطن أحمد كلاب (57 عاماً) من سكان مخيم الشاطئ، دُمّر منزله مرتين خلال عقد من الزمن. المرة الأولى في حرب 2014، ثم عادت القوات الإسرائيلية ودمّرته في الحرب الأخيرة قبل أكثر من عام، وهو أحد المتضررين من الرؤية الإسرائيلية – الأميركية لعملية إعادة الإعمار، كما يقول لـ«الشرق الأوسط».

فلسطينيون يسيرون بالقرب من مبانٍ مدمرة في مدينة غزة وسط وقف إطلاق نار بين إسرائيل و«حماس» (إ.ب.أ)

ويرى كلاب، أنه في حال طُبق ما نشر في وسائل الإعلام عن نية إعادة البناء فقط في المناطق الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، فذلك يعني فقدان الأمل بإعادة بناء منازلنا والتي عانينا كثيراً حتى أعدنا بناءها بعد حرب 2014.

وقال: «كان من الواضح منذ البداية أن هناك حالة ابتزاز مستمرة للفلسطينيين، وكل شيء مرتبط برحيل (حماس) وتسليم سلاحها، ولكن يبدو أن الحركة ترفض ذلك، ومن يدفع الثمن نحن المدنيين الذين لا علاقة لنا بكل الوضع الذي نحن فيه، سوى أننا مجرد خسائر تكتيكية كما يراها البعض». في انتقاد واضح لتصريحات رئيس حركة «حماس» في الخارج، وعضو مكتبها السياسي خالد مشعل، في خطاب له ألقاه في شهر أكتوبر 2024.

طفلان يراقبان دفن جثامين لفلسطينيين مجهولي الهوية أعادتهم إسرائيل، في مقبرة جماعية بدير البلح وسط غزة (إ.ب.أ)

ونقلت صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية، عن المبعوث الأميركي جاريد كوشنر في محادثات داخلية جرت خلال الأيام القليلة الماضية، وكشف عنها مساء الثلاثاء الماضي أن إعادة إعمار القطاع في الجانب الغربي للخط الأصفر لن تبدأ قبل أن يتم تفكيك «حماس» من سلاحها كلياً.

تحديات الأمن والأمان

يأتي هذا الواقع الصعب، مع استمرار التحديات الأمنية المتلاحقة التي لا تنتهي، سواء بفعل الخروق الإسرائيلية، أو مع تردي الوضع الأمني الداخلي في بعض المناطق، ومواصلة الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة «حماس» في محاولة إعادة ترتيب صفوفها.

عناصر من «حماس» يحرسون منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة (أ.ف.ب)

وتؤكد مصادر لـ«الشرق الأوسط»، أن هناك اجتماعات تُعقد باستمرار لمحاولة ضبط الوضع الأمني من خلال تعيينات وإصدار تعليمات أمنية مشددة لضبط الوضع، مشيرةً إلى أن التركيز هو على «ملاحقة المتعاونين مع إسرائيل»، بينما تجري محاولات موازية لضبط الأسواق والأسعار وتحسين الخدمات الحكومية المختلفة.

وهناك من يرى أن «حماس» غير قادرة على التعامل مع بعض القضايا الجنائية مثل عمليات القتل العشوائي والسرقات، وغيرها من الثغرات الأمنية اليومية. واشتكت مواطنة تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، من أنها لم تجد معيناً يقف معها بعدما سرق أحد أقاربها مصاغها من الذهب. وعلى رغم معرفتها بالسارق وتقديم شكوى ضده، فإن الشرطة التابعة لـ«حماس» لم تقدم لها العون في اعتقاله أو التحقيق معه؛ ما تركها فريسةً لحالة الفلتان الأمني.

مقاتلو «كتائب القسام» إلى جانب عمال «الصليب الأحمر» خلال البحث عن جثث رهائن إسرائيليين في مدينة غزة (إ.ب.أ)

وقُتلت قبل أيام سيدة في وضح النهار بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، أثناء تجولها في السوق المركزية للمدينة، وعلى بعد عشرات الأمتار من انتشار عناصر شرطة «حماس»، ليتبين أن قاتلها هو ابن زوجها، من سيدة أخرى، في حين فر من المكان دون أن تقوم الشرطة باعتقاله.

ومن الأمثلة الصارخة عن حالة الفلتان الأمني، قيام عناصر مسلحة بإيقاف مركبة تابعة للهلال الأحمر التركي في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، وسرقة المركبة وهواتف وأموال كانت بحوزة العناصر في المركبة قبل الاعتداء عليهم.

وبينما كانت غالبية سكان قطاع غزة تأمل رؤية جهة جديدة تحكم القطاع في أعقاب الحرب، اصطدموا ببقاء الواقع السابق على حاله؛ الأمر الذي زاد من مخاوفهم بعدم الشعور بالأمن والأمان. وقالت الشابة نيرمين الفار (28 عاماً) من سكان مدينة غزة، نحن نريد جهة فلسطينية تحكمنا لتحقق لنا معيشة جيدة تتناسب مع آدمية أي إنسان في هذا الكوكب، وليس بقاء جهات حكمتنا لسنوات وحولت حكمها لخدمة مصالحها الحزبية السياسية من دون التفات لمعاناة السكان.

عناصر من «حماس» يتوجهون إلى مدينة غزة بمرافقة الصليب الأحمر الدولي للبحث عن جثث الرهائن (أ ب)

ويخشى معارضو «حماس» من عودة الاعتقالات في أوساطهم والتعرض لهم بسبب الانتقادات التي وجهوها للحركة خلال الحرب؛ الأمر الذي انعكس بوضوح في حالة مقتل الأسير المحرر هشام الصفطاوي، من نشطاء حركة «فتح»، على يد عناصر من «حماس» اقتحموا منزله في مخيم النصيرات وسط القطاع، كما قالت عائلته. وذلك إلى جانب حالات قتل أخرى لأشخاص اتُهموا بأنهم يعملون لصالح إسرائيل، من دون أن يخضعوا لمحاكمات قانونية.

وقال المواطن (م.أ) من سكان حي الشجاعية بمدينة غزة مفضلاً عدم ذكر اسمه لأسباب تتعلق بأمنه الشخصي، إن عودة عمليات القتل وإطلاق النار وسرقة المساعدات من قِبل مجهولين، تشير بشكل واضح إلى أن «حماس» ليست قادرة على ضبط الأمن بشكل كامل كما كان الوضع سابقاً قبل الحرب، مشيراً إلى أن بعض المواطنين قُتلوا بسبب معارضتهم الحرب على أيدي مسلحين والاتهامات كانت توجه للحركة، بينما قُتل آخرون في ظروف مختلفة.

«أبو شباب» وآخرون

ما زالت قوى أمن حكومة «حماس» تحافظ على وجودها النسبي وانتشارها في الكثير من المناطق، وبدأت بمعالجة بعض القضايا الجنائية، في حين أنها لا تسيطر على بعض المناطق التي ما زالت موجودة فيها القوات الإسرائيلية، أو وضعتها الأخيرة في عهدة بعض المجموعات المسلحة التي تصفها «حماس» بـ«عصابات» تخدم إسرائيل، مثل مجموعات «ياسر أبو شباب» شرق رفح، أو حسام الأسطل جنوب خان يونس، أو رامي حلس شرق مدينة غزة، وغيرها من الأسماء التي برزت في الفترة الأخيرة.

أعضاء مجموعة أبو شباب كما ظهروا في مقطع فيديو سابق (وسائل إعلام إسرائيلية)

وسعت هذه المجموعات إلى أن تشكل تحدياً لحركة «حماس» وحكمها في قطاع غزة، لكنها فشلت في تحقيق إنجازات حقيقية على الأرض، رغم أنها في بعض الفترات حاولت استغلال وجودها وحمايتها من قِبل إسرائيل لتنفيذ عمليات ضد نشطاء من «حماس» أو مراكز حكومية مثل المستشفيات أو غيرها، لتظهر وجودها وقوتها، فإنها في كل مرة كانت تصطدم بمقاومة من مسلحين يتبعون للحركة، كما أنهم تعرَّضوا لكمائن وقُتل الكثير من أفرادها.

وتوقف نشاط تلك المجموعات المسلحة بشكل كبير داخل المناطق التي كانت تسيطر عليها حركة «حماس»، واكتفت بتمركزها داخل المناطق التي توجد فيها، حيث تعرضت لثلاث هجمات من قِبل عناصر الحركة منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر الماضي؛ ما أدى إلى مقتل وإصابة بعضهم في حين تمت السيطرة على أسلحة ومركبات تابعة لهم.

ولا يعرف كيف سيتم التعامل مع قضية نزع سلاح «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى، وهي مهمة ستكون صعبة في ظل الخلافات بشأنها، في وقت يأمل الغزيون أن يتم الاتفاق بشأنها من دون أي خلافات قد تعيد الأوضاع للمربع الذي كانت عليه، وتستخدم إسرائيل ذلك ذريعة للعودة الحرب.

آفاق القوة الدولية

يأتي ذلك في وقت ما زالت تحاول فيه الولايات المتحدة التوصل إلى اتفاق بشأن صياغة مشروع أمام مجلس الأمن يسمح بتشكيل قوة دولية للعمل في قطاع غزة، وسط خلافات واضحة على المستويين العربي والإسلامي بشأن إمكانية المشاركة في هذه القوة من عدمه، خاصةً وأن مهامها ومسماها غير واضح، فيما إذا كانت قوة إنفاذ ستطبق خطة ترمب بالقوة، أم أنها خطة لمراقبة وقف إطلاق النار؟

وتسعى «حماس» والفصائل الفلسطينية، عبر الوسطاء للضغط على الولايات المتحدة، لتحديد واضح لمهام هذه القوة، كما تؤكد مصادر من الحركة لـ«الشرق الأوسط».

ويخشى السكان في قطاع غزة من أن تكون مهام هذه القوة أكبر بكثير مما هو معلن، وأن تسمح لبقاء القوات الإسرائيلية داخل القطاع، واحتلال أجزاء منه، أو أن يكون لها مهام خفية تتعلق بالبقاء في غزة لسنوات طويلة لنزعها من أن تكون تحكم حكم فلسطيني في المستقبل القريب ونزعها من هويتها الحقيقية. ويقول المواطن فادي البكري (45 عاماً) من سكان مدينة غزة، إن وجود مثل هذه القوة داخل القطاع، قد يكون له آثار سلبية على حياة المواطنين، ولا يحقق لهم حقهم في الأمن والأمان، وهذا قد يؤدي إلى وقوع أحداث أمنية خطيرة نتيجة تشابك عناصر المقاومة ونشطائها مع تلك القوات في حال كان من مهامها نزع سلاح المقاومة.

في حين يقول الشاب مجد ياسين (31 عاماً) من سكان خان يونس جنوب قطاع غزة، إن أي قوة دولية لا تريد ضمان تطبيق وقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل، وإعادة الأمن، وتوفير حياة ملائمة للسكان من خلال مساعدة جهة فلسطينية تحكم القطاع، فإنه غير مرحب بها، ووجودها سيكون بمثابة خطر كبير على كل مواطن.

الأمل في حكومة موحدة

يأمل السكان في أن تكون هناك حكومة فلسطينية موحدة تدير شؤونهم وتهتم بقضاياهم، خاصةً ملف الإعمار وتقديم الخدمات الإغاثية لهم، والحفاظ على أمنهم بعد وقف إطلاق النار، من دون أن يسمح لمجموعات مسلحة بالسيطرة على حياتهم.

حملة تنظيف طرقات وشوارع أطلقها سكان غزة وبلديّتها ومنظمات أهلية بعنوان "نعمّرها ثاني" في منتصف نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

ويكرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورئيس وزرائه محمد مصطفى، التصريحات التي تؤكد على استعداد السلطة الفلسطينية لتولي مسؤولياتها الكاملة في قطاع غزة.

ويقول الغزي عاصم الغزالي (39 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، إن السكان يرغبون في عودة السلطة الفلسطينية لكي تعينهم على تخطي أزمات الحرب التي عاشوها على مدار عامين، وأن يكون هناك قانون واحد يساوي بينهم ويحكمهم.

وأضاف: «نحن نعيش بعد وقف إطلاق النار، حرباً أقسى من الحرب العسكرية، وآن الأوان لأن يتغير الحال للأفضل».

ويقول الشاب عمر البحيصي (24 عاماً) من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، إن الظروف التي عاشها كشاب بلا أي مستقبل، يريد ويطمح لأن يكون هناك جهة تحكم الجميع وتحقق الأمن والأمان، وتعيد بناء ما دمر، وأن تبني مستقبلاً للجيل الشاب، وكذلك للأطفال الذين أضاعت الحرب مستقبلهم التعليمي، وهم أشد الفئات التي في حاجة إلى الدعم النفسي والمجتمعي بعد هذه الحرب القاسية.

في حين يرى صديقه الشاب حسن أبو عيشة، أن مستقبله كخريج هندسة، يكمن في الهجرة خارج قطاع غزة، من أجل بناء مستقبله، والبحث عن عمل مناسب، يساعده على النجاة وتأسيس عائلة.

سيدة فلسطينية تجلس قرب خيمتها عند الشاطىء في دير البلح (أ.ف.ب)

ويقول أبو عيشة: «عشنا حياة صعبة وشديدة طوال عامين من الحرب، وحان الوقت لأن تتاح لنا فرصة البحث عن مستقبل جديد لنا»، مشيراً إلى أنه يفضل الهجرة حلاً فردياً وليس بكونها قراراً مفروضاً من إسرائيل وأميركا لنقل سكان القطاع إلى دول ثالثة بهدف التخلص منهم.


مقالات ذات صلة

الطائرة الإغاثية السعودية الـ77 تصل إلى العريش محمَّلة بالمساعدات لغزة

الخليج جانب من عملية تفريغ حمولة الطائرة السعودية الإغاثية في مطار العريش بمصر (واس)

الطائرة الإغاثية السعودية الـ77 تصل إلى العريش محمَّلة بالمساعدات لغزة

وصلت إلى مطار العريش الدولي بمصر، الأحد، الطائرة الإغاثية السعودية الـ77، حاملة على متنها سلالاً غذائية وحقائب إيوائية، تمهيداً لنقلها إلى المتضررين في غزة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
المشرق العربي مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا بشمال قطاع غزة (أ.ف.ب) play-circle

مستشفى العودة في غزة يعلّق معظم خدماته بسبب نقص الوقود

أعلن مستشفى العودة في النصيرات وسط قطاع غزة تعليق معظم خدماته «مؤقتاً» بسبب نقص الوقود، مع الإبقاء على الخدمات الأساسية فقط، مثل قسم الطوارئ.

«الشرق الأوسط» (غزة)
الخليج جانب من وصول القافلة الإغاثية السعودية إلى وسط قطاع غزة الخميس (واس)

قافلة إغاثية سعودية جديدة تصل إلى وسط قطاع غزة

وصلت إلى وسط قطاع غزة، الخميس، قافلة إغاثية سعودية جديدة، محمّلة بالمواد الغذائية الأساسية، مقدمة من مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي الدخان يتصاعد بعد انفجارات نفذها الجيش الإسرائيلي داخل الخط الأخضر شمال شرقي بيت لاهيا بغزة (أ.ف.ب) play-circle

الجيش الإسرائيلي يقتل فلسطينيين اثنين في غزة

كشف الجيش الإسرائيلي اليوم (الجمعة) أنه قتل فلسطينيين اثنين في قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
خاص فلسطينية تتلقى طعاماً من مطبخ خيري في دير البلح وسط غزة يوم الخميس (أ.ب) play-circle

خاص لأول مرة... عصابة مسلحة في غزة تجبر سكاناً على النزوح

للمرة الأولى؛ أجبرت مجموعة مسلحة تنشط شرق مدينة غزة قاطني مربع سكني في حي التفاح على النزوح، على إخلائه بالكامل، تحت تهديد السلاح، وبدعم إسرائيلي.

«الشرق الأوسط» (غزة)

تركيا تعلق آمالاً على «صداقة» ترمب لحل الملفات العالقة

ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)
ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)
TT

تركيا تعلق آمالاً على «صداقة» ترمب لحل الملفات العالقة

ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)
ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)

تبرز العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بوصفها واحدةً من أكثر العلاقات تعقيداً وتقلباً. فعلى الرغم من التحالف في إطار حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فإن البلدين يحرصان على إدارة هذه العلاقة وتسييرها من منظور براغماتي قائم على المصالح.

وبشكل عام، تشعر أنقرة بالارتياح مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بعد مضي عام من ولايته الثانية، التي شهدت ما يشبه «المراجعات» في كثير من القضايا الشائكة والملفات الحرجة المزمنة في العلاقات بين البلدين.

يعود ذلك إلى التصريحات المتكررة لترمب عن صداقته مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، و«إعجابه بذكائه» في كثير من القضايا، وفي مقدمتها تغيير النظام في سوريا.

هناك فرق جوهري ملحوظ بين إدارة ترمب وإدارة سلفه جو بايدن؛ إذ لا يبدي الأول أي حساسية تجاه أوجه القصور في الديمقراطية في تركيا، بعكس بايدن، الذي وصل إلى حد وصف إردوغان بـ«الديكتاتور»، وامتنع عن استضافته في البيت الأبيض على مدى 4 سنوات.

براغماتية ونهج حذر

لفتت إلى ذلك أستاذة العلوم السياسية التركية، دنيز تانسي، عادَّة أن الطرفين «يحاولان إيجاد أرضية مشتركة أوثق، وأن الولايات المتحدة تتصرف ببراغماتية في هذه المرحلة».

نأت واشنطن بنفسها عن اعتقال رئيس بلدية إسطنبول المعارض أكرم إمام أوغلو والاحتجاجات التي أعقبته (حزب الشعب الجمهوري - إكس)

وقدَّم مدير مركز الاقتصاد والسياسة الخارجية التركي، سنان أولغن، اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أبرز منافسي إردوغان على حكم تركيا، منذ 19 مارس (آذار) الماضي، وإحالته إلى المحاكمة بشبهات فساد وإغراقه بكثير من القضايا، وتجاهل الاحتجاجات الشعبية على ذلك من جانب واشنطن، مثالاً واضحاً على التغاضي عن وضع الديمقراطية في تركيا.

وقال: «إن هذا فرق كبير عن الفترة السابقة، على الأقل نرى أن النهج على أعلى المستويات أصبح أكثر إيجابية... التفاؤل الحذر هو الإطار الذي وضعته قنصل تركيا العام السابقة في لوس أنجليس، غولرو غيزر، للعلاقات التركية - الأميركية في ولاية ترمب الثانية، لافتة إلى أن العلاقات وصلت إلى أدنى مستوياتها خلال فترة بايدن، وأن الديمقراطية، والتحول الديمقراطي، ليسا ضمن أجندة ترمب السياسية، وأنها غائبة حتى في بلاده، ومن الصعب حصر هذا الأمر في علاقته بتركيا أو غيرها من الدول».

كانت قضية اعتقال طالبة الدكتوراه التركية، روميسا أوزتورك، في الولايات المتحدة في 25 مارس بتهمة المشاركة في أنشطة لدعم حركة «حماس» الفلسطينية، وامتناع أنقرة عن مناقشة القضية علناً، مثالاً ثانياً على محاولة تجنب الإضرار بالديناميكية الإيجابية التي بدأت مع ترمب في ولايته الثانية.

مراجعة الملفات العالقة

وعد ترمب بحل قضية حصول تركيا على مقاتلات «إف - 16»، والعودة إلى برنامج إنتاج وتطوير مقاتلات «إف - 35»، الذي أُخرجت منه في أواخر ولايته الأولى بعد حصولها على منظومة الدفاع الجوي الروسية «إس - 400»، صيف عام 2019، وقيامه في ديسمبر (كانون الأول) 2020 بفرض عقوبات على قطاع الصناعات الدفاعية التركي بموجب قانون مكافحة خصوم تركيا بالعقوبات (كاتسا).

فرض ترمب في 2020 عقوبات على تركيا بموجب قانون «كاتسا» (موقع الصناعات العسكرية التركية)

ومؤخراً، قال السفير الأميركي لدى تركيا المبعوث الخاص إلى سوريا، توماس برّاك، إنه سيتم حل الملفات الخلافية في العلاقات مع تركيا خلال فترة تتراوح بين 3 و4 أشهر، لكنه أبقى مسألة رفع عقوبات «كاتسا» وعودة تركيا إلى برنامج «إف - 35» رهن التخلص من منظومة «إس - 400»، وهو أمر شبه مستحيل بالنسبة لتركيا؛ بسبب شروط الصفقة الموقَّعة مع روسيا عام 2017.

وفجَّرت زيارة إردوغان الأولى للبيت الأبيض، منذ 6 سنوات، التي أجراها في 25 سبتمبر (أيلول) الماضي، انتقادات حادة من جانب المعارضة التركية؛ بسبب تصريحات أدلى بها براك عشية لقاء ترمب وإردوغان، قال فيها إن الأزمات التي ظلت عالقة لسنوات في العلاقات التركية - الأميركية، مثل حصول تركيا على منظومة «إس - 400» ومقاتلات «إف - 35» و«إف - 16»، تجب معالجتها من منظور «الشرعية»، وإن ترمب قال إنه سئم هذا، قائلاً: «فلنتخذ خطوةً جريئةً في علاقاتنا ونمنحه (إردوغان) ما يحتاج إليه».

السفير الأميركي لدى تركيا توماس برّاك (أ.ب)

وأضاف أنه عندما سأل ترمب عمّا يحتاج إليه إردوغان، أجاب بأنها «الشرعية»، وأن إردوغان شخص ذكي للغاية، والمسألة ليست الحدود مع سوريا (في إشارة إلى قلق تركيا من وجود مقاتلين أكراد على حدودها الجنوبية تدعمهم واشنطن)، أو منظومة «إس - 400»، أو طائرات «إف - 16»، المسألة هي الشرعية.

انتقادات من المعارضة

على خلفية هذه التصريحات، اتهم زعيم المعارضة التركية، رئيس حزب «الشعب الجمهوري» إردوغان بأنه «حوَّل تركيا من حليف استراتيجي لأميركا إلى عميل ثري يملأ جيوب ترمب بشراء 225 طائرة (بوينغ)، وتوقيع صفقة الغاز المسال وخفض الرسوم الجمركية على البضائع الأميركية، وتوقيع اتفاقية للطاقة النووية للأغراض المدنية دون الحصول على أي مقابل، إلا البحث عن شرعية في غياب حكم ديمقراطي في تركيا».

ترمب وإردوغان شهدا توقيع اتفاقية في مجال الطاقة النووية لأغراض مدنية 25 سبتمبر 2025 (الرئاسة التركية)

بدوره، عدّ رئيس حزب «النصر» القومي المعارض، أوميت أوزداغ، تصريح برّاك حول «الشرعية» إهانةً للأمة التركية، ولإردوغان، ورأى أن إشارة ترمب بإصبعه إلى إردوغان خلال لقائهما بالبيت الأبيض، قائلاً: «هذا الرجل يعرف الانتخابات المزورة أكثر من أي شخص آخر»، لم تكن من قبيل الصدفة وإنما لإثارة الجدل في تركيا وعلى الصعيد الدولي.

وانتقد أوزداغ تذكير ترمب مرة أخرى بقضية اعتقال القس الأميركي، أندرو برونسون، التي تسبب في أزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا عام 2018، خلال ولايته الأولى، عادّاً أنه انعدام للياقة الدبلوماسية؛ لأن الرأي العام التركي والعالمي يعلم أن قضية برونسون طُرحت مع رسالة مهينة لإردوغان من جانب ترمب.

جانب من مباحثات إردوغان وترمب بالبيت الأبيض في 25 سبتمبر 2025 (الرئاسة التركية)

وطالب رئيس حزب «الوطن» التركي ذو التوجه اليساري، دوغو برينتشيك، بطرد برّاك من أنقرة.

حاول براك إصلاح الأمر قائلاً، في تصريحات لوسائل إعلام تركية، لاحقاً، إن رئيسنا (ترمب) يثمّن عالياً جهود تركيا سواء لمصلحة أميركا أو في إطار «ناتو»، وإنه «يضع في مفهوم الشرعية معنى الاحترام».

بدوره، عدّ إردوغان موقف المعارضة تعبيراً عن «خيبة الأمل» ودليلاً على النجاح الكبير للزيارة.

ملفات دولية وإقليمية

على الرغم مما يبدو أنه حراك فعال على خط العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وتنسيق في كثير من الملفات الدولية والإقليمية، مثل الحرب الروسية - الأوكرانية، والأمن الأوروبي، والطاقة والقضايا المتعلقة بـ«ناتو»، إلى جانب الإشادة الأميركية بالدور التركي في سوريا، والتنسيق الفعال بشأن سوريا ومكافحة الإرهاب، يبدو أن الملفات الأساسية، وفي مقدمتها الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب (الكردية) التي تقود «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) لا تزال تراوح مكانها، بدافع من غياب الثقة المتبادلة حسب رؤية الخبراء، رغم التصريحات التي تشير إلى توجه أميركي لتحسين الوضع في الولاية الثانية لترمب عنها في الولاية الأولى.

تدريب مشترك بين القوات الأميركية و«قسد» في شمال شرقي سوريا (أرشيفية - أ.ف.ب)

في الملف السوري، أحد أهم الملفات الإقليمية التي شهدت تنسيقاً أميركياً - تركياً ملحوظاً في العام الأول من ولاية ترمب الثانية، دعت «وثيقة مشروع 2025»، التي تمثل جزءاً من رؤية ترمب للسياسة الخارجية في الشرق الأوسط، إلى إعادة التفكير في السياسة الأميركية تجاه الأكراد في المنطقة، عادة أن دعمهم قد يهدد المصالح الأميركية والإقليمية ويتعارض مع علاقتها بالحلفاء، مثل تركيا.

ولفتت الأكاديمية التركية، دنيز تانسي، إلى سعي ترمب وإدارته لمنع الصدام بين تركيا وإسرائيل في سوريا، وهو ما انعكس خلال لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض؛ إذ طالبه بحل مشكلاته مع تركيا، مبدياً استعداده للعمل على ذلك بحكم الصداقة التي تربطه بإردوغان.

إردوغان شارك باجتماع حول غزة دعا إليه ترمب على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025 (الرئاسة التركية)

أما على صعيد القضية الفلسطينية، فإن رؤية ترمب للدور التركي قائمة على تقدير التأثير الفعال لتركيا على «حماس» لصالح إسرائيل، لكنه لم يتمكن حتى الآن من كسر حدة موقف نتنياهو ورفضه مشاركة تركيا في قوة دولية مزمع نشرها في غزة، للسبب ذاته، وهو علاقة تركيا بـ«حماس»، ويشكل ذلك نقطة أخرى لاختبار تغير وجه العلاقات التركية - الأميركية في ظل ترمب.

في التحليل النهائي، تظل العلاقات التركية - الأميركية معقدة ومرهونة بالتفاهمات والصفقات البراغماتية في إطار تعاون تكتيكي في مجالات مثل الأمن والاقتصاد والتجارة ومكافحة الإرهاب، لكنها ستبقى فاقدة للشراكة الاستراتيجية الراسخة؛ بسبب التباينات في الرؤى حول القضايا الإقليمية.


مصر وترمب... تحالف استراتيجي على وقع اضطرابات إقليمية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
TT

مصر وترمب... تحالف استراتيجي على وقع اضطرابات إقليمية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)

بعد أشهر من التكهنات بشأن مستقبل العلاقات المصرية - الأميركية، وسط حديث متكرر عن بوادر «توتر وأزمة» بين القاهرة وواشنطن على خلفية تبني الرئيس دونالد ترمب مقترحاً لـ«تهجير» سكان غزة، الذي رفضه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وما تبع ذلك من تداعيات، جاء لقاء الرئيسين في شرم الشيخ وتوقيعهما اتفاق سلام بشأن غزة ليؤكد استمرار التحالف الاستراتيجي بين البلدين على وقع الاضطرابات الإقليمية.

وبينما شهدت بداية العام الأول من ولاية ترمب حديثاً إعلامياً عن إلغاء السيسي خطط زيارة لواشنطن، ينتهي العام بتكهنات عن اقتراب تنفيذ تلك الزيارة، رد الرئيس الأميركي عليها بقوله: «السيسي صديق لي، وسأكون سعيداً بلقائه أيضاً».

وحمل فوز ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية، نهاية العام الماضي، آمالاً مصرية بتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، عبَّر عنها السيسي، في منشور لتهنئة ترمب عبر حسابه الرسمي على موقع «إكس»، قال فيه: «نتطلع لأن نصل معاً لإحلال السلام، والحفاظ على السلم والاستقرار الإقليميَّين، وتعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية».

لكن طَرْحَ ترمب خطة لـ«تطهير غزة»، وتهجير سكانها إلى مصر والأردن، ألقى بظلاله على العلاقات بين البلدين، لا سيما مع إعلان القاهرة رفضها القاطع للتهجير، وحشدها دعماً دولياً لرفض الطرح الأميركي مع إعلانها مخططاً بديل لإعمار غزة، واستضافتها قمةً طارئةً بهذا الشأن في مارس (آذار) الماضي.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرحب بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي في البيت الأبيض (أرشيفية - رويترز)

القليل المعلن

ويرى ديفيد باتر، الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس»، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن الجانب اللافت في العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، على مدار العام الماضي، هو «انخفاض مستوى الجوانب العلنية»، فباستثناء «عرض ترمب» في شرم الشيخ، «لم يكن هناك كثير مما جرى، على الملأ».

في حين وصف عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية المصري، مدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة «كارنيغي»، العام الأول من ولاية ترمب الثانية، بأنه كان «عاماً صعباً فيما يتعلق بالعلاقات المصرية - الأميركية»، مشيراً في مقابلة مع «الشرق الأوسط» إلى أن «العام بدأ بحديث عن التهجير و(ريفييرا الشرق الأوسط)، لكن مصر بجهودها الدبلوماسية استطاعت تحويل المسار، لتحمل خطة ترمب للسلام إشارة إلى رفض التهجير، وحديث عن مسار أمني وسياسي لغزة، ومسار سياسي للقضية الفلسطينية كلها، وإن كان غير واضح».

وقال حمزاوي: «بدأ العام من نقطة صعبة، هي تطور طبيعي لموقف بايدن المتخاذل في غزة، حيث بدأ الحديث التهجير فعلياً في عهد بايدن، لكن بعد نحو عام من الجهد المصري السياسي والدبلوماسي وصلت الأمور لمعكوس البدايات، حيث أصبح التهجير غير مطروح على أجندة واشنطن، وإن ظل خطراً قائماً لا يمكن تجاهله».

تاريخياً «شكّلت مصر دولةً محوريةً بالنسبة للأمن القومي الأميركي، استناداً إلى موقعها الجغرافي، وثقلها الديمغرافي، ودورها الدبلوماسي»، بحسب تقرير نشرته أخيراً وحدة أبحاث الكونغرس الأميركي.

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة بمدينة شرم الشيخ المصرية في أكتوبر 2025 (أرشيفية - أ.ف.ب)

غزة... العقدة الأبرز

كان لحرب غزة دور في تشكيل العلاقات المصرية - الأميركية خلال العام الأول من ولاية ترمب، ودعمت واشنطن جهود الوساطة المصرية - القطرية لإيقاف الحرب. ووجَّه وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، الشكر للقاهرة بعد نجاحها في إقرار هدنة بين إسرائيل وحركة «حماس» في يناير (كانون الثاني) الماضي. لكن مع استئناف القتال مرة أخرى «وُضعت مصر في مواقف دبلوماسية معقّدة إزاء كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل؛ فبينما رفضت دعوة ترمب لإعادة توطين سكان غزة، فإن خطتها لإعادة إعمار غزة لم تحظَ بقبول من الولايات المتحدة أو إسرائيل. وتعرَّضت القاهرة لانتقادات من ترمب إثر امتناعها عن الانضمام إلى واشنطن في تنفيذ أعمال عسكرية ضد جماعة (الحوثي) اليمنية»، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس.

وأوضح الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس» أن «العلاقات المصرية مع إدارة ترمب شهدت توتراً على خلفية ملف غزة؛ حيث ألغى السيسي خططاً لزيارة واشنطن في مطلع العام، عقب إعلان ترمب عن (ريفييرا الشرق الأوسط)، ليقتصر التواصل بين الجانبين على الحد الأدنى».

لكن باتر يشير إلى أن «زيارة ترمب لشرم الشيخ وتوقيع (اتفاق غزة) والاحتفاء بنجاح خطته، كانت فرصة لإعادة ضبط العلاقات بين القاهرة وواشنطن»، لافتاً إلى أنه بالنسبة للوضع في غزة فإن «مصر أصبحت لاعباً رئيسياً لا غنى عنه لإدارة ترمب ولإنجاح خطته».

وقال حمزاوي: «إن غزة كانت الملف الأبرز في العام الأول لإدارة ترمب، ومنحت مصر فرصةً لاستعادة قراءة صانع القرار الأميركي والأوروبي لدورها وسيطاً رئيسياً لحل الصراع وتفعيل وتنفيذ الاتفاق، والانطلاق لمسارات سياسية»، لافتاً إلى أن «القاهرة استطاعت وضع رؤيتها للحل على الطاولة، فبدلاً من تعاقب المسارَين الأمني والسياسي في الطرح الأميركي، أصبح هناك توافق على توازي المسارات، وكذلك الأمر تحول من الحديث عن نزع السلاح إلى قبول فكرة حصر السلاح».

وطوال العام عوّلت مصر على ترمب لإنهاء الحرب في غزة، عبر بيانات وتصريحات رسمية عدة، ودخلت واشنطن بالفعل على خط الوساطة. وحثَّ السيسي نظيره الأميركي، في كلمة متلفزة في يوليو (تموز) الماضي على بذل الجهد لوقف الحرب بوصفه «قادراً على ذلك».

وتعد «مصر دولة لا غنى عنها في خطوات الاستجابة الدولية لحرب غزة، وإن ظلت شريكاً صعباً للولايات المتحدة وإسرائيل»، وفق ما كتبه الباحثان الأميركيان دانيال بيمان وجون ألترمان، في مقال مشترك نشرته «فورين بوليسي». وأوضح بيمان وألترمان أن «الحرب في غزة أعادت تسليط الأضواء الدبلوماسية تدريجياً على مصر، ومنحتها أوراق ضغط قوية».

بدورها، ترى سارة كيرة، مديرة المركز الأوروبي الشمال أفريقي للأبحاث، أن «وتيرة العلاقات المصرية - الأميركية في ظل إدارة ترمب في ولايته الثانية تختلف عن الأولى»، موضحة في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أن «ولاية ترمب الأولى شهدت توافقاً بين البلدين في ملفات عدة، وكانت هناك حفاوة من ترمب شخصياً بمصر وإدارتها للملفات المختلفة، لا سيما مكافحة الإرهاب، على عكس الولاية الثانية التي شهدت تباينات في المواقف».

هذه الخلافات في المواقف برزت في أبريل (نيسان) مع حديث ترمب عن «مرور مجاني لسفن بلاده التجارية والعسكرية في قناة السويس المصرية»، مقابل ما تبذله واشنطن من إجراءات لحماية الممر الملاحي.

إيجابية رغم التباين

تباين المواقف بشأن غزة لم يمنع من إشارات إيجابية في ملفات أخرى، ففي بداية العام قرَّرت وزارة الخارجية الأميركية تجميد التمويل الجديد لجميع برامج المساعدات الأميركية في مختلف أنحاء العالم، باستثناء برامج الغذاء الإنسانية، والمساعدات العسكرية لإسرائيل ومصر.

كما لم تدرج واشنطن مصر ضمن قائمة حظر السفر التي أصدرتها في يونيو (حزيران) الماضي، وبرَّر ترمب ذلك بأن «مصر دولة نتعامل معها من كثب. الأمور لديهم تحت السيطرة». واستُثنيت مصر أيضاً من زيادة رسوم الجمارك الأميركية. في وقت أكدت فيه مصر مراراً على «عمق ومتانة» العلاقات الاستراتيجية بين القاهرة وواشنطن.

وأشارت كيرة إلى أن «مصر ضغطت بكل ما أوتيت من قوة لتحقيق السلام وإيقاف الحرب على قطاع غزة، ونجحت في إقناع الجانب الأميركي برؤيتها حتى وصلت لتوقيع اتفاق سلام في شرم الشيخ». وقالت: «تعاملت الدولة المصرية ببراغماتية وذكاء، واستطاعت بفهمها لطبيعة شخصية ترمب وللمصالح الأميركية إقناع واشنطن برؤيتها».

وبينما يتعثر الوصول للمرحلة الثانية من اتفاق غزة، لا تزال مصر تعوّل على ترمب لإنجاح خطته، وتتواصل القاهرة مع واشنطن في هذا الشأن، كما تعمل معها على الإعداد لمؤتمر تمويل إعادة إعمار القطاع، الذي لا يبدو حتى الآن أن إدارة ترمب أعطته الزخم الكافي.

ولا يقتصر الحوار المصري - الأميركي على غزة، بل يمتد إلى عدد آخر من الملفات الإقليمية مثل ليبيا والسودان ولبنان وإيران، إضافة إلى الملفات المرتبطة بالأمن المائي، وعلى رأسها «سد النهضة» الإثيوبي الذي تخشى مصر أن يضر بحصتها من مياه النيل.

«سد النهضة» الإثيوبي (وكالة الأنباء الإثيوبية)

سد النهضة

في منتصف يونيو الماضي، أثار ترمب جدلاً في مصر بحديثه عبر منصته «تروث سوشيال» بأنَّ الولايات المتحدة «موَّلت بشكل غبي سد النهضة، الذي بنته إثيوبيا على النيل الأزرق، وأثار أزمةً دبلوماسيةً حادةً مع مصر». وفي أغسطس (آب) الماضي، أعلن «البيت الأبيض» قائمة نجاحات ترمب في إخماد حروب بالعالم، تضمَّنت اتفاقية مزعومة بين مصر وإثيوبيا بشأن «سد النهضة». وكرَّر ترمب مراراً حديثاً عن جهود إدارته في «حل أزمة السد الإثيوبي»، لكن هذا الحديث لم يترجم حتى الآن إلى جهود على الأرض.

وأشار حمزاوي إلى أن «هناك فرصة لتلعب واشنطن دور الوسيط لحل أزمة سد النهضة، والعودة للاتفاق الذي تمَّ في نهاية فترة ترمب الأولى». لكن تشارلز دن، الباحث في «المركز العربي واشنطن دي سي»، كتب في تقرير نُشر أخيراً، يقول: «إن موقف ترمب من السد الإثيوبي قد يمنح قدراً من الرضا للقاهرة، لكنه قد يفضي في الوقت نفسه إلى نتائج غير محمودة، في ظل عدم تبني واشنطن دور الوسيط في هذا الملف حتى الآن».

وكانت واشنطن قد استضافت جولة مفاوضات خلال ولاية ترمب الأولى عام 2020 بمشاركة البنك الدولي، بين مصر وإثيوبيا والسودان، لكنها لم تصل إلى اتفاق نهائي؛ بسبب رفض الجانب الإثيوبي التوقيع على مشروع الاتفاق.

قوات أميركية محمولة جواً خلال تدريبات النجم الساطع في مصر في سبتمبر 2025 (القيادة المركزية الأميركية)

علاقات عسكرية مستمرة

على صعيد العلاقات العسكرية، واصل التعاون بين الجانبين مساره المعتاد. ومنذ عام 1946، قدَّمت الولايات المتحدة لمصر نحو 90 مليار دولار من المساعدات، مع زيادة كبيرة في المساعدات العسكرية والاقتصادية بعد عام 1979، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس، التي أشارت إلى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تبرِّر ذلك بوصفه «استثماراً في الاستقرار الإقليمي».

وعلى مدى أكثر من عقد، وضع الكونغرس شروطاً متعلقة بحقوق الإنسان على جزء من المساعدات الموجَّهة لمصر. وخلال الأعوام المالية من 2020 إلى 2023، حجبت إدارة بايدن والكونغرس نحو 750 مليون دولار من التمويل العسكري لمصر، لكن الملحق الفني الأخير الذي قدَّمه ترمب لموازنة عام 2026، تضمّن طلباً بقيمة 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية لمصر، دون أي مشروطية، وفق وحدة أبحاث الكونغرس.

وهنا قال حمزاوي: «الإدارة الأميركية أبعد ما تكون عن وضع مشروطية على مصر، فالعلاقات بين البلدين مبنية على المصالح بين قوة كبرى، وأخرى وسيطة مؤثرة بإيجابية».

بالفعل، منذ حرب غزة، سرَّعت إدارتا بايدن وترمب وتيرة مبيعات الأسلحة الأميركية إلى مصر بشكل ملحوظ، وأخطرت وزارة الخارجية الكونغرس بمبيعات عسكرية لمصر بقيمة إجمالية بلغت 7.3 مليار دولار، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس. وفي يوليو الماضي أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) موافقة وزارة الخارجية، على صفقة بيع لمنظومة صواريخ متقدمة للدفاع الجوي إلى مصر، بقيمة تقدر بنحو 4.67 مليار دولار. كما استضافت مصر في سبتمبر (أيلول) الماضي مناورات «النجم الساطع».

وقالت كيرة: «العلاقات بين مصر وواشنطن تسير وفقاً لاعتبارات المصالح»، مؤكدة أن «القاهرة استطاعت تقديم نفسها لاعباً أساسياً في الإقليم». بينما أكد حمزاوي أن «مصر في مكان مركزي في تفكير الولايات المتحدة للشرق الأوسط، حيث تحتاج واشنطن إلى طيف من الحلفاء، ومصر في موقع القلب منه».


عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟