حروب اليوم التالي في غزة: تحديات الأمن والمجتمع والتعامل مع تركة «حماس»

مخاوف من مهام القوة الدولية ونطاق صلاحياتها

عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)
عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)
TT

حروب اليوم التالي في غزة: تحديات الأمن والمجتمع والتعامل مع تركة «حماس»

عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)
عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)

ما إن تم الإعلان عن توقف الحرب العسكرية والعمليات الإسرائيلية داخل قطاع غزة، حتى بات السكان يواجهون حروباً أصعب وبأوجه مختلفة، أشد صعوبةً وأكثر قسوةً أحياناً من آلة الحرب ذاتها.

وتنعكس الخروق الإسرائيلية المستمرة، والواقع السياسي وإمكانية تطبيق خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وما يشوبها من بعض العقبات، على ظروف الحروب المصغرة التي يعيشها سكان القطاع بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) 2025.

حرب بأوجه كثيرة

ويرى الكثير من الغزيين ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، أن الظروف الحياتية والاقتصادية اليومية في قطاع غزة، أصعب من الحرب العسكرية التي كانت دائرة على مدار عامين. ويقول المواطن ناجي المسحال (42 عاماً) من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، إن «حياة الطوابير باتت تلازمنا، من طوابير المياه، إلى طوابير التكيات، إلى طوابير المساعدات، كل هذه المشاهد ما زالت تلازم كل غزي».

ويشير المسحال، إلى أن أزمات المياه الصالحة للشرب والاستخدام الآدمي ما زالت كما هي من دون تغيير حقيقي؛ الأمر الذي ينعكس بشكل سلبي على الواقع البيئي والصحي ويتسبب بظهور الكثير من الأمراض، مثل الطفح الجلدي وغيره، كما حصل مع أحد أحفاده واثنين من أبنائه.

فتى يجرّ حاوية مياه بعد انتظار في طابور طزيل أمام خزان التزوّد بمياه نظيفة (أ.ف.ب)

ويضيف: «منذ وقف إطلاق النار، كنا نعتقد أن ظروفنا ستتغير، لكننا ما زلنا تحت تأثير الحرب كما وأنها لم تتوقف... نعاني نقص المياه والطعام، وازدياد الأمراض وانتشارها، وعدم توافر خيام يمكن أن تحمينا من فصل الشتاء على الأبواب، وكل ذلك بسبب عدم التزام إسرائيل بأي من بنود الاتفاق المعلن».

وتتلاحق الأزمات الحياتية من المياه، إلى الأسواق والبضائع التي باتت تتوافر حديثاً، لكن أسعارها باهظة لا يقوى عليها المواطن رباح كتكت من سكان مدينة رفح والنازح إلى مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، حاله، حال مئات الآلاف من سكان القطاع.

ويقول كتكت: «الدواجن واللحوم المجمدة والخضراوات والفاكهة وحتى الشوكولاتة وغيرها مما بات يُسمح بإدخاله لا يستطيع المواطن البسيط شراءه سوى بصعوبة بالغة بعد حرمان استمر عامين». وأشار كتكت إلى أن تلك السلع مخصصة لأصحاب الأموال الفائضة الذين يمكن وصفهم بأصحاب رؤوس الأموال من تجار ومسؤولين وغيرهم، لكن المواطنين البسطاء أو حتى الموظفين الحكوميين فبالكاد يستطيعون توفير بعض الخضراوات لعوائلهم.

ويؤكد كتكت أنه «لم يتغير شيء على حياة سكان قطاع غزة منذ وقف إطلاق النار»، في ظل غلاء الأسعار وعدم توافر البضائع باستمرار. ويقول: «لدي أسرة مكونة من 9 أفراد، لا يستطيع أي منا شراء دجاجة واحدة أو نصف كيلو لحم مجمد حتى نتناوله مثل البشر؛ لأن الأسعار باهظة».

ويتراوح ثمن كيلو الدواجن أو اللحوم من المجمدات التي يسمح بدخولها ما بين 60 و90 شيقلاً، أي ما يعادل 18 إلى 27 دولاراً، بينما كان كيلو الدواجن الطازجة قبيل الحرب يبلغ نحو دولارين، في حين كيلو اللحم الطازج 12 دولاراً، والمجمد 6 دولارات.

ويضيف كتكت: «قبل الحرب، كان لدينا أشغال وأعمال ونستطيع جمع الأموال، لكن حالياً الموظف وغير الموظف سواء، لا أحد منهما يستطيع شراء ما يلزمه وتلبية حاجات أسرته بالحد الأدنى قبل أن يبحث عن اللحوم أو الدواجن».

«حماس» تفرض الضرائب

يرى الشاب أحمد. غ، الذي فضَّل عدم كشف هويته، أن بقاء «حماس» في حكم غزة يعني بقاء القطاع تحت طائلة الأزمات، مشيراً إلى أن حكومتها «عادت لفرض بعض الضرائب على بعض السلع»؛ الأمر الذي دفع التجار إلى رفع أسعارها. وقال: «كان يجب على حكومة (حماس)، أن تشكرنا كمواطنين عايشنا أصعب الحروب في العالم على مدار عامين، وأن تقدّم لنا العون، لا أن تساعد على رفع الأسعار من خلال الإجراءات التي اتخذتها في الأسابيع القليلة الماضية»، في إشارة إلى الضرائب التي تم فرضها على بعض السلع الاستهلاكية.

وفي حين ينفي المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، أنه فرض أي ضرائب على أي من السلع، أكّد التجار أنه فُرضت ضرائب على بعض البضائع والسلع التي تم إدخالها إلى القطاع ومن بينها الدخان والمجمدات؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعارها.

عناصر مباحث التموين التابعة للشرطة الفلسطينية في غزة خلال حملة متابعة للأسواق في 17 مارس 2025 (الشرطة الفلسطينية)

وعلى سبيل المثال، كان سعر علبة الدخان قبل الحرب يتراوح حسب النوع، بين 8 و20 شيقلاً (أي بين 2 و6 دولارات)، بينما تضاعف خلال الحرب من دون ضرائب وإنما بسبب تهريبها بطرق مختلفة من قِبل التجار. أما بعد وقف إطلاق النار فانخفضت أسعارها، ثم عادت وارتفعت بشكل قياسي لتبلغ 40 شيقلاً أو أكثر بعد فرض الضرائب عليها.

ويقول أحد تجار الدخان لـ«الشرق الأوسط»، إنه خلال فترات الحرب كانت هناك طرق عدة للتهريب ولم تكن حكومة «حماس» قادرة على فرض الضرائب، لكن حالياً عادت لتفرضها؛ ما قلل قدرة المواطنين على الشراء، فعمد بعضهم إلى شراء سيجارة واحدة في اليوم فقط بدلاً من علبة كاملة.

«أونروا» والقطاعات الحيوية

لا تزال قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والخدمات البيئية والمياه تديرها بلديات وجهات حكومية تابعة لحركة «حماس»، في وقت تعاني غزة انقطاعاً مستمراً للكهرباء في ظل رفض إسرائيل إدخال الوقود لتشغيل محطة الكهرباء الوحيدة، بما يخالف اتفاق وقف إطلاق النار حسب الحركة.

جنود إسرائيليون أمام مقر رئاسة «أونروا» في قطاع غزة (أ.ف.ب)

وتتلقى الجهات الصحية والتعليمية والبلديات، دعماً مستمراً من جهات ومؤسسات دولية بهدف دعم القطاع المدني، والمساهمة في محاولة تقديم أقصى خدمة ممكنة من توفير الدواء والعلاج المناسب للمرضى والجرحى وغيرهم، إلى جانب محاولات إحياء التعليم من خلال فتح مدارس مؤقتة بعد تعطل استمر عامين. ذلك بالإضافة إلى دعم البلديات بالوقود لتشغيل آبار المياه التي دُمّرت معظمها، وتشغيل آليات هندسية مثل الجرافات لفتح الطرق العامّة المغلقة بفعل الدمار الكبير وردم المنازل، وسط رقابة شديدة من تلك المؤسسات لمنع وصول المساعدات إلى «حماس».

وتشرف المؤسسات الأممية على نقل المساعدات ومقوّمات الدعم من وقود وأدوية وكتب دراسية وخيام وغيرها عبر فرق تابعة لها تقوم بإيصالها للجهات المنفذة على الأرض، من دون نقل أموال؛ حتى لا تستحوذ عليها حركة «حماس» أو أي من المسؤولين الحكوميين أو الإداريين فيها.

ورغم المحاولات الإسرائيلية المستمرة لمنع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من أداء أي مهام داخل قطاع غزة، ومنعها من إدخال المساعدات، رغم أن لديها مخزوناً كبيراً منه يكفي لسد احتياجات السكان لأشهر عدة، لكن المؤسسات التابعة للمنظمة الأممية تحاول بشكل دائم تقديم خدماتها وإنْ بالحد الأدنى، من خلال ما ينقل إليها عبر مؤسسات أخرى تابعة للأمم المتحدة تزود «أونروا» ببعض المساعدات والدعم اللوجيستي من وقود وغيرها لتشغيل مركباتها وآلاتها الهندسية حسبما يسمح بدخوله من كميات وقود أو مساعدات طبية أو عينية.

أطفال فلسطينيون دون الثالثة يتلقون اللقاحات التي يقدمها «الهلال الأحمر» الفلسطيني و«يونيسف» في مركز صحي بمدينة غزة (أ.ب)

وكان المفوض العام للوكالة الأممية فيليب لازاريني، قال في مقالة له نشرت في صحيفة «الغارديان»، إن الأمم المتحدة، بما في ذلك «أونروا»، تمتلك الخبرة والموارد اللازمة لتلبية الاحتياجات الإنسانية الملحة بفاعلية وعلى نطاق واسع، لكن يجب أن يسمح لها بالعمل بحرية واستقلالية، دون قيود تعسفية وغير معقولة على دخول وحركة الإمدادات والأفراد.

ورصدت «الشرق الأوسط»، أن «أونروا» استأنفت أخيراً تقديم الخدمات الصحية عبر عياداتها للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة، كما استأنفت تقديم بعض المساعدات المحدودة غير المؤثرة مثل حفاضات الأطفال، في حين غابت عن دورها المركزي في توزيع المساعدات الغذائية الأساسية الأخرى مثل الطحين، وهو الأمر الذي كان يعتمد عليه السكان كثيراً خلال الحرب ومنذ عقود طويلة سابقة.

وقالت تمارا الرفاعي، مديرة العلاقات الخارجية والإعلامية في «أونروا»، خلال تصريحات صحافية، إن «أونروا» لم تتوقف عن العمل في غزة طوال فترة الحرب، وواصلت فرقها الطبية تقديم الخدمات بشكل مباشر وعن بعد، كما استمر مهندسوها في معالجة المياه والصرف الصحي، ونقل مياه الشرب النظيفة إلى الملاجئ.

وأضافت: «مع وجود 12000 موظف وموظفة على الأرض، تواصل (أونروا) إدارة الملاجئ والعيادات وتقديم الخدمات الأساسية، حتى في ظل إدارة الموظفين الدوليين للعمليات عن بعد بسبب الحظر الإسرائيلي».

الإعمار... أولى الأولويات

في ظل كل هذه التحديات، يبرز تحدي إعادة إعمار قطاع غزة، وهو أحد أهم أولويات السكان الفلسطينيين في ظل الوضع الصعب الذي يعيشونه بعد تدمير أكثر من 80 في المائة من منازل القطاع وبناياته.

صورة ملتقطة بالأقمار الاصطناعية تظهر حجم الدمار وأعمال حفرٍ في موقع عسكري إسرائيلي شرق مدينة غزة (رويترز)

المواطنة ريهام أبو شاربين من سكان مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تواجه تحدياً خطيراً مع قدوم فصل الشتاء، بعد أن دمرت طائرات حربية إسرائيلية منزلها.

تشتكي أبو شاربين من نقص الخيام والشوادر والمواد الإغاثية التي قد تسهم في إنقاذها خلال فصل الشتاء، كما هو حال أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني فقدوا أي مأوى لهم.

وتقول أبو شاربين إنها كانت تتوقع أن تدخل الخيام الجيدة التي يمكن أن تحميها وأسرتها من فصل شتاء قاسٍ يتوقع أن يبدأ في الأيام المقبلة، معربةً عن خشيتها بغرق الخيمة المؤقتة التي تعيش فيها وهي من «القماش» الذي بالكاد يستطيع حمايتهم من أشعة الشمس. وتضيف: «التفكير يقتلنا يومياً كيف سنقضي الشتاء، كما يقتلنا يومياً كيف سنبقى في هذه الحياة والظروف الصعبة التي لا يتحملها بشر؟».

فتيات فلسطينيات يلعبن خارج مخيم أقامته اللجنة المصرية في النصيرات، في غزة (أ.ف.ب)

وتربط إسرائيل، إعادة إعمار القطاع، بنزع سلاح «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى، وتخليها عن حكم القطاع بشكل كامل، في حين تحاول الإدارة الأميركية السعي لبدء إعادة الإعمار في المناطق التي تقع تحت السيطرة الإسرائيلية بشكل أساسي وليس في المناطق التي ما زالت تحكمها «حماس» وتمثل نحو 50 في المائة من مساحة القطاع، وهو ما رفضه غالبية وزراء المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابنيت)، في الأيام الأخيرة خلال جلسة بُحثت فيها هذه القضية بعد أن طرحها رئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو.

المواطن أحمد كلاب (57 عاماً) من سكان مخيم الشاطئ، دُمّر منزله مرتين خلال عقد من الزمن. المرة الأولى في حرب 2014، ثم عادت القوات الإسرائيلية ودمّرته في الحرب الأخيرة قبل أكثر من عام، وهو أحد المتضررين من الرؤية الإسرائيلية – الأميركية لعملية إعادة الإعمار، كما يقول لـ«الشرق الأوسط».

فلسطينيون يسيرون بالقرب من مبانٍ مدمرة في مدينة غزة وسط وقف إطلاق نار بين إسرائيل و«حماس» (إ.ب.أ)

ويرى كلاب، أنه في حال طُبق ما نشر في وسائل الإعلام عن نية إعادة البناء فقط في المناطق الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، فذلك يعني فقدان الأمل بإعادة بناء منازلنا والتي عانينا كثيراً حتى أعدنا بناءها بعد حرب 2014.

وقال: «كان من الواضح منذ البداية أن هناك حالة ابتزاز مستمرة للفلسطينيين، وكل شيء مرتبط برحيل (حماس) وتسليم سلاحها، ولكن يبدو أن الحركة ترفض ذلك، ومن يدفع الثمن نحن المدنيين الذين لا علاقة لنا بكل الوضع الذي نحن فيه، سوى أننا مجرد خسائر تكتيكية كما يراها البعض». في انتقاد واضح لتصريحات رئيس حركة «حماس» في الخارج، وعضو مكتبها السياسي خالد مشعل، في خطاب له ألقاه في شهر أكتوبر 2024.

طفلان يراقبان دفن جثامين لفلسطينيين مجهولي الهوية أعادتهم إسرائيل، في مقبرة جماعية بدير البلح وسط غزة (إ.ب.أ)

ونقلت صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية، عن المبعوث الأميركي جاريد كوشنر في محادثات داخلية جرت خلال الأيام القليلة الماضية، وكشف عنها مساء الثلاثاء الماضي أن إعادة إعمار القطاع في الجانب الغربي للخط الأصفر لن تبدأ قبل أن يتم تفكيك «حماس» من سلاحها كلياً.

تحديات الأمن والأمان

يأتي هذا الواقع الصعب، مع استمرار التحديات الأمنية المتلاحقة التي لا تنتهي، سواء بفعل الخروق الإسرائيلية، أو مع تردي الوضع الأمني الداخلي في بعض المناطق، ومواصلة الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة «حماس» في محاولة إعادة ترتيب صفوفها.

عناصر من «حماس» يحرسون منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة (أ.ف.ب)

وتؤكد مصادر لـ«الشرق الأوسط»، أن هناك اجتماعات تُعقد باستمرار لمحاولة ضبط الوضع الأمني من خلال تعيينات وإصدار تعليمات أمنية مشددة لضبط الوضع، مشيرةً إلى أن التركيز هو على «ملاحقة المتعاونين مع إسرائيل»، بينما تجري محاولات موازية لضبط الأسواق والأسعار وتحسين الخدمات الحكومية المختلفة.

وهناك من يرى أن «حماس» غير قادرة على التعامل مع بعض القضايا الجنائية مثل عمليات القتل العشوائي والسرقات، وغيرها من الثغرات الأمنية اليومية. واشتكت مواطنة تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، من أنها لم تجد معيناً يقف معها بعدما سرق أحد أقاربها مصاغها من الذهب. وعلى رغم معرفتها بالسارق وتقديم شكوى ضده، فإن الشرطة التابعة لـ«حماس» لم تقدم لها العون في اعتقاله أو التحقيق معه؛ ما تركها فريسةً لحالة الفلتان الأمني.

مقاتلو «كتائب القسام» إلى جانب عمال «الصليب الأحمر» خلال البحث عن جثث رهائن إسرائيليين في مدينة غزة (إ.ب.أ)

وقُتلت قبل أيام سيدة في وضح النهار بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، أثناء تجولها في السوق المركزية للمدينة، وعلى بعد عشرات الأمتار من انتشار عناصر شرطة «حماس»، ليتبين أن قاتلها هو ابن زوجها، من سيدة أخرى، في حين فر من المكان دون أن تقوم الشرطة باعتقاله.

ومن الأمثلة الصارخة عن حالة الفلتان الأمني، قيام عناصر مسلحة بإيقاف مركبة تابعة للهلال الأحمر التركي في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، وسرقة المركبة وهواتف وأموال كانت بحوزة العناصر في المركبة قبل الاعتداء عليهم.

وبينما كانت غالبية سكان قطاع غزة تأمل رؤية جهة جديدة تحكم القطاع في أعقاب الحرب، اصطدموا ببقاء الواقع السابق على حاله؛ الأمر الذي زاد من مخاوفهم بعدم الشعور بالأمن والأمان. وقالت الشابة نيرمين الفار (28 عاماً) من سكان مدينة غزة، نحن نريد جهة فلسطينية تحكمنا لتحقق لنا معيشة جيدة تتناسب مع آدمية أي إنسان في هذا الكوكب، وليس بقاء جهات حكمتنا لسنوات وحولت حكمها لخدمة مصالحها الحزبية السياسية من دون التفات لمعاناة السكان.

عناصر من «حماس» يتوجهون إلى مدينة غزة بمرافقة الصليب الأحمر الدولي للبحث عن جثث الرهائن (أ ب)

ويخشى معارضو «حماس» من عودة الاعتقالات في أوساطهم والتعرض لهم بسبب الانتقادات التي وجهوها للحركة خلال الحرب؛ الأمر الذي انعكس بوضوح في حالة مقتل الأسير المحرر هشام الصفطاوي، من نشطاء حركة «فتح»، على يد عناصر من «حماس» اقتحموا منزله في مخيم النصيرات وسط القطاع، كما قالت عائلته. وذلك إلى جانب حالات قتل أخرى لأشخاص اتُهموا بأنهم يعملون لصالح إسرائيل، من دون أن يخضعوا لمحاكمات قانونية.

وقال المواطن (م.أ) من سكان حي الشجاعية بمدينة غزة مفضلاً عدم ذكر اسمه لأسباب تتعلق بأمنه الشخصي، إن عودة عمليات القتل وإطلاق النار وسرقة المساعدات من قِبل مجهولين، تشير بشكل واضح إلى أن «حماس» ليست قادرة على ضبط الأمن بشكل كامل كما كان الوضع سابقاً قبل الحرب، مشيراً إلى أن بعض المواطنين قُتلوا بسبب معارضتهم الحرب على أيدي مسلحين والاتهامات كانت توجه للحركة، بينما قُتل آخرون في ظروف مختلفة.

«أبو شباب» وآخرون

ما زالت قوى أمن حكومة «حماس» تحافظ على وجودها النسبي وانتشارها في الكثير من المناطق، وبدأت بمعالجة بعض القضايا الجنائية، في حين أنها لا تسيطر على بعض المناطق التي ما زالت موجودة فيها القوات الإسرائيلية، أو وضعتها الأخيرة في عهدة بعض المجموعات المسلحة التي تصفها «حماس» بـ«عصابات» تخدم إسرائيل، مثل مجموعات «ياسر أبو شباب» شرق رفح، أو حسام الأسطل جنوب خان يونس، أو رامي حلس شرق مدينة غزة، وغيرها من الأسماء التي برزت في الفترة الأخيرة.

أعضاء مجموعة أبو شباب كما ظهروا في مقطع فيديو سابق (وسائل إعلام إسرائيلية)

وسعت هذه المجموعات إلى أن تشكل تحدياً لحركة «حماس» وحكمها في قطاع غزة، لكنها فشلت في تحقيق إنجازات حقيقية على الأرض، رغم أنها في بعض الفترات حاولت استغلال وجودها وحمايتها من قِبل إسرائيل لتنفيذ عمليات ضد نشطاء من «حماس» أو مراكز حكومية مثل المستشفيات أو غيرها، لتظهر وجودها وقوتها، فإنها في كل مرة كانت تصطدم بمقاومة من مسلحين يتبعون للحركة، كما أنهم تعرَّضوا لكمائن وقُتل الكثير من أفرادها.

وتوقف نشاط تلك المجموعات المسلحة بشكل كبير داخل المناطق التي كانت تسيطر عليها حركة «حماس»، واكتفت بتمركزها داخل المناطق التي توجد فيها، حيث تعرضت لثلاث هجمات من قِبل عناصر الحركة منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر الماضي؛ ما أدى إلى مقتل وإصابة بعضهم في حين تمت السيطرة على أسلحة ومركبات تابعة لهم.

ولا يعرف كيف سيتم التعامل مع قضية نزع سلاح «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى، وهي مهمة ستكون صعبة في ظل الخلافات بشأنها، في وقت يأمل الغزيون أن يتم الاتفاق بشأنها من دون أي خلافات قد تعيد الأوضاع للمربع الذي كانت عليه، وتستخدم إسرائيل ذلك ذريعة للعودة الحرب.

آفاق القوة الدولية

يأتي ذلك في وقت ما زالت تحاول فيه الولايات المتحدة التوصل إلى اتفاق بشأن صياغة مشروع أمام مجلس الأمن يسمح بتشكيل قوة دولية للعمل في قطاع غزة، وسط خلافات واضحة على المستويين العربي والإسلامي بشأن إمكانية المشاركة في هذه القوة من عدمه، خاصةً وأن مهامها ومسماها غير واضح، فيما إذا كانت قوة إنفاذ ستطبق خطة ترمب بالقوة، أم أنها خطة لمراقبة وقف إطلاق النار؟

وتسعى «حماس» والفصائل الفلسطينية، عبر الوسطاء للضغط على الولايات المتحدة، لتحديد واضح لمهام هذه القوة، كما تؤكد مصادر من الحركة لـ«الشرق الأوسط».

ويخشى السكان في قطاع غزة من أن تكون مهام هذه القوة أكبر بكثير مما هو معلن، وأن تسمح لبقاء القوات الإسرائيلية داخل القطاع، واحتلال أجزاء منه، أو أن يكون لها مهام خفية تتعلق بالبقاء في غزة لسنوات طويلة لنزعها من أن تكون تحكم حكم فلسطيني في المستقبل القريب ونزعها من هويتها الحقيقية. ويقول المواطن فادي البكري (45 عاماً) من سكان مدينة غزة، إن وجود مثل هذه القوة داخل القطاع، قد يكون له آثار سلبية على حياة المواطنين، ولا يحقق لهم حقهم في الأمن والأمان، وهذا قد يؤدي إلى وقوع أحداث أمنية خطيرة نتيجة تشابك عناصر المقاومة ونشطائها مع تلك القوات في حال كان من مهامها نزع سلاح المقاومة.

في حين يقول الشاب مجد ياسين (31 عاماً) من سكان خان يونس جنوب قطاع غزة، إن أي قوة دولية لا تريد ضمان تطبيق وقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل، وإعادة الأمن، وتوفير حياة ملائمة للسكان من خلال مساعدة جهة فلسطينية تحكم القطاع، فإنه غير مرحب بها، ووجودها سيكون بمثابة خطر كبير على كل مواطن.

الأمل في حكومة موحدة

يأمل السكان في أن تكون هناك حكومة فلسطينية موحدة تدير شؤونهم وتهتم بقضاياهم، خاصةً ملف الإعمار وتقديم الخدمات الإغاثية لهم، والحفاظ على أمنهم بعد وقف إطلاق النار، من دون أن يسمح لمجموعات مسلحة بالسيطرة على حياتهم.

حملة تنظيف طرقات وشوارع أطلقها سكان غزة وبلديّتها ومنظمات أهلية بعنوان "نعمّرها ثاني" في منتصف نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

ويكرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورئيس وزرائه محمد مصطفى، التصريحات التي تؤكد على استعداد السلطة الفلسطينية لتولي مسؤولياتها الكاملة في قطاع غزة.

ويقول الغزي عاصم الغزالي (39 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، إن السكان يرغبون في عودة السلطة الفلسطينية لكي تعينهم على تخطي أزمات الحرب التي عاشوها على مدار عامين، وأن يكون هناك قانون واحد يساوي بينهم ويحكمهم.

وأضاف: «نحن نعيش بعد وقف إطلاق النار، حرباً أقسى من الحرب العسكرية، وآن الأوان لأن يتغير الحال للأفضل».

ويقول الشاب عمر البحيصي (24 عاماً) من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، إن الظروف التي عاشها كشاب بلا أي مستقبل، يريد ويطمح لأن يكون هناك جهة تحكم الجميع وتحقق الأمن والأمان، وتعيد بناء ما دمر، وأن تبني مستقبلاً للجيل الشاب، وكذلك للأطفال الذين أضاعت الحرب مستقبلهم التعليمي، وهم أشد الفئات التي في حاجة إلى الدعم النفسي والمجتمعي بعد هذه الحرب القاسية.

في حين يرى صديقه الشاب حسن أبو عيشة، أن مستقبله كخريج هندسة، يكمن في الهجرة خارج قطاع غزة، من أجل بناء مستقبله، والبحث عن عمل مناسب، يساعده على النجاة وتأسيس عائلة.

سيدة فلسطينية تجلس قرب خيمتها عند الشاطىء في دير البلح (أ.ف.ب)

ويقول أبو عيشة: «عشنا حياة صعبة وشديدة طوال عامين من الحرب، وحان الوقت لأن تتاح لنا فرصة البحث عن مستقبل جديد لنا»، مشيراً إلى أنه يفضل الهجرة حلاً فردياً وليس بكونها قراراً مفروضاً من إسرائيل وأميركا لنقل سكان القطاع إلى دول ثالثة بهدف التخلص منهم.


مقالات ذات صلة

قبيلة «الترابين»: مقتل «أبو شباب» يمثل «نهاية صفحة سوداء» في غزة

المشرق العربي ياسر أبو شباب (وسائل التواصل) play-circle

قبيلة «الترابين»: مقتل «أبو شباب» يمثل «نهاية صفحة سوداء» في غزة

أكدت قبيلة «الترابين» في قطاع غزة وقوف أبنائها دائماً في صف شعبهم الفلسطيني وقضيته العادلة، ورفضهم تماماً «أي محاولة لزج اسم القبيلة في مسارات لا تمثل تاريخها».

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي دخان يتصاعد بعد الغارات الإسرائيلية شرق مدينة غزة (أ.ف.ب) play-circle 00:36

مقتل 6 فلسطينيين في غارات إسرائيلية على جنوب غزة

قتل 6 فلسطينيين وأصيب آخرون مساء أمس الأربعاء، في غارات إسرائيلية على جنوب قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي الدخان يتصاعد بعد الغارات الإسرائيلية شرق مدينة غزة (أ.ف.ب)

إصابة 4 جنود إسرائيليين في اشتباك مع مقاتلين خرجوا من نفق برفح

أعلن الجيش الإسرائيلي اليوم الأربعاء، أن أربعة جنود أصيبوا في اشتباكات مع مسلحين خرجوا من أحد الأنفاق في شرق رفح بجنوب قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية مسلحون من حركتي «حماس» و«الجهاد» يعثرون على جثة خلال عملية البحث عن جثث الرهائن القتلى في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (رويترز)

إسرائيل تتسلّم جثمان رهينة عبر الصليب الأحمر من غزة

أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اليوم الأربعاء، أن تل أبيب تسلمت عبر الصليب الأحمر، نعش أحد الرهائن كان جثمانه في قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة - تل أبيب)
شؤون إقليمية وصول سيارة تحمل رفات شخص تقول «حماس» إنه رهينة متوفى تم تسليمه في وقت سابق اليوم من قبل مسلحين في غزة إلى السلطات الإسرائيلية إلى معهد للطب الشرعي في تل أبيب... إسرائيل 2 ديسمبر 2025 (أ.ب)

إسرائيل تعلن تسلّم بقايا جثمان رهينة كان محتجزاً في غزة

قالت الشرطة الإسرائيلية، اليوم (الثلاثاء)، إنها تسلّمت بقايا جثمان إحدى الرهينتين المتبقيتين في قطاع غزة قبل نقله إلى معهد الطب الشرعي قرب تل أبيب للتعرف عليه.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب - غزة)

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.