تركيا تبحث نموذجاً لنزع أسلحة «الكردستاني»: كيف تتغلب على الخلافات والمصاعب؟

خبراء أكدوا لـ«الشرق الأوسط» ضرورة بناء الثقة ووضع قوانين تسهل الحل

قامت مجموعة من قيادات وعناصر حزب «العمال الكردستاني» بإلقاء السلاح في مراسم رمزية في السليمانية في شمال العراق في 11 يوليو الماضي تأكيداً للمضي في تنفيذ دعوة عبد الله أوجلان لحل الحزب (رويترز)
قامت مجموعة من قيادات وعناصر حزب «العمال الكردستاني» بإلقاء السلاح في مراسم رمزية في السليمانية في شمال العراق في 11 يوليو الماضي تأكيداً للمضي في تنفيذ دعوة عبد الله أوجلان لحل الحزب (رويترز)
TT

تركيا تبحث نموذجاً لنزع أسلحة «الكردستاني»: كيف تتغلب على الخلافات والمصاعب؟

قامت مجموعة من قيادات وعناصر حزب «العمال الكردستاني» بإلقاء السلاح في مراسم رمزية في السليمانية في شمال العراق في 11 يوليو الماضي تأكيداً للمضي في تنفيذ دعوة عبد الله أوجلان لحل الحزب (رويترز)
قامت مجموعة من قيادات وعناصر حزب «العمال الكردستاني» بإلقاء السلاح في مراسم رمزية في السليمانية في شمال العراق في 11 يوليو الماضي تأكيداً للمضي في تنفيذ دعوة عبد الله أوجلان لحل الحزب (رويترز)

توشك لجنة «التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية» التي شكّلها البرلمان التركي لوضع الأساس القانوني لنزع أسلحة حزب «العمال الكردستاني» على الانتهاء من عملها بحسب الإطار الزمني المحدد بنهاية شهر سبتمبر (أيلول) الحالي، بينما لا يزال البحث جارياً عن نموذج صالح لتحقيق هذه الخطوة.

المهمة الأساسية للجنة، التي تشكلت في 5 أغسطس (آب) الماضي من 51 عضواً من أحزاب البرلمان على أساس عدد مقاعد كل حزب، هي: «الإشراف على عملية نزع السلاح ومراقبتها» بحسب رئيس البرلمان، نعمان كورتولموش الذي يترأس اللجنة أيضاً.

يعود البرلمان من عطلته الصيفية في الأول من أكتوبر (تشرين الأول)، لتنطلق أعمال دورته التشريعية الجديدة، ويفترض أن تكون اللجنة أعدت حتى هذا الموعد اقتراحات بتعديلات على بعض القوانين المتعلقة بالأساس بعملية نزع أسلحة «العمال الكردستاني»، وطريقة تسليمها، أو التخلص منها، وتنظيم عودة عناصره من غير المتورطين في الجرائم، وإلى أين ستذهب كوادره القيادية بعد مغادرة جبل قنديل في شمال العراق.

لكن، ومع بقاء أيام قليلة على افتتاح الدورة الجديدة للبرلمان، لا يزال النقاش دائراً حول النموذج الذي ستتبعه تركيا لحل حزب «العمال الكردستاني»، ونزع أسلحته، ولا يزال هناك تباعد كبير بين رؤية الدولة ورؤية الأكراد بشأن القوانين التي على أساسها سيتم نزع الأسلحة، وأي الخطوتين تسبق الأخرى.

ترصد «الشرق الأوسط» هنا الأجواء التي تحيط بعمل اللجنة البرلمانية، ورؤية كل جانب، ورؤية الأكاديميين والحقوقيين لكيفية سير «عملية السلام الداخلي» التي بدأت فعلياً بالدعوة التي أطلقها زعيم حزب «العمال الكردستاني» السجين في تركيا، عبد الله أوجلان، لحل الحزب، ونزع أسلحته في 27 فبراير (شباط) الماضي استجابة لمبادرة «تركيا خالية من الإرهاب»، التي أطلقها «تحالف الشعب»، المؤلف من حزبي «العدالة والتنمية» الحاكم و«الحركة القومية».

بحث عن نموذج خاص

كرر رئيس البرلمان نعمان كورتولموش التأكيد على مهمة اللجنة، وهي الإشراف على عملية نزع أسلحة «العمال الكردستاني»، ومراقبتها نيابةً عن الأمة، واتخاذ الخطوات اللازمة لتطبيق اللوائح القانونية التي تتطلبها، مع ضمان التوافق المجتمعي.

وقال كورتولموش إن اللجنة تدرس نماذج حل النزاعات في مناطق مختلفة، من أميركا اللاتينية إلى آسيا، ومن أفريقيا إلى أوروبا، وإن «ما نسعى إليه حالياً هو تقديم نموذج تركي عبر تحليل مفصل لمفاوضات السلام، والخطوات المتخذة فيما يتعلق بحل النزاعات، لكننا ندرك أيضاً أن ما نقوم به هو تقديم نموذج فريد وناجح يضع تركيا ضمن الأدبيات العالمية لتحقيق السلام، ويسجل اسمها في تاريخ الديمقراطية».

رئيس البرلمان التركي نعمان كورتولموش متحدثاً في افتتاح إحدى جلسات اللجنة البرلمانية لنزع أسلحة "الكردستاني" (موقع البرلمان)

وأكد كورتولموش، خلال افتتاحه الاجتماع العاشر للجنة الأربعاء الماضي، أن «من أهم القضايا أن تُعلن (المنظمة الإرهابية) (العمال الكردستاني) فوراً نزع سلاحها الكامل، وأن تستجيب، بكل عناصرها، لدعوة إيمرالي (في إشارة إلى أوجلان). هذا سيمهد الطريق، ويطمئن السياسة التركية لاتخاذ الخطوات اللازمة».

استعرضت اللجنة، خلال ذلك الاجتماع، نموذج حل الصراع الذي استمر لمدة 40 عاماً بين جبهة «مورو» الإسلامية للتحرر وحكومة الفلبين، والتي انتهت بتوقيع اتفاق شامل في 27 مارس (آذار) 2014، قامت الجبهة بموجبه بتسليم أسلحتها إلى طرف ثالث، تم الاتفاق بشأنه مع الحكومة، وتم الاستماع إلى السفيرين التركيين السابقين، فاتح أولوصوي، وحسين أوروتش، اللذين عملا وسيطين في إنهاء الصراع في الفلبين.

وسبق أن أكد مسؤولون أتراك أن تركيا ستتوصل، بناء على دراسة نماذج في أنحاء العالم لحل المنظمات الإرهابية والمسلحة، إلى نموذجها الخاص فيما يتعلق بنزع أسلحة «العمال الكردستاني»، وذلك بعد أن أعلنت قياداته في جبل قنديل في شمال العراق الاستجابة لدعوة أوجلان، التي أطلقها في 27 فبراير الماضي لحل الحزب، وإلقاء أسلحته.

عائلات كردية في ديار بكر تتجمع أسبوعياً عند المقر الإقليمي لحزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» المؤيد للأكراد للمطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم المختطفين من جانب حزب «العمال الكردستاني» (أ.ف.ب)

تعليقاً على مناقشات اللجنة، وما ذهب إليه كورتولموش، رأى الكاتب المتخصص في تحليل القضية الكردية في تركيا، ألب أصلان أوزرديم، أن تركيا تتمتع بفرصة تاريخية لحل نزاعها بنفسها، والمساهمة بنموذج فريد في أدبيات السلام العالمية، وأن هذا النموذج يجب أن يستفيد من الثراء الثقافي التركي، مع الحفاظ على الوفاء بالمعايير العالمية للديمقراطية، وحقوق الإنسان.

وعد أوزرديم في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن نموذج السلام الفريد في تركيا لا ينبغي أن يكون مجرد شعار، بل رؤية لنهج شامل ومستدام يمزج قيم السلام العالمية مع ديناميكيات تركيا الاجتماعية والثقافية والتاريخية، مضيفاً أن «المستقبل الذي نتصوره بعد صمت المدافع سيحدد نجاح هذا النموذج».

ولفت إلى أن جهود السلام العالمية اتبعت في الغالب، حتى الآن، أساليب غربية التوجه، وكثيراً ما فشلت النماذج التي تتجاهل الديناميكيات المحلية، ولذلك فإن على تركيا عند وضع نموذجها الخاص أن تُراعي معنى السلام في الحياة اليومية للناس، ويجب أن يكون إنهاء الصراع أكثر من مجرد «مشروع»، بل يجب أن يتطور إلى رؤية لـ«سلام يومي» لا يقتصر على المفاوضات على الطاولة، بل يتغلغل في صميم المجتمع.

وأوضح أن لعمليات السلام معايير عالمية هي: التفاوض، وتدابير بناء الثقة، ونزع السلاح، وآليات العدالة، والمصالحة الاجتماعية، إلا أن هذه المبادئ وحدها لا تكفي، ولا بد من وضع رؤية ملموسة، وخريطة طريق لما بعد السلام، لأنه في بيئة لا تُلبّى فيها التوقعات الاجتماعية، ولا تُعالج فيها المظالم، ولا تُعزّز فيها المؤسسات، يُمكن أن تعود ديناميكيات الصراع بسهولة.

خلاف عميق

يحيط خلاف عميق بعمل اللجنة البرلمانية، يتعلق بما يجب أن يأتي أولاً: نزع الأسلحة، أم القوانين التي تنظم هذه العملية، وتشجع عليها، وتضمن إتمامها، وتقديم الضمانات لمن يتخلون عن أسلحتهم، ووضع السجناء السياسيين، والحقوق الديمقراطية للأكراد.

عبر كبير مستشاري الرئيس التركي للشؤون القانونية، محمد أوتشوم، عن وجهة نظر مفادها بأن عمل لجنة «التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية» ينبغي أن يتم على 3 مراحل من أجل الانتقال إلى «تركيا خالية من الإرهاب»، هي: إجراء أنشطة الاستماع، واقتراح قوانين لتسيير المرحلة الانتقالية، ووضع تقرير يتضمن منظوراً للنهوض بالديمقراطية.

ورهن أوتشوم، في بيان عبر حسابه في «إكس» الأحد، المرحلة الثانية المتعلقة باقتراح القوانين بالتأكيد العملي على نزع الأسلحة بشكل نهائي، لافتاً إلى أن اللجنة قد تأخذ في الاعتبار في تقاريرها التجارب السابقة، وعملية الحل (2013–2015)، ومنها تقرير لجنة التحقيق التابعة للبرلمان الذي أُعد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، والتقارير التي أعدتها لجنة الحكماء.

ورد رئيس نقابة المحامين السابق في مدينة ديار بكر، كبرى مدن جنوب شرقي تركيا ذات الأغلبية الكردية، محمد أمين أكتار على بيان أوتشوم، الذي أشار فيه إلى أنه يجب على حزب «العمال الكردستاني» نزع أسلحته أولاً حتى تبدأ عملية وضع اللوائح القانونية، متسائلاً: «يقولون إنه يجب نزع الأسلحة، ثم سنغيّر القوانين. أين سينزعون أسلحتهم؟ وماذا سيحدث لمن ينزعون الأسلحة؟ هل سيتم اقتيادهم، والزج بهم في السجون؟».

زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان أطلق في 27 فبراير الماضي نداء لحل الحزب وإلقاء أسلحته من محبسه في سجن إيمرالي (إ.ب.أ)

وقال إن «عملية السلام لا يمكن أن تنجح إلا بسن قوانين جديدة، أولاً: يجب سن القانون، ثم إلقاء الأسلحة»، لافتاً إلى أن الدولة عرفت القضية بأنها «إرهاب» فقط، وأعلنت أن هدفها الأساسي هو نزع أسلحة حزب «العمال الكردستاني».

وأضاف أكتار: «منذ البداية، اختلف الأكراد والدولة في وصف هذه العملية، يأمل الأكراد عموماً أن نتوصل إلى حل خلال هذه العملية، لكن الدولة تنظر إليها بشكل مختلف، يقول مسؤولو حزب (العدالة والتنمية) الحاكم إن القضية ببساطة هي نزع سلاح حزب (العمال الكردستاني)، والقضاء عليه».

مطالب كردية

وشدد أكتار على ضرورة توفير الضمانات القانونية، وسن قانون يمنع معاقبة من يسلم سلاحه، أو التحقيق معه، عاداً أنه من دون مثل هذا القانون لن يكون هناك أمل، ولا ثقة في المجتمع.

وأضاف أكتار أنه بالنسبة لمن شاركوا في العمل المسلح، يمكنهم إسقاط القضايا عن الذين بقوا في الخارج لمدة 5 إلى 10 سنوات، ولم يرتكبوا أي جريمة.

وتابع أنه يمكن انطلاقاً من روح الأخوة إطلاق سراح السجناء السياسيين، وتنفيذ أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن الإفراج عن السياسي الكردي صلاح الدين دميرطاش، وباقي النواب والسياسيين المعتقلين.

عناصر من حزب «العمال الكردستاني» أثناء تجميع أسلحتهم لإحراقها في مراسم رمزية أقيمت في السليمانية في 11 يوليو الماضي استجابة لدعوة أوجلان (أ.ف.ب)

وقال

أكتار: «يرى المجتمع الكردي أن الدولة لم تتخذ أي خطوات ملموسة حتى الآن، وهناك تعريف فضفاض للإرهاب في تركيا لدرجة يصعب وصفها، حتى رقصة الهالاي يُمكن اعتبارها عملاً إرهابياً، حضور جنازة، أو مجلس عزاء، أو النشر على مواقع التواصل الاجتماعي، كل ذلك يندرج تحت بند الإرهاب، مهما قال أو تصرّف الأكراد، فإن الدولة تتهمهم بالإرهاب، وتُجرّمهم، لذلك يجب أولاً استئصال هذه العقلية، وتوضيح القوانين».

واقترح إنشاء لجنة تقصي حقائق للتحقيق في الجرائم المرتكبة في الماضي، والتي لم يتم التوصل إلى مرتكبيها، قائلاً إن المتحدث باسم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، عمر تشيليك، يقول إن «الهدف ببساطة هو نزع أسلحة (العمال الكردستاني)، ألقوا أسلحتكم، وسنترك الأكراد وشأنهم».

وأضاف أكتار: «هذا أمر غير مقبول، يجب إنشاء لجنة تقصي حقائق للتحقيق في إحراق 4 آلاف قرية في جنوب شرقي البلاد، وآلاف جرائم القتل التي لم تُحل، هل من الممكن تحقيق العدالة في هذه القضايا أم لا؟».

الدستور واللغة الكردية

وعن إصرار حزب «الحركة القومية»، الشريك الأساسي لحزب «العدالة والتنمية» في «تحالف الشعب» على الحفاظ على المواد الأربع الأولى من الدستور، رأى أكتار أنه يمكن إجراء العديد من الإصلاحات المهمة لمنح الأكراد حقوقهم دون تغييرها.

وأوضح أنه يمكن جعل اللغة الكردية لغة التعليم، فهذه المواد تنص على أن «اللغة الرسمية للبلاد هي التركية»، لكنها لا تنص على أن «لغة التعليم هي التركية» دائماً، كما يمكن زيادة صلاحيات الحكومات المحلية.

طلب رئيس البرلمان نعمان كورتولموش خلال جلسة لأمهات ضحايا الصراع مع «العمال الكردستاني» عدم الحديث باللغة الكردية (موقع البرلمان التركي)

وتساءل أكتار: «كيف يمكن أن نتحدث عن حل ديمقراطي للمشكلة الكردية، وعن تحقيق السلام والتضامن، بينما منع رئيس البرلمان «أمهات السلام» (أمهات ضحايا الصراع مع «العمال الكردستاني») من الحديث بلغتهم الأم داخل اجتماع لجنة (التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية) المعنية بتقديم اقتراحات الحل؟».

بدورها، ذهبت المتحدثة باسم لجنة اللغة والثقافة والفنون في حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب»، المؤيد للأكراد والذي يتولى الاتصالات بين الحكومة والبرلمان والأحزاب وأوجلان، جميلة تورهالي، إلى ضرورة الاعتراف بمكانة الأكراد، وضمان هذه المكانة في جميع جوانب الدستور والقوانين الأخرى، وأن تستمع اللجنة إلى آراء مختلف شرائح المجتمع في هذا الصدد.

وقالت إن حزبها عقد اجتماعات مع ممثلي 43 مؤسسة معنية باللغة في ديار بكر لمناقشة مطالبهم المتعلقة بتحديد مكانة للغة الكردية، والتعليم بلغتهم الأم، وسينقل ممثلو الحزب في اللجنة البرلمانية مقترحاتهم إلى البرلمان.

وقالت إن هناك ما لا يقل عن 25 مليون كردي في تركيا، لكن للأسف لا يتمتعون بأي وضع قانوني، سواء من حيث استخدام اللغة، أو العيش بحرية في إطار ثقافتهم، فضلاً عن انعدام حرية التعبير.

وأضافت أن «مكانة اللغة هي مكانة الأكراد، فإذا منحت مكانة للغة وللثقافة، فإنها تعد بمثابة مكانة للأمة نفسها... هدفنا الأساسي، بالطبع، هو الاعتراف بمكانة الأكراد، وضمان هذه المكانة في جميع القوانين الأخرى، بدءاً من الدستور».

مرحلة مختلفة

من جانبه، رأى أستاذ القانون، دنيز أولكه كايناك، أن هناك الآن مرحلة مختلفة عن العملية السابقة للسلام الداخلي عام 2013، وأن وضعاً ومشهداً استراتيجياً جديدين يتشكلان في الشرق الأوسط، وأن الأمر لا يمكن حله من خلال الإجراءات المتخذة داخل تركيا، فالقضية لها أبعاد دبلوماسية وعسكرية واقتصادية، وتحتاج إلى تقييم من جوانب متعددة.

وأوضح أنه لا ينبغي تعريف القضية بأنها «قضية كردية»، ففي تركيا لا يمكن منح الديمقراطية أو الحقوق للأكراد تحديداً، لا يمكن منح أي كردي أي شيء لمجرد كونه كردياً، أو لعلوي لمجرد كونه علوياً، لكن يجب منحهم جميعاً حقوقهم الكاملة لمجرد أنهم مواطنون في جمهورية تركيا.

وأضاف: «يجب أن نطالب بالديمقراطية وحقوق الإنسان في جميع أنحاء تركيا لجميع المواطنين، وإذا أردنا السلام، فعلينا أن نسعى إلى السلام في المنطقة بأكملها».

واتفقت الأكاديمية، إسراء تشوهادار، مع ما ذهب إليه الكاتب ألب أصلان أوزرديم، مشددة على الأهمية الحاسمة لبناء الثقة، وأن من أهم العوامل التي تضمن نجاح عمليات السلام قدرتها على توليد الرضا الاجتماعي، وأن مشاركة الجهات المجتمعية الفاعلة في العملية الجارية الآن في تركيا هي أمر بالغ الأهمية، لضمان شرعيتها، والحد من تأثير الجهات التي قد تسعى لتخريبها.

اللجنة البرلمانية استمعت إلى آراء أكاديميين حول النموذج الذي يمكن تطبيقه لنزع أسلحة «العمال الكردستاني» (البرلمان التركي - إكس)

وذهبت الدكتورة سيفتاب يوكوش خازندار أوغلو، التي شاركت في جلسات اللجنة البرلمانية، إلى أن السلام يتطلب تطوير منظور يتجاوز الحسابات السياسية، والسياسات الحالية، وأن تغيير العقلية التي تم التعامل بها مع المشكلة حتى الآن، وتوافر الإرادة السياسية القوية والحازمة، مع تجنب الخطوط الحمراء هي أمور بالغة الأهمية.

ورأت أن التدابير القانونية لعملية نزع أسلحة حزب «العمال الكردستاني» يمكن أن تبدأ من إتاحة إمكانية إطلاق سراح السجناء، والمُدانين السياسيين بقانون تنفيذ التدابير الأمنية، وعلى المديين المتوسط ​​والطويل يمكن ضمان التنفيذ الفعلي لمطلب استقلالية الحكومات المحلية.

وأضافت أنه يمكن التصديق على بروتوكول لمنع جميع أشكال التمييز، واعتباره وسيلةً لإلغاء المواد التي قد تؤدي إلى التمييز، والتهميش.

تجمع المئات في إحدى ساحات ديار بكر في جنوب شرقي تركيا لمشاهدة نداء أوجلان لحل «العمال الكردستاني» في 27 فبراير عبر شاشة عملاقة في الميدان الرئيس في المدينة (أ.ف.ب)

بدورها، رأت أستاذة القانون، عائشة بتول تشيليك، أن وقف الصراع وسقوط الضحايا هما الخطوة الأولى في عمليات السلام، وأن الأمن تعطى له الأولوية في هذه العمليات، لكنها أكدت أنه لا ينبغي أن يقتصر الأمر على ذلك، ولا بد من ضمان حق العودة لعناصر حزب «العمال الكردستاني»، وتحسين النسيج الاجتماعي، والعلاقات بين مختلف الفئات، مع أهمية توضيح المكاسب المحتملة للسلام للمجتمع، وللفئات المقاومة.

واقترحت إطلاق مبادرة مماثلة لعمل لجنة الحكماء التي تم تشكيلها خلال فترة عملية السلام السابقة في 2013، مع التأكيد على ضرورة ضمان سلامة وأمن من سيتركون السلاح، وضمان مكانتهم في المجتمع، وقالت إنه عندما يتخذ أحد الطرفين خطوة لبناء الثقة، يجب على الطرف الآخر أن يبادله بالمثل، فالثقة تُبنى على طول الطريق.

بناء الثقة

وشدد الأكاديمي وهاب جوشكون، وهو أحد الذين شاركوا في جلسة الاستماع الخاصة بوضع نموذج لحل منظمة حزب «العمال الكردستاني» ونزع أسلحته، على ضرورة تعزيز ثقة الأطراف من خلال تدابير بناء الثقة، ومنع الشعور بأن الحل يفيد طرفاً، ويتسبب في خسارة طرف آخر، وتطوير رؤية مفادها بأن الحل سيفيد الجميع، واستخدام لغة بناءة وحاسمة تراعي الحساسيات.

وأشار إلى أن إحدى المهام الرئيسة للجنة البرلمانية يجب أن تكون إعداد مشروع قانون من شأنه القضاء التام على الأسلحة. على أن تتم صياغته بنهج يُمكّن أعضاء «العمال الكردستاني» من نزع أسلحتهم، ويشجع عودتهم إلى الحياة الاجتماعية، ويراعي النظام العام، ويؤدي إلى شعور المجتمع بالعدالة، ويحمي حقوق الضحايا عبر وضع آليات شفافة، وقابلة للتقييم.

لا يزال مصير مسلحي «العمال الكردستاني» ممن سيلقون أسلحتهم مجهولاً ويطالب حقوقيون بوضع تشريعات تمنح حق العودة لمن لم يتورط منهم في الجرائم (أ.ب)

وأضاف أنه ينبغي وقف التحقيقات، والملاحقات القضائية المتعلقة بحزب «العمال الكردستاني»، وتنفيذ برامج مثل التعليم، والرعاية الصحية، والتدريب المهني، والدعم النفسي والاجتماعي، والإسكان، ودعم الدخل لتسريع الاندماج الاجتماعي، ووضع تدابير خاصة للنساء، والأطفال، وأعضاء المنظمة المرضى، مع تطبيق القانون لفترة محددة، وليس إلى أجل غير مسمى، ومراقبة تطبيقه، والإشراف عليه، ويمكن تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق.

وحدد أن مشروع القانون يمكن أن يشمل 4 فئات هي: أعضاء حزب «العمال الكردستاني» الذين لم يُحاكَموا أو يُحقَّق معهم، والمُدانون في قضايا مُتعلقة بالحزب، والمُسجونون في القضايا، والمقيمون في الخارج على خلفية قضايا مُتعلقة بالحزب.

وذكر أنه يمكن منح رئيس الجمهورية صلاحيات عامة لاتخاذ التدابير اللازمة في مجالات السياسة، والقانون، والاقتصاد الاجتماعي، وعلم النفس، والثقافة، وحقوق الإنسان، والأمن، ونزع السلاح، والمسائل ذات الصلة.

ولفت جوشكون إلى قانون القضاء على الإرهاب وتعزيز التكامل الاجتماعي الذي صيغ خلال عملية السلام السابقة في 2013، والذي تضمن مادة تمنح الرئيس هذه الصلاحيات.


مقالات ذات صلة

كوريا الشمالية: اتفاق سيول وواشنطن بشأن الغواصات سيسبب «تأثير الدومينو» نووياً

آسيا نقطة حراسة عسكرية كورية شمالية (في الأعلى) وأخرى كورية جنوبية (في الأسفل) على الحدود بين الجارتين (أ.ب) play-circle

كوريا الشمالية: اتفاق سيول وواشنطن بشأن الغواصات سيسبب «تأثير الدومينو» نووياً

نددت كوريا الشمالية باتفاق بين سيول وواشنطن لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية. وقالت، الثلاثاء، إن الاتفاق من شأنه أن يسبب «تأثير الدومينو على الصعيد النووي».

«الشرق الأوسط» (سيول)
الولايات المتحدة​ متظاهرون موالون للرئيس الأميركي دونالد ترمب يخترقون حاجز الشرطة في مبنى «الكابيتول» بواشنطن 6 يناير 2021 (أ.ب)

ترمب يعفو عن أحد منفّذي «هجوم الكابيتول» في يناير 2021

عفا الرئيس الأميركي دونالد ترمب مجدداً عن أحد المشاركين في الهجوم على مبنى «الكابيتول» في واشنطن خلال السادس من يناير (كانون الثاني) 2021.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا قاطرة ترافق الفرقاطة الفرنسية «فينديميير» لدى وصولها إلى ميناء في مانيلا الكبرى بالفلبين (رويترز - أرشيفية)

اليونان تتجه لاقتناء فرقاطة فرنسية رابعة من الجيل الجديد

أعلنت مجموعة «نافال غروب» الفرنسية، الاثنين، أن اليونان طلبت فرقاطة دفاع وتدخّل رابعة من الجيل الجديد، في إطار برنامج أُطلق عام 2022.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا عناصر من الشرطة الدنماركية بعد إغلاق حركة المرور في مطار كوبنهاغن بسبب تقارير عن طائرات مُسيَّرة يوم 22 سبتمبر 2025 (رويترز)

الدنمارك تغلق مطاراً بعد إنذار بتحليق مُسيَّرات

أُغلق مطار ألبورغ في شمال الدنمارك لساعات عدة، مساء الأحد، بعد إنذار بتحليق طائرات مُسيَّرة في المجال الجوي المجاور، حسبما أعلنت سلطات المطار.

«الشرق الأوسط» (كوبنهاغن)
شؤون إقليمية أعلن «حزب العمال الكردستاني» الاثنين سحب مسلحيه من منطقة زاب شمال العراق في خطوة جديدة لدفع عملية السلام بتركيا (رويترز)

«العمال الكردستاني» ينفّذ انسحاباً جديداً لدفع «السلام» في تركيا

أعلن «حزب العمال الكردستاني» سحب مسلحيه من منطقة زاب الحدودية في شمال العراق لتجنب خطر نشوب صراع محتمل وإعطاء دفعة أخرى لعملية السلام في تركيا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

حروب اليوم التالي في غزة: تحديات الأمن والمجتمع والتعامل مع تركة «حماس»

عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)
عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)
TT

حروب اليوم التالي في غزة: تحديات الأمن والمجتمع والتعامل مع تركة «حماس»

عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)
عودة سوق السمك أول مؤشرات وقف إطلاق النار وعودة الحياة إلى مرفأ غزة (رويترز)

ما إن تم الإعلان عن توقف الحرب العسكرية والعمليات الإسرائيلية داخل قطاع غزة، حتى بات السكان يواجهون حروباً أصعب وبأوجه مختلفة، أشد صعوبةً وأكثر قسوةً أحياناً من آلة الحرب ذاتها.

وتنعكس الخروق الإسرائيلية المستمرة، والواقع السياسي وإمكانية تطبيق خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وما يشوبها من بعض العقبات، على ظروف الحروب المصغرة التي يعيشها سكان القطاع بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) 2025.

حرب بأوجه كثيرة

ويرى الكثير من الغزيين ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، أن الظروف الحياتية والاقتصادية اليومية في قطاع غزة، أصعب من الحرب العسكرية التي كانت دائرة على مدار عامين. ويقول المواطن ناجي المسحال (42 عاماً) من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، إن «حياة الطوابير باتت تلازمنا، من طوابير المياه، إلى طوابير التكيات، إلى طوابير المساعدات، كل هذه المشاهد ما زالت تلازم كل غزي».

ويشير المسحال، إلى أن أزمات المياه الصالحة للشرب والاستخدام الآدمي ما زالت كما هي من دون تغيير حقيقي؛ الأمر الذي ينعكس بشكل سلبي على الواقع البيئي والصحي ويتسبب بظهور الكثير من الأمراض، مثل الطفح الجلدي وغيره، كما حصل مع أحد أحفاده واثنين من أبنائه.

فتى يجرّ حاوية مياه بعد انتظار في طابور طزيل أمام خزان التزوّد بمياه نظيفة (أ.ف.ب)

ويضيف: «منذ وقف إطلاق النار، كنا نعتقد أن ظروفنا ستتغير، لكننا ما زلنا تحت تأثير الحرب كما وأنها لم تتوقف... نعاني نقص المياه والطعام، وازدياد الأمراض وانتشارها، وعدم توافر خيام يمكن أن تحمينا من فصل الشتاء على الأبواب، وكل ذلك بسبب عدم التزام إسرائيل بأي من بنود الاتفاق المعلن».

وتتلاحق الأزمات الحياتية من المياه، إلى الأسواق والبضائع التي باتت تتوافر حديثاً، لكن أسعارها باهظة لا يقوى عليها المواطن رباح كتكت من سكان مدينة رفح والنازح إلى مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، حاله، حال مئات الآلاف من سكان القطاع.

ويقول كتكت: «الدواجن واللحوم المجمدة والخضراوات والفاكهة وحتى الشوكولاتة وغيرها مما بات يُسمح بإدخاله لا يستطيع المواطن البسيط شراءه سوى بصعوبة بالغة بعد حرمان استمر عامين». وأشار كتكت إلى أن تلك السلع مخصصة لأصحاب الأموال الفائضة الذين يمكن وصفهم بأصحاب رؤوس الأموال من تجار ومسؤولين وغيرهم، لكن المواطنين البسطاء أو حتى الموظفين الحكوميين فبالكاد يستطيعون توفير بعض الخضراوات لعوائلهم.

ويؤكد كتكت أنه «لم يتغير شيء على حياة سكان قطاع غزة منذ وقف إطلاق النار»، في ظل غلاء الأسعار وعدم توافر البضائع باستمرار. ويقول: «لدي أسرة مكونة من 9 أفراد، لا يستطيع أي منا شراء دجاجة واحدة أو نصف كيلو لحم مجمد حتى نتناوله مثل البشر؛ لأن الأسعار باهظة».

ويتراوح ثمن كيلو الدواجن أو اللحوم من المجمدات التي يسمح بدخولها ما بين 60 و90 شيقلاً، أي ما يعادل 18 إلى 27 دولاراً، بينما كان كيلو الدواجن الطازجة قبيل الحرب يبلغ نحو دولارين، في حين كيلو اللحم الطازج 12 دولاراً، والمجمد 6 دولارات.

ويضيف كتكت: «قبل الحرب، كان لدينا أشغال وأعمال ونستطيع جمع الأموال، لكن حالياً الموظف وغير الموظف سواء، لا أحد منهما يستطيع شراء ما يلزمه وتلبية حاجات أسرته بالحد الأدنى قبل أن يبحث عن اللحوم أو الدواجن».

«حماس» تفرض الضرائب

يرى الشاب أحمد. غ، الذي فضَّل عدم كشف هويته، أن بقاء «حماس» في حكم غزة يعني بقاء القطاع تحت طائلة الأزمات، مشيراً إلى أن حكومتها «عادت لفرض بعض الضرائب على بعض السلع»؛ الأمر الذي دفع التجار إلى رفع أسعارها. وقال: «كان يجب على حكومة (حماس)، أن تشكرنا كمواطنين عايشنا أصعب الحروب في العالم على مدار عامين، وأن تقدّم لنا العون، لا أن تساعد على رفع الأسعار من خلال الإجراءات التي اتخذتها في الأسابيع القليلة الماضية»، في إشارة إلى الضرائب التي تم فرضها على بعض السلع الاستهلاكية.

وفي حين ينفي المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، أنه فرض أي ضرائب على أي من السلع، أكّد التجار أنه فُرضت ضرائب على بعض البضائع والسلع التي تم إدخالها إلى القطاع ومن بينها الدخان والمجمدات؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعارها.

عناصر مباحث التموين التابعة للشرطة الفلسطينية في غزة خلال حملة متابعة للأسواق في 17 مارس 2025 (الشرطة الفلسطينية)

وعلى سبيل المثال، كان سعر علبة الدخان قبل الحرب يتراوح حسب النوع، بين 8 و20 شيقلاً (أي بين 2 و6 دولارات)، بينما تضاعف خلال الحرب من دون ضرائب وإنما بسبب تهريبها بطرق مختلفة من قِبل التجار. أما بعد وقف إطلاق النار فانخفضت أسعارها، ثم عادت وارتفعت بشكل قياسي لتبلغ 40 شيقلاً أو أكثر بعد فرض الضرائب عليها.

ويقول أحد تجار الدخان لـ«الشرق الأوسط»، إنه خلال فترات الحرب كانت هناك طرق عدة للتهريب ولم تكن حكومة «حماس» قادرة على فرض الضرائب، لكن حالياً عادت لتفرضها؛ ما قلل قدرة المواطنين على الشراء، فعمد بعضهم إلى شراء سيجارة واحدة في اليوم فقط بدلاً من علبة كاملة.

«أونروا» والقطاعات الحيوية

لا تزال قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والخدمات البيئية والمياه تديرها بلديات وجهات حكومية تابعة لحركة «حماس»، في وقت تعاني غزة انقطاعاً مستمراً للكهرباء في ظل رفض إسرائيل إدخال الوقود لتشغيل محطة الكهرباء الوحيدة، بما يخالف اتفاق وقف إطلاق النار حسب الحركة.

جنود إسرائيليون أمام مقر رئاسة «أونروا» في قطاع غزة (أ.ف.ب)

وتتلقى الجهات الصحية والتعليمية والبلديات، دعماً مستمراً من جهات ومؤسسات دولية بهدف دعم القطاع المدني، والمساهمة في محاولة تقديم أقصى خدمة ممكنة من توفير الدواء والعلاج المناسب للمرضى والجرحى وغيرهم، إلى جانب محاولات إحياء التعليم من خلال فتح مدارس مؤقتة بعد تعطل استمر عامين. ذلك بالإضافة إلى دعم البلديات بالوقود لتشغيل آبار المياه التي دُمّرت معظمها، وتشغيل آليات هندسية مثل الجرافات لفتح الطرق العامّة المغلقة بفعل الدمار الكبير وردم المنازل، وسط رقابة شديدة من تلك المؤسسات لمنع وصول المساعدات إلى «حماس».

وتشرف المؤسسات الأممية على نقل المساعدات ومقوّمات الدعم من وقود وأدوية وكتب دراسية وخيام وغيرها عبر فرق تابعة لها تقوم بإيصالها للجهات المنفذة على الأرض، من دون نقل أموال؛ حتى لا تستحوذ عليها حركة «حماس» أو أي من المسؤولين الحكوميين أو الإداريين فيها.

ورغم المحاولات الإسرائيلية المستمرة لمنع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من أداء أي مهام داخل قطاع غزة، ومنعها من إدخال المساعدات، رغم أن لديها مخزوناً كبيراً منه يكفي لسد احتياجات السكان لأشهر عدة، لكن المؤسسات التابعة للمنظمة الأممية تحاول بشكل دائم تقديم خدماتها وإنْ بالحد الأدنى، من خلال ما ينقل إليها عبر مؤسسات أخرى تابعة للأمم المتحدة تزود «أونروا» ببعض المساعدات والدعم اللوجيستي من وقود وغيرها لتشغيل مركباتها وآلاتها الهندسية حسبما يسمح بدخوله من كميات وقود أو مساعدات طبية أو عينية.

أطفال فلسطينيون دون الثالثة يتلقون اللقاحات التي يقدمها «الهلال الأحمر» الفلسطيني و«يونيسف» في مركز صحي بمدينة غزة (أ.ب)

وكان المفوض العام للوكالة الأممية فيليب لازاريني، قال في مقالة له نشرت في صحيفة «الغارديان»، إن الأمم المتحدة، بما في ذلك «أونروا»، تمتلك الخبرة والموارد اللازمة لتلبية الاحتياجات الإنسانية الملحة بفاعلية وعلى نطاق واسع، لكن يجب أن يسمح لها بالعمل بحرية واستقلالية، دون قيود تعسفية وغير معقولة على دخول وحركة الإمدادات والأفراد.

ورصدت «الشرق الأوسط»، أن «أونروا» استأنفت أخيراً تقديم الخدمات الصحية عبر عياداتها للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة، كما استأنفت تقديم بعض المساعدات المحدودة غير المؤثرة مثل حفاضات الأطفال، في حين غابت عن دورها المركزي في توزيع المساعدات الغذائية الأساسية الأخرى مثل الطحين، وهو الأمر الذي كان يعتمد عليه السكان كثيراً خلال الحرب ومنذ عقود طويلة سابقة.

وقالت تمارا الرفاعي، مديرة العلاقات الخارجية والإعلامية في «أونروا»، خلال تصريحات صحافية، إن «أونروا» لم تتوقف عن العمل في غزة طوال فترة الحرب، وواصلت فرقها الطبية تقديم الخدمات بشكل مباشر وعن بعد، كما استمر مهندسوها في معالجة المياه والصرف الصحي، ونقل مياه الشرب النظيفة إلى الملاجئ.

وأضافت: «مع وجود 12000 موظف وموظفة على الأرض، تواصل (أونروا) إدارة الملاجئ والعيادات وتقديم الخدمات الأساسية، حتى في ظل إدارة الموظفين الدوليين للعمليات عن بعد بسبب الحظر الإسرائيلي».

الإعمار... أولى الأولويات

في ظل كل هذه التحديات، يبرز تحدي إعادة إعمار قطاع غزة، وهو أحد أهم أولويات السكان الفلسطينيين في ظل الوضع الصعب الذي يعيشونه بعد تدمير أكثر من 80 في المائة من منازل القطاع وبناياته.

صورة ملتقطة بالأقمار الاصطناعية تظهر حجم الدمار وأعمال حفرٍ في موقع عسكري إسرائيلي شرق مدينة غزة (رويترز)

المواطنة ريهام أبو شاربين من سكان مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تواجه تحدياً خطيراً مع قدوم فصل الشتاء، بعد أن دمرت طائرات حربية إسرائيلية منزلها.

تشتكي أبو شاربين من نقص الخيام والشوادر والمواد الإغاثية التي قد تسهم في إنقاذها خلال فصل الشتاء، كما هو حال أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني فقدوا أي مأوى لهم.

وتقول أبو شاربين إنها كانت تتوقع أن تدخل الخيام الجيدة التي يمكن أن تحميها وأسرتها من فصل شتاء قاسٍ يتوقع أن يبدأ في الأيام المقبلة، معربةً عن خشيتها بغرق الخيمة المؤقتة التي تعيش فيها وهي من «القماش» الذي بالكاد يستطيع حمايتهم من أشعة الشمس. وتضيف: «التفكير يقتلنا يومياً كيف سنقضي الشتاء، كما يقتلنا يومياً كيف سنبقى في هذه الحياة والظروف الصعبة التي لا يتحملها بشر؟».

فتيات فلسطينيات يلعبن خارج مخيم أقامته اللجنة المصرية في النصيرات، في غزة (أ.ف.ب)

وتربط إسرائيل، إعادة إعمار القطاع، بنزع سلاح «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى، وتخليها عن حكم القطاع بشكل كامل، في حين تحاول الإدارة الأميركية السعي لبدء إعادة الإعمار في المناطق التي تقع تحت السيطرة الإسرائيلية بشكل أساسي وليس في المناطق التي ما زالت تحكمها «حماس» وتمثل نحو 50 في المائة من مساحة القطاع، وهو ما رفضه غالبية وزراء المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابنيت)، في الأيام الأخيرة خلال جلسة بُحثت فيها هذه القضية بعد أن طرحها رئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو.

المواطن أحمد كلاب (57 عاماً) من سكان مخيم الشاطئ، دُمّر منزله مرتين خلال عقد من الزمن. المرة الأولى في حرب 2014، ثم عادت القوات الإسرائيلية ودمّرته في الحرب الأخيرة قبل أكثر من عام، وهو أحد المتضررين من الرؤية الإسرائيلية – الأميركية لعملية إعادة الإعمار، كما يقول لـ«الشرق الأوسط».

فلسطينيون يسيرون بالقرب من مبانٍ مدمرة في مدينة غزة وسط وقف إطلاق نار بين إسرائيل و«حماس» (إ.ب.أ)

ويرى كلاب، أنه في حال طُبق ما نشر في وسائل الإعلام عن نية إعادة البناء فقط في المناطق الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، فذلك يعني فقدان الأمل بإعادة بناء منازلنا والتي عانينا كثيراً حتى أعدنا بناءها بعد حرب 2014.

وقال: «كان من الواضح منذ البداية أن هناك حالة ابتزاز مستمرة للفلسطينيين، وكل شيء مرتبط برحيل (حماس) وتسليم سلاحها، ولكن يبدو أن الحركة ترفض ذلك، ومن يدفع الثمن نحن المدنيين الذين لا علاقة لنا بكل الوضع الذي نحن فيه، سوى أننا مجرد خسائر تكتيكية كما يراها البعض». في انتقاد واضح لتصريحات رئيس حركة «حماس» في الخارج، وعضو مكتبها السياسي خالد مشعل، في خطاب له ألقاه في شهر أكتوبر 2024.

طفلان يراقبان دفن جثامين لفلسطينيين مجهولي الهوية أعادتهم إسرائيل، في مقبرة جماعية بدير البلح وسط غزة (إ.ب.أ)

ونقلت صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية، عن المبعوث الأميركي جاريد كوشنر في محادثات داخلية جرت خلال الأيام القليلة الماضية، وكشف عنها مساء الثلاثاء الماضي أن إعادة إعمار القطاع في الجانب الغربي للخط الأصفر لن تبدأ قبل أن يتم تفكيك «حماس» من سلاحها كلياً.

تحديات الأمن والأمان

يأتي هذا الواقع الصعب، مع استمرار التحديات الأمنية المتلاحقة التي لا تنتهي، سواء بفعل الخروق الإسرائيلية، أو مع تردي الوضع الأمني الداخلي في بعض المناطق، ومواصلة الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة «حماس» في محاولة إعادة ترتيب صفوفها.

عناصر من «حماس» يحرسون منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة (أ.ف.ب)

وتؤكد مصادر لـ«الشرق الأوسط»، أن هناك اجتماعات تُعقد باستمرار لمحاولة ضبط الوضع الأمني من خلال تعيينات وإصدار تعليمات أمنية مشددة لضبط الوضع، مشيرةً إلى أن التركيز هو على «ملاحقة المتعاونين مع إسرائيل»، بينما تجري محاولات موازية لضبط الأسواق والأسعار وتحسين الخدمات الحكومية المختلفة.

وهناك من يرى أن «حماس» غير قادرة على التعامل مع بعض القضايا الجنائية مثل عمليات القتل العشوائي والسرقات، وغيرها من الثغرات الأمنية اليومية. واشتكت مواطنة تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، من أنها لم تجد معيناً يقف معها بعدما سرق أحد أقاربها مصاغها من الذهب. وعلى رغم معرفتها بالسارق وتقديم شكوى ضده، فإن الشرطة التابعة لـ«حماس» لم تقدم لها العون في اعتقاله أو التحقيق معه؛ ما تركها فريسةً لحالة الفلتان الأمني.

مقاتلو «كتائب القسام» إلى جانب عمال «الصليب الأحمر» خلال البحث عن جثث رهائن إسرائيليين في مدينة غزة (إ.ب.أ)

وقُتلت قبل أيام سيدة في وضح النهار بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، أثناء تجولها في السوق المركزية للمدينة، وعلى بعد عشرات الأمتار من انتشار عناصر شرطة «حماس»، ليتبين أن قاتلها هو ابن زوجها، من سيدة أخرى، في حين فر من المكان دون أن تقوم الشرطة باعتقاله.

ومن الأمثلة الصارخة عن حالة الفلتان الأمني، قيام عناصر مسلحة بإيقاف مركبة تابعة للهلال الأحمر التركي في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، وسرقة المركبة وهواتف وأموال كانت بحوزة العناصر في المركبة قبل الاعتداء عليهم.

وبينما كانت غالبية سكان قطاع غزة تأمل رؤية جهة جديدة تحكم القطاع في أعقاب الحرب، اصطدموا ببقاء الواقع السابق على حاله؛ الأمر الذي زاد من مخاوفهم بعدم الشعور بالأمن والأمان. وقالت الشابة نيرمين الفار (28 عاماً) من سكان مدينة غزة، نحن نريد جهة فلسطينية تحكمنا لتحقق لنا معيشة جيدة تتناسب مع آدمية أي إنسان في هذا الكوكب، وليس بقاء جهات حكمتنا لسنوات وحولت حكمها لخدمة مصالحها الحزبية السياسية من دون التفات لمعاناة السكان.

عناصر من «حماس» يتوجهون إلى مدينة غزة بمرافقة الصليب الأحمر الدولي للبحث عن جثث الرهائن (أ ب)

ويخشى معارضو «حماس» من عودة الاعتقالات في أوساطهم والتعرض لهم بسبب الانتقادات التي وجهوها للحركة خلال الحرب؛ الأمر الذي انعكس بوضوح في حالة مقتل الأسير المحرر هشام الصفطاوي، من نشطاء حركة «فتح»، على يد عناصر من «حماس» اقتحموا منزله في مخيم النصيرات وسط القطاع، كما قالت عائلته. وذلك إلى جانب حالات قتل أخرى لأشخاص اتُهموا بأنهم يعملون لصالح إسرائيل، من دون أن يخضعوا لمحاكمات قانونية.

وقال المواطن (م.أ) من سكان حي الشجاعية بمدينة غزة مفضلاً عدم ذكر اسمه لأسباب تتعلق بأمنه الشخصي، إن عودة عمليات القتل وإطلاق النار وسرقة المساعدات من قِبل مجهولين، تشير بشكل واضح إلى أن «حماس» ليست قادرة على ضبط الأمن بشكل كامل كما كان الوضع سابقاً قبل الحرب، مشيراً إلى أن بعض المواطنين قُتلوا بسبب معارضتهم الحرب على أيدي مسلحين والاتهامات كانت توجه للحركة، بينما قُتل آخرون في ظروف مختلفة.

«أبو شباب» وآخرون

ما زالت قوى أمن حكومة «حماس» تحافظ على وجودها النسبي وانتشارها في الكثير من المناطق، وبدأت بمعالجة بعض القضايا الجنائية، في حين أنها لا تسيطر على بعض المناطق التي ما زالت موجودة فيها القوات الإسرائيلية، أو وضعتها الأخيرة في عهدة بعض المجموعات المسلحة التي تصفها «حماس» بـ«عصابات» تخدم إسرائيل، مثل مجموعات «ياسر أبو شباب» شرق رفح، أو حسام الأسطل جنوب خان يونس، أو رامي حلس شرق مدينة غزة، وغيرها من الأسماء التي برزت في الفترة الأخيرة.

أعضاء مجموعة أبو شباب كما ظهروا في مقطع فيديو سابق (وسائل إعلام إسرائيلية)

وسعت هذه المجموعات إلى أن تشكل تحدياً لحركة «حماس» وحكمها في قطاع غزة، لكنها فشلت في تحقيق إنجازات حقيقية على الأرض، رغم أنها في بعض الفترات حاولت استغلال وجودها وحمايتها من قِبل إسرائيل لتنفيذ عمليات ضد نشطاء من «حماس» أو مراكز حكومية مثل المستشفيات أو غيرها، لتظهر وجودها وقوتها، فإنها في كل مرة كانت تصطدم بمقاومة من مسلحين يتبعون للحركة، كما أنهم تعرَّضوا لكمائن وقُتل الكثير من أفرادها.

وتوقف نشاط تلك المجموعات المسلحة بشكل كبير داخل المناطق التي كانت تسيطر عليها حركة «حماس»، واكتفت بتمركزها داخل المناطق التي توجد فيها، حيث تعرضت لثلاث هجمات من قِبل عناصر الحركة منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر الماضي؛ ما أدى إلى مقتل وإصابة بعضهم في حين تمت السيطرة على أسلحة ومركبات تابعة لهم.

ولا يعرف كيف سيتم التعامل مع قضية نزع سلاح «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى، وهي مهمة ستكون صعبة في ظل الخلافات بشأنها، في وقت يأمل الغزيون أن يتم الاتفاق بشأنها من دون أي خلافات قد تعيد الأوضاع للمربع الذي كانت عليه، وتستخدم إسرائيل ذلك ذريعة للعودة الحرب.

آفاق القوة الدولية

يأتي ذلك في وقت ما زالت تحاول فيه الولايات المتحدة التوصل إلى اتفاق بشأن صياغة مشروع أمام مجلس الأمن يسمح بتشكيل قوة دولية للعمل في قطاع غزة، وسط خلافات واضحة على المستويين العربي والإسلامي بشأن إمكانية المشاركة في هذه القوة من عدمه، خاصةً وأن مهامها ومسماها غير واضح، فيما إذا كانت قوة إنفاذ ستطبق خطة ترمب بالقوة، أم أنها خطة لمراقبة وقف إطلاق النار؟

وتسعى «حماس» والفصائل الفلسطينية، عبر الوسطاء للضغط على الولايات المتحدة، لتحديد واضح لمهام هذه القوة، كما تؤكد مصادر من الحركة لـ«الشرق الأوسط».

ويخشى السكان في قطاع غزة من أن تكون مهام هذه القوة أكبر بكثير مما هو معلن، وأن تسمح لبقاء القوات الإسرائيلية داخل القطاع، واحتلال أجزاء منه، أو أن يكون لها مهام خفية تتعلق بالبقاء في غزة لسنوات طويلة لنزعها من أن تكون تحكم حكم فلسطيني في المستقبل القريب ونزعها من هويتها الحقيقية. ويقول المواطن فادي البكري (45 عاماً) من سكان مدينة غزة، إن وجود مثل هذه القوة داخل القطاع، قد يكون له آثار سلبية على حياة المواطنين، ولا يحقق لهم حقهم في الأمن والأمان، وهذا قد يؤدي إلى وقوع أحداث أمنية خطيرة نتيجة تشابك عناصر المقاومة ونشطائها مع تلك القوات في حال كان من مهامها نزع سلاح المقاومة.

في حين يقول الشاب مجد ياسين (31 عاماً) من سكان خان يونس جنوب قطاع غزة، إن أي قوة دولية لا تريد ضمان تطبيق وقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل، وإعادة الأمن، وتوفير حياة ملائمة للسكان من خلال مساعدة جهة فلسطينية تحكم القطاع، فإنه غير مرحب بها، ووجودها سيكون بمثابة خطر كبير على كل مواطن.

الأمل في حكومة موحدة

يأمل السكان في أن تكون هناك حكومة فلسطينية موحدة تدير شؤونهم وتهتم بقضاياهم، خاصةً ملف الإعمار وتقديم الخدمات الإغاثية لهم، والحفاظ على أمنهم بعد وقف إطلاق النار، من دون أن يسمح لمجموعات مسلحة بالسيطرة على حياتهم.

حملة تنظيف طرقات وشوارع أطلقها سكان غزة وبلديّتها ومنظمات أهلية بعنوان "نعمّرها ثاني" في منتصف نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

ويكرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورئيس وزرائه محمد مصطفى، التصريحات التي تؤكد على استعداد السلطة الفلسطينية لتولي مسؤولياتها الكاملة في قطاع غزة.

ويقول الغزي عاصم الغزالي (39 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، إن السكان يرغبون في عودة السلطة الفلسطينية لكي تعينهم على تخطي أزمات الحرب التي عاشوها على مدار عامين، وأن يكون هناك قانون واحد يساوي بينهم ويحكمهم.

وأضاف: «نحن نعيش بعد وقف إطلاق النار، حرباً أقسى من الحرب العسكرية، وآن الأوان لأن يتغير الحال للأفضل».

ويقول الشاب عمر البحيصي (24 عاماً) من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، إن الظروف التي عاشها كشاب بلا أي مستقبل، يريد ويطمح لأن يكون هناك جهة تحكم الجميع وتحقق الأمن والأمان، وتعيد بناء ما دمر، وأن تبني مستقبلاً للجيل الشاب، وكذلك للأطفال الذين أضاعت الحرب مستقبلهم التعليمي، وهم أشد الفئات التي في حاجة إلى الدعم النفسي والمجتمعي بعد هذه الحرب القاسية.

في حين يرى صديقه الشاب حسن أبو عيشة، أن مستقبله كخريج هندسة، يكمن في الهجرة خارج قطاع غزة، من أجل بناء مستقبله، والبحث عن عمل مناسب، يساعده على النجاة وتأسيس عائلة.

سيدة فلسطينية تجلس قرب خيمتها عند الشاطىء في دير البلح (أ.ف.ب)

ويقول أبو عيشة: «عشنا حياة صعبة وشديدة طوال عامين من الحرب، وحان الوقت لأن تتاح لنا فرصة البحث عن مستقبل جديد لنا»، مشيراً إلى أنه يفضل الهجرة حلاً فردياً وليس بكونها قراراً مفروضاً من إسرائيل وأميركا لنقل سكان القطاع إلى دول ثالثة بهدف التخلص منهم.


«غرباء» بين «مهاجرين»... المواجهة الصامتة بين «كتيبة الفرنسيين» ودمشق

صورة متداولة لمخيم فرقة الغرباء بحارم ريف إدلب
صورة متداولة لمخيم فرقة الغرباء بحارم ريف إدلب
TT

«غرباء» بين «مهاجرين»... المواجهة الصامتة بين «كتيبة الفرنسيين» ودمشق

صورة متداولة لمخيم فرقة الغرباء بحارم ريف إدلب
صورة متداولة لمخيم فرقة الغرباء بحارم ريف إدلب

تُعيد المواجهات الأخيرة التي اندلعت في ريف إدلب بين فصيل فرنسي مسلح هو «الغرباء» والقوات الحكومية السورية، تسليط الضوء على واحد من أكثر الملفات تعقيداً وإثارة للجدل في المشهد السوري الجديد.

ففي منطقة حارم شمال إدلب، لم تكن الاشتباكات حادثاً أمنياً معزولاً عن سياقات المشهد، بل بدا وكأنه اختبار لسياسات دمشق تجاه آلاف المقاتلين الأجانب الذين بقوا على الأراضي السورية بعد سنوات الحرب.

وتبدو الصورة الأكثر وضوحاً أن الأحداث الأخيرة شكّلت بداية التعاطي الجدّي مع ملف «المقاتلين الأجانب» وعودته إلى الواجهة من جديد بعدما قطعت الدولة السورية الناشئة شوطاً في بناء الثقة مع المجتمع الدولي فيما يتعلق بمنع الأجانب من تسلُّم مناصب قيادية في الجيش السوري الجديد.

بدأت القصة في الثاني والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) بعدما «توجهت قوات الأمن الداخلي إلى أحد المخيمات في بلدة حارم شمال إدلب، حيث يقيم مقاتلون فرنسيون بقيادة عمر ديابي، المعروف باسم (عمر أومسن)» لتنفيذ عملية أمنية، استجابة لـ«شكاوى عن انتهاكات خطرة بينها اختطاف فتاة على يد مجموعة يقودها عمر ديابي الذي رفض تسليم نفسه»، بهدف تطبيق القانون وفرض سلطة الدولة على المخيم، بحسب الرواية الرسمية.

صورة أرشيفية للجهادي الفرنسي عمر ديابي المعروف باسم عمر أومسين (موقع فرنس بلو)

لكن قائد «فرقة الغرباء» الفرنسي من أصول أفريقية، عمر ديابي، نفى الاتهامات الموجهة إليه، متهماً المخابرات الفرنسية بالوقوف وراء ما وصفه بـ«استهداف سياسي». وتنظر باريس إلى «ديابي» بأنه أحد أبرز المسؤولين عن تجنيد «الجهاديين الناطقين بالفرنسية»، فيما «صنّفته واشنطن منذ عام 2016 بأنه (إرهابي عالمي)».

وانتهت المعركة بعقد لقاء للمصالحة بوساطة من قادة الفصائل من الأوزبك والطاجيك والتركستان في مخيم حارم، وأعلنت «فرقة الغرباء» على صفحتها على موقع تلغرام إنها توصلت لاتفاق لوقف إطلاق النار ووجهت الشكر لـ «إخواننا المهاجرين والأنصار الذين أحسنوا الظنّ بنا».

غرباء بين مهاجرين

تضم «فرقة الغرباء» نحو 70 مقاتلاً فرنسياً يعيشون مع عائلاتهم داخل مخيم محصّن على الحدود التركية مباشرة، ما زاد في صعوبة تنفيذ عملية اقتحام المخيم من قبل القوات الأمنية بعد مواجهات مسلحة انتهت بتوقيع اتفاق من ست نقاط بجهود مشتركة من عدد من قيادات المقاتلين الأجانب. نص الاتفاق على «وقف إطلاق النار، وفتح المخيم أمام الحكومة، وإحالة قضية عمر ديابي إلى (القضاء الشرعي) في وزارة العدل، وسحب السلاح الثقيل، وضمان عدم ملاحقة المشاركين في الاشتباكات».

صورة حديثة متداولة لعمر ديابي

ويُقدر عدد المقاتلين الأجانب بأكثر من خمسة آلاف مقاتل التحقت النسبة الكبرى منهم في وزارة الدفاع ضمن الفرقة 84. وتواجه الحكومة السورية ضغوطاً من عواصم غربية لإبعادهم عن المناصب العليا، فيما تبنت الحكومة خطاباً لطمأنة دول العالم بأن هؤلاء لن يشكلوا أي خطر على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم. وبحسب الرئيس السوري أحمد الشرع، فإن المقاتلين الذين قاتلوا في صفوف المعارضة هم جزء من المجتمع الجديد، وأن سوريا ستتعامل معهم بروح المصالحة لا الإقصاء. وقد حصل عدد منهم بالفعل، على رتب عسكرية ووظائف رسمية في الجيش، باعتبار ذلك ترجمة عملية لسياسة «الاحتواء». واللافت في هذا السياق، أن التصريحات الرسمية من داخل المؤسسة العسكرية جاءت لتؤكد أن حادثة «حارم» لا تمثل تغييراً في هذه السياسة.

انضباط لا استهداف

يقول مسؤول في الجيش السوري، فضّل عدم ذكر اسمه، لـ«الشرق الأوسط» إن «ما جرى في مدينة حارم لا يستهدف المقاتلين الأجانب الذين وقفوا معنا طوال سنوات الحرب، وساندوا الثورة السورية، وكان لهم دور فاعل في عمليات التحرير»، مشدداً على أن العلاقة بهم مبنية على الالتزام المتبادل. وأضاف: «هؤلاء المقاتلون التزموا بقرارات الدولة، وانضمّ كثير منهم رسمياً إلى وزارة الدفاع». وينفي المسؤول العسكري أن يكون ما جرى «حملة ضدهم كما يروّج البعض، بل تطبيق للقانون فحسب». موضحاً أن الجيش السوري الجديد يعمل «وفق منظومة واضحة من الانضباط والتعليمات العسكرية، لا يُستثنى منها أحد، سواء كان سورياً أم مهاجراً». وأضاف أن «أي مخالفة للقوانين أو تجاوز للأوامر ستُقابل بإجراءات رادعة، لأن الجميع داخل المؤسسة العسكرية يخضع لنظام موحد يحكمه القانون والانضباط».

خلاف التسميات

بعيداً من الرواية الرسمية، يرى مراقبون وقادة عسكريون سابقون أن الأزمة أعمق من مجرد مخالفة قانونية، وأنها تكمن في صميم عملية بناء الدولة الجديدة وهويتها. «أبو يحيى الشامي»، وهو «قائد عسكري سابق في أحد الفصائل الإسلامية»، تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن نقطة يراها جوهرية، وهي «التوصيف». فـ«الشامي» يرى «أن وصف المقاتلين بـ(الأجانب) ليس دقيقاً ولا منصفاً». بالنسبة له، هذا المصطلح يحمل دلالات سلبية، ويعتبر «أن الأفضل تسميتهم بالمهاجرين، لأن كلمة (أجانب) تنزع عنهم الشرعية التي اكتسبوها بتضحياتهم في صفوف الثورة السورية». ويعتقد «الشامي» أن هذا الاندماج قد حدث بالفعل على المستويين الاجتماعي والسياسي. وأشار «الشامي» إلى «أنه لا توجد اليوم فصائل من المهاجرين ذات توجه مستقل عن توجه السوريين، فبعد أكثر من عقد من الحرب أصبحوا جزءاً من المجتمع المحلي، وما يرضي السوريين يرضيهم، وما يرفضه السوريون يرفضونه».

(أرشيفية - سانا - أ.ف.ب)

من هذا المنطلق، يرى «الشامي» أن طريقة التعامل مع حادثة «حارم» كانت خاطئة منذ البداية. «التصعيد الإعلامي والأمني الذي رافق حادثة حارم كان خطأ، لكن الحكومة تداركته بالصلح بعد أن كادت الأمور تتجه نحو مواجهة خطيرة».

وشدد على أن «المطلوب هو التعامل مع مثل هذه القضايا بحكمة ورويّة، فالمهاجرون لديهم تخوفات مشروعة يجب نتفهمها»؛ في إشارة إلى الخوف من الملاحقة أو الترحيل إلى بلدانهم الأصلية أو التهميش بعد انتهاء الحرب.

وعليه، يرفض «الشامي» توصيف ما حدث بـ«التمرد»، معتبراً أنه «لا يمكن الحديث عن تمرّد من جانب المقاتلين الفرنسيين، فهم جزء من الجيش السوري». وقال: «ما تحققه الدولة بالحوار والوساطة أوفر تكلفة وأكثر احتراماً لهيبتها من تحقيقه عبر الاشتباك». ويختتم «الشامي» رؤيته بشرط لنجاح هذا الاندماج: «اندماج المهاجرين في المجتمع السوري لن يستغرق وقتاً إذا حصلوا على تطمينات كافية بأنهم لن يُرحّلوا إلى بلدان قد تضطهدهم، وأن حقوقهم محفوظة بصفتهم مواطنين ساهموا في الدفاع عن سوريا الجديدة».

تحديات هيكلية

من زاوية تحليلية، يرى الباحث وائل علوان أن ما حدث يكشف عن تحديات هيكلية عميقة تواجه الدولة السورية. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «ما حدث يؤكد أن دمج المهاجرين في مؤسسات الدولة لم يكتمل بعد»، مؤكداً على أن «المرحلة القادمة ستكون اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة على تحقيق هذا الاندماج فعلاً، لا قولاً».

ويوضح علوان أن «جزءاً من المقاتلين الأجانب قد لا يتمكن من الاندماج في مؤسسات الدولة، ما يضعها أمام خيارين: إما إخراجهم من سوريا بطريقة منظمة، أو ضمان عدم تحولهم إلى عناصر مهدّدة للاستقرار». واعتبر علوان أنه سيترتب على السلطات «أن توازن في كل مرة بين أولوية الأمن والاستقرار من جهة، وأولوية إنجاح مشروع الدمج وتفكيك التشكيلات المسلحة من جهة أخرى».

لكن الهدف النهائي، بحسب علوان، واضح ولا رجعة فيه. «الحكومة ستواصل التعامل مع هذه الملفات بحكمة، فهي لا تملك خياراً سوى تفكيك الفصائل المسلحة - سواء كانت من السوريين أو المهاجرين -»، وهذا الهدف ليس فقط استجابة للرغبات الدولية، «بل لأنه شرط أساسي لفرض سلطة الدولة وهيبتها».

وتابع علوان موضحاً: «طريقة الصلح التي اعتمدتها الحكومة في حارم، رغم الانتقادات التي وُجّهت لها بأنها تُذكّر بأساليب الفصائل السابقة، كانت مقصودة لاحتواء الأزمة سريعاً وتفكيكها بأقل تكلفة ممكنة».

وختم علوان بالقول إن «هناك بالفعل فئات داخل بعض الأوساط المقاتلة، سواء من السوريين أو المهاجرين، غير راضية عن سياسات الحكومة الداخلية والخارجية، ولهذا فإن الدولة بحاجة اليوم إلى خطاب ديني جديد يخاطب هذه الفئات ويقنعها بخيارات المرحلة القادمة، وهو ما بدأت به مؤخراً فعلاً».

عناصر من الجيش السوري (أ.ف.ب)

تباين في الرؤى

لفهم الاختلاف الآيديولوجي داخل مجموعات «المهاجرين» أنفسهم، التقت «الشرق الأوسط» بقياديين منهم، وكلاهما منضوٍ ضمن وزارة الدفاع السورية، تعكس آراؤهما تبايناً واضحاً في الرؤية.

«أبو مهاجر» قيادي عسكري من جنسية «عربية»، أوضح أنه «ينتمي رسمياً لوزارة الدفاع السورية ويقاتل تحت رايتها». ويمثل «أبو مهاجر» نموذج الاندماج الكامل والولاء الواضح للدولة الجديدة، إذ قال: «نحن مع الدولة السورية ولن نخرج عن سياستها، نسالم من تسالم ونحارب من تحارب».

وبالنسبة له، فإن الهدف الذي جاء من أجله قد تحقق بانتصار الثورة وقيام الدولة. لافتاً إلى أنه «عندما قدمنا إلى سوريا كان هدفنا الدفاع عن أهل البلد لا أن نقرّر عنهم ولا أن نقودهم. جئنا فقط لنصرتهم». وتابع: «وعندما انتصرنا نحن وهم كنا تبعاً للدولة التي تمثل ثمرة الثورة والهدف الذي قدمنا من أجله، وهو إسقاط النظام ونصرة السوريين وأن تكون لهم شوكة بعد أن كانوا مستضعفين». ويرى أن هذا الهدف قد تحقق: «اليوم هم أصحاب الشوكة، وهذا بحد ذاته هدف شرعي». ويختم بتأكيد التزامه: «نحن اليوم جزء من الجيش السوري ونلتزم بكل قرارات وزارة الدفاع، ولن يكون غير ذلك، ومعظم المهاجرين على هذه القناعة».

وعلى النقيض من «أبو مهاجر»، أبدى القيادي «أبو مثنّى»، الذي ينتمي أيضاً لوزارة الدفاع، تحفظاً تجاه سياسات الدولة في تعبير عن طيف من «المهاجرين» الذين يشعرون بـ«خيبة أمل آيديولوجية»، بحسب وصف وائل علوان.

عناصر من فصائل الجيش الوطني السوري في شمال سوريا (أ.ف.ب)

ويقول «أبو مثنى» في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «الهدف الذي خرجنا من أجله وقُتل كثير من إخوتنا في سبيله لم يكن أن تُبنى الدولة بهذا الشكل، فالدولة الحالية تركت شبيحة النظام، وولّتهم مناصب على حساب المظلومين، كما أنها لم تُزل المنكرات، بل زاد أهل المنكر ورفعوا أصواتهم بها علناً، بعدما أظهرت الدولة لهم اللين والمداراة مراعاة للخارج».

ويرى «أبو مثنّى» أن ما يحدث من تحولات هو نقيض للهدف الذي ضحوا من أجله، ولكن ومع ذلك «لن نشق عصا الطاعة؛ لأننا ندرك أن خصوم الدولة يستغلون أي خلاف لضربها ورميها عن قوس واحد». وأضاف: «واجبنا في هذه المرحلة هو النصح، والتحذير، وإقامة الحجة، وأن نصدح بالحق من داخل المنظومة، لا أن نحمل السلاح ضدها أو نزيد الانقسام».

ما بالعقل وما بالقلب

هذا التباين في وجهتي النظر بين «أبو مهاجر» و«أبو مثنّى» يفسّره عبد الله خالد، وهو أحد الشرعيين في «هيئة تحرير الشام» سابقاً ومستشار التوجيه الشرعي والمعنوي في الجيش السوري (الجديد) حالياً، في حديثه لـ«الشرق الأوسط». وبدأ خالد من توصيف طبيعة «المهاجرين» بالقول إنهم «يمتازون بتمكّن عقيدتهم من قلوبهم». ويشير إلى أن «هذا الارتباط العميق هو ما جعلهم يتركون رغد العيش في أوروبا ويسافرون إلى سوريا، التي كانت تُعدّ أخطر مناطق العالم خلال أعوام الثورة، بغضّ النظر عن مدى صحة تلك العقيدة أو خطئها».

صورة متداولة للقاء المصالحة في مخيم حارم بين قادة من الأوزبك وبدا عمر أومسون متوسطاً الجلسة

وأضاف موضحاً أن «الخطاب الديني الذي ساد في أوساط الفصائل خلال سنوات الثورة كان بطبيعته حماسياً ومشحوناً بالتعبئة والتحدي». وكان «هذا النمط من الخطاب» «مناسباً لمرحلة الحرب والمواجهة التي احتاجت إلى رفع المعنويات وشحذ الهمم». لكن المشكلة بدأت عند الانتقال من «الثورة» إلى «الدولة»، «بعد سقوط النظام وتسلم (هيئة تحرير الشام) ومعها عدد من الفصائل زمام الحكم في دمشق، واصطدام عناصرها بالواقع المحلي والدولي، كان من الطبيعي أن يتغير الخطاب الديني شكلاً ومضموناً؛ لأن خطاب المسؤول عن شعب بأكمله يختلف جذرياً عن خطاب قائد فصيل يتحدث لمجموعة من المقاتلين».

ويؤكد خالد أن «هذا التحوّل ينسجم مع مقتضيات المنطق والعقل والشرع، والانتقال من مرحلة القتال إلى مرحلة الحكم، لكنه يصطدم بقوة العقيدة المتجذرة في قلوب كثير من المهاجرين – وكذلك بعض السوريين – ما حال دون تقبّلهم للتغير في الخطاب والنهج». ويعتبر خالد أن الخيارات المتاحة أمام هذا التيار الرافض، محدودة وقاسية، وقال: «الدولة تسير وفق منهجها الجديد ولن تسمح بتجاوزه». وبناءً عليه، «أمامهم 3 خيارات، إمّا الصدام مع الدولة الجديدة، أو الاعتزال والصمت، أو القبول بالمنهج القائم والتكيّف معه».


بداية نهاية «عالم المخدرات» في لبنان

صورة من وكالة الأنباء السعودية (واس) في 25 أبريل الماضي تظهر أحد أعضاء المديرية العامة لمكافحة المخدرات يعرض أكياس حبوب الكبتاغون المضبوطة في جدة مُخبّأة في شحنة من الرمان (أ.ف.ب)
صورة من وكالة الأنباء السعودية (واس) في 25 أبريل الماضي تظهر أحد أعضاء المديرية العامة لمكافحة المخدرات يعرض أكياس حبوب الكبتاغون المضبوطة في جدة مُخبّأة في شحنة من الرمان (أ.ف.ب)
TT

بداية نهاية «عالم المخدرات» في لبنان

صورة من وكالة الأنباء السعودية (واس) في 25 أبريل الماضي تظهر أحد أعضاء المديرية العامة لمكافحة المخدرات يعرض أكياس حبوب الكبتاغون المضبوطة في جدة مُخبّأة في شحنة من الرمان (أ.ف.ب)
صورة من وكالة الأنباء السعودية (واس) في 25 أبريل الماضي تظهر أحد أعضاء المديرية العامة لمكافحة المخدرات يعرض أكياس حبوب الكبتاغون المضبوطة في جدة مُخبّأة في شحنة من الرمان (أ.ف.ب)

يسود الوسط الأمني في لبنان تفاؤل واضح بإمكانية أن يكون عام 2026، عام نهاية «عالم المخدرات» الذي أنتجته الحرب الأهلية اللبنانية ومتفرعاتها من الحروب الأخرى التي أمنت لهذا العالم بيئة مثالية ازدهر فيها، وبات مادة عابرة للحدود تنطلق من لبنان وسوريا عبر الأردن ليطرق أبواب الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية التي كانت هدفاً رئيسياً لتجار «السكك» ينقلون من خلالها «بضائعهم الممنوعة ويجنون من خلالها الكثير من الأموال التي باتت تمول دولاً وميليشيات.

منبع التفاؤل هو التطور الكبير الذي ضرب الحدود اللبنانية السورية مع نهاية النظام السوري السابق ورحيل «الفرقة الرابعة» عن الحدود، ومن ثم طرد التجار الذين كانوا يقيمون في «المنطقة الرمادية» داخل الحدود السورية.

ويقول مسؤول أمني لبناني لـ«الشرق الأوسط» إن بدء الحرب في سوريا كان شرارة ازدهار تجارة المخدرات، ونهاية الحرب شكلت بدورها بداية النهاية لهذه التجارة التي تلقت ضربات أمنية في كل مفاصلها، لجهة الإنتاج والتخزين والتوزيع.

وكانت المنطقة الحدودية من الجهة السورية تحولت ملاذاً آمناً لتجار المخدرات بين عامي 2023 و2024. فقد أقام هؤلاء في قرى تملكوا فيها منازل بحماية الأمن السوري وتحديداً عناصر «الفرقة الرابعة» التي كانت الشريك التجاري لهم. ومع سقوط النظام عادوا إلى لبنان ليصبحوا فريسة سهلة للجيش اللبناني الذي تولت استخباراته مطاردتهم والقبض على بعضهم وقتل آخرين.

التنمية سلاحاً

وفق التقييم الأمني اللبناني، يحتاج الأمر إلى «دفعة من التنمية» تحط رحالها في مناطق الحرمان اللبنانية في البقاع وعكار، تكون بمثابة العامل المساعد للضغط الأمني الكبير الذي تمارسه أجهزة الأمن اللبنانية على تجار المخدرات، فتقطع عنهم ذريعة الحرمان التي تدفع بأهالي هذه المناطق بعيداً عن «درب الممنوعات» الذي يمر من مناطقهم منذ عشرات السنوات. وتحول بعضهم إلى ما يشبه «روبن هود» عندما يوزع عليهم هباته، ويغدق عليهم المنح. غير أن هذا لا يأتي من دون ثمن. يقول مصدر أمني لبناني لـ«الشرق الوسط» إن تاجر مخدرات شهيراً، كان يتولى تغطية تكاليف تعليم بعض الطلاب الجامعيين، لكنه يحولهم لاحقاً إلى أدوات لتوزيع المخدرات في الجامعات والمدارس.

عهد الازدهار وصعود «روبن هود»

من تجارة حجمها 1.3 مليون حبة قبل الأزمة السورية، ارتفع العدد إلى 3 ملايين بعدها، ثم نزل إلى 400 ألف. يقول مصدر أمني لبناني:«كانوا طفاراً وتسيّدوا، ثم أعدناهم طفاراً».

عادت «أمجاد» تجار المخدرات في البقاع اللبناني بعد الانهيار المالي الذي ضرب البلاد في أواخر عام 2019، مترافقاً مع الانهيار السياسي الذي ضرب أوصال الدولة اللبنانية والانسداد السياسي الذي تفاقم مع انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون والتأخر في انتخاب خلف له.

استفاد هؤلاء من الحاجة التي يرزح تحتها أهالي المنطقة، التي يغلب عليها طابع الإهمال الرسمي والحرمان المزمن الذي يعود إلى أبعد من انهيار العملة الوطنية، وكاد يكون نهجاً دائماً لأهل السياسة، كما يقول سكان المنطقة.

سقط العديد من الشباب، والرجال في براثن هذه التجارة، خصوصاً مع اكتشاف «النجم الصاعد» في عالم المخدرات، أي الكبتاغون الذي اجتاح البلاد تصنيعاً وتصديراً بتأثير مباشر من الأزمة السورية في عام 2011، وبمشاركة فاعلة من تجار سوريين، ونافذين في السلطة والأمن على ضفتي الحدود اللبنانية السورية المعروفة أساساً بتسيبها.

باتت لكبار التجار، مكانتهم الاجتماعية، والسياسية أحياناً. بعضهم ترشح، أو فكر بالترشح للانتخابات. وبعضهم حاول تقديم نفسه على أنه «روبن هود» يأخذ من الأغنياء ويعطي الفقراء. فقدموا مشاريع ري وكهرباء، ومساعدات اجتماعية، وتوسطوا لأهالي المنطقة لحل مشاكلهم مع القانون، كما تواصلوا مع سياسيين ونافذين لتأمين وظائف. باختصار، كانت دويلتهم تنمو باطراد، بالاستفادة من تقاطع مع قوى أمر واقع تعمل على جانبي الحدود. كانت المعادلة بسيطة. تصدير المخدرات إلى «فسطاط الأعداء... والحصول على عملة أجنبية»، و «الكومشن» التي ينالها هؤلاء من هذه التجارة الهائلة الدخل، تكفي للمساعدة في تمويل دولة أو دويلة. يقول أحد التجار إنه يكفيه أن تمر واحدة من أصل عشر شحنات، ليكون رابحاً ومرتاحاً.

قصة الكبتاغون

يعدّ الكبتاغون «ثورة» في عالم المخدرات؛ فهو لا يحتاج إلى زراعة، وبالتالي لا أرض مكشوفة ولا محصول معرضاً لعوامل الطبيعة والعوامل البشرية، كما أنه غير مقيد بمواسم. وهو سهل التصنيع والتوضيب والتهريب فلا يمكن اكتشافه غالباً بوسائل الكشف التقليدية من أجهزة وكلاب بوليسية.

ولكن، إذا كانت السرية هي الصفة الغالبة للتوزيع والتهريب، فإن هذا لا ينطبق على التصنيع الذي لا يمكن إخفاؤه بسهولة. فتصنيع الكبتاغون يحتاج إلى معامل، وتصدر منه خلال عملية الصناعة روائح كريهة وقوية مما يجعل إخفاء المصانع أمراً صعباً ومعقداً، ولهذا لجأ المصنعون إلى إغراء أصحاب النفوذ بأموالهم، وإغراء أصحاب العقارات البعيدة عن السكن لاستغلالها.

استفاد تجار الكبتاغون من «المنطقة الرمادية» التي كان يقبع فيها في دول لم تعدّه مخدراً، أو تأخرت في تصنيفه، ومنها لبنان نفسه. كان رجال الأمن يقبضون على التجار، ويتهمونهم بحيازة أشياء اخرى ممنوعة غالباً ما تكون معهم، كسلاح أو نوع آخر من المخدرات.

ملوك السكك والخلطات السريّة

انتشر بداية في العراق وسوريا. كان بعض سائقي شاحنات النقل الخارجي يتناولونه لمدهم بالنشاط من أجل محاربة ساعات التعب والملل في قيادة الشاحنات. بعد عام 2000 بدأ الظهور الملموس له بوصفه مخدراً. وبين عامي 2007 و2011 بدأ ظهور «ملوك السكك»، أي التجار الذين يؤمنون نقل الكبتاغون من المصنع إلى المستهلك، خصوصاً نحو دول الخليج العربي.

تركزت المصانع في المناطق الحدودية من الجانب السوري بداية، لكن مع اندلاع الحرب السورية، انتقل العديد من التجار إلى لبنان وأسسوا مصانع بالتعاون مع شركاء لبنانيين.

الطريف، أن هؤلاء احتفظوا بسر الخلطة، ولم يزودوا بها شركاءهم اللبنانيين، كما تظهر اعترافات أكثر من تاجر قبضت عليه الاستخبارات العسكرية اللبنانية التي كانت رأس حربة المواجهة في البقاع والمناطق الحدودية. بعض التجار اكتشف الوصفة، أو اقترب منها إلى حد كبير، فظهرت الأصناف «المضروبة» أي الأقل جودة. هامش الربح الكبير أغرى المزيد من أجل خوض التجربة. حبة كلفتها أقل من 20 سنتاً تباع بـ20 دولاراً، وعندما تصل الأمور إلى البيع بالتجزئة يصل المبلغ إلى أكثر من 50 أحياناً.

مع بدء الأحداث السورية، سيطرت التنظيمات المتطرفة على المناطق الحدودية، ودمروا المصانع. هرب التجار إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية أو إلى لبنان. لكن هذه التنظيمات سرعان ما أدركت خطأها، خصوصا بين عامي 2012 و2014، فدخل بعضها في دائرة الاستفادة من أموال الكبتاغون وأذعنت لإغرائه فتحول جزءاً أساسياً من تمويلها.

تعدّ الفترة ما بين عامي 2012 و2023 قمة أرباح تجار الكبتاغون، فقد ازدهرت الصناعة والتجارة فيهما إلى حد كبير، بحيث بات هناك أربعة أو خمسة تجار كبار يحتكرون التهريب إلى دول الخليج. وانتقلوا إلى مرحلة التنافس في الشكل، فثمة من يحمص الحبة لتشبه الرمل الصحراوي، أو من يضع عليها إشارات وعلامات تجارية ثم ألواناً.

الدخول السوري الرسمي... و«فاغنر»

منتصف عام 2012، دخل نافذون في السلطة السورية في هذا المجال أيضاً. لم يتدخل هؤلاء في التصنيع والتجارة، لكنهم سهلوا عملية النقل وأعطوا «بونات» لتسهيل مرور البضائع عبر الأراضي السورية مقابل «رسم» مقطوع على أساس الصندوق. كان تجار الكبتاغون في تلك الفترة يسافرون إلى كل العالم تقريباً، لكن بيروت كانت مكانهم المفضل. فتح هؤلاء مطاعم ومقاهي في العاصمة اللبنانية كانت غطاء مثالياً للدخل.

تمر عملية التصنيع والتوزيع بعدة مراحل، تبدأ بشراء المواد الأولية وهو ما كان يتم بشكل قانوني بالكامل. فغالبية المواد المستعملة للتصنيع يمكن شراؤها من السوق لأن لها استعمالات أخرى شرعية. كان التاجر يتعامل مع أصحاب سوبرماركت يستوردون البضائع لصالحه مقابل أسعار مغرية. حتى الماكينات المخصصة للصناعة يمكن الحصول عليها بشكل عادي، فغالبيتها يستعمل من قبل مصنعي الدواء أو تجار المواد الكيماوية للتنظيف والأدوية والمبيدات والأسمدة وغيرها.

وتركزت معظم المصانع في المنطقة الحدودية في سوريا، لكن بعضها انتقل خلال الحرب إلى الجرود اللبنانية حيث باتت البيوت النائية أو المصانع المهجورة ومزارع المواشي هدفاً للتجار الذين استأجروها بأسعار مغرية. ولاحقاً تحولت بعض القرى السورية مأوى للتجار ومنها قرية جرماش التي باتت الملاذ المفضل للهاربين من الأمن اللبناني.

في فترة الحرب السورية شهدت التجارة ازدهاراً غير مسبوق. خرجت الحدود اللبنانية السورية والسورية الأردنية عن السيطرة، وخلافاً لصورة المعارك والحروب الدائرة بين الأطراف، كان التجار على علاقة جيدة بالجميع. استفاد الجميع من أموال التجار. وكانت لهؤلاء فائدة أخرى للحكومة السورية والروس وإيران و«حزب الله» الذين كانوا يخوضون حرباً صعبة، واعتمدوا على سكك تهريب المخدرات لتهريب السلاح إلى المناطق المحاصرة أو التي يصعب الوصول إليها، ونقل المعدات وأحياناً المقاتلين.

أما «فاغنر» الروسية، فقد أنشأت جسراً جوياً لنقل الكبتاغون إلى ليبيا مقبل 5 آلاف دولار للصندوق الواحد.

بين عامي 2014 و2020 انتقل الكثير من التجار إلى لبنان، مستفيدين من سيطرة التنظيمات المتشددة على مناطق حدودية واسعة والتأزم الداخلي في لبنان الذي انعكس انقسامات حادة، وبات كل من لا يمتلك عملاً جيداً يجرب حظه في هذه التجارة والصناعة. وهو ما أدى إلى ظهور البضائع الأقل جودة.

في تلك الفترة اهتزت قبضة الجيش اللبناني على الحدود، خصوصاً بعد الخسائر التي مني بها من جراء هجمات التنظيمات المتشددة وخطف جنود، فساد التجار بعض المناطق وشقوا طرقات بين البلدين خاصة بهم، ودخل بعضهم العمل السياسي في لبنان عن طريق دعم بعض المرشحين.

إعلان الحرب على المخدرات

مع استقرار الأوضاع الأمنية في لبنان، وتعاظم دور التجار، أعلن لبنان الحرب على المخدرات. في البقاع، والحدود مع سوريا كان الدور الأكبر للجيش اللبناني بحكم وجوده هناك، أما في المرافئ والداخل فقد كان دور قوى الأمن الداخلي.

بدأت استخبارات الجيش الحرب على التجار بالبقاع. تمت مداهمة مصانع الكبتاغون وتفكيك معاملها، لكن التجار «المسالمين» تحولوا دمويين، وقلما كانت تنتهي مداهمة من دون اشتباك بين الجيش والتجار. انتقل هؤلاء من البقاع إلى الجرود الوعرة الصعبة، فتمت ملاحقتهم هناك. ويقول مسؤول أمني لبناني إن مغريات كبيرة عرضت على الضباط والمسؤولين عن مكافحة التجارة، خصوصاً أن خسائر أول سنة مواجهة مع الجيش وصلت إلى نحو 200 مليون دولار.

لمواجهة الغارات التي يشنها الجيش، انتقل التجار إلى مصانع «موبايل» متنقلة توضع على شاحنات قادرة على التحرك سريعاً، لكن سيئات المصنع بالنسبة للتجار، أنه يصبح بطيئاً في التحرك عند بدء التصنيع.

حرب الرؤوس ومعركة «أبو سلة»

تحولت الحرب على المخدرات إلى حرب على الرؤوس، بدأ الجيش يستهدف رؤساء العصابات، وصولاً إلى استهداف بعضهم بطائرات مسيّرة وغارات جوية.

الإغارة على أحد أكبر تجار المخدرات في البقاع المعروف بأبو سلة، كانت رسالة واضحة للتجار الذين تواروا بعدها عن الأنظار تحت وطأة الإجراءات الأمنية. المطلوب علي منذر زعيتر، نال لقب أبو سلة من بداياته في تجارة المخدرات، حيث كان ينزل سلته المربوطة بحبل لأخذ المال من زبائنه وتسليمهم المخدرات، عندما كان مروجاً يقيم في ضاحية بيروت الشرقية.

كبر «أبو سلة» إلى درجة بات يمتلك فيها جيشاً صغيراً من المقاتلين والمروجين. عندما خطط الجيش للقبض على أبو سلة، اكتشفت استخبارات الجيش أن أبو سلة نشر 346 حاجزاً لحمايته وتنبيهه من أي محاولة للاقتراب منه، توزعت بين كاميرات مراقبة ثبتت على أعمدة ونقاط مموهة على شكل مقاهي «إكسبرس» على كل الطرقات المؤدية اليه.

وبعد 8 أشهر من التخطيط تم تنفيذ العملية خلال مأدبة عشاء كان يقيمها أبو سلة لأصدقائه. تمت السيطرة على بعض الكاميرات وحرفها عن وجهتها، فيما كان رئيس فرع الاستخبارات في البقاع يساهم في التمويه باصطحابه زوجته إلى عشاء في مقهى يعرف أن لأبو سلة عيوناً فيه في بيروت.

ارتبطت العملية بسرية بالغة، فلم يعرف بالتحضير لها سوى 7 أشخاص كانوا يعرفون أن الهدف «مالبورو» الاسم الذي أعطوه لأبو سلة لعدم تنبيهه إلى ما يحاك له.

نجا أبو سلة من ذلك الكمين بعدما اتخذ من زوجته درعاً، وقتل عنصراً من الجيش ثم فر. غادر إلى سوريا، ثم عاد بعد سقوط النظام ليقع تحت أنظار الجيش الذي استهدف سيارته بغارة جوية أدت إلى مقتله.

أبو سلة نفسه كان مسؤولاً عن كمين نصب لقوة من الجيش قبل سنوات أدى إلى مقتل عدد من الجنود وإصابة ضابط بات خارج الخدمة. وهو وفق التقييم الأمني اللبناني رقم واحد بين تجار المخدرات في لبنان. لديه نفوذ في الجامعات والمدارس التي كانت منطقة المبيعات الخاصة به. لهذه الغاية كان يدفع أقساط تلامذة وطلاب جامعيين، أو يسجل أزلامه فيها بهدف الترويج.