الحرب على الجامعات تُغيّر علاقة الدولة بإنتاج المعرفة في أميركا

شهادات لأساتذة خائفين... ولوائح كلمات ممنوعة من الصرف

طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)
طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)
TT

الحرب على الجامعات تُغيّر علاقة الدولة بإنتاج المعرفة في أميركا

طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)
طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)

عدتُ إلى الولايات المتحدة في زيارة بعد انقطاع دام نحو العامين. قبل السفر، أرسلت لي صديقة أميركية وثيقة وضعتها الجمعيّة الأميركية لمحامي الاغتراب حول كيفية التعامل مع ما سمته «الواقع الجديد» عند نقاط الدخول إلى البلاد، الذي صار يشمل، كما ظهر في حالات تمّ تناقلها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قيام ضباط الهجرة والجوازات بتفتيش الأجهزة الإلكترونية للمسافرين. أما التدبير الأول الذي نصح به المحامون فكان استخدام أجهزة إلكترونية مخصَّصة للسفر تكون المعلومات الشخصية فيها قليلة. وتفسّر الوثيقة أنّ حاملي جوازات السفر الأميركية يمكن منعهم من الدخول إذا رفضوا مشاركة أجهزتهم وكلمات سرّها، بينما يحق للمواطنين رفض الإجابة عن الأسئلة، ولكن قد يؤدي ذلك إلى التأخير في إجراءات الدخول. تساءلتُ لدى وصولي إلى مطار شيكاغو عمّا يمكن أن يسألني عنه ضابط الهجرة، ورحت أستعد للإجابة، وكنتُ قد حصلت على الجنسية الأميركية منذ بضعة أعوام، ولكنه لم يسألني شيئاً.

الخوف في اليوميات

اكتشفت أن القلق الذي انتابني لدقائق معدودة في المطار يسود يوميات أصدقائي وزملائي السابقين الذين التقيتهم خلال زيارتي. حتى إنّ زميلةً أميركيةً (غير مجنّسة) أسرّت لي أنها في الآونة الأخيرة صارت تستفيق في منتصف الليل يؤرقها مستقبل الجامعة (نورثويسترن) ومستقبل عملها. فقد باشرت إدارة الرئيس دونالد ترمب منذ بداية ولايته بالتطبيق العملي لشعار رفعه نائبه جي دي فانس في 2021 هو «الجامعات هي العدو». وكان من أوّل الإجراءات التي اتخذتها تهديد جامعة كولومبيا في نيويورك بسحب التمويل الفيدرالي الذي تتلقاه والبالغ 400 مليون دولار.

طالبة أميركية مسلمة تضبط حجابها قبل الصعود إلى منصّة حفل التخرج من جامعة نيويورك في 15 مايو الجاري (رويترز)

هنا تلاقت اهتمامات الإدارة مع السيطرة على الجامعات، ومناهضة الحركات المناهضة لإسرائيل، واستهداف المغتربين كلها دفعة واحدة. إذ تمحورت معظم مطالبها حول ضبط حركات التظاهر الطلابية في حرم الجامعات، ومعاقبة المتظاهرين، خصوصاً المغتربين منهم، ووضع قسم «الدراسات الشرق أوسطية والأفريقية والجنوب آسيوية» في جامعة كولومبيا تحت «الوصاية الأكاديمية»، أي أنْ يخسر القسم استقلاليته وتراقبه الحكومة مباشرةً، في خطوة غير مسبوقة. وعملياً، انصاعت الجامعة لهذه المطالب.

كان من أبرز الاعتقالات التي نفذتها الإدارة الأميركية الجديدة إلقاء القبض على زعيم الحركة الاحتجاجية في كولومبيا، الطالب الفلسطيني محمود خليل، وهو لا يزال مهدَّداً بالترحيل مع أنه يحمل إقامة دائمة في الولايات المتحدة.

ولم يكن اعتقال خليل في حد ذاته هو ما أخاف الكثيرين فحسب، بل ما أثار الذعر خاصّة كانت الطريقة التي اعتُقل بها. فقد جرى ذلك في مدخل البناية التي يعيش فيها، ومن دون تحذير أو تفسير وأمام زوجته الحامل، ومن عملاء رفضوا تعريف أنفسهم أو الجهة التي يمثلونها، ومن ثمّ اختفاؤه لأشهر في مركز اعتقال في مدينة في ولاية لويزيانا البعيدة عن مكان سكنه. وهي طريقة وصفها خليل بأنها أشبه ما تكون بالخطف.

تهديد وسحب أوراق

وخلال زيارتي تلقيت إيميلاً من طالب دكتوراه في إحدى الجامعات الخاصة في نيويورك (لن أحددها للحفاظ على هويته)، وهو كان ناشطاً في الحركة الداعمة لفلسطين في جامعته، يخبرني فيه أنه يفكر بمغادرة البلاد لاستكمال أطروحته خارج الولايات المتحدة، على الرغم من أنّه سوف يخسر بذلك تأشيرة الدراسة والمنحة المالية التي تقدمها الجامعة. وقال الطالب في رسالته، وهو من جنسية عربية: «لا أخرج من بيتي خوفاً من أن يعتقلوني في الطريق. أخاف من كل طَرْقٍ على الباب». تلك أيضاً عبارة قالها لي أستاذ جامعي آخر يحمل جنسيتين، إحداهما أوروبية، ولعب دور المفاوض بين المتظاهرين الطلاب والإدارة في جامعة أخرى، موضحاً أنه يخاف أن يخرج من بيته مع ولده الصغير حين تكون زوجته مسافرة في حال اعترضه موظفو الأمن لاعتقاله ولم يعرفوا ماذا يفعلون بالولد فيسلّمونه لجهات حكومية.

طالبة تحمل علماً فلسطينياً خلال تدريبات حفل التخرج بجامعة يال في ولاية كونيتيكت 19 مايو الجاري (رويترز)

وقالت أستاذة أخرى من جنسية عربية كانت داعمة للحركات الطلابيّة في جامعتها إنّ محاميها يحذّرونها باستمرار من أنّ نشاطها السياسي هذا قد يؤثّر على فرصتها لنيل الجنسية الأميركية التي تقدّمت لها منذ فترة. فقد ورد اسمها في الوثائق التي حضّرها الكونغرس حول المظاهرات والتي أدرجها تحت تهمة «معاداة السامية». وتنتظر الأستاذة الجامعية الآن المقابلة التي تسبق الحصول على الجنسيّة بكثير من التوّجس والقلق.

تذكير بـ«تيانانمين»

وليس المغتربون من أصل عربي هم وحدهم الخائفون. فإحدى طالبات الدكتوراه الصينيات التي تدرّس مساقاً أكاديمياً عن «الحركة النسويّة المعادية للاستعمار في الصين» قالت إنها حذفت من مقررها بعض المواد التي قد تعد «راديكالية»، خوفاً من أن يؤثر ذلك على فرصتها في تجديد تأشيرتها الدراسية.

طالبة أخرى كورية تخاف من أن تتحدث بلغتها الأم خارج المنزل خوفاً من أن يظنّ الطلاب اليمينيون في الجامعة التي تقع في ولاية ويسكونسون المحافظة أنّها صينية فيتنمّرون عليها. وأخبرتني هي نفسها عن صديقة أخرى تعرضت لإلغاء التأشيرة التي تسمح لها بالعمل بعد استكمال الدراسة بسبب مخالفة سير.

طالبة آسيوية تحتفل بتخرجها في جامعة بنسلفانيا بولاية فيلادلفيا 19 مايو الجاري (أ.ب)

وفي جامعة إنديانا، وهي ولاية محافظة أيضاً، يتم التحقيق مع أستاذ يهودي بتهمة انتهاك «التنوّع الفكري» بسبب انتقاده دولة إسرائيل في أحد الصفوف. وقد نقلت زميلة، وهي من جنسية أوروبية وتقيم منذ سنوات في أميركا وتعمل في جامعة نورثويسترن، وهي جامعة خاصة، أن الإدارة طلبت من الأساتذة والطّلاب عدم استخدام بريدهم الإلكتروني التابع للجامعة للحديث عن «موضوعات سياسية»، لأن هذه الإيميلات قد تكون عرضة للكشف القضائي إذا قررت الحكومة الأميركية أن تحقق مع أي منهم. وهي نقلت أنّ كل ما يرسل، من رسائل قصيرة أو طويلة، عبر شبكة «eduroam» للإنترنت، وهي متاحة في كل المؤسسات التربوية، هو عرضة للتدقيق القضائي. وتقول الأستاذة التي تشارف على الستين من عمرها: «كنت أعيش في بكين بعد تيانانمين، والحالة الآن تستذكر الحالة التي كانت عليه الصين وقتها».

كلمات ممنوعة

من أهداف ترمب فيما يتعلّق بالجامعات إلغاء البرامج المتعلّقة بالتنوّع والإنصاف والشمول. فقد حجبت الإدارة الأميركية الكثير من المنح التي كانت تقدمها من خلال برامجها التربويّة. وتنص الميزانية التي قدّمها الرئيس الأميركي أخيراً على تقليص الدعم لـ«مؤسسة العلوم الوطنية» (NSF) فيما يخص «المناخ، والطاقة النظيفة، والعلوم الاجتماعية والاقتصادية»، وكل ما يصنّف تحت خانة الـ«WOKE» أي ذات حساسية مجتمعية أو توجه تقدمي.

مظاهرة بمدينة نيويورك دعماً للجامعات والتعليم حملت اسم «مسيرة الحق في التعلم» (أ.ف.ب)

وقامت الإدارة الأميركية مباشرةً بعد فوز ترمب بإدراج تعميم بكلمات من قاموس الـ«woke» مثل: التمييز، والتنوّع، والعرق، والانحياز، والأقليّات، والأزمة المناخيّة، واللاعدالة، والقمع المؤسسي، والنسوية، والنساء، والضحية، والتروما، والهويّة وغيرها، وطلبت حذفها من المواقع والمراسلات الرسمية. وأحصت صحيفة «نيويورك تايمز» أكثر من 500 كلمة حُذفت أو مُنع استخدامها فعلياً في المواقع الإلكترونية الرسمية لأنها لا تعكس توجه الإدارة الحالية في السياسات العامة. وطال التعديل المصطلحات في أحيان كثيرة، إذ حذفت أو تغيرت، لكن أيضاً في أحيان أخرى لحذف الفكرة والمضمون من ورائها أيضاً.

وهذا ما اضطر زميلاً آخر لأن يغيّر لقب منصبه في الجامعة من «أستاذ العدالة البيئية» إلى «أستاذ السياسة البيئية». أمّا مديرة «مركز النساء والجنسانية» في جامعة نورثويسترن فهي لم تعد تعرف إذا كان المركز ووظيفتها فيه باقيين حتى السنة المقبلة، أم سيتعين عليها البحث عن عمل، إن وجدت. وفي جامعة ويسكونسون، وهي جامعة رسميّة، اشترط محافظ الولاية على قسم العلوم السياسية توظيف أستاذ محافظ. وفي جامعة أوهايو تم إدخال مساق أكاديمي إلزامي تحت عنوان ما سمّته إدارة الجامعة «الحوار المدني».

الأمل المعلّق على «هارفارد»

استرجع الأكاديميون بعضاً من الأمل عندما رفضت جامعة هارفارد مطالب الإدارة الأميركية التي هددتها، مثلما هددت جامعة كولومبيا، بسحب تمويلها الفيدرالي. وكان الخوف أنه إذا انصاعت «هارفارد» وهي أغنى جامعة أميركية، فلن تحاول أي جامعة أخرى مقاومة السيطرة الحكومية.

وانتقلت الإدارة الأميركية إلى التهديد برفع الضريبة التي تجبيها على المخصصات التابعة لـ«هارفارد» والجامعات من مثيلاتها، أي الجامعات الغنية والخاصة التي تعد نخبوية. وقد عرض عضو الكونغرس الجمهوري عن ولاية تكساس رفع هذه الضريبة من مستواها الحالي، والبالغ تقريباً 1.5 في لمائة، إلى 21 في المائة. كذلك يهدّد ترمب بالتوقف عن اعتبار الجامعات مؤسسات لا تبغي الربح، مما يعني أنّ كل الأموال التي تصرفها الجامعات لتحقيق أهدافها التربوية ستصبح عرضة للضرائب.

الرئيس دونالد ترمب يتحدث عن احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية قبيل دخوله قاعة محكمة مانهاتن العام الماضي (رويترز)

نقض الاستقلالية الأكاديمية

هذا التغيير في تعريف الجامعات هو بمثابة تغيير لشكل علاقة الدولة بإنتاج المعرفة الذي جرى الاتفاق عليه في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وقتها كان السؤال: كيف ستقوم الدولة بدعم الإنتاج العلمي؟ وبعد النقاش السياسي والفلسفي حول هذا السؤال كان القرار ألّا يكون ذلك بالتدخل المباشر في هذا الإنتاج، بل بأن تدعم الدولة الجامعات لتكون هي المكان الذي يصير فيه إنتاج المعرفة والفكر. وكان من أساسيات هذا الاتفاق مبدأ استقلالية الجامعات وحريتها الداخلية. فهذا التدبير في مجمله عرضة لتحوّل جذري الآن.

وسيكون عرضةً للتحوّل أيضاً، نتيجةَ هذا التغيير، ليس مصائر الأفراد فحسب وإنما مكانة الولايات المتحدة بصفتها البلد الرائد في الإنتاج العلمي حول العالم. وهذا تحديداً ما أرّق زميلتي الأميركية ومنعها من النوم ومثلها عشرات، لا بل مئات الأكاديميين القلقين.


مقالات ذات صلة

ترمب يوقّع أمراً تنفيذياً يمدد الموعد النهائي لإغلاق «تيك توك»

الاقتصاد شعار تطبيق «تيك توك» على هاتف آيفون (أ.ب)

ترمب يوقّع أمراً تنفيذياً يمدد الموعد النهائي لإغلاق «تيك توك»

أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوم الخميس أنه وقّع أمراً تنفيذياً يمدد الموعد النهائي المحدد في 19 يونيو لشركة «بايت دانس» الصينية لبيع أصول «تيك توك».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد دونالد ترمب يتحدث في البيت الأبيض (أ.ب)

ترمب يهاجم باول مجدداً... «غباء» مكلف يُدمّر الاقتصاد الأميركي

صعّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب من لهجته ضد رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، متهماً إياه بالتسبب في «خسائر بمئات المليارات من الدولارات» للاقتصاد.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
خاص ترمب يتأهّب للحرب مع إيران وهدفه الأول تدمير فوردو

خاص ترمب يتأهّب للحرب مع إيران وهدفه الأول تدمير فوردو

يتأهّب الرئيس الأميركي دونالد ترمب للدخول على خط المواجهة مع إيران، وسط استعدادات لتوجيه ضربة قاصمة لما تبقى من البرنامج النووي الإيراني، ولا سيما منشأة فوردو.

علي بردى (واشنطن)
شؤون إقليمية صورة فضائية لمنشأة «فوردو» النووية التقطها قمر شركة «ماكسار»... (إ.ب.أ)

ما الذي يجعل منشأة «فوردو» النووية هدفاً بالغ الحساسية؟

تُعد منشأة «فوردو» من أكثر المواقع النووية الإيرانية تحصيناً وتعقيداً، حيث تقع داخل جبل صخري قرب مدينة قم، وعلى عمق يصل إلى 90 متراً تحت الأرض.

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي لافتة تحذر من المساس بخامنئي في أحد شوارع بغداد (أ.ف.ب)

السيستاني يحذر من استهداف خامنئي والصدر يدعو أنصاره إلى مظاهرات مليونية

مع توعد القضاء العراقي بإيقاع عقوبات رادعة على كل من يعمل على زعزعة الجبهة الداخلية في البلاد، أعلنت أبرز الفصائل المسلحة العراقية استعدادها لحمل السلاح

حمزة مصطفى (بغداد)

إرث العقوبات الأميركية الثقيل على سوريا… من الأسد الأب إلى الشرع

زبون يتفقد مانجو في كشك يبيع أصنافاً من الفواكه بعضها لم يكن متوفراً في عهد الرئيس بشار الأسد مثل الكيوي والموز والأناناس بسوق الشعلان بالعاصمة دمشق (أ.ف.ب)
زبون يتفقد مانجو في كشك يبيع أصنافاً من الفواكه بعضها لم يكن متوفراً في عهد الرئيس بشار الأسد مثل الكيوي والموز والأناناس بسوق الشعلان بالعاصمة دمشق (أ.ف.ب)
TT

إرث العقوبات الأميركية الثقيل على سوريا… من الأسد الأب إلى الشرع

زبون يتفقد مانجو في كشك يبيع أصنافاً من الفواكه بعضها لم يكن متوفراً في عهد الرئيس بشار الأسد مثل الكيوي والموز والأناناس بسوق الشعلان بالعاصمة دمشق (أ.ف.ب)
زبون يتفقد مانجو في كشك يبيع أصنافاً من الفواكه بعضها لم يكن متوفراً في عهد الرئيس بشار الأسد مثل الكيوي والموز والأناناس بسوق الشعلان بالعاصمة دمشق (أ.ف.ب)

عاش السوريون 46 عاماً تحت سيف العقوبات الأميركية، ونشأت أجيال كاملة لم تعرف غيرها. اندمجت العقوبات في تفاصيل الحياة اليومية، من المصارف والطيران الدولي إلى أعمال البناء والمواد الغذائية، وكان أثر هذه العقوبات أقسى على الناس العاديين مما كان على رموز النظام الأسبق. رفع العقوبات حالياً سيسمح بإطلاق جهود التخطيط وإعادة الإعمار لا شك، لكن المخاوف السياسية والأمنية لا تزال قائمة كما أن الحالة المتهالكة للبنى التحتية قد تكون عائقاً أمام استثمارات القطاع الخاص في سوريا. والأهم من ذلك، معرفة ما إذا كان قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإطلاق مسار رفع العقوبات ارتجالياً مثلما كان إعلانه الانسحاب العسكري من سوريا نهاية 2018، أم أنه تحوّل مفصلي في السياسة الخارجية الأميركية حيال سوريا؟

كان ترمب أعلن في 13 مايو (أيار) الماضي رفع العقوبات الأميركية عن سوريا خلال زيارته السعودية، ما أدى إلى فترة إرباك ومراجعة في إدارته قبل إعلانها آلية أولية توازن بين تنفيذ إعلان ترمب وأخذ في الاعتبار هواجس فريقه حيال انفتاح غير مشروط على السلطة الجديدة. وقبل تقييم المرحلة الحالية من رفع العقوبات، لا بد من مراجعة تاريخية لسياق وخلفيات هذه العقوبات، وطبيعة القرار الذي اتخذته واشنطن وآليات تنفيذه، وما أثره المحتمل على سوريا والسوريين. ويمكن تقسيم مراحل العقوبات على سوريا على ثلاث مراحل منذ عهد الرئيس الأسبق حافظ الأسد، ثم عهد ابنه بشار، وصولاً إلى الرئيس الحالي أحمد الشرع.

لوحة إعلانية وسط دمشق تحتفي بولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ ف ب)

الاتجاه نحو إيران 1979 - 2000

بدأت مرحلة العقوبات الأميركية على سوريا عام 1979 بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل وصعود الثورة الإسلامية في إيران. مع انتهاء الحلف الاستراتيجي بين القاهرة ودمشق، رأى حافظ الأسد في النظام الجديد في إيران محاولة لإيجاد ثقل موازن للعراق وإسرائيل. هذا التحوّل الاستراتيجي وضعه في نقيض مع مصالح أميركا وحلفائها، وأدرجت واشنطن سوريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ إنشاء القائمة عام 1979 نتيجة تدخلها في لبنان ودعمها وإيوائها المقاتلين ضد إسرائيل، كما حزب العمال الكردستاني. ومن ثمّ بدأ منذ ذلك الوقت القيود على المساعدات الخارجية الأميركية، والحظر على الصادرات والمبيعات الدفاعية، ومنع وصول المواد ذات الاستخدام المزدوج التي يمكن استخدامها لأغراض مدنية وعسكرية على حد سواء. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1986، فرضت إدارة الرئيس رونالد ريغان إجراءات عقابية ضد نظام حافظ الأسد، منها منع الطائرات السورية من الهبوط في الولايات المتحدة.

غزو العراق 2001 - 2010

الموجة الثانية من العقوبات بدأت بتحوّل في السياسة الأميركية هذه المرة بعد توقف دور واشنطن التقليدي في مسار مفاوضات السلام العربية - الإسرائيلية، لا سيما بعد اللقاء الأخير بين بيل كلينتون وحافظ الأسد في مارس (آذار) عام 2000، والأهم من ذلك اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة وتداعياتها في الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، وذلك بالتزامن مع وصول بشار الأسد إلى الحكم في يوليو (تموز) 2000.

ولأول مرة استخدم الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عبارة «محور الشر» في خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس في 29 يناير (كانون الثاني) 2002 في إشارة إلى إيران والعراق أيام حكم حزب البعث وكوريا الشمالية. وجاء رد النظام الإيراني بتشكيل ما أطلق عليه اسم «محور المقاومة» الذي كان يضم سوريا و«حزب الله» اللبناني.

هذه التحوّلات أدت إلى مرحلة جديدة من العقوبات بدأت مع قانون محاسبة سوريا وسيادة لبنان لعام 2003، الذي بدأ تنفيذه مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في وزارة الخزانة عام 2004، عبر القرار التنفيذي 13338 الذي ركز على احتلال النظام السوري السابق في لبنان وسعيه لامتلاك أسلحة دمار شامل وتقويضه الاحتلال الأميركي للعراق.

واللافت إنه في في 7 مايو (أيار) الماضي، وقعت إدارة ترمب «إشعار - استمرار حالة الطوارئ الوطنية فيما يتعلق بإجراءات الحكومة السورية» الذي يشمل تجديد القرارات التنفيذية بين عامي 2003 و2012، وهذا القرار يبقى ساري المفعول حتى 7 مايو 2026 إلا إذا بادرت إدارة ترمب بإلغائه.

ساحة عرنوس وسط دمشق بعد إسقاط تمثال الرئيس حافظ الأسد (الشرق الأوسط)

الانتفاضة الشعبية وقانون قيصر

الموجة الثالثة للعقوبات كانت مع بداية الانتفاضة السورية في مارس (آذار) 2011، حيث فرضت واشنطن عقوبات على سوريا عبر سلسلة قرارات تنفيذية رداً على أعمال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان، وأصدر الرئيس باراك أوباما في 29 أبريل (نيسان) 2011 قراراً تنفيذياً بحظر ممتلكات المتورطين في نظام الأسد، تبعه في أغسطس (آب) 2011 حظر على قطاع النفط وتجميد أصول الدولة السورية، بالإضافة إلى حظر تجاري يشمل تصدير السلع والخدمات التي يكون منشؤها أراضي الولايات المتحدة أو من شركات أو أشخاص أميركيين إلى سوريا، باستثناء المواد الغذائية والأدوية.

لكن نقطة التحول الرئيسية كانت مع إقرار الكونغرس «قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019»، المعروف باسم «قانون قيصر»، الذي وقّعه ترمب في ديسمبر (كانون الأول) 2019 ودخل حيز التنفيذ في يونيو (حزيران) 2020، واستهدف الصناعات المتعلقة بالبنى التحتية والصيانة العسكرية وإنتاج الطاقة، والشركات والأفراد في الدائرة التمويلية لنظام بشار الأسد، والأهم من ذلك حظر الاستثمار الأجنبي في إعادة إعمار سوريا.

هذه العقوبات الأميركية أتت بشكل أساسي على خلفية محاولة موسكو إطلاق مسار إعادة الإعمار في سوريا وتقاربها مع البلدان العربية عام 2018 لتكريس نفوذها في سوريا وتحجيم الدور الإيراني، وانعكس ذلك في محاولات تقارب خجولة قامت بها بعض الدول حيال نظام بشار الأسد. إذن في ظل المنافسة الروسية - الإيرانية على موارد الدولة السورية وقراراتها في تلك الفترة، جاء «قانون قيصر» ليردع الطرفين معاً اقتصادياً ويحظر التعامل مع الحكومة السورية وأجهزتها العسكرية والاستخباراتية.

عمال صيانة يعاينون مولّدات كهربائية وتجهيزات في محطة للطاقة في منطقة الكسوة قرب دمشق (رويترز)

ويبقى أن هدفه الرئيسي كان الدفع نحو التفاوض مع موسكو بحيث سمح القانون للرئيس الأميركي بتجميد العقوبات في حال كانت هناك مفاوضات مجدية. وبهذا، فإن «قانون قيصر»، الذي دخل حيّز التنفيذ بعد تسعة أعوام على الثورة السورية، لم تكن له علاقة بديناميات النزاع الداخلي السوري، بل كرادع اقتصادي لأي محاولة استثمار. يكفي أنه جاء في وقت كانت المعارضة المسلّحة في أسوأ مراحلها في حين لم تساعدها واشنطن عندما كانت في ذروة قوتها.

الشرع... وما بعد الأسد

بعد سقوط نظام بشار الأسد نهاية 2024، وتسلّم إدارة ترمب السلطة بداية العام الجاري، لم تبد سوريا أولوية أميركية وكانت هناك وجهات نظر متباينة داخل الإدارة حول كيفية التعامل مع السلطة الجديدة. لكن بدأ الأمر يتغيّر تدريجياً منذ 16 مارس (آذار) الماضي بعد أول اتصال هاتفي بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وترمب، بالتزامن مع تقرّب الأخير من الخيار التركي - السعودي في سوريا، ليناقض المقاربة الإسرائيلية المتشددة حينذاك حيال الشرع، قبل أن يكرّس هذا التحوّل الأميركي عملياً خلال زيارة ترمب إلى السعودية.

وعليه بدأ ترمب برفع العقوبات تدريجياً عن سوريا، فيما يبقى السؤال حول «قانون قيصر» معلقاً. فالآن بعد خروج النفوذين الإيراني والروسي، هل تلغي إدارة ترمب كل مفاعيل هذا القانون أو تعيد النظر في وظيفته كي يبقى ورقة ضغط على النفوذ التركي في سوريا عند الضرورة؟

يطرح السؤال علماً أن القانون تم تجميده لـ180 يوماً قابلة للتجديد. وهي ليست المرة الأولى، فقد علّق بشكل محدود لأسباب إغاثية خلال الزلزالين التركي والسوري في 7 فبراير (شباط) 2023، كما في حال الأراضي تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).

رجل يشير إلى لوحة لأسعار الصرف والأسهم في أمانة دمشق للعملات الأجنبية بعد عودة سوريا إلى البورصة العالمية (أ ف ب)

آليات التنفيذ وصعوباتها

بدأت إدارة ترمب كمرحلة أولى بإصدار قرارات تنفيذية تغطي نطاقات واسعة من الاقتصاد السوري لتسهيل مسار إعادة الإعمار الذي لا يزال الإقبال عليه بطيئاً نسبياً نتيجة التكاليف المرتفعة.

حتى الآن، هناك ثلاثة قرارات رئيسية تنظم آلية رفع العقوبات.

قرار تجميد العقوبات «GL 25» الذي أصدره مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة الأميركية في 23 مايو (أيار) الماضي، وقرار إعفاء لمدة 180 يوماً من «قانون قيصر»، والإعفاء الاستثنائي من التدابير الخاصة المفروضة على المصرف التجاري السوري، ما يسمح بفتح حسابات مراسلة، وأصدرته شبكة إنفاذ قوانين الجرائم المالية التابعة لوزارة الخزانة.

القرار «GL 25» ليس له تاريخ انتهاء صلاحية كما يمكن إلغاؤه في أي وقت أو استبداله، لكن الإعفاءات من قانون قيصر يتم تجديدها دورياً كل ستة أشهر.

وليس الترخيص العام السوري رقم 25 الأول هذا العام، بل أصدرت الخزانة الأميركية الترخيص رقم 24 في يناير (كانون الثاني) الماضي لفترة ستة أشهر أيضاً، وسمح بعدد محدود من المعاملات مع السلطات الرسمية وقطاع الطاقة، كما تم إعفاء التحويلات الشخصية من المواطنين الأميركيين إلى سوريا، لكن المصارف الأميركية لم تكن مستعدة للمخاطرة بعد.

ويشمل الترخيص العام «GL 25» أربعة قطاعات رئيسية؛ هي الخدمات المالية، والنفط والغاز، والشحن البحري، والطيران. كما لا يسمح للأشخاص الأميركيين بالمشاركة في المعاملات التي يمكن أن تفيد روسيا أو إيران أو كوريا الشمالية أو تسهيلها، ما يعني أنه سيكون هناك تحريات وتدقيق في أي معاملة للتأكد أنها لا تشمل أياً من هذه الأطراف المحظورة. ولم يتم بعد إلغاء الأوامر التنفيذية التي فُرضت بموجبها معظم التصنيفات ذات الصلة بسوريا بشكل رسمي، لكن تقارير إعلامية ألمحت إلى احتمال إصدار مثل هذه القرارات في المدى المنظور.

المسؤولون السوريون يقرعون الجرس إيذاناً بإعادة افتتاح سوق دمشق (الشرق الأوسط)

لكن هناك معضلة «إجرائية». فسوريا لا تزال حتى الآن مصنفة على لائحة الدول الراعية للإرهاب، ورفعها عن تلك اللائحة يتطلب تقديم وزارة الخارجية الأميركية تقريراً إلى الكونغرس يتضمن نتائج وقائعية محددة.

كذلك، لم يُدخل بعد مكتب الصناعة والأمن التابع لوزارة التجارة الأميركية ولا مديرية ضوابط التجارة الدفاعية التابعة لوزارة الخارجية الأميركية تغييرات على لوائح مراقبة الصادرات الأميركية لتعليق قرار حظر التصدير إلى سوريا، التي لا تزال مدرجة بدورها على لوائح الاتجار الدولي في الأسلحة ولا تزال تخضع لضوابط لوائح إدارة الصادرات، ومن ثمّ لا تزال جميع المواد الخاضعة للرقابة الأميركية على الصادرات (بخلاف معظم الأغذية والأدوية) تتطلب ترخيصاً للتصدير أو إعادة التصدير إلى سوريا.

وإلى ما سبق، لا تزال «هيئة تحرير الشام» مصنفة «منظمة إرهابية أجنبية». ورغم عقد ترمب اجتماعاً وجهاً لوجه مع الرئيس أحمد الشرع وقرار وزارة الخزانة إعفاءه من العقوبات، لا تزال هذه العقوبات قائمة عليه تحت كنية أبو محمد الجولاني.

وهناك قرار مجلس الأمن الدولي 1267 الذي يفرض عقوبات على «هيئة تحرير الشام»، لا يزال قائماً وملزماً للدول الأعضاء، وأي محاولة لرفعه قد تواجه بفيتو روسي، بينما العقوبات الدولية المتعلقة بحظر الأسلحة والقيود المفروضة على تكنولوجيا المراقبة ستبقى سارية المفعول.

في الأثناء، تم تجديد قانون قيصر في الكونغرس في يناير (كانون الثاني) 2025، لمدة خمس سنوات، ومن ثمّ لن ينتهي مفعول القانون حتى يناير (كانون الثاني) 2030، إلاّ إذا تم إلغاؤه بقرار تشريعي لا يزال مستبعداً في المدى المنظور. لكن بحلول 23 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل يمكن لإدارة ترمب أن تقرر ما إذا كانت ستجدد تعليق العقوبات لمدة ستة أشهر إضافية، وهي صيغة يمكنها تكرارها ريثما تتأكد من سلوك السلطة السورية الجديدة.

الديمقراطيون حلفاء ترمب

المؤكد أنه لا يمكن رفع العقوبات بشكل دائم إلا من خلال تشريعات يقرها الكونغرس الأميركي. وللصُّدَف، فإن حليف ترمب في معركة رفع العقوبات عن سوريا هم الديمقراطيون في الكونغرس، فالجمهوريون، لا سيما في مجلس الشيوخ، أكثر تحفظاً حيال هذا الانفتاح السريع.

ورأى رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السيناتور الجمهوري جيم ريش، أن ترمب رفع العقوبات «بشكل أقوى قليلاً مما كنا نتوقع»، لافتاً إلى «أننا ما زلنا في حالة انتظار وترقب، وتلك العقوبات التي تم رفعها يمكن إعادتها مرة أخرى».

وكانت هناك محاولات تأثير على ترمب من قبل الشركات الأميركية المهتمة بالاستثمار في سوريا، لا سيما في قطاع الطاقة، التي تتقاطع مصالحها مع المجموعات السورية - الأميركية، مقابل اللوبي المؤيد لإسرائيل، لا سيما لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) التي ترى أن أي تغيير في العقوبات «يجب أن يستند إلى إظهار مستمر للسلوك الإيجابي من الحكومة السورية الجديدة».

الأثر على الاقتصاد والناس

في عام 2018، قدرت الأمم المتحدة أن إعادة إعمار سوريا بالكامل سيتطلب ما لا يقل عن 250 مليار دولار، وهو مبلغ يستحيل تمويله من دون الدعم الدولي. هناك تحديات جدية تواجه أي استثمارات خارجية محتملة في سوريا. البنى التحتية المدمرة، بما في ذلك الطرق والمستشفيات وشبكات الكهرباء، تعوق توفير الخدمات الأساسية. وسيتطلب الانتعاش الاقتصادي استثمارات ضخمة لإحياء الصناعات، في حين أن ملايين الأشخاص الذين نزحوا بسبب النزاع في الداخل والخارج سيحتاجون إلى إعادة إسكانهم. هناك حاجة لتوفير كل أنواع الطاقة للسكان والمعدات الطبية الحديثة وتوفير فرص عمل بمرتبات مناسبة.

أطفال يمرحون وسط سوق يعج بالمتسوقين والبضائع قبيل عيد الأضحى في مدينة حمص السورية (أ ف ب)

يُعد رفع العقوبات، حتى لو كان جزئياً، تحولاً جذرياً في الاقتصاد السوري، حيث سيسمح بفتح الأسواق أمام البضائع والسلع الأساسية، ما يسهل الحصول على المواد الغذائية والأدوية والنفاذ إلى التكنولوجيا، كما سيفتح المجال أمام مشاريع إعادة الإعمار التي تحتاج إليها البنية التحتية المتضررة من النزاع، بما يشمل بناء المدارس والمستشفيات والطرق وغيرها. رفع العقوبات يسمح بإنهاء التجميد عن الأصول الدولية لسوريا، وسيمكّن الشركات الأجنبية من العودة إلى القطاعات الرئيسية مثل البناء والطاقة والتجارة.

التحوّل الأكبر بالنسبة للسوريين هو رفع الحظر عن وصول المصارف السورية إلى أنظمة الدفع العالمية، ما يعزز مسار انهيار الاقتصاد السوري في وقت لا يثق السوريون بمصارفهم منذ وقت طويل. ومن المتوقع أن تبدأ قريباً إعادة ربط سوريا بنظام المدفوعات الدولية «سويفت» في حين تحتاج البلاد إلى تدابير داعمة في ظل غياب قطاع مصرفي محلي للخروج من السوق السوداء، ونقص في السيولة النقدية، وعدم القدرة على استيراد المواد الأولية. سوريا مدرجة على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، وهو عامل سلبي لثقة النظام المصرفي الدولي، من هنا أهمية إنشاء آلية تنظيمية مصرفية فعالة.

هناك مشاريع طموحة داخل سوريا ومع محيطها وتوقع حكومة الشرع اتفاقات مع جهات خارجية وإن دون اتباع مبادئ المناقصات والمزايدات والعقود الحكومية. ميناء طرطوس مثلاً، تم تلزيمه لدولة الإمارات عبر «مذكرة تفاهم» مع «مواني دبي العالمية» بـ800 مليون دولار بهدف تطوير وإدارة وتشغيل محطة متعددة الأغراض وتأسيس مناطق صناعية ومناطق حرة وموانٍ جافة ومحطات عبور للبضائع.

كذلك وقّعت الحكومة السورية عقداً مدته 30 عاماً مع شركة الشحن الفرنسية CMA CGM لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية. ووقعت الهيئة العامة للمواني البرية والبحرية «اتفاقية استراتيجية» مع شركة فيدي الصينية تمنحها فيه حق الاستثمار في 300 ألف متر مربع من المنطقة الحرة في عدرا في ضواحي دمشق لمدة 20 عاماً، حيث سيتم التركيز على المنتجات التجارية والخدمية للسوق المحلية والإقليمية، بحيث تحصل على مزايا تشمل الإعفاءات الضريبية الكاملة، وحرية توظيف العمالة المحلية أو الأجنبية والتحويل غير المقيد لرأس المال الأجنبي. كذلك وقعت الحكومة اتفاقية مع اتحاد شركات قطري - أميركي - تركي بقيمة 7 مليارات دولار في مجال الطاقة لتوليد 5.000 ميغاواط من الكهرباء.

تحاول الإدارة السورية الجديدة استمالة القوى الخارجية عبر هذه التلزيمات لمحاولة التأثير على سياستها الخارجية حيال سوريا، بحيث تمارس هذه الشركات النفوذ على حكوماتها لضمان مصالحها الاقتصادية. فعلى سبيل المثال جوناثان باس، وهو ناشط جمهوري مؤيد لترمب والرئيس التنفيذي لشركة أرجنت للغاز الطبيعي المسال، زار دمشق أوائل شهر مايو (أيار) الماضي في زيارة نسقتها المنظمة السورية للطوارئ (وهي تجمّع سوري - أميركي) لعرض خطة على الشرع لتطوير موارد الطاقة مع شركات غربية وشركة النفط الوطنية السورية.

ارتفاع معدل عودة اللاجئين خارج سوريا بعد رفع العقوبات الدولية (رويترز)

في العموم، يمكن القول إن هناك ثلاث محطات رئيسية للعقوبات الأميركية على سوريا: الإدراج على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ عام 1979، قانون محاسبة سوريا وسيادة لبنان عام 2003، قانون قيصر عام 2019. الأول يحتاج إلى قرار متوقع أن تأخذه وزارة الخارجية، والباقي إلى قرارات من الكونغرس. أي هناك تحوّل جذري متوقع ووشيك في الركيزة الأولى فقط، فيما تستكشف إدارة ترمب ما يمكن لحكومة سوريا الجديدة تحقيقه قبل السعي إلى رفع دائم للعقوبات.

لذا، يصعب القول إن الاستثمار الأميركي سيتدفق سريعاً إلى سوريا، فنشهد مثلاً برج «ترمب» يعلو قرب سوق الحميدية، بل ذلك إعطاء ضوء أخضر لتركيا والدول العربية بالاستثمار في إعادة الإعمار دون التعرض لعقوبات أميركية، ريثما تتأكد واشنطن من ضمان الاستقرار الأمني والسياسي قبل المخاطرة باستثماراتها. فحكومة دمشق لا تسيطر على كامل سوريا حالياً، ولا تملك سيطرة كاملة على الفصائل المسلحة، كما أن هناك اتجاهاً دولياً لفرض عقوبات جديدة على كيانات وأشخاص بسبب ارتباطهم بأحداث الساحل السوري في مارس (آذار) الماضي.

وبهذا يمكن القول إن عقوبات قانون قيصر كانت لتغيير سلوك نظام الأسد وأصبحت وظيفتها الآن التأكد من حسن سلوك حكومة الشرع. هذا التجديد كل ستة أشهر لن يطمئن المستثمرين، لا سيما في الغرب، لدخول الأسواق السورية فيما الرابح الأكبر سيكون دول الجوار.

أفكار فريق الشرع قد تكون طموحة وتهدف حالياً إلى استمالة ترمب شخصياً عبر تعاملات اقتصادية مثل طرح خطة إعمار على غرار خطة مارشال مع شركات غربية. لكن ترمب يصعب «سحره» بسهولة. فحتى الآن ليست أولوية إدارته إعادة تعيين سفير في دمشق، بل عينت السفير الأميركي في تركيا توم باراك مبعوثاً لسوريا، ما يشي أن سوريا هي امتداد للسياسة الأميركية حيال تركيا.

وصحيح أن ترمب متقلب وقد يغيّر قراراته أحياناً بالسرعة نفسها التي يتخذها بها، لكن المؤشرات تدل على أننا لا نزال في مرحلة إعفاءات مؤقتة ومنح تراخيص ظرفية وليس إلغاء كاملاً للعقوبات.