عن «اليوم الأسوأ في تاريخ السويد»... جريمة معلّقة ضحيتها مهاجرون

أحداث متفاقمة سبقت إطلاق النار وأسئلة صعبة حول الأمان الاجتماعي

ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)
ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)
TT

عن «اليوم الأسوأ في تاريخ السويد»... جريمة معلّقة ضحيتها مهاجرون

ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)
ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)

في حادثةٍ هزّت السويد وأدخلتها في دوامةٍ من الأسئلة الصعبة حول مستقبل الهجرة ومستوى الأمان الاجتماعي في البلاد، لقي أحد عشر شخصاً معظمهم من المهاجرين مصرعهم، وأصيب ستة آخرون بجروح خطرة، في إطلاق نار جماعي وُصف بأنه «الأسوأ في تاريخ البلاد». وكانت الحادثة التي كشفت عن هشاشة بنيوية في المجتمع السويدي، وقعت في 4 فبراير (شباط) 2025 داخل حرم مجمع مدارس «ريسبرجسكا» في مدينة أوريبرو، على بُعد 200 كيلومتر غرب العاصمة استوكهولم.

وجاءت هذه الجريمة المروعة بعد سلسلة أحداث متفرقة لم تلقَ الصدى الكبير الذي تلقاه عادة حوادث إطلاق نار أو جرائم أخرى، خصوصاً إذا كان المرتكب مهاجراً أو من خلفية مهاجرة.

ففي 7 يناير (كانون الثاني) 2025 قتلت ميسون أيوب (60 عاماً)، بعد تعرضها للطعن في متجر بضاحية بوتشيركا جنوبي استوكهولم، لتعتقل الشرطة رجلاً في الخامسة والعشرين، أظهر الفحص النفسي أنه «مصابٌ باضطرابٍ عقلي حاد»، وقبل ذلك، في 15 ديسمبر (كانون الأول) 2024، قتل نيمو بشير داود (28 عاماً)، من أصول صومالية، في منطقة غابات مارشتا Marsta شمال غربي استكهولم. وبحسب الشرطة، «قُبض على مشتبه به خضع سابقاً لرعاية نفسية إلزامية».

وفي 12 أغسطس (آب) 2024، شهدت مدينة بوروس حادثة صادمة، إذ اندفعت سيارة نحو مظاهرة مؤيدة لفلسطين، مما أثار الذعر بين المشاركين وأوقع بينهم جرحى. السائق، الذي تبين من صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة به أن له توجهات يمينية متطرفة، اقتحم الحشد مرتين، وفقاً لشهود عيان. ولاحقاً أظهرت تحقيقات الشرطة أن السائق، وهو رجل أعمال في الستينيات من عمره، لديه تاريخ من التفاعل مع المحتوى اليميني المتطرف على الإنترنت. كما تضمنت تعليقاته دعوات صريحة للعنف ضد الفلسطينيين، بما في ذلك تحريض مباشر على قتلهم وتجويعهم.

بالتالي فإن الجريمة «الأسوأ على الإطلاق» في تاريخ السويد، والتي وصف حدوثها رئيس الوزراء، أولف كريسترشون، بـ«اليوم المظلم في التاريخ السويدي» لم ترق بحسب تحقيقات الشرطة ووسائل الإعلام إلى اعتبارها «عملاً ارهابياً» لكون المنفذ قتل نفسه وليس من خلفية مهاجرة على ما ندد كثيرون من أهالي الضحايا.

خطاب معادٍ للأجانب

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى السياسي في حزب اليسار وعضو مجلس مقاطعة أوريبرو السابق لمدة 24 عاماً جهاد نعمة والمقيم في السويد منذ 1990، فقال إن ما حدث كان متوقعاً، لكنه لم يكن ليُتصور أنه بهذه الوحشية.

أهالي ضحايا إطلاق النار في مدينة أوريبرو يوقدون الشموع ويضعون الزهور في موقع الحادثة (غيتي)

وقال نعمة: «الخطاب السياسي الذي تنتهجه الأحزاب الحاكمة حوَّل المهاجرين، سواء كانوا قادمين جدداً، أو من المهاجرين القدامى، أو حتى الجيل الثاني، إلى شماعة تُعلق عليها جميع الأزمات والإخفاقات السياسية. وأدى ذلك إلى خلق قاعدة ناخبة باتت ترى الهجرة والمهاجرين على أنهم المشكلة الأساسية في البلاد».

ويضيف نعمة: «سياسات التقشف والاضطراب الاقتصادي وسوء إدارة الموارد أعادت ترتيب الأولويات على مستوى البلديات والمقاطعات، فقد شهدنا تراجعاً في الميزانيات المخصصة للرعاية الصحية، بما في ذلك دعم الأشخاص المصابين بأمراض نفسية، بينما جرى خفض الضرائب على أصحاب المداخيل المرتفعة. وهذا بدوره أدى إلى تفاقم غياب العدالة الاجتماعية، وزيادة الفجوة بين الطبقات، وارتفاع معدلات البطالة، فضلاً عن غياب استراتيجيات واضحة لدمج القادمين الجدد. كل هذه العوامل، إلى جانب تصاعد الخطاب السياسي المشحون بالكراهية ومعاداة الأجانب، مهّدت الطريق لهذه المجزرة».

كيف بدأت القصة؟

في ظهر يوم الثلاثاء 4 فبراير 2025، تلقت الشرطة السويدية أول بلاغ عن وقوع إطلاق نارٍ داخل حرم مجمع مدارس «ريسبرجسكا» في مدينة أوريبرو، وتحديداً في الطرف الجنوبي للمدينة. يضم المجمّع ست مؤسسات تعليمية متنوعة، من بينها مركز تعليم الكبار ومدارس تعليم اللغة السويدية للمهاجرين، إضافةً إلى روضة أطفال وبرامج تدريب مهني.

وأشارت البيانات الصادرة عن الشرطة إلى أن ريكارد أندرسون، المشتبه به في ارتكاب الجريمة، استقل حافلة من وسط المدينة عند الساعة 07:35 صباحاً، ووصل إلى محطة قريبة من المدرسة في الساعة 07:47. ولم تتوفّر حتى الآن معلومات محدّدة عمّا قام به في الفترة الممتدة من وصوله إلى نحو الساعة 11:30، حين لحظه شهود عيان داخل المجمع التعليمي البالغة مساحته 17 ألف متر مربع. وفي صورة وزعتها الشرطة على وسائل الإعلام، حصلنا على نسخة منها، يظهر الجاني وهو يسير حاملاً حقيبة غيتار على ظهره وكيساً في كل يد، مما يُضيف بُعداً آخر لغموض دوافعه وسير الأحداث.

وعند الساعة 12:33، ورد بلاغ رسمي عن إطلاق نارٍ في المكان. وصلت أول فرقة شرطةٍ بعد ست دقائق، ودخل أفرادها المبنى في الساعة 12:40. في الدقيقة التي تلت ذلك، تبادلوا إطلاق النار مع المشتبه به، قبل أن تؤكد الشرطة عند الساعة 12:45 أنّ أندرسون أنهى حياته بيده.

مسؤول الشرطة السويدية هنريك دالستروم (إ.ب.أ)

في نحو الساعة 13:20، نشرت الشرطة بياناً عبر موقعها الإلكتروني طالبت فيه المواطنين بالابتعاد عن المنطقة، مشيرةً إلى وجود «تهديد محتمل باستخدام العنف المميت». تزامن ذلك مع مداهمة قوات أمنية أخرى منزل المشتبه به. وبعد قرابة ساعةٍ ونصف من هذا النداء، عُقد مؤتمر صحافي أكّد خلاله رئيس الشرطة أن التحقيق في مراحله الأولى، وأنه «لا دليل على وجود دافع آيديولوجي أو إرهابي حتى تلك اللحظة».

بعد ساعة ونصف من إصدار البيان، وعلى عكس حالات عنف سابقة، عقدت الشرطة مؤتمراً صحافياً ظهر فيه رئيس الشرطة وحيداً يتلقى السؤال نفسه تقريباً من كل الصحافيين: «هل كانت عملية إرهابية»؟ لتأتي الإجابة نفسها مراراً: «ليس ما يشير إلى دافع آيديولوجي. لا يوجد حتى الآن أي دافع واضح».

في وقتٍ لاحق من اليوم نفسه، أعلنت الشرطة مقتل عشرة أشخاص في موقع الحادث، وأشارت إدارة منطقة أوريبرو إلى أن ستة أشخاص آخرين - جميعهم فوق الثامنة عشرة - يتلقون العلاج في المستشفى؛ خمسة منهم في حالة خطيرة، لكن مستقرة، ثم ارتفعت الحصيلة لاحقاً إلى 11 قتيلاً. وأوضحت الشرطة أن المشتبه به، الذي لم يكن معروفاً لها ولا يرتبط بأي عصابة، يُعتقد أنه تصرف بمفرده، وهو أحد من لقوا حتفهم أثناء الحادث. ثم نفى المسؤولون وجود دافع إرهابي وراء هذه الجريمة، لكن الآن تشمل التهم محاولة القتل وإحداث حرائق عمدية وجرائم استخدام الأسلحة النارية الخطيرة.

من هو ريكارد أندرسون؟

بدأت تتراكم التساؤلات حول ماضي الجاني، الذي لم يُدن سابقاً بارتكاب أي جريمة؛ إذ وصفه زملاؤه في المدرسة بأنه شخص هادئ الطباع عانى من صعوبات دراسية جسيمة، ولم يحقق معايير النجاح بعد إنهاء المرحلة الإعدادية، حتى إن أحد رفقائه وصفه بأنه «منعزل». وبعد انتهاء دراسته الثانوية، تلاشت تفاصيل حياته إلى حد بعيد.

بيانات مصلحة الضرائب تظهر أنه لم يحقق أي دخل خاضع للضريبة منذ عام 2014، أي أن دخله لم يتجاوز 100 ألف كرونة. كما أكدت الشرطة تسجيله في المركز التعليمي، الذي وقعت فيه المأساة. حصلت «الشرق الأوسط» على مستندات صادرة عن وكالة التجنيد والتقييم الدفاعية السويدية والتابعة لوزارة الدفاع، تُشير إلى أن الرجل قد تم إعلامه مراراً بأنه غير مؤهل للخدمة العسكرية عند بلوغه سن الرشد. وجاء في القرار: «أنت وجميع الرجال السويديين ملزمون يالتجنيد العسكري عند بلوغكم 18 عاماً. ومع ذلك، تستدعي الوكالة فقط الذين يملكون الإمكانات للتسجيل في الخدمة العسكرية أو المدنية أو للانضمام إلى الاحتياطي التعليمي». لكن رغم عدم أهليته للخدمة العسكرية فإن أندرسون حاز على رخصة لحيازة أربع بنادق صيد. وبهذه الأسلحة المرخصة، التي تضمنت بندقية إصابة مع ذخيرة من عيار مقاس 30-06 ، وكذلك بندقية صيد عادية، قام بارتكاب المجزرة تاركاً وراءه حدثاً زلزل السويد.

مسعفون في مجمع المدارس في مدينة أوريبرو السويدية حيث وقعت حادثة إطلاق نار وصفت بـ«الأسوأ في تاريخ البلاد» (غيتي)

رابطة الصيادين السويدية على موقعها الرسمي تُشير بوضوح إلى أن «شهادة الصيد» تُعد شرطاً أساسياً للحصول على ترخيص لحيازة أسلحة الصيد، حيث تتألف من اختبار نظري وثلاثة اختبارات عملية، وأنه لا يوجد حد أدنى للسن، لكن يجب أن يمتلك المتقدم اللياقة البدنية اللازمة للتعامل الآمن مع الأسلحة. كما يجب الحصول على «شهادةصيد» كشرط أساسي قبل التقديم للحصول على ترخيص لدى الشرطة، لشراء واستخدام أسلحة الصيد، ويُستوفى ذلك بعد تقييم قدرات الفرد وفقاً للمعايير الفحص الموحدة. حاولنا سؤال جهاز الشرطة عن طريق إرسال رسالة إلكترونية، حول آليات هذا الفحص، غير أن المسؤولين على المستوى الوطني رفضوا الإدلاء بتصريحات إضافية، وطلبوا منا التواصل مع الشرطة في منطقة شرطة بيرجسلاجن التي تقع مدينة أوريبرو ضمن نطاق عملها، والتي تتولى التحقيق في الحادثة بحسب إيمانويل ألفاريز، السكرتير الصحافي في المركز الإعلامي لدى الشرطة الوطنية.

بعد اسبوع من الانتظار اكتفت الشرطة في منطقة بيرجسلاجن بالرد أنه «من المهم أن نتذكر أن هذا تحقيق مستمر وأن حقائق جديدة قد يتم اكتشافها و/أو إثباتها مع مرور الوقت. وستقوم الشرطة بالإعلان عن التفاصيل عندما تتوفر لدينا حقائق جديدة لتقديمها وعندما نشعر أننا قادرون على تقديم المعلومات».

مظاهر إسلاموفوبيا

تقول المترجمة نور مارتيني، المقيمة في أوريبرو، إن المدينة شهدت تصاعداً ملحوظاً في مظاهر الإسلاموفوبيا في السنوات الاخيرة. وتشير إلى أن حركة «مقاومة الشمال» المرتبطة بالنازيين الجدد التي بدأت في 2018 في نشر آيديولوجيتها في وسط المدينة بلغت حدوداً قصوى في السنتين الأخيرتين. في العام نفسه، تعرّض مسجد أوريبرو لحريق لم تُعرف أسبابه بشكل قاطع، إذ أُشيع أن أحد رواد المسجد كان وراء الحادث بسبب خلافات داخلية، لكن المسجد لم يُعَد بناؤه منذ ذلك الحين.

الشرطة السويدية تطوّق مجمّع المدارس الذي شهد إطلاق نار أودى بحياة 11 شخصاً في مدينة أوريبرو (غيتي)

وتضيف نور أن التوترات بلغت ذروتها خلال أحداث حديقة سفيا باركن في 15 أبريل (نيسان) 2022، عندما اندلعت مواجهات عنيفة بين الشرطة وسكان مسلمين، على خلفية منح المتطرف اليميني راسموس بالودان تصريحاً لحرق المصحف أمام مسجد في ضاحية «فيفالا» شمال المدينة بما اعتبر قانوناً «حرية تعبير». ورغم تصاعد التوتر الأمني، فإن بالودان أصرّ على تنفيذ خطته، مما أثار استياء الجالية المسلمة وطرح تساؤلات حول الهدف من منحه التصريح،.

وبحسب نور، فإن التداعيات القانونية للأحداث أسفرت عن محاكمة ما لا يقل عن 150 شخصاً، معظمهم من الشباب والمراهقين، الذين تحولوا إلى أصحاب سوابق جنائية بموجب القانون السويدي، مما سيؤثر على مستقبلهم الاجتماعي والمهني، لا لسبب فعلي إلا لرغبة أحدهم بحرق كتابهم الديني.

وتلفت نور إلى أن الخطاب السياسي في السويد أصبح أكثر وضوحاً في استهدافه للمهاجرين، خاصة خلال مناقشات الحكومة في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حول تعديل النظام الانتخابي للمجالس المحلية والبلديات. خلال هذه المناقشات، حذّرت نائبة رئيس الوزراء وزعيمة الحزب المسيحي الديمقراطي إيبا بوش من أن استمرار النظام الحالي قد يؤدي إلى «سيطرة المهاجرين على بلدية أوريبرو»، وهو تصريح اعتبره كثيرون معادياً للأجانب. كما تستذكر نور تصريحات بوش السابقة خلال أحداث سفيا باركن، حين تساءلت: «لماذا لم نشهد مقتل مائة إسلامي على الأقل؟»، في إشارة إلى الاحتجاجات العنيفة التي وقعت بعد حرق المصحف. وترى أن هذه اللغة الحادة أسهمت في تأجيج المشاعر ضد المهاجرين، وساهمت في تشكيل توجه سياسي يمنح اليمين المتطرف نفوذاً متزايداً.

ولم يكن الخطاب المعادي للمهاجرين حكراً على اليمين، وفقاً لنور. ففي الانتخابات البرلمانية عام 2022، ركّزت جميع الأحزاب على مدينة أوريبرو خلال حملاتها الانتخابية، لما لها من ثقل انتخابي واضح. حتى ماغدالينا أندرسون، رئيسة أكبر حزب في التكتل اليساري آنذاك، لم تتردد في استخدام لغة قومية، عندما قالت خلال حملتها: «ينبغي على الجميع أن يكونوا إسكندنافيين»، في تصريح اعتبره البعض محاولة لاستقطاب ناخبي اليمين.

ترى نور أن جميع هذه العوامل مجتمعةً تشير إلى أن مجزرة أوريبرو كانت «استهدافاً إرهابياً» للمهاجرين، خصوصاً الجالية المسلمة، حتى وإن حاولت الحكومة التخفيف من وقع الحدث أو تجنّب تسميته كهجوم بدوافع عنصرية. ومع استمرار التحقيقات، لا يزال مجتمع المهاجرين يعيش حالة من الترقب والقلق، في انتظار إحاطة الشرطة بالمستجدات. وفي الوقت الذي يشعل فيه المواطنون الشموع تكريماً للضحايا، تواجه بعض العائلات المكلومة تحديات إضافية، حيث أصبح بعض الأطفال مهددين بالترحيل بعد فقدان معيلهم، بينما مُنعت زوجة أحد الضحايا من تلقي العزاء بسبب صدور قرار بترحيلها قبل أن تتمكن حتى من وداع شريك حياتها.

صراع سياسي داخلي

تقول سلوى محمد (اسم مستعار) في حديثٍ لـ«الشرق الأوسط»:«يملؤني الرعب. أفضّل إخفاء هويتي كي أستطيع الحديث بحرية؛ فأنا أخشى الانتقام في بيئة العمل، خاصةً وأن بعض المؤسسات بدأت تضيق الخناق على من ينتقد الأوضاع الراهنة في السويد، لا سيما إن كان من أصول مهاجرة».

الملك والملكة السويديان وخلفهما رئيس الوزراء وزوجته في جنازة ضحايا حادثة أوريبرو (غيتي)

وترى سلوى أن المهاجرين باتوا هدفاً لصراعٍ سياسي محتدم؛ إذ تسعى بعض الأحزاب إلى تحقيق مكاسبها على حسابهم. وتضيف: «يطالبوننا بالاندماج والعمل، وهو ما نقوم به بالفعل. ومع ذلك، نُقتل. لماذا لا يُطلق على هذه الجرائم وصف (هجمات إرهابية) عندما ينفذها أشخاص سويديون بيض ضد مهاجرين؟ أين اختفت أصوات التحريض ضد المهاجرين؟ ولماذا كل هذا التعتيم على عمليات القتل التي تستهدف اللاجئين في السويد؟».

وتعرب سلوى كما غيرها ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» عن استيائها من ازدواجية المعايير، قائلةً: «لو كان المنفّذ مهاجراً مسلماً، لأُلصقت به على الفور تهمة الإرهاب، لرأينا اليمين السويدي وجهاز الدعاية المرتبط به يتصدّرون الإدانة. أمّا الآن، فلا نجد إلا صمتاً مطبقاً وكأن ضحايا هذه الجرائم ليسوا بشراً، إلى درجة أن جيمي أوكيسون، رئيس حزب ديمقراطيي السويد، لم يذهب إلى أوريبرو بحجة أنه لا يريد استغلال الحادث لأسباب سياسية».

وتتهم سلوى الحكومة الحالية بـ«تعزيز الانقسام المجتمعي» عبر ما تصفه بـ«سياسات تمييزية وإقصائية»، مدعومةً بوسائل إعلامٍ تحتكر السردية وتهمّش أصوات المهاجرين. وتقول إنّ الإعلام «يركّز على السلبيات والإخفاقات ويستند إلى مصطلحات مثل الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة، للتشكيك في أي طرحٍ مختلف عن الرواية الرسمية» التي تروّج لها الشرطة والمؤسسات الحكومية.

قصص من النضال والحب والتحديات

قمنا في «الشرق الأوسط» بمراجعة سير الضحايا بالاستناد إلى المصادر المفتوحة وما نُشر عنهم في الإعلام السويدي. المراجعة تُظهر أن الضحايا العشرة، كانوا من خلفيات متنوعة، بما في ذلك مهاجرون من أفغانستان، والبوسنة، والصومال، وسوريا، والعراق، ومن بين الضحايا: علي محمد (35 عاماً) من أفغانستان، وقمر (38 عاماً) من الصومال، وبسام الشلح (48 عاماً) من سوريا، وسليم إسكيف (28 عاماً) من سوريا، وعزيزة (68 عاماً) من كردستان العراق، وسلمي هوكيك (55 عاماً) من البوسنة، وإلسا تيكلاي (32 عاماً) من إريتريا.

مارة يشاهدون إضاءة جسر أوريسوند في السويد بألوان العلم إحياء لذكرى ضحايا إطلاق النار في مدينة أوريبرو (غيتي)

سلمى... الحب أولاً

ولدت سلمى في مدينة توزلا في البوسنة، وكانت تقيم في أوريبرو برفقة أسرتها. في وطنها، كانت ناشطة في العديد من الجمعيات التطوعية، كما أنها تلقت تدريبها ممرضةً مساعدةً في السويد، وحصلت مؤخراً على تصريح عمل وإقامة دائمة، مما عزز فرصها في بناء حياة مستقرة. شاركت عائلتها رسالة كانت قد كتبتها إلى صديقة مقربة، تأملت فيها مسار حياتها، وتطرقت إلى موضوع ترك وطنها والخيارات التي اتخذتها. تحدثت سلمى في رسالتها عن أهمية الحب والتضامن في مواجهة تحديات الحياة. وختمت رسالتها، المكتوبة بلغتها الأم، بطابع شعري صادق يحمل في طياته معاني سامية: «دائماً اختاري الحب»

بسام... خبّاز «تيك توك»

بسام الشلة من سوريا، رب أسرة وأب لطفلين، كان يحضر دروس اللغة السويدية للمهاجرين مرتين أسبوعياً، ويعمل في مخبز. عمل بسام، طباخاً وخبازاً في مخبز لبناني شهير في أوريبرو، وكان شخصية محبوبة ومعروفة في الأحياء المجاورة. لم يكن مجرد طباخ عادي، إذ كان يسجل مقاطع فيديو أثناء عمله ويبثها عبر «تيك توك»، مما جعله يحتل مكانة خاصة لدى متابعيه؛ فقد كان يستقطب الزوار إلى المطعم، من مدن مختلفة كما أوضح زميله بيير العجاج لـ«وكالة الأنباء السويدية»: «لقد كان لديه أسلوبه المميز في تصوير عملياته، بحيث تُظهر تدويناته للهاتف تفاصيل عمله الدقيقة، وكانت موهبته تجذب أعداداً كبيرة من المتابعين وتجلب للمخبز زواراً من مختلف المناطق».

سليم... لا عرس في الصيف

كان سليم القادم من سوريا يدرس ليصبح ممرضاً واشترى منزلاً مع خطيبته وكان من المقرر أن يتزوجا خلال الصيف. تم تجربة فستان الزفاف وحجز الموعد. لكن بدلاً من الاحتفال بزواجه، اجتمعت عائلته وأقاربه وأصدقاؤه لتوديعه وإقامة جنازته في كنيسة القديسة مريم في المدينة.

قمر... حياة جديدة لم تكتمل

جاءت قمر إلى السويد من الصومال منذ أكثر من عشر سنوات، وهي أم عزباء لثلاثة أطفال يبلغ أكبرهم 15 عاماً، والآخر 11 عاماً، بينما يحتفل الأصغر بعيد ميلاده الثاني بعد شهرين من وفاتها. كانت قمر تنوي التوجه إلى متجر إيكيا بعد انتهاء دوام عملها في ذلك اليوم المشؤوم لشراء آخر مستلزمات انتقالها إلى شقة جديدة مع أولادها بعدما بدأت وظيفة تتيح لها العيش في منزل أوسع.

هكذا، وبعد مرور أكثر من شهر على هذه الكارثة، لا تزال أسئلة كثيرة دون إجابة حول خلفية ريكارد أندرسون ودوافعه. وفيما تواصل السلطات جهودها للتحقيق في ملابسات الحادث وتقديم إجابات وافية للمجتمع، ينتظر الناس عموماً، وأهالي الضحايا خصوصاً بفارغ الصبر نتائج هذه التحقيقات لمعرفة ما قاد الجاني إلى ارتكاب هذا الفعل الدموي.

أما الفئة الواسعة من المهاجرين فينتابها خوف من تكرار هذه الحوادث الفردية أو الجماعية وأن تبقى معلقة في أعناق «مرضى نفسيين».


مقالات ذات صلة

اعتقال أستاذ جامعي في أميركا استخدم بندقية خرطوش قرب كنيس يهودي

الولايات المتحدة​ صورة من جامعة هارفارد الأميركية... الأستاذ الجامعي الذي أُلقي القبض عليه يدرّس في هارفارد (رويترز - أرشيفية)

اعتقال أستاذ جامعي في أميركا استخدم بندقية خرطوش قرب كنيس يهودي

ألقت سلطات الهجرة الأميركية القبض على أستاذ زائر في كلية الحقوق بجامعة هارفارد هذا الأسبوع، بعد أن اعترف باستخدامه بندقية خرطوش خارج كنيس يهودي في ماساتشوستس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق شرطي يعرض بيضة فابرجيه خضراء مرصعة بالماس في أوكلاند بعد مراقبة دامت 6 أيام للص المتهم بابتلاعها (أ.ف.ب)

ابتلعها بهدف سرقتها... استعادة قلادة مستوحاة من أفلام جيمس بوند من أحشاء رجل نيوزيلندي

كشفت شرطة نيوزيلندا، التي أمضت 6 أيام في مراقبة كل حركة أمعاء لرجل متهم بابتلاع قلادة مستوحاة من أحد أفلام جيمس بوند من متجر مجوهرات أنها استعادتها

«الشرق الأوسط» (ولينغتون)
العالم المرشح اليميني للانتخابات الرئاسية في البيرو رافايل بيلاوندي (أ.ب)

نجاة مرشح للانتخابات الرئاسية في البيرو من إطلاق نار استهدفة سيارته

نجا المرشح اليميني للانتخابات الرئاسية في البيرو، رافايل بيلاوندي، اليوم الثلاثاء، من إطلاق نار استهدف سيارته في منطقة سيرو أزول في جنوب ليما.

«الشرق الأوسط» (ليما)
أوروبا عنصر من الشرطة البريطانية (رويترز)

بريطانيا: إطلاق سراح 12 سجيناً إضافياً «عن طريق الخطأ»

صرح وزير العدل البريطاني ديفيد لامي، بأنه تم إطلاق سراح 12 سجيناً عن طريق الخطأ خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، لا يزال اثنان منهم طليقين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق واجهة «بارتريدج جويلرز»... (موقع المتجر)

توجيه تهمة السرقة إلى رجل «ابتلع» قلادة في متجر للمجوهرات بنيوزيلندا

وُجّهت إلى رجل في نيوزيلندا تهمة السرقة بعد أن زُعم أنه ابتلع قلادة من نوع «فابرجيه جيمس بوند أوكتوبوسي» تقدَّر قيمتها بأكثر من 19200 دولار أميركي.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.