إذا كان هناك حدث فارق في التاريخ الإسرائيلي، فإنه يكمن في واقعتين مفجعتين في قاعة المحكمة المركزية في القدس، خلال الربع الأول من الألفية الثالثة؛ الأولى في عام 2009 والأخرى في 2024. «البطل» فيهما اثنان: الرئيس الأسبق إيهود أولمرت، والآخر هو الرئيس الحالي للحكومة بنيامين نتنياهو.
الرجلان يمثلان الجيل الثالث الصاعد من قادة «الحركة الصهيونية»، ويعكسان ما جرى لإسرائيل منذ أن انطلق كل منهما في سنوات التسعينات شابين «متألقين وموهوبين». كلاهما من «الليكود» اليميني، الذي هزم حزب الآباء والأجداد المؤسسين «العمل» في عام 1977، ومنذ ذلك الوقت يتوالى على الحكم.
برز أولمرت قائداً متمرداً، بنى مجده على محاربة الفساد. انتُخب للكنيست ثم لرئاسة بلدية القدس، ونفذ عشرات المشاريع لتهويدها وتعزيز الاستيطان فيها. ثم قاد في ظل أرئيل شارون الدولة العبرية، منذ عام 2001، إلى عصر جديد، لتتحول إسرائيل «امبراطورية» في التكنولوجيا والعلوم والذكاء الاصطناعي.
بين أولمرت ونتنياهو
على الساحة السياسية، حصل تطور بالغ لدى أولمرت نحو الدبلوماسية الواقعية؛ إذ اعترف بأخطاء الاحتلال وانسحب مع شارون من الليكود وقاد مشروع الانفصال عن قطاع غزة، وعندما مرض شارون وحل محله في رئاسة الحكومة عام 2005، أحدث انعطافاً حاداً في الموقف من الصراع مع الفلسطينيين. وتعامل باحترام كبير مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، واستقبله في مقرّه في القدس الغربية رافعاً علم فلسطين إلى جانب العلم الإسرائيلي. وعرض عليه مشروع حل حقيقياً للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على أساس حل الدولتين.
أما نتنياهو، فقد نشأ قائداً سياسياً يتفوق في العمل الدبلوماسي ويتقن الخطابة باللغة الإنجليزية، لكنه اعتمد أساليب الخداع والاحتيال، فلم يلتقِ رئيساً أو ملكاً إلا وخرج بانطباع عنه أنه شخص غير صادق.
عام 2009، وعندما كان حل الدولتين مطلباً عالمياً، ألقى نتنياهو خطاباً وُصف يومها بـ«التاريخي» أعلن فيه تأييده هذا الحل. وكان أبلغ رد عليه، ما قاله عنه والده، المؤرخ بنتسيون نتنياهو: «إنه ليس أهبل. هو لا يوافق على حل الدولتين». بالفعل، عمل كل ما في وسعه ولا يزال ليمنع ذلك. وعلى الطريق، تمكن من الدخول في صدامات واحتكاكات مع معظم قادة العالم، بمن في ذلك رؤساء الولايات المتحدة الثلاثة، باراك أوباما ودونالد ترمب وجو بايدن.
وما بين أولمرت ونتنياهو إدانات ومحاكم. الأول، أدين في قاعة المحكمة المركزية في القدس بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، وأمضى في السجن 16 شهراً. وحال تقديم لائحة اتهام ضده استقال من منصبه، ليتعاون مع جهاز القضاء فانتهت محاكمته بعد سنة فقط. أما الآخر، فقد بدأت محاكمته قبل أربع سنوات ولا يبدو أنها ستنتهي قبل أربع سنوات أخرى وأكثر. وبسببها، يخوض حرباً ضد أجهزة القضاء.
كلاهما يتهم الجهاز القضائي بتدبير مؤامرة للإطاحة به؛ أولمرت يعتقد أن التهم ضده نُسجت لأنه كان قد انطلق في مسار سياسي يفضي إلى تسوية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، على أساس حل الدولتين. وأصدر كتاباً يشرح فيه بالتفصيل كيف عملت ماكينة التحريض عليه. وما زال حتى اليوم متمسكاً بطريقه ويؤكد أن من يريد الخير للأجيال القادمة في إسرائيل يسعى لتسوية للصراع مع الفلسطينيين مبنية على الاحترام المتبادل والتعاون.
ويتهم نتنياهو الجهاز القضائي بالتآمر عليه من الدولة العميقة اليسارية لغرض إسقاط حكم اليمين؛ لأنه يعمل بشكل حثيث ومثابر على منع إقامة دولة فلسطينية.
أولمرت متواضع ونتنياهو متكبر. غالبية الذين عملوا مع أولمرت يعتقدون أنه كان من أفضل رؤساء الحكومات عبر التاريخ الإسرائيلي ويمتدحون سماته. ويعتبرون فساده خطأً إنسانياً نادراً لم يكن يستحق محاكمته وسجنه. بينما يقول غالبية الذين عملوا مع نتنياهو إنه «لا صاحب له»، وينتقدون تصرفاته الفظة ويؤكدون أنه بلا مشاعر. زوجة الأول بقيت في الظل. وزوجة الآخر توصف بأنها «شريرة وتدير حروباً ضد كل الخصوم بطريقة تذكّر بأساليب المافيا».
قصة محكمة
بالعودة إلى أروقة المحكمة، حرص الكثير من الوزراء والنواب على حضور جلساتها التي تنظر في قضية نتنياهو، للتضامن «التظاهري» معه. وزير التربية والتعليم في حكومة إسرائيل، يوآف كيش، الرجل المكلف تربية الأجيال الطالعة، حضر متأخراً. فراح يشق طريقه بمرفقيه إلى قاعة المحكمة المزدحمة ويلوح بيده مرّة، ثم مرّة ثانية وثالثة في محاولة يائسة لجذب انتباه نتنياهو المتهم، ولو بطرف عينه. ظل يلوّح حتى لاحظ نتنياهو ذلك. وعندها فقط بدا عليه الارتياح.
هذه الصورة ينقلها الصحافي بن كسبيت، ويقول: «لم أكن لأتطرق إلى هذا النفاق لولا أنه اتضح لنا، قبل يومين، وضع التعليم في إسرائيل تحت قيادة كيش. نتائج اختبارات TIMMS (مسابقة للعلوم والرياضيات)، واختبارات PISA (تهدف إلى معرفة مدى تمكن الطلاب والطالبات من المهارات والمعارف الأساسية) وضعت أمامنا صورة مرعبة. ليس أقل من ذلك. نوعية الطلاب الإسرائيليين آخذة في الانخفاض. طبقة المتميزين، التي كانت دائماً غنية وسميكة، أصبحت تتقلص».
يعتقد بن كسبيت أن «إسرائيل فقدت ميزات التفوق على الأعداء». لأنه «من دون العلوم والرياضيات والتكنولوجيا، لن تكون هناك الوحدة 8200 (شعبة الاستخبارات العسكرية). ومن دون التفوق العلمي، لن نحقق تفوقاً استخبارياً كما في تفجير أجهزة (البيجر) في لبنان (التي فجَّرتها إسرائيل بألوف عناصر (حزب الله) خلال الحرب)، ولن يكون لدينا تطبيق ويز (تابع لشركة متخصصة في الأمن السيبراني)، ولا قبة حديدية، ولا صواريخ السهم، ولا الطائرات من دون طيار، ولا الليزر، ولا القدرات التي أظهرتها أجهزتنا الأمنية في الـ14 شهراً الأخيرة (بعد الفشل الذريع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول)».
«لا يوجد نصر كامل ولا نصراً جزئياً... كل ما هنالك مجرد استيعاب الضحالة والتطرف والجهل والسطحية. إذا استمر هذا، وهو مستمر ويتكثف في ظل هذه الحكومة، فلن نتمتع في الحرب المقبلة بكل المزايا التي تمتعنا بها في الحرب الحالية. هذه ليست نبوءة غضب. بل إنها بداية التدهور نحو العالم الثالث يمكن أن نراها بالعين المجردة»، يقول بن كسبيت.
أسير الكرسي
هذا بيت القصيد. فإسرائيل في عهد نتنياهو الطويل، الذي أصبح رئيس حكومة لمدة أطول من أي رئيس سبقه، لم تعد إسرائيل ناجحة وهي تواجه خطر الانزلاق إلى الهاوية. ليس لأنه لا يعرف كيف يدير دولة، ففي بداية عهده حقق إنجازات كبيرة في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، بل لأنه أصبح أسيراً لكرسيه. وليس فقط لأنه يحب هذا الكرسي ويعتقد بأن الله حبا شعب إسرائيل به، بل لأنه يدرك أيضاً أن نزوله عن الكرسي، سيقوده إلى السجن. ولأن السبيل الوحيد للنجاة هو في البقاء رئيساً للحكومة بفضل قوى اليمين المتطرف يقود سياسة تخدم أجندة سياسية للصهيونية الدينية الاستيطانية التي تحارب ضد أي إمكانية للسلام مع الفلسطينيين.
هكذا، فإن الدولة الحديثة، التي كانت في عام 2000 في مسيرة صعود، تغدو في مسيرة هبوط. ليست «بيت عنكبوت»، لكن مكامن قوتها تضعف. الدولة التي حظيت في عام 2002 بعرض عربي بالغ السخاء، بمبادرة سلام مع جميع الدول العربية وغالبية الدول الإسلامية مقابل تسوية القضية الفلسطينية وفق حل الدولتين، تخوض حروباً جنونية تجعلها مكروهة ومنبوذة بلا أفق سياسي. وقيادتها تبشرها بالعيش على الحراب عقوداً طويلة، تورِث الأجيال القادمة مزيداً من الصراعات والأحقاد.
نكبة بعد نكبات
في مقابل ذلك، هناك الفلسطينيون؛ شعب ذو طموحات عالية وجهود كبيرة للتقدم والتطور، هو أيضاً منكوب بالصراعات والأزمات ويعيش نكبة ثانية، ليس فقط بسبب الاحتلال، بل أيضاً بسبب تصرفات غير مسؤولة وغير محسوبة بشكل مهني سليم من بعض قادته.
مطلع التسعينات، كان حلم التحرر من الاحتلال قد اقترب كثيراً، عندما وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، اتفاقيات أوسلو، في عام 1993، مع القائد الإسرائيلي الجاد إسحق رابين. لقد أحدث عرفات ورابين انقلاباً في العلاقات بين الشعبين، لكن اليمين الإسرائيلي المتطرف قتل رابين وأحدث بذلك انقلاباً ثانياً. ونفذ مذبحة الخليل، التي فتحت الباب أمام يمين متطرف فلسطيني نفذ عمليات مسلحة خطيرة ضد المدنيين في إسرائيل.
كانت كل عملية كهذه تحقق للمتطرفين الإسرائيليين مكاسب جماهيرية ضخمة، فالمتطرفون يغذون بعضهم بعضاً ويؤججون العداء والكراهية ويعتاشون منها.
نحن اليوم في عصر غزة. الانقلاب الثالث، خلال ربع قرن. انقلاب قاد إسرائيل إلى حروب جنونية، وذهب بالفلسطينيين إلى نكبة ثانية، دفع ثمنها معهم أيضاً لبنانيون وسوريون ويمنيون. نكبة، تحمل في طياتها كل أسباب البؤس واليأس والإحباط. الشعبان يحتاجان إلى قيادات تعرف كيف تبني الأمل ولا تخضع للمأساة، وكيف تعثر على طاقات النور في حلكة الظلام. ومسارات التاريخ حبلى بالنماذج التي يولد فيها قادة يعرفون كيف يحدثون الانعطاف في حياة شعوبهم، لعلها تكون بشرى الربع المقبل من الألفية الثالثة.