غسان سلامة لـ«الشرق الأوسط»: العالم إلى حروب أوسع... ودول على طريق «النووي»

لا نظام ثنائياً في المستقبل القريب... وفي سوريا «4 عناصر لعدم الاستقرار»

TT

غسان سلامة لـ«الشرق الأوسط»: العالم إلى حروب أوسع... ودول على طريق «النووي»

غسان سلامة (الشرق الأوسط)
غسان سلامة (الشرق الأوسط)

مع انقضاء الربع الأول من هذا القرن، تزدحم الأسئلة حول اتجاهات العالم وسط حالة متقدمة من عدم اليقين. التغيرات متسارعة والقناعات القديمة المترسخة تسقط الواحدة تلو الأخرى. وما يزيد من ضبابية الرؤية تداخل المؤثرات ببعضها وصعوبة الفصل بينها، وبالتالي قياس أوزانها وقدرتها التأثيرية.

ولجلاء بعض هذا الغموض، حملنا سلَّة من الأسئلة إلى غسان سلامة، البروفسور السابق في معهد العلوم السياسية الممثل السابق للأمين العام للأمم المتحدة. وعلاوةً على ذلك، فهو صاحب مؤلفات مرجعية في العلاقات الدولية. آخر كتبه الصادرة ربيع 2024 «إغراء النزوع إلى القوة - الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين» يلقي أضواءً كاشفة على مسار العالم للعقود المقبلة.

في حوار موسَّع، تحدث سلامة عن توقعاته للنظام العالمي وأقطابه، من الفرص المنظورة لـ20 دولة قد تتحول إلى قوى نووية، إلى قدرة تجمع «البريكس» على منافسة مع الحلف الأطلسي، وصولاً إلى مصير الدولار كقوة مالية عالمية، وانتهاء بحروب المسيرات الجديدة؛ إذ يدخل الذكاء الاصطناعي سلاحاً وازناً في قلب المعادلات على الأرض.

غسان سلامة قال إن 20 دولة قادرة على التحوُّل إلى نووية خلال عام واحد (الشرق الأوسط)

عودة الأحلام الأمبراطورية

* ما الذي تغيَّر في النظام العالمي خلال الربع الأول من القرن 21؟

-ما حصل في الفترة الأخيرة أن الحرب الباردة انتهت، ومع انتهائها حصل تطور إيجابي هائل في النظام العالمي، كتراجع النفقات العسكرية وخفض أعداد الرؤوس النووية وتقلص القواعد العسكرية القائمة في دول أخرى وانسحاب الاتحاد السوفياتي من أوروبا الشرقية وإقفال الولايات المتحدة لعدد من قواعدها في الفلبين وأميركا الوسطى، كما أن الروح عادت إلى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، بيد أن الأمور انقلبت لاحقاً رأساً على عقب. وبنظري ارتبط ذلك بالغزو الأميركي للعراق في عام 2003. والسبب أنه لم يقم على أساس قانوني، ومن غير قرار من مجلس الأمن، حيث كانت قوى كبرى تعارضه.

الأسوأ أن واشنطن كانت الجهة التي لعبت الدور الأكبر في إنشاء النظام الدولي القائم منذ عام 1945، مثل الأمم المتحدة والصناديق الدولية والمنظمات الأخرى. وإذا كانت هذه الجهة تسمح لنفسها بتجاوز القوانين التي ساهمت بوضعها؛ فكيف يمكن منع الدول الأخرى من اتباع نهجها؟ وهذا ما حصل بالفعل: دخلت روسيا إلى جورجيا ثم إلى مولدوفا ثم إلى أوكرانيا مرة أولى، ثم مرة ثانية، وتبعتها دول أخرى، كبرى أو وسطى، على المنوال نفسه، بحيث برز نزوع نحو اللجوء إلى القوة.

ثم بدأنا نرى عودة ارتفاع الميزانيات العسكرية تدريجياً، وأن الدول النووية راحت تجدِّد وتوسِّع ترسانتها النووية؛ سواء أكانت روسيا أو الولايات المتحدة أو فرنسا، فالصين مثلاً تعمل على مضاعفة رؤوسها النووية من 1500 إلى 3000 بحلول عام 2030.

كذلك، فإن عدداً من الدول غير النووية تسعى للتحول إلى دول نووية. هناك 20 دولة قادرة على التحوُّل إلى نووية خلال عام واحد، وأنا أتوقع أن يقوم بعض منها بذلك.

إذن، المؤشرات اليوم مختلفة عما كانت عليه سابقاً. كذلك علينا أن نشير إلى أن النزوع إلى استخدام القوة كان منحصراً لفترة من الفترات بوقف حرب أهلية، كما في رواندا والصومال، أو في محاربة الإرهاب بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001. الآن، تغيَّر الوضع إلى التدخل في دولة مجاورة أو محاولة احتلال والاستحواذ على أراضٍ في دولة أخرى؛ ما يعني أننا تخلينا عن منطق الأمن الجماعي الذي تقوم عليه الأمم المتحدة، وغلب عليه منطق ميزان القوى.

* هل سيتواصل هذا النزوع؟

- هذا قائم اليوم. وإذا بقيت العلاقات بين الدول الكبرى، أميركا، والصين، ودول كبرى أخرى، على حالها الراهن من انعدام الثقة بين الزعماء والدول، فإنها ستتواصل وربما تتفاقم. ولننظر إلى تغيير روسيا لعقيدتها النووية وتبعاتها على الحرب في أوكرانيا ولدعوات وزراء إسرائيليين لضرب غزة نووياً. هذا كلام لم يكن يأتي عليه أحد في الأعوام الـ20 المنقضية، ويمكن ألا يبقى محصوراً وينتقل إلى مناطق أخرى في العالم، وهو أمر بالغ الخطورة.

الجنوب الشامل

* هل سيكون لهذا «الجنوب الشامل»، في حال تأكُّد ثباته على المستوى العالمي، دور في إعادة التوازن لحوكمة العالم؟

- بالتأكيد. لكن سيأخذ الأمر وقتاً. دعني أتوقَّف لحظة؛ ماذا لدينا؟ هناك حلف قائم هو «الأطلسي» ليس له شبيه في العالم. كان هناك حلف وارسو تم حله بانتهاء الحرب الباردة. ظهرت آنذاك أصوات في الغرب تقول: بما أن حلف وارسو قد انتهى؛ فلماذا لا نحل أيضاً حلف شمال الأطلسي؟ لكن أميركا وعدداً من الدول، كألمانيا وغيرها، أصرَّت على بقاء الأطلسي. وبقي الحلف. وعندما بدأت روسيا بالتحرك في جورجيا، وفي أوكرانيا، زادت قيمته لدرجة أن دولاً محايدة في أوروبا كانت ترفض أن تدخل في هذا الحلف، طلبت الدخول فيه، مثل السويد وفنلندا. إذن لدينا حلف يضم الدول الغربية إجمالاً.

هذا الحلف ليس له مقابل أو رديف، وبالتالي هناك انعدام في التوازن بين الغرب وباقي دول العالم، لأن الغرب متكتِّل حول حلف متكامل، والباقي ليس متكتِّلاً. إذن هناك شعور لدى الدول الأخرى؛ لدى الصين، لدى روسيا، لدى البرازيل، جنوب أفريقيا والهند، بأنها لا تحصل على حصتها في المنظمات العالمية، ولا تحصل على قدرة الأخذ بآرائها ومطالبها ومصالحها من قبل الأطراف الأخرى لأنها غير متكتلة، وهي ليست بتكتل.

لذلك نشأت منظمات، مثل «البريكس» و«منظمة شنغهاي» وغيرهما لتحاول إرساء شيء شبيه. لكن هذه المحاولات ما زالت في أولها، وما زالت ضحية تناقضات: الصين تريد أن تُدخِل عدداً كبيراً من الدول في «البريكس» فيما روسيا تتحفظ عن ذلك. الصين تتحدث عن جنوب متكامل فيما روسيا ترفض أن تضع نفسها بين دول الجنوب. روسيا تقول إن هناك أكثرية عالمية تنتمي إليها في الجنوب وفي الشمال وفي الشرق وفي الغرب، لكنها ترفض تعبير الجنوب الشامل، بل هناك عدد كبير من الروس يعتبرون أنفسهم أوروبيين.

ثم لديك مواضيع أخرى، وهي الخلافات الثنائية بين الدول: مثلاً ثمة خلافات حدودية بين الهند والصين، وهناك التنافس التجاري وغيره. «البريكس» لم تتمكن، ولن تتمكن في القريب، من أن تتحول إلى ما يشبه حلف شمال الأطلسي، إلا إذا وضعت لنفسها عقيدة، كما لدى حلف شمال الأطلسي عقيدة، وقوامها التشابه في الأنظمة السياسية بين أعضائه، وهي قائمة على نظام السوق الاقتصادية الحرة، وعلى النظام الدستوري الليبرالي. وهذا التشابه ليس موجوداً بين دول «البريكس»؛ فالهند تكاد تكون ديمقراطية فيما الصين تعمل بنظام الحزب الواحد. لدى روسيا بعض مؤشرات الديمقراطية لكنها في مرحلة تراجع. جنوب أفريقيا ديمقراطية ولكن...

الخلاصة أن التشابه غير موجود؛ إذ إن الأطلسي نشأ في الأساس حلفاً عسكرياً، وهذه ليست حال «البريكس». رغم ذلك، هناك اتفاقات ثنائية ذات جوانب عسكرية، كالاتفاق الصيني - الروسي أو الإيراني - الروسي أو الإيراني - الصيني، لكنها ذات طابع ثنائي، وليس لها طابع جماعي.

الثنائية القطبية

* إلى أين يذهب التنافس الأميركي - الصيني؟ هل السنوات المقبلة ستوصلنا إلى قيام ثنائية قطبية؟

- من الخطأ الكبير برأيي اعتبار أن الثنائية القطبية بين الصين وأميركا موجودة اليوم. هي مشروع، محاولة بدأت منذ نحو 15 سنة لبناء نظام جديد دولي ثنائي القطبية. الولايات المتحدة لا تحب تعدد الأقطاب، وهي تعلم تماماً أنه ليس بإمكانها أن تمسك بعدد كبير من حلفائها إذا كانت هي القطب الأوحد في العالم. والنظام الذي ترتاح إليه واشنطن هو نظام ثنائي القطب تكون لها فيه الأرجحية، مع وجود منافس قوي لكي تجمع الحلفاء إلى جانبها.

في عامي 2006 و2007، زمن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، عملت الدولة العميقة والنخبة الأميركية على البحث عن خصم جديد، ووجدت أن الصين يمكن أن تكون هذا الخصم؛ فبدأ مشروع تكوين نظام ثنائي القطب، وتحويل الصين إلى المنافس الاستراتيجي الأول. بالطبع، ارتاحت الصين لهذا الأمر، أي أن تكون صِنواً لأميركا. عندما تم انتخاب أوباما سنة 2008، فإن أول رئيس دولة التقاه هو الرئيس الصيني، وليس الروسي أو الفرنسي. هذا الواقع يرفع من شأن الصين. لذلك هناك مشروع أميركي تورَّطت فيه الصين بعض الشيء، وهو قيام نظام ثنائي القطب، لكنه لا يزال مشروعاً، إذ إن هناك ممانعة كبيرة لدى العديد من الدول من قيام نظام ثنائي كهذا.

وهذه العقيدة تبنَّاها جورج بوش الابن وبعده أوباما ثم ترمب «الأول»، وعقبه بايدن، وأيضاً ترمب «الثاني» مستمر عليها. وثمة، في الصين، من يأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر، ويحاول أن يجيره لمصلحته. لكن السؤال هو: هل تتقبل دول مثل روسيا والهند والبرازيل وغيرها هذه الثنائية؟

أعتقد أن هناك دولاً كبيرة فاعلة في النظام العالمي تفضل أن تُبقِي على حريتها، وهي تعلم تماماً أن نظاماً ثنائيَّ القطب، كما كان في أيام الحرب الباردة، يقيد من حريتها سياسياً ودبلوماسياً، وحتى عسكرياً. فالهند، مثلاً، تتجاهل الثنائية القطبية وتحافظ على حريتها في المشتريات الدفاعية من روسيا بالطبع، مصدرها التقليدي، ولكن أيضاً مِن فرنسا والولايات المتحدة وغيرهما من المصادر.

إذن لدينا اليوم صراع في النظام العالمي، ولدينا ظاهرة «الانتهازية الدبلوماسية»، أي الرغبة في التعامل مع مَن تريده هذه العاصمة أو تلك بعيداً عن الثنائية القطبية التي سعت إليها الولايات المتحدة من عقد ونصف العقد، وحاولت الصين إنتاجها. وأنا لا ألحظ اليوم بالتأكيد نظاماً ثنائيَّ القطب ولا أراه في القريب العاجل، بسبب مقاومة دول رئيسية أوروبية وغير أوروبية لقيامه.

عندما تريد دولة كبرى أن تتحول إلى قطب جاذب، أو بالأحرى أحد قطبي ثنائية دولية، يتعيَّن أن يكون محيطها الإقليمي هادئاً. وهذه، بعكس الولايات المتحدة، ليست حالة الصين التي هي على خلاف مع 8 من جيرانها، مثل الهند وفيتنام وكوريا الجنوبية والفلبين. لكن، بالمقابل، فإن لأميركا صعوبات من نوع آخر، فتركيزها على الصين كخصم استراتيجي منهجي أول لا يعني بالضرورة، في نظر الدول الأخرى، أنها مصيبة في ذلك، وبالتالي لن تسير وراءها.

ثم برزت مشاكل الشرق الأوسط، فحرفت انتباهها عن الصين، وبعدها الحرب في أوكرانيا. وكلما قررت واشنطن التركيز على الصين تقوم دولة بفرض أمر واقع جديد ترغم واشنطن على القول إن اهتمامها بالصين ما زال على ما عليه، ولكن لنحل بداية المشكلة الجديدة.

 

أوبئة عابرة للحدود

* كيف ستؤثر الأوبئة العابرة للحدود على صورة وتوازنات العالم في السنوات المقبلة؟

- علينا التنبُّه لموضوع جوهري، وهو أن الأوبئة ليست ظاهرة جديدة. المخيف فيها اليوم سرعة التواصل والانتشار. الأوبئة ألَمَّت بالبشرية مرات عدة؛ في القرون الوسطى كان هناك الطاعون يضربها كل عقدين أو ثلاثة، ويقضي على ربع أو ثلث السكان. ثم لنتذكر الإنفلونزا (الرشح) التي ضربت العالم في نهاية الحرب العالمية الأولى، وقضت على عدد يكاد يشابه عدد الذين ماتوا بسببها.

إذن، الجديد والخطير أمران: الأول سرعة التنقل عبر العالم والأعداد الكبيرة للمسافرين بالطائرة، كل مسافر قد يكون حاملاً لوباء. والثاني يتناول ما يحصل في المختبرات. فحتى اليوم، ما زال هناك اعتقاد بأن مصدر جائحة «كوفيد» هو المختبر.

يُضاف إلى ذلك الفروق الكبيرة والمتغيرة في الاستجابة لهذا الوباء بين الدول التي اختلفت حول أفضل طريقة للتصدِّي له. والثاني اللامساواة بين البشر حيث كان باستطاعة الاتحاد الأوروبي أن يشتري لقاحين أو ثلاثة لكل فرد من أفراد الاتحاد الأوروبي، بينما كان اللقاح لكل 10 أشخاص أو 15 شخصاً في عدد من الدول الأفريقية. طبعاً قامت بعض الدول بتقديم مساعدات لهذه الدول، لكن اللامساواة على المستوى العالمي كانت فاقعة. وبالتالي يتعين علينا أن نرى كيف ستتم الأمور في المستقبل.

والثالث اختلاف أنظمة الرعاية الاجتماعية حتى بين الدول المتقدمة؛ ففي الولايات المتحدة، كان هناك عدد كبير من الفقراء لم يتمكن من الوصول إلى المستشفيات بسبب فقدان الضمان الاجتماعي للجميع؛ ما يفسر أعداد الوفيات الكبرى. خلاصتي أن الجائحة الأخيرة أبرزت أهمية وجود سلطات بعيدة النظر تعتمد القرار الصائب. كذلك، يتعين ردم الهوة الهائلة بين القارات والبلدان في القدرة على التصدي للجائحة، لأن جائحة «كوفيد» لن تكون الأخيرة.

الهزات «التكتونية» في العالم العربي

* يعيش العالم العربي ارتجاجات «تكتونية» وتراكمات، ومثال ما هو جارٍ في سوريا قائم أمام أعيننا. هل سيبقى العالم العربي بهذا التمزق؟

- ما تقوله يطرح موضوع شروط الاستقرار السياسي. لماذا هناك دول مستقرة سياسياً أو مناطق مستقرة سياسياً ومناطق في حالة ثورات وانعدام الأمن وما شابه؟

ثمة عدة تفسيرات لذلك، والرائج يتناول وجود أو غياب دولة القانون، وتمثيل المواطنين وإشراكهم في القرار السياسي. وتوافر هذه العناصر يوفر الاستقرار. هذا هو التفسير الليبرالي. ولكنْ هناك رأي آخر يقول إن القراءة الليبرالية تنطبق على الدول المتقدمة قليلة السكان، وليس على الدول المتخلفة وكثيرة السكان حيث الاستقرار لا يتوفر إلا بفرض القانون فرضاً. أعتقد أن هذين التفسيرين لديهما ما يشرعهما، لكن التفسير غير كافٍ.

في اعتقادي أننا نعيش، في المنطقة العربية، مرحلة من الظواهر التي لا يمكن أن تسمح بالاستقرار. هناك أولاً اللامساواة الهائلة في المداخيل بين الدول المجاورة. هذا الأمر سيدفع الدول الأكثر فقراً إلى الاستمرار في الزعم بأن الدول المحظوظة لا تستحق ما لديها، وأنه يجب، بشكل من الأشكال، أن تشركها في جزء من ثرواتها.

العامل الثاني هو التزاوج بين الانفجار السكاني والانتقال من الريف إلى المدن من جهة، وانعدام فرص العمل الجديدة من جهة أخرى. ففي سوريا مثلاً تجتمع 4 عناصر لا تؤدي إلى الاستقرار: التصحُّر وفقدان المياه، حيث هبط الإنتاج الزراعي في الجزيرة ومنطقة البادية هبوطاً مريعاً، وتراجعت تربية المواشي، بالتوازي مع الانفجار السكاني. أعتقد أن سوريا تُعدّ الدولة الثالثة في العالم من حيث النمو السكاني و«الترييف» الفظيع للمدن وفقدان فرص العمل؛ إذ إن هناك حاجة لـ300 ألف فرصة عمل جديدة كل عام، والجزء الأكبر منها غير متوفر. ولم أتحدث بعد عن السياسة أو عن البطش أو عن الروح الطائفية وكل الأمور الأخرى.

إذن، العناصر الموضوعية لعدم الاستقرار موجودة ما يبين الحاجة الماسة لقيادة متميزة منكبَّة على معالجة هذه العناصر الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية غير المساعدة للاستقرار.

حركية السكان عبر العالم: الهجرات نموذجاً

* من المتوقَّع أن تتزايد الهجرات عبر العالم في السنوات المقبلة. كيف ستتعامل معها الدول الجاذبة لها؟

- السبب الأول لهذه الحركية الانعدام الهائل في التوازن الديموغرافي بين القارات الخمس. ثمة دول، إذا استمرَّت على هذا المستوى من التوالد، قد يندثر سكانها تماماً. هذا ينطبق على إيطاليا ومالطا ورومانيا وغيرها من الدول.

لهذه الظاهرة أسباب رئيسية عنوانها الهرم السكاني الذي يتغير في هذه البلدان التي عليها الاهتمام بالمسنّين. هؤلاء تتزايد أعدادهم باطراد. والشيخوخة مكلفة وغير منتجة، بينما عدد الشبان العاملين يقل كل يوم. لا، بل إن أعداد الشيوخ تتوازى مع أعداد لأطفال.

هذا ما هو حاصل في الدول المتقدمة، وانتقل الأمر إلى الصين، واليابان وكوريا الجنوبية. بالمقابل، لديك قارات ما زالت نسبة التوالد فيها مرتفعة ومشاريعها التنموية لم تنجح، وبالتالي ليس هناك عمل ووظائف. وهذا يصحّ على أفريقيا، أو على أميركا الوسطى وأفريقيا بصورة أساسية.

نصف المهاجرين غير الشرعيين إلى الولايات المتحدة (البالغ عددهم 11 مليوناً) من المكسيكيين. أنت تبني حائطاً. أنت تطرد (كما هو مشروع ترمب) الملايين إلى بلادهم. لكن الموضوع يبقى قائماً، لأن عدم التوازن يبقى قائماً، وإن بنيتَ حائطاً فسيجد مَن يتمكن من فتحه، أو حتى المرور من تحت الحائط.

كل هذه الأمور تجعلنا نقول إن هذا الانعدام في التوازن من المسائل الكبرى في الربع الثاني من القرن الـ21 الذي ستتحكم به المسألة الديموغرافية إلى حد كبير. وأنا لا أرى أن الدول المتقدمة لديها بوصلة كافية لمعالجة هذا الأمر.

هناك بعض الحلول التي تنبغي دراستها لمعالجة ملف الشيخوخة: مثلاً في إسبانيا وفي إيطاليا تم اتخاذ قرار بـ«استيراد» شباب من جنسيات، ومن مهن معينة، والإتيان بهم بالتوازي مع الاستمرار في مكافحة الهجرة غير المشروعة.

بذلك، تعترف الدولة بأنها بحاجة لهؤلاء المهاجرين، ولكنها تمسك بآلية اختيارهم. الوضع في كوريا الجنوبية شبيه، ولكن الحل مختلف، ويقوم على توفير بطاقة عمل وإقامة للعاملين الأجانب لفترة تقل عن 5 سنوات لتجنُّب حصولهم على بطاقة إقامة دائمة.

أما الأوروبيون، فإنهم متأخرون؛ كونهم يفتقرون للشجاعة السياسية من أجل الاعتراف بصراحة بأنهم بحاجة للهجرة لأسباب اقتصادية واجتماعية. هذا هو الشرط الأول لمعالجة فاعلة لملف الهجرات، والتوصل إلى حلول يطبقونها بطريقة منظمة؛ إذ فشل الحل الأمني لوقف الهجرات، ولم تكن كافية مساعدات التنمية للدول «المصدِّرة» حتى يبقى المهاجر من أفريقيا في بلده ويعثر هناك على فرصة عمل، كما لم تنجح المساعدات المعطاة للعائلات للإكثار من الإنجاب.

إذن الحلول الثلاثة التي طرحتها أوروبا كانت فاشلة. واعتقادي أن أوروبا تفتقر لرؤية كاملة لعدم التوازن الديموغرافي؛ ما يعني أن الهجرات ستتواصل وتتزايد باتجاه القارة القديمة، مهما كانت برامج الأحزاب، خصوصاً اليمينية منها. ولقد لاحظنا أنه بعد إقفال طريق بوجه المهجرين يتم العثور على طريق أخرى. الفقر والحروب تدفع إلى الهجرات إلى البلدان الغنية. وهذا قائم، وسيتزايد ومعه الهجرات. لذا، تكمن مصلحة الحكومات الأوروبية في أن تعثر على بوصلة لمعالجة هذه المسألة بالغة الأهمية اليوم وغداً.

الثورة الرقمية

* هل تغير الثورة التكنولوجية الجديدة كيفية إدارة شؤون العالم والمجتمع؟

- الثورة التكنولوجية «التي تشمل الإنترنت والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي» هي مِن نوع خاص، لأنها أسرع بكثير في تحققها من الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، كما أنها تحتضن في باطنها ثورات داخلية، على رأسها الثورة الإلكترونية التي أوصلت إلى ثورة الذكاء الاصطناعي. والسؤال: مَن المستفيد منها؟

بدايةً، كان الرأي السائد أنها لصالح عموم الناس؛ إذ فُتِح الفضاء، وخُفّضت كلفة التواصل التي أصبحت شبه مجانية أو مجانية بالكامل، وعلى سبيل المثال، أصبح بإمكان أي كاتب أن يرسل كتابه لمن يريد وفي أي مكان. كذلك، فإن هذه الثورة وسَّعت هامش الحرية أمام الفرد، وحوَّلت أي فرد يستخدم الهاتف الذكي صحافياً أو مراسلاً أو معلِّقاً، وهو ما رأيناه في الحرب الليبية «التي أنهت نظام القذافي».

كذلك تتعين الإشارة إلى ما وفَّرته هذه الثورة من وسائل للتعبئة الاجتماعية، كالدعوة إلى التجمعات والمظاهرات لمئات الآلاف من الأشخاص خلال وقت قصير للغاية. ولذا، صفَّق كثيرون لهذه القدرة «العجائبية». لكن الدراسات بيَّنت أن هذه القدرة لا تسمح بتحقيق أمرين: الأول إيجاد رابط أو برامج مشتركة لهؤلاء المتجمعين. والثاني أنها لا تتيح بروز قيادات جدية.

باختصار، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تتيح التواصل السريع وتعبئة الأشخاص، لكنها لا تتيح تنظيمهم ورصَّهم في برنامج سياسي. والرأي السائد أن الثورة التكنولوجية جاءت على حساب الأنظمة القائمة والسلطات المالية والسياسية والأمنية.

لكن هذه المقاربة بدت لاحقاً سطحية وجزئية؛ إذ تبيَّن أن للسلطات القدرة على التحكم بالثورة التكنولوجية بأشكال مختلفة. فعلى سبيل المثال، فإن دولة كبرى، كالصين، فرضت سلطاتها على الشركات الكبرى الفاعلة، مثل «غوغل» أو «فيسبوك»؛ بأن يكون «الخادم» (SERVER) في الصين وأن تكون الأدوات المستخدمة صينية الصُنع. بمعنى أن الصين سيطرت على المضمون من خلال الأدوات. كذلك تبين لاحقاً أن الثورة التكنولوجية تتيح للسلطات أن تمارس رقابة على الناس، ومَن يعتقد أن رسالته النصية أو اتصالاته الهاتفية غير مراقَبة فهو ساذج.

بيد أن مشكلة جديدة برزت أمام السلطات، تكمن في الحجم الهائل من المعلومات التي تحصل عليها في مختلف أنحاء العالم، من بينها معلومات بالغة الأهمية، لكنها تضيع في بحر المعلومات الأخرى. ففيما خص هجمات نيويورك وواشنطن في عام 2001، تبين أنه توافرت للأجهزة الأمنية معلومات بالغة الدقة عن الذين قاموا بالعملية. لكنها كانت ضائعة.

من هنا، يأتي دور الذكاء الاصطناعي الذي جاء لينقذ السلطات من طوفان المعلومات.

إضافة إلى ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي أدى إلى تطور هائل في إدارة الحروب. ففي غزة وجنوب لبنان، استخدمته إسرائيل بشكل مكثف، واعتمدت في لبنان على «الداتا الكبرى» (Big Data)، التي تمتلكها عن أصحاب السيارات ولوحاتها لتحديد هوية الأشخاص المستهدَفين. كذلك تتعين الإشارة إلى دور الذكاء الاصطناعي في حرب المسيَّرات، بحيث نشهد اليوم تغيراً جذرياً في إدارة الحروب، وما لها من انعكاسات. في أي حال، فإن للذكاء الاصطناعي تطبيقات متنوعة على جميع الصعد، وسيقوى دوره أكثر فأكثر مستقبلاً.

الدولار الملك

* هل سيبقى الدولار الأميركي عملة المستقبل؟

-الواقع أن الدولار أعلن عن وفاته كالعملة الدولية الأولى باكراً جداً. وتكرر ذلك خلال 20 سنة؛ إذ أتذكر أنه، في مطلع القرن، ظهرت تحليلات حتى في مجلة «فورن أفيرز» أو مجلات المؤسسة الأميركية تتنبأ بنهاية الدولار، خصوصاً بعد ظهور العملة الأوروبية (اليورو). ثم مؤخراً عامل جديد؛ إذ قررت «البريكس» أن تكون لديها عملة موحَّدة.

بداية، أنا لا أعتقد أن «البريكس» في وضع مِن التماسك يسمح بأن يكون لديها عملة واحدة. ثانياً: يبدو، بعد ربع قرن على اعتماد اليورو، أنه حصل على جزء من ودائع المصارف المركزية ومن التجارة الدولية، لكنه توقف عندها، بمعنى أنه نما إلى نسبة 17 في المائة تقريباً. لكنه توقَّف عندها في السنوات الأخيرة.

هناك عملات أخرى، مثل الين والفرنك السويسري، لكنها لم تمس الدولار الذي لم يزل الدولار العملة الأولى في أكثر من 50 إلى 60 في المائة من المبادلات التجارية الكبرى، ومن ودائع المصارف الكبرى. وهذا الأمر يعطي الولايات المتحدة قدرة سياسية كبيرة، لأن لديها القدرة على طبع هذه العملة من جهة، ويعطيها، من جهة أخرى، قدرة للتأثير على اقتصادات الدول الأخرى، وبالتالي على أمنها.

لكن في القريب المنظور، أعتقد أن الدولار سيبقى العملة الأقوى في الساحة الدولية، ولا أقول الوحيدة، التي تتحكم، بمفردها، بأكثر من نصف ودائع المصارف المركزية، وأيضاً بنوعية المبادلات في المصارف. ثم هناك العقوبات التي تفرضها واشنطن باللجوء إلى سلاح الدولار؛ فالولايات المتحدة نجحت في الحرب على الإرهاب في المجال المالي أكثر من نجاحها في المجال الأمني. ومن جانب آخر، فإن العولمة غيرت في أهمية الوزارات في كل دولة، حيث إن وزير المالية الأميركي أهم بكثير من وزير الخارجية أو الداخلية، لأن لائحة العقوبات بحوزته.


مقالات ذات صلة

الصين تحثّ أميركا على الوفاء بمسؤولياتها بشأن نزع السلاح النووي

آسيا الرئيس الأميركي دونالد ترمب يصافح نظيره الصيني شي جينبينغ قبل اجتماعهما في بوسان بكوريا الجنوبية الشهر الماضي (د.ب.أ)

الصين تحثّ أميركا على الوفاء بمسؤولياتها بشأن نزع السلاح النووي

حثت الصين، الثلاثاء، ​الولايات المتحدة على الوفاء بمسؤولياتها المتعلقة بنزع السلاح النووي.

«الشرق الأوسط» (بكين)
آسيا محطة كاشيوازاكي كاريوا للطاقة النووية التابعة لشركة طوكيو للطاقة الكهربائية (رويترز)

اليابان تستعد لإعادة تشغيل أكبر محطة نووية في العالم

من المتوقع أن تصادق منطقة نيجاتا ​اليابانية على قرار إعادة تشغيل أكبر محطة للطاقة النووية في العالم، اليوم، وهي لحظة فاصلة في عودة البلاد إلى الطاقة النووية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
علوم هناك نوع من العفن الأسود يعيش في موقع كارثة تشيرنوبل (إ.ب.أ)

عفن أسود في تشيرنوبل يتغذى على الإشعاع

اكتشف عدد من العلماء بعد أبحاث أجريت على مدى سنوات طويلة أن هناك نوعاً من العفن، أسود اللون، يعيش في موقع كارثة تشيرنوبل النووية، ويُرجح أنه يتغذى على الإشعاع.

«الشرق الأوسط» (كييف)
آسيا زلزال وتسونامي دمّرا محطة فوكوشيما للطاقة النووية في مارس 2011 (أرشيفية - أ.ب)

سلطات محلية في اليابان تصادق على إعادة تشغيل أكبر محطة نووية في العالم

صادقت السلطات المحلية في محافظة بوسط غرب اليابان الجمعة على إعادة تشغيل أكبر محطة نووية في العالم.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
أوروبا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (أ.ف.ب)

لافروف: روسيا ستُجري تجارب نووية إذا استأنفت أي قوة أخرى تجاربها

حذر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، اليوم الثلاثاء، من أن موسكو ستُجري تجارب نووية في حال أقدمت أي قوة نووية أخرى على اتخاذ خطوة مماثلة.

«الشرق الأوسط» (موسكو )

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟


ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.


نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
TT

نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)

لم تشهد العلاقات الأميركية - الإسرائيلية اضطراباً كما هي الحال اليوم. ورغم دعم واشنطن الاستراتيجي، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، والاحتضان الكبير من الرئيس دونالد ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي بلغ درجة التدخل العلني الصريح في شؤون القضاء، ومطالبته عبر رسالة رسمية من البيت الأبيض بإلغاء قضايا فساد يُحاكم عليها نتنياهو، فإن هناك قلقاً يساور تل أبيب وتساؤلات كثيرة من دون إجابات.

ومن بين أبرز الأسئلة ما يتعلق بترمب، وما إذا كان في الدورة الأولى من حكمه، هو الرئيس الجديد نفسه؟ وهل تخلى عن مفاهيمه حول «إسرائيل دولة صغيرة تحتاج إلى توسيع؟».

في وثيقة نشرتها إدارة ترمب مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2025، وحددت فيها الأهداف الاستراتيجية لإدارته، جاء أن القضية الفلسطينية غير قابلة للحل قريباً. فهل هذا يعني أن بالإمكان تخطي خطة ترمب لوقف الحرب في غزة، وإقامة سلام شامل في الشرق الأوسط؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن أن يمارس ضغوطاً على إسرائيل لفرض التسوية؟ وما حدود الدعم لإسرائيل؟ وأي اتفاق مساعدة سيمنحه ترمب في عهده للسنوات العشر المقبلة؟

في محيط نتنياهو لا تبدو الأمور واضحة، رغم التصريحات التي تبث تفاؤلاً حول متانة العلاقات.

نعم، حتى نتنياهو الذي يعد نفسه «أكبر خبير إسرائيلي في الشؤون الأميركية»، يُمضي ساعات في دراسة شخصية «ترمب الجديد».

يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يشير بيده بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون الدولي خلال زيارته إسرائيل 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

نتنياهو الذي عاش في أميركا

يسجل التاريخ السياسي أن 8 من مجموع 13 رئيس وزراء حكموا إسرائيل حتى الآن، عاشوا في الولايات المتحدة لفترة زمنية ما تزيد على ستة شهور. أكثر رئيس حكومة عاش في أميركا، كانت غولدا مائير، 18 عاماً. يأتي بعدها بنيامين نتنياهو، الذي عاش فيها 16 عاماً. وكلاهما كان يتباهى بأنه أكثر من يعرف أميركا من الداخل، بفضل عيشهما الطويل فيها.

إلا أن المؤرخين الإسرائيليين يرون الأمر بشكل معاكس. ويقول الصحافي والمؤرخ، تاني غولدشتاين، إن هناك من يعد غولدا ونتنياهو أسوأ رئيسي حكومة في إسرائيل مع الولايات المتحدة، وسجل في تاريخهما أنهما تسببا بأكبر عدد من الأزمات في العلاقات بين البلدين.

غولدا، كانت وزيرة خارجية إسرائيل عام 1958، عندما تدخلت الولايات المتحدة في لبنان خلال أزمتها الدستورية، وبالاتفاق مع رئيس الوزراء بن غوريون، وضعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية في خدمة القوات الأميركية. وبذلك تم وضع قاعدة لأول تعاون أمني بين تل أبيب وواشنطن، وبعد ثلاث سنوات عقد أول لقاء رسمي بين رئيس حكومة إسرائيلية وبين الرئيس الأميركي، الذي كان يومها جون كيندي. لكن غولدا نفسها، عندما أصبحت رئيسة للحكومة الإسرائيلية، أثارت أول أزمة كبيرة في العلاقات.

في مطلع السبعينات، بدأ الأميركيون طرح مشروع سلام إسرائيلي عربي، عرف باسم وزير الخارجية، ويليام روجرز. وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حاول الرئيس أنور السادات إحياء هذه الجهود بقوة، وأبدى استعداداً واضحاً لهذا السلام. واعتقد الرئيس ريتشارد نيكسون أن غولدا ستتصرف معه بصفتها شريكة وحليفة استراتيجية ستتحمس لاتفاق السلام الذي سيجلبه إلى إسرائيل، وقد صدم عندما رفضت.

الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يصفق في حين يعانق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن الرئيس المصري أنور السادات بالبيت الأبيض سبتمبر 1978 (أ.ف.ب)

في حرب 1973، عندما دخلت إسرائيل في أزمة أمنية، وشعرت بأن الجيشين المصري والسوري يهددان وجودها، سامح نيكسون غولدا، وأرسل شحنات أسلحة ضخمة وطائرات مقاتلة دخلت الحرب ضد مصر وسوريا، يقودها طيارون من سلاح الجو الأميركي.

ويقول المؤرخ المتخصص في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، البروفسور إيلي لادرهندلر، إن غولدا أثبتت أن ادعاءاتها بأنها تعرف أميركا من الداخل انعكست على إسرائيل بشكل سلبي. وثبُت أنها كانت متبجحة، وتتمتع بقدر عال من الثقة الزائدة بالنفس، فأسهمت معرفتها بأميركا بشكل عكسي في المصلحة الإسرائيلية.

ويتمتع نتنياهو أيضاً بثقة زائدة بالنفس، في الشعور بأنه يعرف أميركا من الداخل. وقد تفوق على غولدا في عدد وعمق الأزمات التي تسبب بها في العلاقات بين البلدين، خلال معظم سنوات حكمه. فقد شنّ حرباً على الرئيس باراك أوباما، ليمنعه من توقيع الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015.

ودخل نتنياهو في أزمة مع الرئيس السابق جو بايدن، الذي هب لنجدة إسرائيل بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأفشل مبادراته لوقف النار في غزة. وفي الوقت الذي حاول فيه كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية إقامة علاقات متوازنة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الأميركي، لكي تحظى إسرائيل بدعم من كليهما، سمح نتنياهو لنفسه بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح مرشحي الحزب الجمهوري، ودخل في مشكلة مع الديمقراطيين.

ويقول خصوم نتنياهو في واشنطن إنه هو الذي أقنع الرئيس دونالد ترمب في دورته الأولى بإلغاء الاتفاق النووي. وصار يشار إليه بالبنان كمن يريد توريط الولايات المتحدة بحرب. وخلال السنة الماضية، ثبت هذا التقدير ودخلت الولايات المتحدة في حرب مع إيران، قصيرة وخاطفة ولكنها حرب. وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى إلى إقناع الرئيس الأميركي بجولة أخرى، لتكون حرباً أميركية أو حرباً مشتركة بينهما ضد إيران.

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

متانة العلاقة

ليس هناك شك في أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية ومتينة، وهي كذلك في زمن ترمب أيضاً. لكنّ شيئاً ما تغير يجب أن يقلق إسرائيل، وبدأ يقلقها بالفعل.

الحلف مع الولايات المتحدة متين، لأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقبل على نفسها أن تكون خط الدفاع والهجوم الأول للمصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في الشرق الأوسط. الجنرال ألكسندر هيغ، الذي كان قائداً لحلف شمال الأطلسي، وأصبح وزيراً للخارجية الأميركية، كان يقول إن إسرائيل هي «حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط التي تخوض حروبنا من دون مشاركة أي جندي أميركي». والمستشار الألماني الحالي، ميرتس، قال إن «إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة عنا».

لهذا تحظى إسرائيل بهذا الدعم الهائل. وعلى مدى العقود الماضية نما حجم المساعدات العسكرية الأميركية بشكل كبير، ففي عام 1998 كان المبلغ السنوي نحو 1.8 مليار دولار وبحلول 2028 سيصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً.

وتطلب إسرائيل زيادته للمرحلة المقبلة، وهذا لا يشمل ما قدمته الولايات المتحدة خلال الحرب على غزة، الذي بلغ أكثر من 22 مليار دولار. وحسب صحيفة «هآرتس»، في 18 ديسمبر 2025 أنفقت الولايات المتحدة بسبب الحرب، ما مجموعه نحو 32 مليار دولار أميركي مساعدات لإسرائيل خلال العامين الماضيين. ونقلت الصحيفة عن مركز أبحاث الكونغرس وجامعة براون في واشنطن، أنه «إلى جانب تكاليف المساعدات المباشرة، المتمثلة في العمليات العسكرية الأميركية في اليمن وإيران، حوّلت واشنطن 21.7 مليار دولار أميركي إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خلال العامين الماضيين. إضافةً إلى ذلك، وافق مجلس النواب في بداية 2025 على مساعدات عسكرية خاصة بقيمة 26 مليار دولار أميركي، خُصص منها نحو 4 مليارات دولار أميركي لصواريخ اعتراض ضمن برنامج الدفاع الصاروخي، و1.2 مليار دولار أميركي لنظام الليزر الجديد (أور إيتان)».

وكان التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي مبنياً على «قيم مشتركة» للبلدين ورسم مشترك للمصالح، لكن الحرب على غزة أحدثت هزة شديدة في هذه القواعد، التي كان تستند على دولة عظمى، إذ تحتضن «ابنها المدلل» في منطقة الشرق الأوسط.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس خلال اجتماع في أحد مقار الجيش (الحكومة الإسرائيلية)

ترمب «غير المتوقع»

يدرك نتنياهو قوة الخدمة التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة، واستغلها هو بطريقة شرسة، خصوصاً في ظل إدارتي أوباما وبايدن، لكن قدوم ترمب إلى البيت الأبيض أحدث تغييراً في المعادلة لدرجة أربكت نتنياهو وحكومته، وجعلته يخطو بحذر حتى يبتعد عن المتاهات. فالولايات المتحدة تتغير، والأمر تجلى بشكل كبير في السنة الأولى من إدارة ترمب.

يُنظر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنه شخصية غير تقليدية، تتسم قراراته بعدم القابلية للتنبؤ، ما يفرض على من يتعامل معه قدراً أكبر من الحذر مقارنة برؤساء سابقين. وتقول الصحافة الإسرائيلية إن هذا النهج يثير قلقاً حتى لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يُشار إلى أنه يخشى التعرض لانتقادات علنية على غرار ما واجهه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ورغم إدراك ترمب للأهمية الاستراتيجية لإسرائيل، فإن تقديرات تشير إلى أن حساباته لا تقتصر على هذا العامل وحده.

وترمب من نوع القادة الذين يؤمنون بأنهم يعرفون مصلحة إسرائيل أكثر منها ومن قادتها، ومثلما يراها «حاملة طائرات أميركية» يقدر عالياً «الحروب» التي تخوضها الدولة العبرية، وتدفع ثمنها بأرواح الإسرائيليين، ولا تكلف أميركا أي جندي.

لكنه في الوقت نفسه مقتنع بأنه يستطيع توفير سلام حقيقي وشامل لإسرائيل في هذا العصر، مع الدول العربية والإسلامية، وهو يقرأ استطلاعات رأي تنشر في تل أبيب، مثل الذي صدر عن معهد أبحاث الشعب اليهودي في 21 ديسمبر 2025، وجاء فيه أن 60 في المائة من الإسرائيليين يثقون في أن ترمب يعمل وفق رؤية تغلب مصالح إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة، ثمة تراجع في قوة ونفوذ المسيحيين الصهيونيين المناصرين لإسرائيل، وكذلك في قوة اللوبي اليهودي (أيباك)، مقابل القوة الصاعدة لحركة «ماغا» التي تضع مصلحة أميركا أولاً، إذ تسمع في صفوفها الأصوات التي تطالب بتقليص الدعم لإسرائيل وزيادة الرقابة على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد سوريا ولبنان.

كما أن هناك تراجعاً حاداً في التأييد الأميركي الشعبي لإسرائيل. وجاء في دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، أن «هناك أزمة خطيرة في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، لدرجة الحديث عن خطر تشكيل تهديد استراتيجي».

وجاء في الدراسة التي نشرت في مطلع ديسمبر 2025، وأجراها الباحثان إلداد شافيت وتيد ساسون، أن «مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة وقعت في أزمة غير مسبوقة. الدعم التقليدي تآكل بشكل ملموس في أوساط الديمقراطيين وحتى لدى جزء من الجمهوريين».

وتظهر استطلاعات أن الرأي العام تجاه إسرائيل يتأثر سلباً بشكل مباشر من سلوك إسرائيل في الحرب، ومن الوضع الإنساني في قطاع غزة. كما يلاحظ في الجالية اليهودية خصوصاً في الأوساط الليبرالية، تراجع الدعم، وازدياد الانتقادات لإسرائيل، التي قد تضر بحرية العمل سواء السياسي أو العسكري لإسرائيل، وتشكل تهديداً حقيقياً على أمنها.

ولا يستطيع ترمب إهمال هذه التغيرات إذا أراد أن يحافظ على جمهوره، وإذا وجد أن نتنياهو يضع عراقيل أمام مخططات إدارته. وهو نفسه كان قد أشار إلى أن إسرائيل في عهد نتنياهو باتت من دون أصدقاء سوى الولايات المتحدة، وأنه هو وحده الذي يساندها، وعليها أن تتصرف بما لا يمس مصالح وإرادة الولايات المتحدة.

وتشهد هذه المصالح تغييراً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل في اللغة الجديدة التي يستخدمها ترمب مع القادة العرب في المنطقة. ويستمع نتنياهو إلى هذه «الموسيقى» بإصغاء، محاولاً فهم حدودها.

الآن، وبعد عام في ظل الرئيس الأميركي، يقال في محيط نتنياهو إنه لا يزال يحاول دراسة «شخصية ترمب الجديدة»، ويجد أن ما تعلمه عن الولايات المتحدة يحتاج إلى نسخة محدثة من الفهم.