اكتشف عدد من العلماء بعد أبحاث أجريت على مدى سنوات طويلة أن هناك نوعاً من العفن، أسود اللون، يعيش في موقع كارثة تشيرنوبل النووية، ويُرجح أنه يتغذى على الإشعاع، مشيرين إلى إمكانية استخدامه لحماية رواد الفضاء من الإشعاع الكوني الضار.
وحسب شبكة «بي بي سي» البريطانية، فقد بدأ البحث في هذا الأمر عام 1997 بعد أن قامت عالمة الأحياء الدقيقة الأوكرانية نيلي غدانوفا برحلة استكشافية ميدانية إلى أطلال محطة تشيرنوبل النووية المنفجرة والمهجورة، والتي كانت، قبل أحد عشر عاماً فقط، موقع أسوأ حادث نووي في التاريخ.
وفي الحادث الذي وقع في 26 أبريل (نيسان) 1986 تسببت سلسلة من الأخطاء في انهيار مفاعل محطة تشيرنوبل للطاقة النووية رقم 4 واحتراقه؛ ما أدى إلى انفجار وتسرب إشعاعي لاحق، أسفر عن مقتل 31 شخصاً وإصابة عدد لا يُحصى من الأشخاص بالسرطان.
وللحد من خطر التعرض للإشعاع؛ أنشأت السلطات منطقة محظورة بطول 19 ميلاً حول الموقع لحماية الناس من البقايا المشعة للمفاعل المعني.
ومع ذلك، لاحظت غدانوفا أن العفن الأسود المذكور قد اتخذ من هذه المنطقة الميتة مقراً له.
وأظهرت مسوحات لاحقة للتربة المحيطة أن العفن - الذي يضم 37 نوعاً مختلفاً من الفطريات - يبدو أنه ينمو باتجاه مصدر الإشعاع.
وخلص بحث غدانوفا إلى أن العفن انجذب إلى الإشعاع المؤين، وهو إشعاع كهرومغناطيسي يُطلق وابلاً من الجسيمات المشعة التي تمزّق الحمض النووي والبروتينات بقوة، ويمكن أن يؤدي إلى طفرات خطيرة، ويدمّر الخلايا، بل وقد يقتل الكائنات الحية.
وتساءلت غدانوفا لماذا ينجذب أي كائن حي إلى مادة تقتل ضحاياها وتسبب لهم التحورات والطفرات؟ واشتبهت في أن السبب قد يعود إلى احتواء العفن على الميلانين، الصبغة المسؤولة عن لون الشعر والبشرة الداكنين، وهو أيضاً السبب في اللون الأسود للعفن. وقد افترضت أن هذه الصبغة تحمي الفطريات من الإشعاع المؤين بالطريقة نفسها التي تحمي بها البشرة الداكنة الخلايا من الأشعة فوق البنفسجية.
لكن العفن الأسود في تشيرنوبل لم يكن يتكيف مع الإشعاع فحسب، بل كان يتغذى عليه.
وفي عام 2007، أضافت إيكاترينا داداتشوفا، العالمة النووية في كلية طب ألبرت أينشتاين بنيويورك وفريقها، أن أبحاث غدانوفا حول عفن تشيرنوبل، كاشفة عن أن نموه لم يكن موجهاً نحو الإشعاع فقط (انجذاب إشعاعي)، بل إن حجمه ازداد بالفعل في وجوده، وهذا يدل على أنه كان يستغل الإشعاع ويتغذى عليه، وهي ظاهرة أطلقت عليها اسم «التخليق الإشعاعي»، وكان الميلانين العنصر المحوري في هذه النظرية.
وقالت داداتشوفا: «يمكن تشبيه الأمر بالنباتات التي تتغذى على ضوء الشمس، ولكنه أقوى بكثير. فطاقة الإشعاع المؤين تزيد بنحو مليون مرة على طاقة الضوء المستخدم في عملية التمثيل الضوئي. لذلك؛ نحتاج إلى محوِل طاقة شديد القوة، ونعتقد أن الميلانين قادر على أداء هذا الدور، بتحويل الإشعاع المؤين إلى مستويات من الطاقة قابلة للاستخدام».
ولا يزال التخليق الإشعاعي مجرد نظرية؛ إذ لا يمكن إثباتها إلا إذا تم اكتشاف الآلية الدقيقة التي تربط بين الميلانين والتمثيل الغذائي.
ومع ذلك، إذا صحّ هذا، فسيكون له تداعيات كبيرة على مجموعة متنوعة من التطبيقات الحيوية، بدءاً من تنظيف الإشعاع في مواقع مثل تشيرنوبل وفوكوشيما، وصولاً إلى استكشاف الفضاء، وتحديداً حماية رواد الفضاء من الإشعاع الكوني الضار.
وقال الدكتور أرتورو كاساديفال، أستاذ ورئيس قسم علم الأحياء الدقيقة الجزيئية والمناعة في جامعة جونز هوبكنز، لمجلة «نيوزويك»: «هناك اهتمام كبير من جانب العلماء ووكالات الفضاء بتسخير قوة الصبغات الطبيعية، مثل الميلانين، للحماية من الإشعاع أثناء استكشاف الفضاء».
وأضاف: «يمكن للمواد التي تحتوي على الميلانين، وحتى العفن الأسود المزروع في الفضاء، أن تساعد في حماية البشر في المركبات الفضائية».
وفي عام 2018، أرسل الباحثون أحد أنواع عفن تشيرنوبل، وهو سلالة تُسمى Cladosporium sphaerospermum، إلى محطة الفضاء الدولية، ووجدوا أنه ينمو بمعدل متسارع، لكنهم لم يحددوا بشكل قاطع أن الإشعاع هو السبب.

