يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

«أبو داود»: «أبو إياد» وزوجته اللبنانية المزيفة «جولييت» أحضرا الأسلحة إلى ألمانيا

TT

يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)
أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

كان يحيى السنوار في العاشرة من عمره حين هزت منظمة «أيلول الأسود» الفلسطينية في 1972 شِباك دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ، وجابت صور جثث المهاجمين والرهائن العالم بأسره.

نحو مليار شخص تابعوا ما سميت «مجزرة ميونيخ» التي اختلط فيها الرصاص الألماني بالرصاص الفلسطيني، وكان ذلك قبل هبوب رياح العولمة وولادة الهاتف الذكي. وبمقاييس تلك الأيام ومسرح الحدث غير المسبوق يمكن وصف ما حدث بأنه «طوفان» لكنه انطلق على الأرض الأوروبية.

رفضت حكومة غولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، الرضوخ لمطالب الخاطفين وبينها السماح لهم بالمغادرة إلى مصر مع رهائنهم. وخدعت الحكومة الألمانية الخاطفين واستهدفتهم نيران قواتها. تسبب الافتقار إلى الخبرة في مقتلة دُبّجت عنها كتب وأُنتجت أفلام وأُهرق حبر كثير. ترددت مائير في البداية، لكنها وافقت تحت ضغط عدد من وزرائها على عملية «غضب الرب» التي تقضي باغتيال كل من له علاقة بهجوم ميونيخ في مطاردة عابرة للخرائط.

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

لا غرابة إذاً أن تؤرق استضافة الدورة الحالية من الألعاب الأولمبية بلداً مثل فرنسا. فهذا الحدث العالمي قد يُغري المجموعات الإرهابية التي تبحث عن منبر استثنائي لتوجيه ضربة مدوية على الصعيد الدولي. يضاعف المخاوف أن العقود الماضية شهدت ولادة تنظيمات أدمت العالم، من قماشة «القاعدة» و«داعش» وغيرها.

يقع الصحافي في فخ المحطات المثيرة فيروح يسأل عنها كلما عثر على شريك فيها أو شاهد. وأنا كنت من هؤلاء ولا أزال. وشاءت المهنة أن ألتقى الرجلين اللذين صنعا موقعة ميونيخ تخطيطاً وتنفيذاً. اسم الأول صلاح خلف (أبو إياد) عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، والرجل الثاني فيها بعد ياسر عرفات. واسم الثاني محمد داود عودة (أبو داود) عضو «المجلس الثوري» لحركة «فتح».

عرفات أبلغ وعباس صرف التكاليف

بعد ما يزيد قليلاً على نصف قرن، يمكن القول إن «الموساد» الإسرائيلي قتل كثيرين لكنه لم يقتل الثلاثة الذين وُلدت الفكرة على أيديهم وتحققت في صورة مأساة. والثلاثة هم: «أبو إياد»، ومساعده فخري العمري (أبو محمد)، و«أبو داود». اُغتيل «أبو إياد» والعمري لكن برصاص صبري البنا («أبو نضال» زعيم انشقاق «فتح - المجلس الثوري»، وأُصيب «أبو داود» برصاص «أبو نضال» أيضاً).

في تونس، قال لي «أبو داود» إن الفكرة «جاءت من العمري في لقاء ثلاثي. استوقفتْ الفكرة (أبو إياد) ثم أعجبته وأيّدتُها أنا». ويقول «أبو داود» إن عرفات «كان يعرف أن عمليةً لاحتجاز الرهائن ومبادلتهم بسجناء فلسطينيين في إسرائيل ستجري في ميونيخ، وتولى محمود عباس (أبو مازن) مسؤول المالية في (فتح) صرف المبلغ اللازم لتنفيذها».

وشدد «أبو إياد»، رداً على سؤال طرحتُه عليه، على أن العملية خرجت عن مسارها بسبب تشدد مائير ورعونة الحكومة الألمانية، وأن تعليمات مشدَّدة كانت قد أُعطيت للمنفذين بعدم قتل الرهائن أو إطلاق النار إلا في حالة الاضطرار القصوى للدفاع عن النفس. ويؤكد «أبو داود» أن التعليمات كانت صارمة بعدم القتل.

ملابس داخلية لتهريب السلاح

قصة مثيرة فعلاً. تولى «أبو إياد» شخصياً إحضار الأسلحة التي استخدمها المنفذون وكانت برفقته سيدة لبنانية سميت «جولييت» ساهم فتح حقيبتها المغطاة بملابس داخلية في إحراج رجل الجمارك الألماني، فمرَّر الحقائب الأخرى من دون تفتيش وهي كانت تحمل الرشاشات. وتولى «أبو داود» تخزين الحقائب في محطة القطار وتبديل أماكنها يومياً بانتظار موعد التنفيذ.

«أبو داود» خلال الحديث إلى الزميل غسان شربل (الشرق الأوسط)

لم تراود الشكوك أجهزة الأمن الألمانية في ما يتعلق بزائر كان يتنقل بين فنادق ميونيخ بجواز سفر عراقي يحمل اسم سعد الدين ولي. كان الرجل المتنكر «أبو داود». وسيتولى استطلاع القرية الأولمبية أكثر من مرة.

وفي ليلة التنفيذ سيستخدم قامته الفارعة لمساعدة بعض المنفذين على تخطي السياج المحيط بالقرية الأولمبية. وتشاء الصدفة أن يتولى مساعدة منفذين آخرين رياضيون أميركيون عائدون من سهرة سمر من دون معرفة هوية رفاق «أبو داود» وأن حقائبهم ستختطف بعد قليل أنفاس الدورة الأولمبية والعالم.

قصة «أيلول الأسود»

لم تكن «أيلول الأسود» منظمة مستقلة. وُلدت على دويّ المعارك التي دارت بين الجيش الأردني والتنظيمات الفلسطينية في سبتمبر (أيلول) 1970 واختتمت في العام التالي بعد معارك جرش وعجلون التي قُتل فيها القيادي الفتحاوي «أبو علي إياد».

وُلدت «أيلول الأسود» من رغبة في الثأر من النظام الأردني ومن المواجهة المفتوحة مع إسرائيل. كانت يافطة تستخدمها مجموعات في «فتح» لتنفيذ عمليات لا تريد تحمل مسؤولية مباشرة عنها، ونسبت إليها أحياناً عمليات لا علاقة لها بها. ويقول «أبو داود» إن علي حسن سلامة الذي اغتاله «الموساد» في بيروت لم تكن له علاقة على الإطلاق بعملية ميونيخ. ويضيف أن ما حصل في ميونيخ أثار حماسة الشعب الفلسطيني، ما دفع سلامة إلى الإيحاء بأنه شريك في العملية، خصوصاً أنه استخدم لافتة «أيلول الأسود» لتنفيذ بعض العمليات.

أثار الخروج القسري من الأردن حالة من الغضب في صفوف الفلسطينيين. وطُرحت أسئلة عن مسؤولية القيادات الفلسطينية في خسارة ما كان يعد الموقع الأفضل لمواجهة إسرائيل وإبقاء التواصل قائماً مع الأراضي المحتلة. ترك الخروج جرحاً في نفس «أبو إياد» لا سيما بعدما استمر اللغط حول ما قيل إنه اتفاق توصل إليه مع السلطات الأردنية إبان اعتقاله في أحداث 1970.

تحت لافتة «أيلول الأسود» ستتم عملية تصفية الحسابات. في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971 سددت «أيلول الأسود» ضربة مؤلمة إلى الأردن. ففي ذلك اليوم اغتيل رئيس الوزراء الأردني وصفي التل، لدى دخوله فندق «شيراتون» في القاهرة. أربعة من أفراد المنظمة كانوا في انتظاره. وستطلق الحادثة جدلاً طويلاً لم يتوقف حتى اليوم وثمة من لا يزال يعتقد أن التل سقط برصاصة قناص كان يرابط على سطح بناية قريبة وليس برصاص فريق «أيلول الأسود».

إفراج السلطات المصرية عن المنفذين من دون محاكمتهم عزز شكوكاً أردنية بأن جهازاً مصرياً شارك أو تساهل. وكان نذير رشيد، مدير المخابرات الأردنية، قد نصح التل بعدم التوجه إلى القاهرة، لكنه رفض، وكان ما كان. تحدث «أبو إياد» في مواضيع كثيرة لكنه كان يرفض الخوض في حادثة اغتيال وصفي التل نظراً لحساسيتها، خصوصاً أن الأخير كان معروفاً بالنزاهة والشجاعة والدفاع عن فكرة الدولة والتنمية.

«أبو داود» أيضاً لم يرغب يوماً في الاسترسال في هذا الموضوع الذي تردد أنه كان ملفاً مقيماً لدى فخري العمري بعدما نال قرار اغتيال التل «موافقة مَن لا بد من موافقتهم».

بعد نحو أسبوعين من اغتيال التل، انهمر الرصاص على سيارة السفير الأردني في بريطانيا زيد الرفاعي، وأسعفه الحظ بالنجاة، واقتصرت الأضرار على إصابة في يده. حملت المحاولة توقيع «أيلول الأسود» أيضاً. وكانت هناك فصول أخرى لا يتسع المجال هنا لذكرها.

إحباطات متراكمة

في 1972 بدا الجو الفلسطيني ملبداً. خيبة الخروج من الأردن وافتقار قوات الفصائل الفلسطينية في جنوب لبنان إلى ما يمكّنها من التصدي للغارات الإسرائيلية أو التوغلات. خاف قادة فلسطينيون من انهيار المعنويات أو شيوع اليأس.

بدأ التفكير في الربيع في حلقة ضيقة في ضرورة القيام بعمل مدوٍّ يثير الاهتمام الدولي بالوضع الفلسطيني ويؤكد لسكان المخيمات أن المقاومة قادرة على إيذاء إسرائيل وإيلامها.

«أبو إياد» نقل الأسلحة إلى ألمانيا بجواز سفر مزور و«زوجة» مزيفة (غيتي)

ازداد اهتمام «أبو إياد» مع مجيء الصيف بالقيام بعمل كبير وكان موعد الألعاب الأولمبية يقترب. طلب من «أبو داود» زيارة بلغاريا والحصول هناك على مسدسات مزوَّدة بكواتم صوت «لأننا سنحتاج إليها في أوروبا». وكان العمري يمتلك لائحة المواصفات المطلوبة. كان الغرض تسديد ضربات إلى عملاء «الموساد» في القارة الأوروبية.

كانت الجهات الفلسطينية قد وجّهت منذ بداية السنة رسالة إلى اللجنة الدولية الأولمبية طلبت فيها تمكين الفلسطينيين من المشاركة في دورة ميونيخ لكن اللجنة لم ترد. واجهت رسالة ثانية المصير نفسه.

في الثامن من يوليو (تموز)، كان «أبو داود» في مدينة دورتموند لشراء سيارة قد تحتاج المجموعة إليها في عملياتها الأوروبية. اتصل في ذلك النهار بـ«أبو إياد» الذي عاجله بخبر مؤلم. خبر اغتيال الروائي والصحافي الفلسطيني غسان كنفاني رئيس تحرير مجلة «الهدف» الناطقة باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». قُتلت معه بانفجار سيارته ابنة شقيقته لميس الذي اصطحبها لتسجيلها في جامعة في بيروت.

بدا واضحاً أن كنفاني دخل دائرة الخطر مذ تولى إعلان مسؤولية الجبهة عن الهجوم على مطار اللد الذي نفَّذه ثلاثة من «الجيش الأحمر الياباني» يعملون تحت عباءة الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في الجبهة والذي هز العالم بعمليات خطف الطائرات.

على مقهى في روما وُلدت الفكرة

في أول لقاء مع «أبو إياد» بعد الحادثة طرح السؤال عن رد قوي على الاعتداءات الإسرائيلية التي تخطت كل حدود. اقترح العمري مهاجمة سفارات وقنصليات إسرائيلية لكن «أبو إياد» رأى أن ذلك سيضع المقاومة في مواجهة مع الدول التي تستضيف هذه السفارات. سأل «أبو إياد» «أبو داود» رأيه فأجابه أنه لم يبلور لديه اقتراح لكن البقاء في الوضع الراهن غير ممكن.

سيكون الموعد الثلاثي المقبل في مقهى في روما. أبلغ «أبو إياد» باستمرار اللجنة الدولية الأولمبية في تجاهل وجود الفلسطينيين فانتابه الغضب. قال العمري: «ما داموا يصرون على تجاهلنا لماذا لا نحاول التسلل إلى المدينة الأولمبية؟». سأله «أبو إياد» عن الغرض فأجاب: «لنحتجز رياضيين إسرائيليين». سأله «أبو إياد» إن كان مجنوناً؟ تدخل «أبو داود» ملمحاً إلى أن معظم الإسرائيليين لهم علاقة ما بالمؤسسة الأمنية أو تابعوا تدريبات عسكرية.

صمت «أبو إياد» وبدا كمن يمحص الفكرة. قطع فجأة صمته وقال: «في مقابل من نحتجزهم من رياضيين وإداريين إسرائيليين نطالب بإطلاق عدد وازن من سجنائنا في إسرائيل. الفكرة ليست سيئة». وبعد لحظات خاطب «أبو داود» قائلاً: «ميونيخ في طريقك إلى بلغاريا».

انطلقت التحضيرات لعملية ميونيخ. وقبل المغادرة طلب «أبو داود» من «أبو إياد» التحدث إلى «أبو مازن» للحصول على تمويل للعملية، فردّ: «لا تقلق سأتحدث إليه في الوقت المناسب. أنا متأكد من موافقته وسنحصل على المبلغ اللازم».

لم ينجح «أبو داود» في إقناع البلغار بتسليمه الأسلحة. اشترطوا اتصالاً من جهة رسمية وكانوا يقصدون منظمة التحرير أو قيادة «فتح». تدخل «أبو إياد» لكنهم وضعوا شرطاً جديداً وهو أن تتجه الأسلحة إلى الشرق الأوسط لا إلى أوروبا نظراً لخطورة انكشافها هناك.

«أبو داود» مصاباً بعد محاولة اغتيال في وارسو عام 1981 (غيتي)

كان «أبو داود» يتحدث في ليل العاصمة التونسية كمن يسترجع شبابه أو لحظة عرسه. لم يستثمر دوره في ميونيخ كما فعل «كارلوس» الفنزويلي بعد عملية احتجاز وزراء «أوبك» في فيينا. أخفيت ذهولي كي لا يشعر أنه ذهب بعيداً. لا شيء يشبع شراهة الصحافي كهذه القصة المثيرة عن رجال يتحركون بجوازات سفر مزورة وتأشيرات تم التلاعب بها وتبديل فنادق وعناوين وتضليل حراس.

زيارتان استطلاعيتان

كرر «أبو داود» محاولاته لاستكشاف القرية الأولمبية. استعان ذات يوم بسيدة فلسطينية تتقن شيئاً من الألمانية. تظاهر بأنه رجل برازيلي ويريد الدخول لمصافحة أصدقاء له. رق قلب الحارس الألماني وسمح لهما. سيعود لاحقاً برفقة الشابين اللذين سيتوليان قيادة الفريق المنفذ وهما يوسف نزال ومحمد مصالحة.

اقترب من مقر البعثة الإسرائيلية ورأى امرأة تحمل أوراقاً. سألها بالإنجليزية عن مقر البعثة الإسرائيلية فاستفسرت عن سبب السؤال. رد بأنه برازيلي ويحلم كرفيقيه بزيارة إسرائيل والحصول على معلومات عن هذا البلد وكذلك على أعلام له لنقلها إلى أولادهم. تبين أن السيدة إسرائيلية ووقعت في الفخ، فما إنْ توجهت إلى المقر القريب حتى دخل الثلاثة برفقتها للتعرف على جغرافيا المكان الذي سيشهد الهجوم. استطلع «البرازيليون» قدر الإمكان المداخل والممرات والأجنحة الملحقة.

استلزمت الأسابيع الأخيرة من الإعداد لقاءات ورحلات في اتجاه جملة مدن بينها أثينا ومدريد وصوفيا وجنيف، فضلاً عن بيروت وطرابلس الليبية. كان لـ«أيلول الأسود» مركز تدريب في نقطة قريبة من صيدا في جنوب لبنان. لكن الضرورة اقتضت إرسال مجموعة من المقاتلين لمتابعة دورة سريعة ومكثفة في طرابلس.

طُرحت في أحد الاجتماعات المسألة الأهم، وهي كيف يمكن إيصال الأسلحة في ظل إجراءات استثنائية لا بد من أن تواكب حدثاً يشارك فيه رياضيون من 120 دولة. فوجئ «أبو داود» والعمري بـ«أبو إياد» يقول بلهجة حاسمة: «أنا سأوصلها». استبعد «أبو داود» أن يضطلع «أبو إياد»، وهو رجل ذائع الصورة والصيت مباشرةً، بمهمة محفوفة بالأخطار، ورجح أن يستعين بمنظمة أو مجموعة.

زوجة لبنانية مزيفة... وقنابل في حقيبة يد

أرسل «أبو إياد» إلى «أبو داود» أن ينتظره في مطار فرانكفورت في 24 أغسطس (آب) 1972. ذهب «أبو داود» إلى الموعد وراقب من وراء الزجاج. انتظر إطلالة «أبو إياد» بفارغ الصبر وعلى قدر من القلق. فجأة أطل «أبو إياد» في صحبة سيدة لبنانية تظاهر بأنها زوجته وسُميت جولييت، فضلاً عن تاجر صديق له واسمه علي أبو لبن.

كان «أبو إياد» ثابت الأعصاب على خلاف أبو لبن الذي وصل به الأمر حد تناول المهدئات. أشار رجل الجمارك إلى «أبو إياد» أن يفتح الحقائب فخاف «أبو داود» أن تنهار العملية برمتها. وفجأة بدأ «أبو إياد» في إخراج الملابس الداخلية لـ«زوجته» مبدياً شيئاً من التذمر من هذا النوع من المعاملة. أُصيب موظف الجمارك بالإحراج وأشار بمرور الحقائب كمن يعتذر. وهكذا وصلت الأسلحة المخبأة في الحقائب الأخرى.

لم يقترب «أبو داود» من «أبو إياد» الذي صعد مع رفيقيه إلى سيارة تاكسي. تبعه «أبو داود» في السيارة الموالية وطلب من السائق السير وراء سيارة صديقه. ضحك سائق السيارة الثانية من إصرار «أبو داود» على متابعة صديقه ودفَعَه الخبث إلى التفكير أن عين الرجل هي على السيدة الموجودة في التاكسي الآخر ولم يخطر بباله أن رجال السيارتين سيشعلون حريقاً كبيراً سيلازم اسم ميونيخ والألعاب الأولمبية.

هكذا عرف «أبو داود» الفندق الذي ينزل فيه «أبو إياد». ترجل من السيارة ومشى قليلاً في اتجاه آخر للتضليل ثم دخل الفندق وصعد إلى غرفة أبو لبن. وجد «أبو إياد» مسترخياً هناك وكانت «جولييت» في غرفة أخرى.

اكتشف «أبو داود» أن عدد الرشاشات ثمانية وطلب منه «أبو إياد» التصرف على أساس أن الفريق المهاجم سيكون من ثمانية لا عشرة. لاحظ «أبو داود» غياب القنابل فاتفق أن يعود أبو لبن سريعاً إلى بيروت لإحضارها في حقيبة يد تفادياً لإثارة الشبهة. وهذا ما حصل. نقل «أبو داود» الأسلحة إلى خزائن الأمانات في محطة القطار في ميونيخ، وأضاف إليها لاحقاً القنابل وكان يغيّر مكانها يومياً ومن دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن.

اللمسات الأخيرة

وصل أعضاء الفريق المشارك من طرابلس وتولى مصالحة ونزال توزيعهم في ثلاثة فنادق مختلفة بمعدل اثنين في كل فندق ومن دون ذكر اسم «أبو داود». وكان على «أبو داود» أن يشتري لهم ثياباً رياضية وحقائب وبعض الضمادات والبسكويت في حال طال احتجاز الرهائن.

عناصر من الأمن الألماني يحاولون دخول موقع الاحتجاز في القرية الأولمبية (غيتي)

افتُتحت الألعاب الأولمبية في 26 أغسطس. اختار المخططون الانتظار كي يسود الانطباع أن الألعاب تجري طبيعية وتتراخى التدابير الأمنية.

كنت أشعر أنني أنتظر قصة جديدة كلما أشعل «أبو داود» سيجارة إضافية.

قال «أبو داود» إن اجتماعاً عُقد سابقاً في بيروت وشمل أيضاً «أبو إياد» و«أبو مازن» خلص إلى التشديد بصورة قاطعة على عدم اعتبار العملية فرصة للثأر والتنكيل وأن «العملية سياسية قبل أن تكون عسكرية والمصلحة تقضي بعدم إراقة الدماء إلا في حال الخطر وفي سياق الدفاع عن النفس». وأضاف أنه أبلغ الفريق المنفذ بذلك في اجتماع عقده معه «بوصفي برازيلياً مؤيداً للثورة الفلسطينية وكنت أتحدث خلال الاجتماع بالإنجليزية ويتولى أحدهم الترجمة».

كانت الاستعدادات قد اكتملت: سيدخل المنفذون من أقرب نقطة في السياج الأولمبي إلى المبنى 31 الذي تقيم فيه البعثة الإسرائيلية. سيحاول احتجاز أكبر عدد ممكن من الرهائن. سيتولى مصالحة عملية التفاوض. سيسلم الوسطاء لائحة تطالب بإطلاق أكثر من مائتي سجين فلسطيني في إسرائيل وهي تتضمن أيضاً اسم كوزو أوكاموتو الياباني الذي شارك في هجوم اللد، إضافة إلى الإفراج عن أولريكه ماينهوف وأندرياس بادر من جماعة «بادر ماينهوف» الألمانية الراديكالية.

كانت هناك تعليمات بخفض المطالب إذا تعقدت المفاوضات، «وكانت الخطة تقضي بطلب طائرة لاصطحاب الرهائن إلى دولة شرق أوسطية ويفضل أن تكون مصر التي ستطالب بالتأكيد بعملية تبادل لإطلاق الإسرائيليين المحتجزين»، كما روى «أبو داود».

ليلة التنفيذ

في الرابع من سبتمبر شعر «أبو داود» باكتمال التحضيرات فأعطى إشارة التنفيذ. بعد منتصف الليل سيكون إلى جانب السياج مع المنفذين بثيابهم الرياضية والرشاشات المخبأة في حقائبهم. يقول «أبو داود» إن «الشباب كانوا يستعدون لتسلق السياج حين سمعنا ضجيجاً وسرعان ما تبين أنهم لاعبون أميركيون سهروا وأسرفوا في الشراب وقرروا تسلق السياج للعودة. المضحك أنهم عرضوا على شبابنا المساعدة وقدموها وشملت رمي الحقائب التي تحوي السلاح إلى الجهة المقابلة. واستخدمت أنا طولي لمساعدة من وجد صعوبة. وكانت المفاجأة أن الرجل الذي ساعدته قال لي: شكراً أبو داود، وأنا كنت أتوهم أنني نجحت في إخفاء هويتي عن المنفذين باستثناء نزال ومصالحة».

ترك «أبو داود» المكان وعاد إلى فندق سجل نفسه فيه باسم مستعار آخر. شرارة البدء في الرابعة والنصف صباحاً. مرت ساعات ولم تبث الإذاعات شيئاً. وكان «أبو داود» قد اتفق مع مصالحة ونزال على أن يلتحق به أعضاء الفريق في محطة القطار إذا فشلت المحاولة لأن جوازاتهم كانت في حوزته. في الثامنة بثت وسائل الإعلام نبأ اقتحام القرية الأولمبية. وهكذا صارت القصة ملك العالم بأسره.

مروحية الخاطفين والرهائن مدمَّرة بعد تبادل النار في مطار عسكري قرب ميونيخ (غيتي)

رفضت حكومة غولدا مائير شروط الخاطفين. ويعتقد أنها مارست ضغوطاً على حكومة ألمانيا الغربية بذريعة أن التجاوب يشجع الإرهاب. خدعت الحكومة الألمانية الخاطفين. وافقت على انتقالهم إلى مطار عسكري حيث ستنتظرهم طائرة «لوفتهانزا» لنقلهم إلى مصر. هبطت طائرتا الهليكوبتر في المطار وتوجه نزال ومصالحة لتفقد طائرة الركاب، ولدى خروجهما اندلع الرصاص واختلط. حاولت الأجهزة الألمانية قتل الخاطفين وكانت النتيجة مقتل خمسة منهم، إضافة إلى رهائنهم التسع وشرطي ألماني. ويُذكَر أن رياضيين إسرائيليين قُتلا خلال عملية الاقتحام وتجميع الرهائن.

«غضب الرب»

بعد ميونيخ وافقت حكومة مائير على عملية «غضب الرب» التي أدت إلى اغتيال عدد من المسؤولين والدبلوماسيين الفلسطينيين ولم تكن لمعظمهم علاقة من قريب أو بعيد بعملية ميونيخ. نجحت إسرائيل في اغتيال كثيرين إلا الحلقة الأساسية. فقد اغتيل «أبو إياد» وفخري العمري في تونس في 14 يناير (كانون الثاني) ومعهما المسؤول الأمني هايل عبد الحميد (أبو الهول) على يد شاب اسمه حمزة أبو زيد اندسّ في جهاز حماية عبد الحميد بناءً على طلب «أبو نضال».

كان «أبو إياد» متحفظاً في الكلام عن المحطات التي لعب دوراً فيها. لم يرد ترك بصماته مباشرةً في أي مكان. كان ينسب ما تحقق إلى «الشباب» ولهذا لمست قدراً من العتب عليه من جانب «أبو داود» الذي لعب دوراً حاسماً في عملية ميونيخ وغيرها.


مقالات ذات صلة

كيف تحسب السلطات الصحية في غزة عدد القتلى؟

المشرق العربي جرحى فلسطينيون في مستشفى العودة خلال العملية الإسرائيلية لتحرير أسرى في مخيم النصيرات (إ.ب.أ)

كيف تحسب السلطات الصحية في غزة عدد القتلى؟

تقول السلطات الصحية الفلسطينية إن الحملة البرية والجوية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة أسفرت عن مقتل ما يزيد على 39 ألف شخص معظمهم من المدنيين.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لدى إلقاء خطابه الرابع أمام الكونغرس في واشنطن (أ.ف.ب)

تباين مواقف الإسرائيليين من خطاب نتنياهو أمام الكونغرس

تباينت الآراء في إسرائيل حول خطاب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي ألقاه بالكونغرس الأميركي يوم الأربعاء، ما بين مؤيد ومعارض.

نظير مجلي (تل أبيب)
المشرق العربي جنود إسرائيليون يقفون خلف مركبة مدرعة خلال العمليات العسكرية في قطاع غزة (أ.ف.ب)

القوات الإسرائيلية تواصل التوغل جنوب غزة... و«القسام» تستدرج جنوداً وتصيبهم

عمّقت القوات الإسرائيلية، اليوم (الخميس)، توغلها في بعض البلدات على الجانب الشرقي من خان يونس جنوب قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي 
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لدى إلقاء خطابه أمام الكونغرس في واشنطن أمس (أ.ف.ب)

نتنياهو يدعو لغزة «منزوعة السلاح» ويهاجم إيران

أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أمس الأربعاء، أن بلاده ستعمل على جعل قطاع غزة منطقة «منزوعة السلاح وخالية من المتطرفين».

رنا أبتر (واشنطن) «الشرق الأوسط» (تل أبيب)
شمال افريقيا الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط (الجامعة العربية)

أبو الغيط: قرار الكنيست الإسرائيلي تصنيف «الأونروا» منظمة إرهابية «عبث»

أدان الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، قرار الكنيست الإسرائيلي تصنيف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) منظمة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج

TT

لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج

لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج

السعوديون والحج قصة ممتدة وتاريخ متأصل وإنجازات غير مسبوقة، منذ أول حج تحت حكم المؤسس الملك عبد العزيز حتى اليوم... إنه شرف عظيم، لكنه مسؤولية كبرى. بدأت قصته بعد أسابيع من دخول الملك المؤسس مكة المكرمة (جمادى الأولى 1343هـ - ديسمبر - كانون الأول 1924م).

الملك عبد العزيز خلال تأدية الحج في سنوات عهده الزاهرة

الملك عبد العزيز يوجه نداء للمسلمين

أصدر الملك عبد العزيز نداءً عاماً إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أعلن فيه ترحيبه بحجاج بيت الله الحرام من الأقطار كافة، مؤكداً تكفله براحتهم وتوفير الأمن لهم وحفظ حقوقهم وتسهيل وصولهم إلى مكة من موانئ رابغ والقنفذة والليث، لأن جدة كانت محاصرة من قبل جيشه، والأوضاع لم تكن قد استقرت بعد في الديار المقدسة.

وجاء في ذلك النداء، الذي وجّهه الملك عبد العزيز: «إننا نرحب ونبتهج بقدوم وفود حجاج بيت الله الحرام من كافة المسلمين في موسم هذه السنة ونتكفل بحول الله بتأمين راحتهم والمحافظة على جميع حقوقهم وتسهيل أمر سفرهم إلى مكة المكرمة من أحد الموانئ التي ينزلون إليها، وهي: رابغ أو الليث أو القنفدة، وقد أُحكم فيها النظام واستتب الأمن استتباباً تاماً منذ دخلتها جيوشنا. وسنتخذ من التدابير في هذه المراكز جميع الوسائل التي تكفل تأمين راحة الحجاج إن شاء الله تعالى».

الملك عبد العزيز يفتح المجال للأعمال الخيرية

تضمن النداء إعلاناً، هذا نصه: «أعلن لكافة إخواننا المسلمين أنه لم يبق أثر للمشاكل والعراقيل التي كانت تضعها الحكومة السابقة ضد المشاريع الخيرية والاقتصادية، وأن أبواب الحجاز مفتوحة لجميع من يريد القيام بأي عمل خيرى أو اقتصادي، وأن الحكومة المحلية مستعدة للقيام بجميع التسهيلات الممكنة لتنشيط من يريد القيام بهذه المشاريع الخيرية والاقتصادية».

الملك عبد العزيز خارجاً من المسجد الحرام على ظهر جواده بعد ضمّه مكة المكرمة إلى حكمه

تحديات الحج قبل العهد السعودي

النداء صدر باسم سلطان نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود، يوم 1 شعبان 1343هـ - 25 فبراير (شباط) 1925م، إذ لم يكن قد بويع بعد ملكاً على الحجاز، فكيف تم تنظيم أول موسم حج في عهد الملك عبد العزيز؟ وما هي الظروف التي أدى فيها الحجاج شعائرهم؟ وما الخدمات التي توفرت؟ ثم ما الفرق الجوهري الذي حصل في ذلك الموسم؟ وكيف اختلف تنظيم الحج في العهد السعودي عما سبقه من العهود؟ لقد كان الأمن أكبر التحديات التي تقلق الحاج، ناهيك عن الأمراض، وسوء معاملة الحجاج من قبل السلطات المحلية، ونقص الخدمات.

تؤكد الوثائق البريطانية أنه لم تكن هناك سياسات وأنظمة واضحة! وتشير إحداها إلى سخط المسلمين في بلاد البنغال على سلطات الحجاز بسبب المعاملة السيئة لحجاجهم خلال مواسم الحج السابقة لموسم سنة 1342هـ - 1924م.

كما تشير وثيقة أخرى إلى أن المسلمين الهنود يعتقدون أن ترتيبات (حكومة الحجاز) في مكة كانت سيئة جداً، وكي لا يظن أحد أن في الأمر مبالغة، نعود إلى ما أورده اللواء إبراهيم رفعت باشا، الذي حجّ عدة مرات خلال عامي 1318هـ (1901م) و1325هـ (1908م)، وكان في أحدهما أميراً للحج المصري، وسجّل مشاهداته عن مواسم الحج ومعاناة الحجاج، يقول عن حجته الأولى سنة 1318هـ (1901م): «أمر (حاكم) مكة بجمع إعانة للسكة الحديدية، وقدّر على كل حاج غير معسر ريالاً، فأخذ المطوفون يجمعونها ويوردونها (للحاكم) كل يوم». ويضيف: «كان بعض الحجاج يمتنع عن الدفع، وبعضهم دفع عن نفسه وعمن يرافقه في القافلة... وقد أمر (الحاكم) بعدم خروج أحد من الحجاج من مكة حتى تجبى الضريبة كلها. وعلى ذلك، حبس الحجاج بمكة بعد تأدية الفريضة 7 أيام، كانوا فيها على أحر من الجمر. شوقهم لزيارة الرسول (صلى الله عليه وسلم) يهيب بهم أن أسرعوا، (والحاكم) يقول: مكانكم حتى تدفعوا».

ويذكر: «بلغني أن بعضاً من حجاج المغرب شكا لدولة الوالي حبسهم بمكة، فأرسل بهم مع مندوب من قبله إلى (الحاكم) ليسمح لهم بالخروج، فلما وصلوا إليه نزل عليهم ضرباً بالعصي، وإذ ذاك انقض عليهم زبانيته أيضاً (الباوردية)، فتشتتوا مذعورين ورجعوا بخفي حنين. شكوى عادلة جوابها إهانة قاسية في بلد جعله الله حرماً آمناً (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ. وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)». وأضاف: «لئن دام هذا الظلم لينصرفن الناس عن الحج، وتلك الطامة الكبرى ببلاد العرب، وأهلها الذين يجدون في الحجاج العيش الكفاف، بل الرزق الواسع، بل ذلك جناية على الإسلام ومعتنقيه، فإن هذا البلد واسطة التعارف بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا انقطعت بينهم الأسباب، وانفصمت عروة التوادِّ كانوا كالغنم القاصية، تلتهمها الدول المستعمرة فتستغيث فلا مغيث، فليقلع الظالم عن ظلمه كيلا يعمنا الله بعذاب من عنده...».

ويضيف: «لم يسمح (الحاكم) بخروج الحجاج من مكة إلا بعد أن دفعوا جميعاً ريال الإعانة للسكة الحديدية، فلما أن صدر الإذن بالخروج، أخذ جميع الحجاج في الرحيل، وهم ألوف مؤلفة يسلكون طريقاً ضيقة، ولما بلغوا مكاناً مخصوصاً بالطريق أوقفوا حتى يدفعوا ريال الحكومة (عوائد) عن كل جمل خالٍ أو محمل». ويبين: «أخذوا يدفعون، ولكن بلغ الزحام أشده لأن المحصل شخص واحد قام بجانبه اثنان من الزبانية لا يسمحان لأحد بالمرور حتى يدفع الريال واستعملا كل غلظة وقساوة لا تصدر من الوحوش، فضلاً عن الأناسي، فضلاً عن مسلم يدين بالإسلام، وقد أصبحت الطريق التي كانت معدة لسير جملين بشقادفهما متحاذيين فيها أربعة صفوف، فدخلت الشقادف بعضها في بعض، وكاد الناس يكونون طبقات بعضهم فوق بعض، وهنالك تحطم كثير من الشقادف، وسقط بعض الراكبين من عليها، فتهشمت منهم العظام وبلغت فيهم الجراح، وفقدوا من الأمتعة، وتلف كثير منها».

ويذكر: «كنت لا تسمع إذ ذاك إلا ولولة النساء وعويل الصبيان واستغاثة الضعفاء ومنازعات الرجال، ولا شرطة هناك تحول دون ذلك، وكل هذا مغبة حبس (الحاكم) للحجاج وسوء نظام الجباية، وماذا على الحكومة لو عيّنت عدداً من المحصلين وعيّنت لكل قافلة يوماً تخرج فيه، ومعرفة القوافل من الأمور الهينة، لأن المطوفين والمتعهدين يعرفونها، وأولئك معروفون لدى الحكومة، وبذلك يسهل التحصيل وتسير القافلة بهدوء وسكينة، ويأمن الناس على نفوسهم وأمتعتهم».

قوات وآليات أمن الحج خلال الاستعراض العسكري السنوي (واس)

أمن الحجاج... أهم التحديات

لم تكن تلك المعلومات غائبة عن ذهن الملك عبد العزيز عشية دخوله مكة، فقد أدرك أن الصعوبات التي يواجهها الحجاج خصوصاً، ومشاكل الحجاز عموماً، تتمثل في «الفوضى في الإدارة وانعدام سلطة القانون ونهب الحجاج»، إضافة إلى عدم توفر الخدمات الكافية، سواء أكانت صحية أم بلدية أم غذائية أم خدمات النقل والمواصلات حتى الخدمات الإدارية.

لقد قرأ الملك المؤسس التاريخ ووعاه وأدرك أن ما بذلته الدول والحكومات المتعاقبة لخدمة الحرمين والحجاج، التي تمثلت في المشروعات العمرانية والمائية لطرق ومرافق الحج وتوسعات وعمارة الحرمين على مرّ القرون السابقة، هي جهود مقدرة ومشكورة، لكنها لم تكن كافية.

والسبب يكمن في بعد الديار المقدسة عن مراكز اتخاذ القرار، منذ خروج عاصمة الخلافة من المدينة المنورة إلى خارج الجزيرة العربية عام 36هـ -657م، وعلى مدى قرون ظلت الجزيرة العربية خارج الاهتمام المباشر من قبل عواصم القرار، ولولا وجود الحرمين الشريفين قد لا يوجد أي اهتمام أصلاً! ومع ذلك ظلت التهديدات التي تواجه الحج والحجاج مستمرة على مرّ العصور، ولم تتوفر حلول شاملة لها، وكأن الحج أشبه برحلة رعب للحاج.

رصد المؤرخ المكي تقي الدين الفاسي (توفي 832هـ - 1429م) في كتابه «شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام» التهديدات والأزمات في مواسم الحج منذ سنة 200هـ - 816م، التي تمثلت في: اضطراب الأمن والفتن والقلاقل، ونقص المواد الغذائية وغلاء الأسعار، وقلة المياه، ونهب الأموال والسرقات، والمكوس الجائرة، والأوبئة والأمراض.

هذا عدا الكوارث الأخرى كالسيول والأمطار والحرائق، إضافة إلى الخلافات العقدية والمذهبية التي تفسد الحج حيث وقف الناس بعرفة سنة 199هـ - 815م بلا إمام، وصلوا بلا خطبة، كما كان الخلاف في تحديد دخول شهر ذي الحجة، الذي ترتب عليه وقوف بعض الحجاج على صعيد عرفة يوم الاثنين، وبعضهم يوم الثلاثاء، وكان ذلك سنة 292هـ - 905م، وتكرر ذلك في أكثر من موسم.

أما الرحالة والمؤرخ المصري محمد لبيب البتنوني فيصف أمن الحجيج خلال رحلته عام 1327هـ - 1909م: «والرفقاء من الحجاج يتناوبون السهر على حراسة عفشهم، ومن يسهر منهم تراه على الدوام يصرخ بكلمات الاضطراب والانزعاج كقولهم: (شايفك، ابعد، لا تقرب) وهكذا. والحجاج يقضون حاجتهم بين رحالهم في الغالب، ومن ابتعد عنها لا بد أن يكون معه أنيس يحرسه عند اشتغاله بنفسه، وإلا فإنه لا يحرم واحداً من الأعراب ينقض عليه ويضربه في رأسه بعصا يابسة قصيرة تخمد معها أنفاسه!! وهنالك يشلحه من ملابسه أو يكتفى بقطع كمرة من حزامه أو من ذراعه».

ويضيف: «فإذا استغيبه صحابته قاموا للبحث عنه فيجدونه إما فاقداً للحياة فيوارونه التراب على حاله!! وإما فاقداً للشعور فيأخذونه ويقومون بشأنه، وقليلاً من ينجو من هذه الضربة... وقد يقطع الجمالة بعض الجمال من القافلة أثناء سيرها، ويتظاهرون بإصلاح حمولها حتى إذا ابتعدت القافلة عنهم أوقعوا بركابها، وهم يستغيثون ولا يعانون، وسلبوهم متاعهم، وكثيراً ما يجهزون عليهم، ويفرون بجمالهم إلى حيث أرادوا.

والأدهى من ذلك كله ما يهدد القافلة من خطر هجوم بعض القبائل التي في طريقها عليها، أو على الأقل وقوفهم في وجهها، فلا يدعونها تمر إلا بعد أن يأخذوا منها ما يرضيهم باسم أجرة المرور في أرضهم».

المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن

الملك عبد العزيز يتحرك لتأمين الحجاج

أدرك الملك عبد العزيز كل تلك التحديات، وتأخر في ضم الحجاز عدة سنوات مع أن حكومة الحجاز منعت حجاج سلطنة نجد من أداء الحج خلالها، وبالرغم من أن الطريق كانت ممهدة أمامه، فإن الملك المؤسس لم يشأ أن يكون ضمّه للحجاز سبباً لتدخل القوى الخارجية في شؤونه.

واتبع الملك عبد العزيز سياسة النفس الطويل، حيث أصدر عدة بيانات، وأجرى مراسلات ليبين موقفه من تصرفات حكومة الحجاز ومنعها للحجاج، وكان سوء المعاملة التي يلقاها الحجاج من مختلف الأقطار من قبل السلطات الحجازية كافياً لتأييد أي تحرك من قبله لضمّ الحجاز. لكن في هذا التحقيق، نجد أن الملك عبد العزيز لم يتأخر في خطوته بسبب ذلك فحسب، بل كان مدركاً حجم الصعوبات والمشاكل التي ينوء بها الحجاز، والتي تحتاج إلى حلول جذرية.

وبالرغم من أن ضم الحجاز كان خطوة مهمة في مشروع الملك عبد العزيز الوحدوي، فإن الهدف الأولي للملك عبد العزيز كان حماية المقدسات وتأمين الوصول لها وبسط الأمن ورفع المظالم التي أرهقت العباد، ناهيك عن تهيئة وتوفير السبل لتمكين الحجاج من أداء مناسكهم بيسر واطمئنان.

من هنا، كانت رؤية الملك عبد العزيز ترتكز على سرعة توفير الخدمات كافة للحجاج. وقبل ذلك، فرض الأمن وإرساء قواعد العدل على أسس مستمدة من الشريعة الإسلامية. استشعر الملك المؤسس تلك المسؤولية العظيمة، رغم قلة الإمكانات والموارد وعدم استقرار الأوضاع بسبب ظروف الحرب وحصار جدة، ومقاطعة بعض الدول لموسم الحج والحملات الإعلامية ضد الملك عبد العزيز.

تنظيم أول حج في العهد السعودي

نجح الملك عبد العزيز في تنظيم أول موسم للحج تحت حكمه، وذلك لم يكن ليتأتى لولا توفيق الله ثم الرؤية الواضحة والخطط المحكمة في تحقيق الأمن وإقامة العدل وتحسين الخدمات.

كانت مسؤولية جسيمة ومهمة كبرى، لكن الملك عبد العزيز كان يدرك أبعادها ويتابع تفاصيلها ويشرف بنفسه على تنفيذها، وكانت التجربة الناجحة لإدارة الحج في عهد الدولة السعودية الأولى ماثلة أمامه.

مخيمات الحجاج في بداية العهد السعودي

خطط الملك عبد العزيز لنجاح الحج

سنتطرق في هذا التحقيق إلى نماذج من الخطط والإجراءات والترتيبات التي اتخذها الملك المؤسس، مع الأخذ في الاعتبار أن التنظيمات والهياكل الإدارية المتعلقة بتنظيم الحج والإشراف على شؤون الحجيج في الحجاز لم تكن كافية أو مكتملة، فكيف كانت البداية؟

من خلال تتبع المصادر وقراءة تسلسل الإجراءات والقرارات التي اتخذها الملك عبد العزيز في الأشهر الأولى لدخوله مكة المكرمة، نجد أنه استعد لإنجاح أول موسم حج تحت إدارته، ويتضح ذلك من التخطيط الدقيق والجهد الكبير الذي بذله لتذليل كل الصعوبات التي يمكن أن تعيق تنظيم حج عام 1343هـ - 1925م، وفيما يلي نماذج ولمحات عن الإجراءات والتدابير «العاجلة» التي تم اتخاذها في عدد من المجالات، مثل...

الأمن

مع إعلانه للعالم عن استتباب الأمن في الحجاز بعد أسابيع من دخوله مكة، كان الملك المؤسس قد بدأ في اتخاذ خطوات سريعة لضبط الأمن، فأعلن أنه سوف يُنزل أشد العقاب على كل من تسول له نفسه العبث بالأمن، وركز على أمن الحج والحجيج، وأرسل السرايا لتعقب المجرمين الذين يعتدون على الحجاج والقضاء عليهم. وأكد على رؤساء القبائل بعدم التعرض لقوافل الحجاج، وعدّ رئيس القبيلة مسؤولاً عن الجرائم التي تقع في حدود قبيلته، وتعهد بالاستمرار في تتبع المجرمين وقطاع الطرق وإنزال أشد العقوبات بهم، وهذا ما كان، فارتدع المجرمون.

عملت الأجهزة الحكومية منذ بدايتها على توعية الحجاج فيما يتعلق الصحة العامة والتغذية

الصحة والخدمات البلدية

منذ الأيام الأولى لوصوله مكة، كلّف الملك عبد العزيز طبيبه الخاص الدكتور محمود حمدي حمودة بإدارة الصحة العامة، وبدأ بتنظيم الأمور الصحية ونشر مقالات توعوية في الأعداد الأولى من جريدة «أم القرى»، وكانت للصحة أولوية بعد الأمن بسبب انتشار الأمراض والأوبئة. ومن الإجراءات التي اتخذت: التأكد من أسباب الوفيات، ونشر إحصائية أسبوعية عنها، والبدء في وضع التدابير الصحية قبل موسم الحج للوقاية من الأمراض، واقتراح التشكيلات الصحية المناسبة، مع التركيز على الجوانب الوقائية. وتم تجهيز عدد من المستشفيات والمراكز الصحية للعمل في موسم الحج. كما تم مراقبة بيع المأكولات والمشروبات وأفران الخبز للحرص على النظافة، وإعلان تعليمات صحية للحلاقين والقيام بجولات تفتيشية ومعاقبة المخالفين، إضافة إلى تنظيف المشاعر وحفر أماكن ذبح الأضاحي.

وصدر تقرير صحي بعد موسم الحج، أكد خلو الحج من الأمراض الوبائية وانخفاض نسبة الوفيات عن المواسم السابقة، وتضمن التقرير عدداً من التوصيات.

المياه والغذاء

وجّه الملك عبد العزيز بصيانة مجاري عين زبيدة، والتأكد من نظافتها وعدم انسداد ما يوصلها بمنابعها الأصلية في وادي نعمان، تلافياً لما وقع من عطش الحجاج في موسم الحج الماضي.

وفي بداية شهر ذي القعدة، أُعلن عن تشغيل مضخة الماء لنقل الماء إلى منى والبدء في تعبئة الخزانات ليكون الماء متوفراً للحجاج، وطلب الملك من مستشاره حافظ وهبة أن يتأكد من سير العمل في توفير المياه، وقام وهبة بتفقد آلة الضخ والخزانات في منى وعرفات، ورفع تقريراً بذلك للملك.

وقبل موسم الحج، أعلن عن اكتمال تنظيف وتطهير مجاري وأحواض المياه وملء «البازان» العمومي في منى.

واتخذ الملك عبد العزيز التدابير اللازمة لجلب الغذاء والأرزاق من سائر الجهات وفتح الأسواق، وتم توفير السلع والمواد الغذائية كالتمر واللحم والسمن والعسل والحنطة والدخن والذرة والسمسم من نجد وعسير وجازان والطائف.

كما كلّف أحد رجالاته (التاجر وقتذاك) عبد الله الفضل بالسفر منذ وقت مبكر إلى مصوع وعدن والهند لجلب البضائع والأرزاق إلى مكة، وقبل موسم الحج وصلت عدة بواخر تحمل كميات من الدقيق والسكر والشعير والكاز، وقبل ذلك وصلت قوافل من الجمال تحمل أقواتاً وأرزاقاً ومؤناً.

وتم الإعلان عن توفر السلع ومراقبة الأسعار ونشر أسعار السلع أسبوعياً، واتخاذ الإجراءات ضد التجار المحتكرين. ونشرت بعض الشركات إعلانات عن توفر المواد الغذائية بأسعار في متناول الجميع.

وسائل النقل القديمة المتمثلة في قوافل الجمال والحافلات التي تطورت عبر الزمن

النقل والمواصلات

نظراً لحصار جدة، فقد اتخذ الملك عبد العزيز قراراً باستخدام موانئ رابغ والليث والقنفذة لاستقبال الحجاج، وتم الاستعداد لذلك، واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة.

وانتدب الموظفين للعمل في هذه الموانئ، وتأمين قوافل الجمال لنقل الحجاج إلى مكة. وفي شهر ذي القعدة 1343هـ - مايو (أيار) 1925م، أعلن عدد من التجار عزمهم تأسيس شركة سيارات لنقل الحجاج، بعد أن أدركوا حرص الملك عبد العزيز على راحة الحجاج وعنايته بكل ما له علاقة بشؤون الحج.

كما تم تنظيم البريد والاهتمام بشؤونه، كونه أهم وسائل التواصل بين الحجاج وذويهم وقتذاك. وبدأت إدارة البريد مساعيها للانضمام لاتحاد البريد العالمي ومخاطبة إدارات البريد في الدول الأخرى لإرسال الرسائل إلى ميناء القنفذة بدلاً من جدة، واتخاذ إجراءات عاجلة لإرسال الرسائل عن طريق القنفذة إلى مصوع ثم إلى وجهاتها وفتح طريق أخرى بإرسالها إلى البحرين عن طريق الرياض ثم إلى وجهاتها الخارجية، وأصدرت إدارة البريد طوابع بريدية من عدة فئات، أسمتها «تذكار الحج الأول».

الجوانب الإدارية والتنظيمية

بدأ الملك عبد العزيز في إعادة تنظيم الأوضاع الداخلية لمكة المكرمة فور دخوله، فتم تشكيل المجلس الأهلي لإدارة الشؤون الداخلية والإشراف على الدوائر الحكومية ومتابعة شؤون الحج، كما تم إعادة تنظيم وتشكيل عدد من الإدارات مثل البلدية والمالية والأوقاف والنظر في احتياجاتها. كما تم تنظيم إسكان الحجاج في مكة، وكان الملك يتابع بنفسه أدق التفاصيل، خاصة تلك المتعلقة بشؤون الحج والحجيج، ويؤكد خطابه المرسل إلى علي الناصر العماري، الذي انتدبه للإشراف على وصول الحجاج إلى ميناء رابغ، حرصه على راحة الحجاج وسلامتهم.

الخطاب الذي وجّهه الملك عبد العزيز إلى العماري وابن مبيريك

إلى جناب الأخ المكرم علي العماري، سلمه الله تعالى...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد

لا بد واصلكم مأمور التأشير على جوازات الحجاج، ومعه دفاتر طبعت خصيصاً لهذه المسألة، كما ترون «نمونتها» (عيّنتها) بطيّه، ومنها تفهمون أن القصد هو تنظيم مسألة الواردين من الحجاج ومعرفة هويتهم وتابعيتهم وعددهم وغير ذلك، مما هو معرفته ضرورية لأجل ضبط الشغل، ويوضع على الباص «تذكرة المرور» التي بيد الحجاج طابع بعشرة قروش، ويُعطى ورقة مرقمة من هذه الدفاتر.

 

ويصل إلى طرفكم معهم... ثلاثة مأمورين لأجل تعريف الحجاج عند نزولهم بما يحتاجون إليه بواسطة الترجمة والتعارف بينكم وبينهم، ولقضاء لوازمهم، وأيضاً شخص آخر مندوب من قبل جمعية المطوفين ليستشير بحرية كاملة للحجاج الأشخاص المطوفين الذين يرغبون موافقتهم بالتطويف وغيره، ولكن الحذر من استعمال أساليب غير مشروعة في انتقاء المطوفين، فنزول الحاج بالرغبة والحرية الكاملة في انتقاء المطوفين.

 

ويكون مأمور التأشير مع أنه مأمور بريد في الوقت نفسه، والترجمة، ومندوب المطوفين، تحت نظارتكم. فأنتم المسؤولون عن أعمالهم، كما أنهم مسؤولون تجاهنا في حساباتهم وتصرفاتهم.

 

ويوكل أمر الكراوي (أجرة النقل) على اختلاف أنواعها في البر والبحر لنظركم بعد الاتفاق أنت وابن مبيريك (أمير رابغ إسماعيل بن مبيريك الغانمي) وشيخ المطوفين، ولا تتخذوا أمراً إلا بعد المشاورة والاتفاق.

 

 ثم في النظر إلى بُعد الميناء عن البلد، لا بد من إنزال الحجاج إلى البر في الصباح أو المساء اتقاء ضرر الشمس، ثم يجب أن يكون مع كل عشرين جملاً خادم خاص غير الجمال، تقطعون له أجرة زهيدة من الجمّال ويكون مساعداً للجمّال أثناء الطريق.

 

ثم أن يعين مطوف الحجاج قبل وصولهم إلى مكة، بعد ترك الخيار التام كما ذكرناه أعلاه للحاج وتُمضى الورقة المتعلقة بذلك منكم ومن خادم الحكومة الترجمان ومن مندوب رئيس المطوفين وترسل الورقة إلى مكة قبل الحاج لأجل التنبيه للمطوف للقيام بوظيفته، فيجب أن يكون مع كل قافلة رجال مسلحون معينون من ابن مبيريك للمحافظة على الحجاج ومراقبة الجمالة أثناء سيرهم كي لا يسلكوا طريقاً آخر غير معروف.

 

 ثم يجب عليك وعلى ابن مبيريك حتى نزول الحجاج في البغيلة ورابغ أن تأمروا بإحضار باعة المأكل والمشارب للحجاج، ثم يجب أن تنبهوا على الجمالة والمطوفين ألا يأخذوا شيئاً من الحجاج على طريق الاختلاس والجبر غير الذي تقرر لهم، ولكن تترك مسألة السماح للحجاج بتقديم العطايا وإعطاء المنح والمكافآت وسواها بما يجودون به بسماحة خاطر. هذا ما لزم تعريفه، ودمتم محروسين.

 

عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل

 

6 ذو القعدة 1343هـ - 28 مايو 1925

الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود

تبين هذه الوثيقة (التي أعدّها مثالاً فقط) مدى التخطيط الدقيق للملك عبد العزيز فيما يتعلق بأمور الحج والحجاج والاستعداد لكل الاحتمالات ومعرفة جميع التفاصيل. والوثيقة تتحدث عن نفسها ولا تحتاج إلى شرح، لكن ما يجب إيضاحه أن ما ورد في هذه الوثيقة من تعليمات وتوجيهات وما قام به الملك عبد العزيز من تدابير لموسم حج ذلك العام لم يكن في ظروف طبيعية.

فالوضع لم يستقر بعد في الحجاز، والحرب قائمة، والحملات ضد دخوله الحجاز مستعرة، والمطالبات بمقاطعة الحج مستمرة، هذا عدا أن إمكانات الدولة حينها محدودة. وقد يبدو للقارئ أن مثل هذه الإجراءات وغيرها مما ذكرنا سهلة وممكنة، لكن يبقى السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لم تتم قبل الملك عبد العزيز آل سعود؟

الأفعال تسبق الأقوال لراحة الحجاج

إن المتمعن في سيرة الملك عبد العزيز يدرك أنه كان صاحب رسالة. تدل على ذلك أفعاله قبل أقواله، لقد قال عند تحركه لمكة: «إني مسافر إلى مكة، لا لأتسلط عليها، بل رفع المظالم والمغارم التي أرهقت كاهل عباد الله...»، وكان حريصاً على تطبيق تلك المقولة عشية دخوله مكة.

وعندما حاصر جدة، واقترب موعد الحج، بعث إلى قناصل الدول الأجنبية يخبرهم بعزمه على الحج مع بقاء بعض قواته في حصار جدة.

وأشعرهم أن الأمن في مكة والطرق المؤدية إليها وموانئ رابغ والليث والقنفذة مستتب، وقد اتخذت الاحتياطات كافة للمحافظة على سلامة الحجاج وراحتهم.

كان الهدف من ذلك الكتاب هو تطمين القناصل على رعاياهم المسلمين (أكثر الدول سكاناً من المسلمين: الهند وأندونيسيا، كانتا تحت الاستعمار البريطاني والهولندي)، وعصر يوم الأحد 30 ذو القعدة 1343هـ - 21 يونيو (حزيران) 1925م تحرك ركب الملك عبد العزيز من مقره في الوزيرية، يرافقه ابناه الأميران محمد وخالد، والشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، فوصل إلى المسجد الحرام الساعة السادسة مساء، فطاف وصلى وسعى، ثم نزل في دار السقاف بالأبطح.

واستقر في مكة يشرف ويتابع شؤون الحج والحجيج، وأدى فريضته مع جموع الحجاج وشاهد ما وفرته لهم حكومته في المشاعر المقدسة، وهناك كثير من التفاصيل عن ذلك الموسم، لكننا سنقتصر على بعض الجوانب والملامح.   

الملك عبد العزيز خلال تأدية مناسك الحج

أوليات الحج في عهد الملك عبد العزيز

بتتبع المصادر التاريخية التي تناولت سيرة وتاريخ الملك عبد العزيز، لم نجد في أي منها أي إشارة أو معلومة عن أدائه الحج قبل عام 1925 حينما دخل مكة. وبمراجعة سياق الحوادث والوقائع منذ دخوله الرياض عام 1319هـ - 1902م، يتبين عدم إمكانية ذهابه للحج، وبذلك يتضح أن أول مرة يؤدي فيها الملك عبد العزيز مناسك الحج كانت تلك السنة.

 أول خطيب لمنبر عرفة في العهد السعودي

كان من بين أهداف الملك عبد العزيز التي أعلن عنها أن الشريعة الإسلامية هي مرجع الأحكام، وأنه حريص على وحدة كلمة المسلمين، من هنا كان حرصه على اختيار أول خطيب لمنبر عرفة في عهده، وكان الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، وأصبح ذلك تقليداً بأن يتم تعيين خطيب عرفة من قبل ملك المملكة العربية السعودية، وسنتناول تفصيلاً تاريخ خطباء عرفة في العهد السعودي مع ترجمة مختصرة لكل منهم.

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً رؤساء وقادة الدول وكبار الشخصيات الإسلامية ورؤساء وفود الحج بالديوان الملكي في منى (واس)

أول استقبال

استقبل الملك عبد العزيز، ثاني أيام عيد الأضحى 11 ذو الحجة 1343هـ - 3 يوليو (تموز) 1925م، في السرادق المنصوب له في منى، وفد جمعية الخلافة في الهند، ووفد جمعية العلماء، ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا الاستقبال الملكي تقليداً سنوياً يستقبل فيه ملك المملكة العربية السعودية الزعماء والقادة وكبار الشخصيات الإسلامية الذين يؤدون فريضة الحج في منى، ثاني أيام عيد الأضحى المبارك.

أثناء تغيير كسوة الكعبة المشرفة في العهد السعودي

أول كسوة للكعبة في العهد السعودي

أعلنت الحكومة المصرية منع حجاجها من الحج، وبررت ذلك بأنه بسبب اضطراب الأوضاع في الحجاز، وامتنعت عن إرسال كسوة الكعبة ذلك العام.

 وبدأت الشائعات حول الكسوة، في محاولة لإحراج الملك عبد العزيز أمام العالم الإسلامي، نظراً لرمزية الكسوة والعادة السنوية المتبعة.

لكنه في صباح يوم العيد تم استبدال كسوة الكعبة المشرفة بكسوة جديدة، نسجت في الأحساء وفقاً لما أعلن حينه، وتجدر الإشارة أن للأحساء تاريخاً في صناعة الكسوة حيث كانت تصنع هناك في أيام الدولة السعودية الأولى.

وما زال بعض معالم «بيت الكسوة» في المبرز بالأحساء قائماً حتى اليوم. واستمر استبدال الكسوة تقليداً سنوياً خلال موسم الحج إلا أنه تغير إلى اليوم التاسع من ذي الحجة، وهذا العام تم الإعلان أنه سيتم في غرة محرم (مطلع السنة الهجرية).

صحيفة «أم القرى» في أول تغطية لها لموسم الحج عام 1925

أول تغطية إعلامية

 واكبت صحيفة «أم القرى» التغطيات الإعلامية للحج، ونشرت كثيراً من الأخبار والتفاصيل عن أول موسم في عهد الملك عبد العزيز، وكانت الصحف والإذاعات الخارجية تبثّ أخبار الحج، وكذلك الصحف والمجلات السعودية التي تأسست تباعاً.

بدايات الإذاعة السعودية التي عملت على نقل وقائع الحج للأقطار كافة

في عام 1368هـ - 1949م، انطلق بثّ الإذاعة السعودية مساء يوم عرفة 1368هـ - 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1949م. ومنذ ذلك التاريخ، واكبت تغطيات الحج، أما التلفزيون السعودي الذي أنشئ عام 1385هـ - 1965م، فكان يبثّ أخبار الحج مسجلة حتى عام 1391هـ - 1971م، حين بدأ في بثّ بعض التغطيات. وفي عام 1394هـ - 1974م، بدأ البثّ المباشر لمناسك الحج، وتم الاستعانة بعدد من المشايخ للتعليق وإلقاء أحاديث ومواعظ يوم عرفة.

استعراض للقوات المشاركة في أمن الحج (واس)

أول استعراض عسكري

 كان من بين التدابير الذي اتخذها الملك عبد العزيز خلال ذلك العام أن يخيم حجاج سلطنة نجد في الأبطح خارج مكة، وعدد قليل منهم سكن داخل المدينة، وكان لهذا الإجراء أكثر من هدف، الأول هدف أمني للحماية من أي غارت، والثاني هدف صحي وقائي، لكي لا يكون هناك ازدحام داخل البلد فتنتشر الأمراض.

 وفي منى، أمر بنصب خيامهم بمتاخمة الجبال لحماية الحجاج من أي هجمات. كانت نسبة كبيرة من هؤلاء الحجاج من المقاتلين في جيش الملك عبد العزيز، يمثلون عدة ألوية، وكانت تحركاتهم حول مكة وفي منى تمثل استعراضاً عسكرياً لردع من يفكر في تعكير صفو الحج، وهذا ما يمكن اعتباره أول استعراض لقوات أمن الحج.

الحجاج يؤدون طواف الوداع في المسجد الحرام (واس)

أول استخدام لمكبرات الصوت

عندما ألقى الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ خطبته على منبر عرفة، بحضور الملك عبد العزيز، لم تكن قد أدخلت مكبرات الصوت بعد، واستمر الوضع كذلك حتى عام 1366هـ - 1947م.

وذكر السيد أحمد علي الكاظمي أنه في ذلك العام «وضع ميكروفون (مكبر الصوت) في مسجد نمرة، وكان يقرأ فيه قارئ القرآن قبل الصلاة، ثم ألقيت خطبة عرفة بواسطة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، وهذه أول مرة يستعمل فيها المكبر للصوت في عرفات». كما نشرت صحيفة «أم القرى» خبراً عن ذلك، لكن الملك عبد العزيز لم يحج ذلك العام وأناب ولي عهده (الأمير) سعود.

 أول إحصائية للحجاج في العهد السعودي

بلغ عدد الحجاج ذلك العام 78593 حاجاً، منهم 3593 حاجاً من الخارج و75000 حاج من حجاج سلطنة نجد، وتناقل العالم أنباء موسم الحج ذلك العام، وازداد الاهتمام به بسبب الحملات المعادية للملك عبد العزيز، وتفاجأ المسلمون في أصقاع الدنيا بنجاح موسم الحج وعدم حصول ما يعكر صفو الحجاج.

 وتبدلت أحوال الحج عما عهدوه، وكان ذلك مثار تساؤل الجميع، وأشارت وثيقة بريطانية أن تقريراً عن موسم الحج الأول تحت إشراف الملك عبد العزيز أرسل من على ظهر بارجة فرنسية  في شهر صفر 1344هـ - سبتمبر (أيلول) 1925م يفيد: «إن جميع الحجاج يعترفون أن الحج لم يكن في زمن ما، أفضل تنظيماً وأكثر أمناً، وأحسن انسيابية، وأرخص تكاليف كما هو في عهد عبد العزيز بن سعود».

بقي الإشارة إلى جانب توثيقي هام يتعلق بخطب وخطباء عرفة في العهد السعودي الحديث، وذلك لأهمية منبر عرفة في بث رسالة الإسلام للعالم، ودعوة المسلمين للتعاون والتعاضد، ونبذ الفرقة والتطرف.

حيث إن تكليف خطيب عرفة يصدر بإرادة ملكية، ولما لاحظته من عدم التوثيق الدقيق لمسيرة خطباء عرفة في العهد السعودي والاختلاف في بعض السنوات حول شخصية خطيب عرفة، رأيت توثيق هذا الجانب. وفيما يلي بيان أسماء خطباء عرفة، مع تعريف مختصر بكل منهم، والأعوام التي كلف بها خطيباً...

 

1 - الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ

إمام وخطيب المسجد الحرام وكبير علماء نجد، درس على والده العلامة عبد اللطيف وأخيه الشيخ عبد الله وغيرهما من علماء عصره. ولي القضاء في عدد من البلدان، وأصبح قاضي الرياض ومفتيها بعد وفاة أخيه عبد الله. عيّنه الملك عبد العزيز إماماً وخطيباً في المسجد الحرام عام 1343هـ - 1925م وكلّفه بإلقاء خطبة عرفة في موسم حج ذلك العام.

2 - الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ

الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ

إمام وخطيب المسجد الحرام ورئيس القضاة والمشرف على الشؤون الدينية في الحرمين الشريفين. درس على والده الشيخ حسن بن حسين وعلى مفتي نجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وغيرهما من العلماء. رافق الملك عبد العزيز في أسفاره وغزواته إماماً وقاضياً للجيش ومفتياً. كلّف خطيباً ليوم عرفة بدءاً من موسم حج 1344هـ - 1926م حتى عام 1369هـ - 1950م.

3 - الشيخ محمد بن عبد الله بن حسن آل الشيخ

درس على والده العلامة عبد الله بن حسن ولازمه، كما درس على عدد من علماء المسجد الحرام، والتحق بالمعهد العلمي السعودي وتخرج فيه. عمل مديراً عاماً للشؤون القضائية والتفتيش في رئاسة القضاء، وتولى منصب المدير العام للتربية الإسلامية بوزارة المعارف. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1370هـ - 1951م.

4 - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ

إمام وخطيب المسجد الحرام، درس على والده الشيخ عبد الله بن حسن وعلى الشيخ محمد بن إبراهيم، كما درس في المعهد العلمي السعودي، وتخرج في كلية الشريعة بجامعة الأزهر. عمل معاوناً لرئيس القضاة ووكيلاً لوزارة المعارف ثم وزيراً لها، ثم رئيساً عاماً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كلف خطيباً ليوم عرفة بدءاً من موسم حج 1371هـ - 1952م حتى عام 1401هـ 1981م، باستثناء عام 1399هـ 1979م الذي خطب فيه الشيخ صالح اللحيدان.

5 - الشيخ صالح بن محمد الحيدان

رئيس مجلس القضاء الأعلى وعضو هيئة كبار العلماء، درس في كلية الشريعة بالرياض والتحق بالمعهد العالي للقضاء وتخرج فيه، كما تلقى العلم على عدد من العلماء. عمل رئيساً لمحكمة الرياض ثم عضواً بالهيئة القضائية العليا فرئيساً لمجلس القضاء الأعلى. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج عام 1399هـ - 1979م.

6 - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وحفيد الخطيب الأول لعرفة. درس على الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد العزيز بن باز وغيرهما من العلماء، وتخرج في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعمل أستاذاً بها. عين عضواً في هيئة كبار العلماء وإماماً وخطيباً لجامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض. كلف خطيباً ليوم عرفة بدءاً من موسم حج 1402هـ - 1982م حتى عام 1436هـ - 2015م.

7 - الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس

إمام وخطيب المسجد الحرام ورئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، حاصل على درجة الدكتوراة في أصول الفقه. عمل أستاذاً في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى، ورئيساً عاماً لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1437هـ - 2016م.

8 - الشيخ سعد بن ناصر الشثري

المستشار في الديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء، حاصل على درجة الدكتوراة في أصول الفقه. عمل أستاذاً مشاركاً بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ودرّس في عدد من الجامعات. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1438هـ - 2017م.

9 - الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ

إمام وخطيب المسجد النبوي، حاصل على درجة الدكتوراة في الفقه. عمل قاضياً في محاكم نجران والرياض والمدينة المنورة، ومدرساً في المسجد النبوي والجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1439هـ - 2018م.

10 - الشيخ محمد بن حسن آل الشيخ

عضو هيئة كبار العلماء. حاصل على الماجستير من المعهد العالي للقضاء، تولى عدداً من المناصب، منها رئيس المجلس العلمي لمجمع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للحديث النبوي، ورئيس مجلس الأوقاف الفرعي بمنطقة الرياض. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1440هـ - 2019م.

11 - الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع

المستشار في الديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء منذ تأسيسها عام 1391هـ - 1971م. درس على عدد من العلماء، وتخرج في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. تدرج في السلك القضائي ووصل لأعلى درجاته (رئيس محكمة تمييز). كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1441هـ - 2020م.

12 - الشيخ بندر بن عبد العزيز بليلة

إمام وخطيب المسجد الحرام، حاصل على درجة الدكتوراة في الفقه. يعمل أستاذاً مساعداً في كلية الشريعة والأنظمة بجامعة الطائف، كما أنه عضو في هيئة كبار العلماء. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1442هـ - 2021م.

13 - الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، حاصل على شهادة الدكتوراة في الدراسات القضائية المقارنة، وهو عضو في هيئة كبار العلماء. عمل وزيراً للعدل ورئيساً للمجلس الأعلى للقضاء. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1443هـ - 2022م.

14 - الشيخ يوسف بن محمد بن سعيد

نائب وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد وعضو هيئة كبار العلماء، حاصل على درجة الدكتوراة في العقيدة. عمل أستاذاً ورئيساً لقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. كلف خطيباً ليوم عرفة في موسم حج 1444هـ - 2023م.

15 - الشيخ ماهر بن حمد المعيقلي

إمام وخطيب المسجد الحرام، حاصل على درجة الدكتوراة في الفقه. يعمل أستاذاً مشاركاً في كلية الدراسات القضائية بجامعة أم القرى. تولى إمامة المصلين في صلاتي التراويح والتهجد بالمسجد النبوي. كلف خطيباً ليوم عرفة هذا العام 1445هـ - 2024م.

 

من كان خطيب عرفة بداية عهد الملك سعود؟

  

هناك لبس يتداول حول شخصية خطيب عرفة خلال السنوات (1371 إلى 1376هـ - 1952 إلى 1957م)، ولإيضاح ذلك حاولنا مراجعة المصادر التي تحدثت عن خطباء عرفة في العهد السعودي، ووجدنا أن هناك اختلافاً وتغييراً للمعلومات حول خطيب عرفة خلال تلك السنوات الست.

بعضهم يقول إنه الشيخ عبد الله بن حسن، وآخرون يذهبون إلى أنه ابنه الشيخ محمد، وفريق يرى أنه ابنه الآخر الشيخ عبد العزيز، ووجدنا في هذا التحقيق أن هذه الآراء في مجملها لا تستند إلى معلومات موثقة أو استنتاجات علمية، لكنها مع شديد الأسف تتداول في منصات وقنوات رسمية بشكل واسع.

 ومما يسترعي الانتباه أن بعض الجهات تتبنى رأياً في سنة من السنوات، ثم تغيره في سنة أخرى، دون إيضاح سبب التغيير ودون الإحالة لمصدر.

 وحيث إن هناك 3 أسماء تتداول كخطيب لعرفة خلال تلك السنوات، فسنحاول توضيح بعض التفاصيل حولها، والنتيجة التي وصلنا إليها. بالنسبة للشيخ محمد بن عبد الله، المؤكد أنه خطب عاماً واحداً 1370هـ - 1951م، ونشرت ذلك صحيفة «أم القرى»، وسبب خطبته ذلك العام هو ظروف والده الشيخ عبد الله الصحية التي لم تمكنه من إمامة المصلين حينها، كما أن أخيه الشيخ عبد العزيز كان للتوّ منهياً دراسته في الأزهر، ووفقاً لما أورده السيد أحمد علي الكاظمي أن الشيخ عبد العزيز عيّن «خطيباً وإماماً للحرم، وكأنه لم يرغب في أول الأمر، وأراد أن يستقيل، أو قدم الاستقالة بالفعل، ثم قبل بالوظيفة».

ولا نعلم عن أسباب ذلك، لكننا نرى أن اعتذار الشيخ عبد العزيز هو سبب تكليف الشيخ محمد بإمامة عرفة، حيث لم تشر المصادر إلى أن الشيخ محمد خطب أو أمَّ في المسجد الحرام أو في عرفه قبل أو بعد ذلك.

أما الشيخ عبد العزيز فعند عودته من مصر صدر الأمر بتعيينه إماماً وخطيباً للمسجد الحرام، وكانت خطبته الأولى بعد تعيينه رسمياً يوم الجمعة 25 محرم 1371هـ - 26 أكتوبر 1951م، وهذا متسق مع ما أورده الكاظمي.

منذ ذلك التاريخ بدأ مسيرة حافلة مع الإمامة والخطابة في المسجد الحرام وعلى صعيد عرفة. أما الشيخ عبد الله فتجاوز عمره خلال تلك السنوات 84 عاماً، وهذه نقطة لم يتنبه لها من يؤكدون أنه خطب في عرفة خلال موسم 1371هـ - 1952م وما بعده.

 وبتتبع ظروف الشيخ عبد الله الصحية، يقول ابنه الشيخ حسن: «ولما ضعف بصره استبدل بقراءته قارئاً يصحبه أينما كان، وكثيراً ما تشرفت بالقراءة عليه». ويقول الأستاذ مصطفى عطار: «وقد خفف عنه ارتقاء المنابر ابنه الشيخ عبد العزيز في السنوات الأخيرة».

من كل هذا، يتضح أن الشيخ عبد الله لم تكن صحته تساعده على القيام بأعباء الإمامة والخطابة خلال تلك السنوات، ولم نعثر في المصادر المتوافرة أنه خطب في المسجد الحرام خلال تلك السنوات، بل إنه عندما توفي الملك عبد العزيز، أقيمت صلاة الغائب عليه في المسجد الحرام، بحضور الملك سعود يوم الجمعة 6 ربيع الأول 1373هـ - 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 1953م، وأمّ المصلين الشيخ عبد العزيز الذي خطب خطبة مؤثرة، ولو كان الشيخ عبد الله قادراً على الإمامة لما تأخر حينذاك.

الأمر الآخر أنه منذ دخول مكة تحت حكم الملك عبد العزيز جرى العرف أن الإمام والخطيب الرسمي للمسجد الحرام هو الذي يكلف بخطابة عرفة، وهذا ما كان مع الشيخ محمد بن عبد اللطيف، ثم الشيخ عبد الله بن حسن، وحينما عجز، عُين الشيخ عبد العزيز إماماً وخطيباً رسمياً، وعلى ذلك يكون الشيخ عبد العزيز هو خطيب عرفة خلال تلك السنوات المختلف عليها (1371 إلى 1376هـ - 1952 إلى 1957م).   

الشعراوي خطيباً ليوم عرفة!

الشيخ محمد الشعراوي

من المعلومات الأخرى غير الدقيقة التي تتداول على نطاق واسع؛ أن الشيخ محمد متولي الشعراوي ألقى خطبة عرفة عام 1396هـ - 1976م، والحقيقة أن ذلك كان تعليقاً للتلفزيون السعودي على البثّ المباشر من عرفات، وفقاً لما ذكره الدكتور عبد الرحمن الشبيلي.

ويفتح هذا التحقيق باباً مهماً بأن تُولى هذه الجوانب التوثيقية ما تستحقه من عناية من قبل الجامعات ومراكز البحوث المعنية بالتاريخ، وأن يوجه الدارسون والباحثون للتنقيب في زواياها من خلال رسائل وأطروحات علمية، حفظاً لتاريخنا من الاجتهادات والتأويلات.

لقد وضع الملك عبد العزيز أسساً وقواعد لخدمة السعوديين للحرمين الشريفين، سار عليها أبناؤه من بعده واجتهدوا في تطويرها ابتغاءً لمرضاة الله وخدمة لضيوف الرحمن واستشعاراً لمسؤولياتهم التاريخية.

النزاعات المذهبية في الحج

مما يحمد للدولة السعودية أنهم أبعدوا الحج عن النزاعات المذهبية والخلافات العقدية والصراعات السياسية، وفرضوا الأمن الشامل ليتمكن الحاج من أداء نسكه بيسر وطمأنينة. كل ذلك دون تمييز فيما يقدم من خدمات وتسهيلات بين مسلم وآخر ودون البحث عن مكاسب دنيوية. ويكفي المسلمين ما هم فيه من خلاف وتشتت، كما يكفي الحج ما مرّ به من مآسٍ وفواجع تئن منها كتب التاريخ، كل ذلك بسبب استغلال الحج في إثارة النزاعات وتحويله ساحة للصراعات. كانت الحكومة السعودية حازمة وحاسمة ووقفت في وجه كل المحاولات لاستغلال الحج لأغراض سياسية أو لتمرير الأجندات الحركية، صيانة لقدسية المكان وتعظيماً لشعائر الله.

خادم الحرمين الشريفين

لقد تشرف ملوك المملكة العربية السعودية بحمل لقب خادم الحرمين الشريفين منذ عهد المؤسس، واتُخذ لقباً رسمياً بدل جلالة الملك منذ عهد الملك فهد، حتى اليوم، وكانوا أهلاً له، كما برهنوا أنهم أحق به. وستبقى مآثرهم  شاهدة على ما بذلوه من عطاءات لا محدودة وما قدموه من عناية لا ممنونة لخدمة الحرمين الشريفين ورعاية قاصديهما، ومفخرة من مفاخر المملكة العربية السعودية.

نجاح حج هذا العام 2024

يأتي نجاح موسم حج هذا العام ليثبت للعالم ما يوليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان من عناية ورعاية لتقديم أفضل الخدمات وتسخير كافة الموارد واستنفار كافة الأجهزة والمؤسسات واستخدام أفضل التقنيات لإدارة الحج.

وهنا يجب أن نستذكر أن البناء المؤسسي للهياكل الإدارية للدولة بدأ متزامناً مع أول حج  في عهد الملك عبد العزيز، وكأنما تزامن البناء التنظيمي للدولة مع البناء التنظيمي للحج، وهذه مفارقة تاريخية ليس لها مثيل.

 من هنا، علينا أن ندرك أن علاقة المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين ليست في بعدها الجغرافي أو التاريخي فقط، حيث إنها علاقة وجودية تزامنت فيها تطورات خدمة الحرمين ورعاية قاصديهما مع تطورات بناء الدولة وبناء الإنسان.

 لكن الملمح الأهم أن هذه التطورات غير مسبوقة ولا نظير لها في التاريخ، لا من ناحية توسعات وعمارة الحرمين وخدمة ضيوف الرحمن، ولا من ناحية تطور البناء المؤسسي للدولة خلال زمن قصير بمقياس عمر الأمم، ناهيك عن الشعور الممتد بهذه المسؤولية لدى كل السعوديين أفراداً ومؤسسات.

ولمعرفة أبعاد العلاقة السعودية بالحرمين الشريفين، نجد في  المادتين: المادة الرابعة والعشرين من النظام الأساسي للحكم: «تقوم الدولة بإعمار الحرمين الشريفين وخدمتهما، وتوفر الأمن والرعاية لقاصديهما، بما يمكن من أداء الحج والعمرة والزيارة بيسر وطمأنينة».

خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يطل من شرفة زجاجية بالقصر الملكي في مشعر منى خلال الإشراف على راحة وأمن وتنقلات الحجاج

والمادة الثالثة والثلاثين منه: «تنشئ الدولة القوات المسلحة وتجهزها من أجل الدفاع عن العقيدة والحرمين الشريفين والمجتمع والوطن». هذا مع التطبيق والتنفيذ الفعلي على أرض الواقع. من هنا كانت هذه العلاقة المتجذرة والممتدة والمتفوقة على كل ما سبقها نموذجاً متفرداً ومتميزاً عبر التاريخ بكل زواياها وأبعادها، خاصة أنها تنطلق من دوافع دينية وقيمية، ولا يريد السعوديون من ورائها جزاءً ولا شكوراً.