اقتصاد العالم على إيقاع حربَي أوكرانيا وغزة

نقص التغذية المزمن يهدد 600 مليون شخص بحلول 2030

TT

اقتصاد العالم على إيقاع حربَي أوكرانيا وغزة

تراجع التضخم إلى 2.4 في المائة مع انخفاض الزيادات بتكلفة البقالة والزيادات الإجمالية بالأسعار لأكبر اقتصادين ألمانيا وفرنسا (رويترز)
تراجع التضخم إلى 2.4 في المائة مع انخفاض الزيادات بتكلفة البقالة والزيادات الإجمالية بالأسعار لأكبر اقتصادين ألمانيا وفرنسا (رويترز)

يصر ديفرين، سائق الأجرة البريطاني، على أن يشير بيده لمحدّثه إلى مساحات خضر على جانبي الطريق بين لندن ومدينة ستانستد (شمال شرقي العاصمة البريطانية) قائلاً: «هذه الحقول مزروعة بالقمح». كلما انكشفت للطريق السريع مساحة خضراء، كرر ديفرين جملته: «حقول قمح، بدأ بعضها يميل إلى الاصفرار». ثم يفسّر إصراره على الإشارة إلى ذلك بأنها المرة الأولى التي يرى فيها مساحات مزروعة بالقمح في هذه المنطقة، عازياً لجوء بريطانيا إلى زراعتها إلى الحرب الروسية ـــ الأوكرانية.

ثم يخوض مع محدثه في حوار عن غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار التي شهدتها البلاد بعد انتهاء فترة كورونا، إذ أصبح جنيهاً ونصف الجنيه سعر كل سلعة كانت تباع بجنيه واحد قبل سنة ونصف السنة. ويقول ديفرين ساخراً: «هل تعيد حقول القمح هذه الأسعار إلى ما كانت عليه؟ كل شيء في هذه البلاد، من السلعة البسيطة إلى إيجار المنازل، ارتفع سعره نحو 50 في المائة، فيما الرواتب لا تزال على حالها». ويضيف: «كذلك ارتفعت الرسوم الحكومية وأقساط الجامعات، وكأن الحكومة تريد استرداد المبالغ الطائلة التي أنفقتها خلال إغلاق (كورونا) على الناس والشركات».

ما يتمناه ديفرين وكل البريطانيين وسواهم من سكان دول العالم يحتاج إلى «معجزة مالية ونقدية»، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي إسلام الشافعي لـ«الشرق الأوسط».

ويوجز الشافعي، الذي يتابع الاقتصاد العالمي من مكان إقامته في نيويورك، ما أصاب العالم خلال هاتين السنتين بالأرقام والوقائع، قائلاً: «تسببت الحرب الروسية ــ الأوكرانية في مشكلات للاقتصاد العالمي أدت إلى تباطئه، خصوصاً أن هذا الضغط جاء بعد الخروج من فترة كورونا التي أحدثت أزمة في سلاسل الإمداد وحالة من التضخم في كثير من الاقتصادات الكبرى. وعلى سبيل المثال، وصل التضخم في بريطانيا إلى 11 في المائة، وهذا من أعلى معدلات التضخم المتوقعة لدولة صناعية مثل بريطانيا لكنه عاد وانخفض إلى 2 في المائة في مايو (أيار) الماضي فيما سمي إعجازاً نقدياً ومالياً.

ذلك مع العلم أن انخفاض التضخم لم ينعكس على السلة الاستهلاكية للبريطانيين التي ترتفع سلعها بوتيرة بطيئة. وكذلك أصاب التضخم أميركا، إذ توقع البنك الدولي تراجع الاقتصاد الأميركي من 5.7 في المائة إلى 1.6 في المائة، وتراجع الاقتصاد الصيني، (مصنع العالم) من 8.1 في المائة إلى 3.2 في المائة».

وبعد كورونا فوراً، جاءت الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وهما دولتان ذواتا مشاركة كبيرة جداً في حجم التجارة العالمية، فتعاظمت مشكلة الإمدادات وتعطلت سلاسلها نتيجة الحرب التي لم تقتصر تداعياتها على مسألة الحبوب وزيوت الطعام، بل على سبيل المثال أيضاً تسببت في إغلاق جزئي لصناعة السيارات في ألمانيا، وكذلك تأثرت كثيراً صناعة الحديد والصلب في اليابان. حصلت اضطرابات كثيرة عالمية في الصادرات السلعية، كما حصل ارتفاع كبير في كلفة النقل، إذ فرض الاتحاد الأوروبي حظراً على الطائرات والشاحنات في روسيا ما رفع تكلفة النقل 60 في المائة.

وهذا ما تؤكده دراسة حديثة نشرها «مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية»، إذ أكد أن الحرب الروسية الأوكرانية أضافت مزيداً من الأعباء على الاقتصاد العالمي؛ فارتفعت الديون، وزاد حجم الاستثمارات الخاصة المتعثرة، وشهدت التجارة الدولية أبطأ معدل للنمو لم تشهده منذ خمسة عقود، كما أن ارتفاع أسعار الفائدة جعل من الصعب على الحكومات والشركات الخاصة الحصول على الائتمان وتجنب التخلف عن السداد. ويزداد ذلك بشكل خاص بالنسبة للعديد من الاقتصادات ذات الدخل المنخفض مع ارتفاع تكاليف الاقتراض، وابتعاد المستثمرين عن الأسواق الناشئة خوفاً من التوقعات العالمية الضعيفة بالفعل، والانكماش الإقليمي.

وتفيد الدراسة بأن الديون الحالية، وخاصة في شكل سندات حكومية وصكوك، تتعرض لضربة قوية بالفعل مع انخفاض قيمتها في التداول، حيث تفيد التقارير بأن السندات السيادية في بعض الدول الأوروبية كانت من بين أسوأ السندات العالمية أداءً خلال تلك الفترة المواكبة لبداية حرب إسرائيل على غزة. وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للحكومات ذات التصنيفات الائتمانية الجيدة إلى الممتازة، فإن الحكومات ذات الائتمان الأضعف ستشهد خصم الديون الحالية في التداول، ويصبح الوصول إلى الديون الجديدة أكثر تكلفة، وربما أكثر صعوبة في جذب المستثمرين.

إشارة أخرى للتأثير الاقتصادي ستكون في صناديق المؤشرات للأسهم في الأسواق الناشئة، مما يعني أن الشركات المدرجة في البورصات الإقليمية مدرجة في المؤشرات الرئيسية، مثل مؤشر MSCI. وقد انخفضت أسهم الأسواق الناشئة في MSCI بنسبة 1 في المائة تقريباً في الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، بسبب التوترات في الشرق الأوسط والصراع المحتمل.

لاعبان كبيران

للحرب الروسية تكلفة كبيرة على أكثر من صعيد، وتقدر بمليارات الدولارات. وفيما لم تعلن الدول الخسائر التي تكبدتها، فإن «سكاي نيوز» نقلت في فبراير (شباط) الماضي تصريحاً لمسؤول رفيع في وزارة الدفاع الأميركية (لم تذكر اسمه) قال فيه إن روسيا أنفقت على الأرجح 211 مليار دولار على تجهيز أفراد قواتها ونشرهم وصيانة أسلحتهم لتنفيذ عمليات في أوكرانيا، وإن موسكو خسرت أكثر من 10 مليارات دولار بسبب إلغاء صفقات أسلحة أو تأجيلها، مضيفاً أن «الحرب كلفت روسيا نحو 1.3 تريليون دولار من النمو الاقتصادي المتوقع حتى عام 2026».

محصول قمح يتم جمعه في حقل قرب كييف على رغم الحرب الروسية على أوكرانيا (أ ف ب)

جاء التصريح الأميركي فيما كانت إدارة الرئيس جو بايدن تمارس ضغوطاً على مجلس النواب الأميركي لقبول حزمة من المساعدات الأمنية الدولية بقيمة 95 مليار دولار لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان.

لماذا كان للحرب الروسية ــ الأوكرانية كل هذا التأثير؟ يضيف الشافعي قائلاً: «لأن روسيا وأوكرانيا لاعبان دوليان كبيران في الاقتصاد العالمي؛ يسيطران على 53 في المائة من التجارة العالمية لزيت الطعام والحبوب، ويستحوذان على 27 في المائة من تجارة القمح العالمية. وهذه نسب كبيرة جداً. ويضاف إلى ذلك توقف صادرات النفط الروسي، التي تشكل 12 في المائة من السوق العالمية للنفط، وكذلك المشتقات النفطية التي تشكل 15 في المائة من تجارة العالم. توقّف هذه الصادرات أدى إلى عجز كبير، ومن ثم ارتفاع كبير في الأسعار. أوروبا تستورد 45 في المائة من حاجتها للنفط والغاز من روسيا، وتوقف ذلك ينعكس ارتفاعاً كبيراً في الأسعار.

إلا أن الغاز والنفط الروسيين استمرا، رغم الحرب، في التدفق إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الأوكرانية إلى مصافي التكرير في التشيك وسلوفاكيا والمجر». ووفق تقرير لمجلة «إيكونوميست»، فإن أوروبا كانت تعتمد على روسيا في 40 في المائة إلى 45 في المائة من وارداتها من الغاز ونحو ربع نفطها. ومنذ ذلك الحين، حاولت روسيا التنمر على أوروبا لإسقاط العقوبات الاقتصادية عن طريق خنق الإمدادات. لكن أوروبا، بدورها، فصلت نفسها تقريباً عن الطاقة الروسية. لكن ليس بالكامل، إذ يواصل الجانبان الالتزام باتفاق نقل الغاز الذي تم التوصل إليه بوساطة من الاتحاد الأوروبي لعام 2019 الذي تنتهي مدته نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024 لتسدل معه واحدة من أقدم وأكبر الروابط الاقتصادية بين روسيا وأوروبا من خلال نقل الغاز. كييف من جهتها أعلنت أنها لن تمدد الاتفاق مع شركة «غازبروم» الروسية، فيما أكد مسؤولون روس أنه لا مفاوضات جارية مع أوكرانيا أو الاتحاد الأوروبي.

الأمن الغذائي

أما بالنسبة إلى الغذاء، فيقول الشافعي: «كل دولة تأثرت بحسب اعتمادها على نفسها، وبحسب علاقتها في الاستيراد من روسيا أو أوكرانيا. دول الشرق الأوسط تعتمد بنسبة 75 في المائة من وارداتها من القمح على أوكرانيا وروسيا. أضف إلى ذلك، محاولة الغرب مساندة أوكرانيا ضد روسيا، وهي أصلاً خرجت من فترة كورونا منهكة». وأضاف: «بالتزامن مع ذلك، ارتفعت أصوات في بريطانيا تطالب بخفض ميزانية الدفاع من أجل التخلص من حالة التضخم، على اعتبار أن بريطانيا لا تملك ما يكفي لإمداد أوكرانيا بالسلاح، فيما أميركا تعاني من ديون تبلغ 33 تريليون دولار ومشكلات داخلية وتضخم، وهي مطالبة بإمداد أوكرانيا للوقوف أمام روسيا التي تعد خصماً غير سهل. الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن نقاط الضعف في التصنيع العسكري في دول الاتحاد الاوروبي وأميركا أيضاً. وكل ذلك شكل ضغوطاً رهيبة على ميزانيتها التي كانت أصلاً مضغوطة».

من جانبه، يؤكد الخبير الدولي في الأمن الغذائي مهاب فؤاد الأعور لـ«الشرق الأوسط»، أن حالة الأمن الغذائي العالمي تتأثر بشكل كبير في الجائحات والأزمات العالمية بين الدول، مشيراً إلى أن الأزمة بين روسيا وأوكرانيا تركت صدمة في أسواق السلع الغذائية وأضعفت التعافي عقب جائحة كورونا، حيث أسهمت في حدوث ركود اقتصادي وارتفاع للأسعار خلال الأعوام الماضية متأثرة بضعف الإمدادات الغذائية وارتفاع أسعار المدخلات الزراعية والطاقة، وتقويض فرص العمل والدخل للأشخاص الأكثر ضعفاً، وهو ما حال دون حدوث انخفاض في معدلات الجوع المستهدفة عالمياً، حيث توقع التقرير الأخير حول حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم أن يعاني ما يقرب من 600 مليون شخص من نقص تغذية مزمن في عام 2030. وهو ما يزيد بنحو 23 مليوناً لو لم تحدث الأزمة الروسية الأوكرانية.

ويقول الأعور: «إن دول الشرق الأوسط تعتمد بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا، حيث تأتي مصر في مقدمة دول الشرق الأوسط التي تعتمد على استيراد الحبوب من روسيا وأوكرانيا، بما يساوي 23 مليار دولار في الفترة بين عامي 2016 و2020، وتليها السعودية بمبلغ 17 مليار دولار في الفترة نفسها، وبعدها تركيا بحوالي 12.5 مليار دولار، ثم المغرب بمبلغ 8.7 مليار دولار، والإمارات بـ6.1 مليار دولار، والجزائر بمبلغ 5.5 مليار دولار في الفترة بين عامي 2016 و2017، ثم تونس والسودان والأردن واليمن وليبيا وفلسطين والكويت وقطر وعمان».

اتفاق الحبوب

وكانت روسيا وافقت على صفقة مع أوكرانيا، بوساطة تركيا والأمم المتحدة، تقضي بتسهيل مرور الصادرات الزراعية الروسية والأوكرانية عبر البحر الأسود لمدة عام انتهى في يوليو (تموز) 2023. وتجرى حالياً مفاوضات لإعادة تفعيل الاتفاق الذي قضى بعودة حجم صادرات الحبوب الأوكرانية إلى مستوى ما قبل الحرب؛ أي تصدير 5 ملايين طن متري شهرياً، وتضمن الاتفاق عدة بنود وقَّع عليها الأطراف الأربعة.

ونصَّ الاتفاق على أنه يقضي بتفتيش السفن المشاركة في تصدير الحبوب الأوكرانية عند الدخول والخروج من البحر الأسود للتأكد من عدم حمل أسلحة على متنها، وهذا ما قد أعلن عنه أطراف الاتفاق، كما تضمن الاتفاق أنه تُصدر الحبوب من خلال ثلاثة موانئ بحرية هي: أوديسا، ووچورنوموركس، ويوزهنو، على أن تكون تلك الموانئ مطلة على البحر الأسود، وأهم تلك الموانئ ميناء أوديسا الذي يطل على البحر الأسود.

متى التعافي؟

هل هناك أمل بالتعافي القريب؟ يجيب الشافعي: «التعافي يكون في كل دولة بحسب وضعها وإمكاناتها وقدراتها على التعامل مع الصدمة. هناك دول بدأت تتحدث عن تعاف مثل بريطانيا التي أفادت آخر الأرقام بأن التضخم فيها نزل من 11 في المائة إلى 2 في المائة، وهذا أكبر معدل هبوط للتضخم على مدار 50 سنة، لكن التأثير سيبقى قوياً ما دامت هاتان الحربان قائمتين».

عمال يجلسون أمام لافتة كُتب عليها: «أوقفوا وحش التضخم» في ميناء هامبورغ (رويترز)

أما الأعور فيؤكد أن «الأزمة تسببت في تباطؤ التعافي في عام 2022 بنسبة نقطة مئوية واحدة حيث سجل 3.4 نقطة مئوية فقط. كما أن مؤشر منظمة الفاو لأسعار الأغذية قفز لأعلى مستوى له على الإطلاق في مارس (آذار) 2022. وهو ما رفع فاتورة واردات الأغذية في العالم لأعلى مستوى لها في 2022، كما شهدت فاتورة واردات المدخلات الزراعية العالمية زيادة بنسبة 48 في المائة لتصل إلى 424 مليار دولار أمريكي في العام نفسه. وارتفعت معدلات التضخم طوال عام 2022 في جميع الاقتصادات تقريباً، وتجاوز التضخم الكلي العالمي 9 في المائة خلال النصف الثاني من العام، وهو أعلى مستوى له منذ عام 1995».

وتأتي أهمية الأزمة لكونها شملت اثنين من منتجي السلع الرئيسيين في العالم، حيث كانا في 2021 من بين أكبر ثلاثة مصدرين عالميين للقمح والذرة وبذور اللفت وأقراص بذور دوار الشمس. كما أن روسيا تعدّ مصدراً بارزاً للأسمدة. وفي الفترة بين عامي 2016 و2021، أنتجت أوكرانيا وروسيا أكثر من 50 في المائة من إمدادات العالم من بذور دوار الشمس، و19 في المائة من الشعير في العالم، و14 في المائة من القمح، و30 في المائة من صادرات القمح العالمية، مع اعتماد ما لا يقل عن 50 دولة على روسيا وأوكرانيا للحصول على 30 في المائة أو أكثر من إمدادات القمح.

وفي تقرير منفصل، رفعت منظمة الأغذية والزراعة الدولية (فاو)، توقعاتها للإنتاج العالمي من الحبوب في 2024 بنحو 7.9 طن بزيادة 0.3 في المائة لتصل إلى 2.854 مليار طن بزيادة طفيفة على مستويات 2023 ليسجل أعلى مستويات له على الإطلاق.

ويضيف الأعور: «تم اتخاذ إجراءات لمواجهة التحديات عبر استراتيجيات لتغيير النظم الغذائية والعمل على توفير أنظمة غذائية صحية مستدامة وميسورة التكلفة، وتشمل دمج السياسات الإنسانية والإنمائية وسياسات بناء السلام في المناطق المتضررة من الصراعات، وتعزيز قدرة الفئات الأكثر تضرراً على مواجهة الأزمات الاقتصادية، والمشاركة في إدارة سلاسل الإمداد الغذائي لخفض تكاليف المواد الغذائية، وحل مشكلة الفقر وعدم المساواة، وتعزيز البيئات الغذائية وتغيير سلوك المستهلك لتعزيز الأنماط الغذائية ذات الآثار الإيجابية على صحة الإنسان والبيئة، فضلاً عن السياسات التي تم اتخاذها في كل بلد على حدة لمواجهة تلك المشكلات».

النداءات الإنسانية

أطفال فلسطينيون يبحثون عن بقايا طعام في القمامة في منطقة دير البلح بعد انتشار المجاعة جراء الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة (دي بي أي)

الأزمات التي تعاني منها الدول، خصوصاً الدول المانحة، انعكست سلباً على مساعدة الفئات الأكثر تضرراً من الحروب. ويقول الشافعي: «في بداية الحرب الروسية – الاوكرانية غادر أوكرانيا 7 ملايين شخص إلى دول أوروبا. والأمم المتحدة تقول إن هناك 15 مليوناً في حاجة إلى الغوث. ومن ثم فهذه الحرب سببت ضغطاً شديداً على هذه الدول التي لديها مشكلاتها ومصاعبها المالية، ما جعل نداءات الأمم المتحدة لتمويل اللاجئين تقابل باستجابات ضعيفة جداً. وإذا أضفت إلى ذلك حركة اللجوء الفلسطيني الآن والاحتياج الإنساني نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة وضرب منظمة أونروا وما إلى ذلك، فهي تحتاج إلى مصاريف أكثر ودعم أكبر».

تأثير حرب غزة

وبالنسبة إلى الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن تأثيرها المباشر والكبير كان على إسرائيل نفسها، إذ تعطل الاقتصاد الإسرائيلي وتكبد خسائر فادحة، حيث أظهرت معطيات بنك إسرائيل ووزارة المالية الإسرائيلية أن تكلفة الحرب منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حتى نهاية مارس 2024، بلغت أكثر من 270 مليار شيقل (73 مليار دولار).

وبحسب بيانات وزارة الأمن الإسرائيلية، فإن كلفة الحرب اليومية منذ 7 أكتوبر حتى نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2023، بلغت مليار شيقل يومياً (270 مليون دولار)، قبل أن تنخفض خلال العام 2024 لتصل إلى 350 مليون شيقل (94 مليون دولار).

لكن تأثير هذه الحرب على الاقتصاد العالمي نتج عن الهجمات المستمرة لـ«الحوثيين» (الانقلابيين اليمنيين) على السفن في البحر الأحمر، ما تسبب في تراجع حركة مرور السفن بشكل كبير، وانخفض حجم التجارة في مضيق باب المندب، الذي تمر عبره السفن للوصول إلى قناة السويس من المحيط الهندي، بنسبة كبيرة.

وأفاد رئيس هيئة قناة السويس المصرية أسامة ربيع، في أحدث بيان، بأن عدد السفن التي تستخدم القناة انخفض إلى 20148 سفينة في عام 2023-2024 من 25911 سفينة في العام المالي الذي سبقه 2022-2023، وبالتالي تراجعت إيراداتها إلى 7.2 مليار دولار من 9.4 مليار دولار .

وقدّرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (ومركزها باريس)، الاثنين 5 فبراير 2024، أنّ الارتفاع الأخير في أسعار الشحن البحري قد يؤدي إلى زيادة تضخم أسعار الواردات في بلدان المنظّمة الثمانية والثلاثين بنحو 5 نقاط مئوية إذا استمرت هذه الزيادة بأسعار الشحن، وفق ما نقلت شبكة «سي إن بي سي» الأميركية المختصّة بالاقتصاد.

سفينة تحمل حاويات تمر عبر قناة السويس المصرية (الموقع الإلكتروني لهيئة قناة السويس)

يعلق الشافعي على ذلك بالقول: «بالنسبة إلى حرب غزة ما كان ليكون لها تأثير دولي لولا التحرك الإيراني في الأساس، الذي ينفذه الحوثيون في البحر الأحمر، لعرقلة الملاحة فيه. قناة السويس يمر فيها 12 في المائة من التجارة العالمية، ومن هنا جاء التأثير على 12 في المائة من حركة التجارة العالمية. ووفق بيانات هيئة قناة السويس، فإن مرور السفن ناقلات المستوعبات انخفض بنسبة 67 في المائة، ومن ثم فإن هذه السفن أصبحت تتفادى المرور في البحر الأحمر وتذهب عبر رأس الرجاء الصالح، ما زاد كلفة النقل نتيجة زيادة المسافة التي أصبحت تقطعها 6 آلاف كيلومتر و15 يوماً في الملاحة، ومن ثمّ زيادة في استهلاك الوقود والوقت في إيصال البضائع، ما انعكس سلباً على التجارة العالمية، إضافة إلى تسديد المستهلكين هذه الأثمان الإضافية».

وعلى الرغم من تأزم الأوضاع الاقتصادية في معظم دول العالم، فإن صندوق النقد الدولي يرى أن هناك تعافياً عالمياً مطرداً «لكنه بطيء ويختلف من منطقة إلى أخرى». ويقول الصندوق في تقريره «آفاق الاقتصاد العالمي 2024 – 2025» الصادر في أبريل (نيسان) الماضي: «تشير تنبؤات السيناريو الأساسي إلى استمرار نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.2 في المائة خلال عامي 2024 و2025، وتراجع التضخم العالمي باطراد، من 6.8 في المائة في 2023 إلى 5.9 في المائة في 2024، و4.5 في المائة في 2025، مع عودة الاقتصادات المتقدمة إلى مستويات التضخم المستهدفة في وقت أقرب من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. ومن المتوقع بوجه عام أن يشهد التضخم الأساسي تراجعاً بشكل أكثر تدرجاً.


مقالات ذات صلة

بعد 8 أشهر من التصعيد... لماذا لم يردع التدخل الأميركي هجمات الحوثيين؟

تحليل إخباري في الآونة الأخيرة لجأ الحوثيون إلى استخدام الزوارق المسيّرة المفخخة في مهاجمة السفن (أ.ف.ب)

بعد 8 أشهر من التصعيد... لماذا لم يردع التدخل الأميركي هجمات الحوثيين؟

أجمع باحثون يمنيون أن إدارة بايدن ليست عاجزة عن وقف هجمات الحوثيين وإنهاء تهديد الملاحة، ولكنها لا تريد ذلك لأسباب تتعلّق باستراتيجيتها الخارجية والداخلية.

علي ربيع (عدن)
شمال افريقيا حاويات شحن تمر عبر قناة السويس (رويترز)

استمرار توترات البحر الأحمر «يعمِّق» أزمة قناة السويس المصرية

أعلنت مصر، الخميس، عن تراجع كبير في إيرادات قناة السويس، ما «يعمِّق» أزمة خامس أكبر مصدر للدخل بالعملات الأجنبية في البلاد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
العالم العربي وزارة الخزانة الأميركية (رويترز)

أميركا تفرض عقوبات تستهدف الشبكة المالية للحوثيين

أصدرت الولايات المتحدة، اليوم الخميس، عقوبات لمكافحة الإرهاب تتعلق باليمن على أفراد وكيانات مرتبطة بالوسيط المالي للحوثيين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي سفينة شحن ترسو في ميناء عدن باليمن بعد تعرضها لهجوم في البحر الأحمر (رويترز)

تقرير: ناقلة نفط تعود أدراجها بعد تعرضها لهجوم من «الحوثيين»

أوضح مركز المعلومات البحرية المشترك في البحر الأحمر وخليج عدن اليوم (الثلاثاء) إن الناقلة «تشيوس ليون» التي ترفع علم ليبيريا حولت اتجاهها لطريق العودة.

«الشرق الأوسط» (صنعاء)
العالم العربي بفضل الدعم المقدم من مركز الملك سلمان للإغاثة حققت الصحة العالمية نجاحات كبيرة في اليمن (الأمم المتحدة)

​«الكوليرا» يتفشّى بشكل «مخيف» في مناطق سيطرة الحوثيين

كشفت منظمة الصحة العالمية عن انتشار مخيف لوباء الكوليرا في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين بشمال اليمن وقالت إن عدد الإصابات المسجلة تقترب من 100 ألف حالة.

محمد ناصر (تعز)

فلسطينيو الضفة يتنفسون من رئة إسرائيل ويخشون عقاباً جماعياً

TT

فلسطينيو الضفة يتنفسون من رئة إسرائيل ويخشون عقاباً جماعياً

فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)
فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)

لا يتمنى الفلسطينيون في الضفة الغربية، ربما بخلافهم في قطاع غزة، حرباً مفتوحة بين إسرائيل و«حزب الله» اللبناني. فهم يدركون بخبرة العارفين بعقلية إسرائيل ومن باب التجربة السابقة في الحروب والانتفاضات، بما في ذلك الحرب الحالية على القطاع، أنهم سيدفعون ثمناً كبيراً، سياسياً واقتصادياً يمسّ حياتهم وحقوقهم واحتياجاتهم اليومية الرئيسية. وبعد أن يتحولوا معتقلين في سجن الضفة الكبير، لا شيء قد يثني إسرائيل عن قتلهم واعتقالهم وملاحقتهم.

في السيناريو الأبسط لحرب محتملة بين إسرائيل و«حزب الله»، ستنعزل إسرائيل وتغلق حدودها غير المعروفة، وستكون في حاجة إلى عزل الفلسطينيين في الضفة بشكل تام، انطلاقاً من حاجتها إلى كبح جماح جبهة ثالثة محتملة. هذا يعني بلا شك، تقييد الحركة ومنع السفر وتوقف تدفق البضائع إلى أسواق الضفة، وسيشمل ذلك وقف إسرائيل إمداد الفلسطينيين بالكهرباء والماء والوقود، انطلاقاً من أنها ستحتفظ لنفسها بأي مقدرات كهذه، بعد أن يقصف «حزب الله» شركات الكهرباء والمياه والمطارات، مرسلاً إسرائيل إلى أزمة غير مسبوقة، سيدفع الفلسطينيون أيضاً ثمنها بلا شك.

لكن إذا كانت إسرائيل دولة يمكن لها التعامل مع أزمات من هذا النوع، وهذا ما زال غير واضح إلى أي حد، فالسلطة الفلسطينية غير قادرة على ذلك وهي التي تعيش أزمات عميقة اليوم، مالية واقتصادية وأمنية، وفي حقيقة الأمر وجودية.

وليس سراً أنهم في إسرائيل يستعدون لسيناريوهات تتعامل مع شلل كامل، سيتضمن ظلاماً دامساً وطويلاً في مطار بن غوريون، وانهيار مبانٍ وجسور وإصابة طرق رئيسية، وانقطاعاً في الكهرباء والماء الوقود، ونقصاً في المواد الأساسية.

جثمان الطفل غسان غريب 13 عاماً محمولاً على الأكتاف وكان قتل برصاص إسرائيلي قرب رام الله في يوليو الحالي (أ.ف.ب)

وقف مقومات الحياة

ولم تكن تصريحات المدير العام لشركة إدارة الكهرباء الحكومية الإسرائيلية شاؤول غولدشتاين، الأخيرة حول إسقاط شبكة الكهرباء في إسرائيل في حالة حرب مع «حزب الله» مجرد جرس إنذار في إسرائيل، بل أيضاً في الضفة الغربية التي تشتري الكهرباء من إسرائيل.

وقال غولدشتاين: «نحن في وضع سيئ ولسنا مستعدين لحرب حقيقية (...) خلاصة القول هي أنه بعد 72 ساعة لن يمكنك العيش في إسرائيل. إسرائيل لن تكون قادرة على ضمان الكهرباء في حالة الحرب في الشمال بعد 72 ساعة»، مضيفاً: «لسنا مستعدين لحرب حقيقية».

وما ينسحب على الكهرباء ينسحب على المياه والوقود.

فحتى قبل حرب مفترضة مع بداية الصيف الحالي، بدأ الفلسطينيون يعانون العطش، بعدما أخذت شركة «ميكروت» الإسرائيلية قراراً بتقليص كمية المياه الواردة إلى مناطق الضفة، كنوع من عقاب تعوّد عليه الفلسطينيون.

مسنّ فلسطيني وأطفال يشربون من عبوات تبرعت بها جمعيات لبلدات في الضفة الغربية قطعت عنها إسرائيل مياه الشفة (غيتي)

وبحسب أرقام رسمية، فإن متوسط استهلاك الفرد اليومي من المياه في إسرائيل، بما في ذلك المستوطنات، يبلغ 247 لتراً، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف متوسط استهلاك الفرد الفلسطيني اليومي في الضفة الغربية، والذي يبلغ 82.4 لتر، وفي التجمعات الفلسطينية غير الموصولة بشبكة مياه، يصل إلى 26 لتراً، فقط.

تخزين طحين ودواء وسولار

لا يمكن تخيل وضع معظم الفلسطينيين في الضفة الذين يتلقون اليوم (أي قبل الحرب) مياهاً جارية أقل من 10 أيام في الشهر؛ لأن الحصة المتبقية من المياه ينعم بها الإسرائيليون.

وفي إحصائيات السنوات الماضية، وصل إجمالي استهلاك الإسرائيليين من المياه عشرة أضعاف إجماليّ ما استهلكه الفلسطينيون في الضفة الغربية، وهي أرقام ستتغير لصالح الإسرائيليين هذا العام.

ويفهم الفلسطينيون في الضفة أنهم لن يجدوا أي قطرة ماء مع اندلاع الحرب المفترضة، التي ستتركهم أيضاً بلا كهرباء ولا دواء ولا وقود، وهو ما يخلق قلقاً وإرباكاً الذي يتسلل إليهم اليوم، وحمل بعضهم على تخزين الكثير من الطحين والمعلبات والمياه المعدنية.

وقال سعيد أبو شرخ: «لم أود الانتظار أكثر. اشتريت بعض الطحين والمعلبات والمياه».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «بعد دقيقة واحدة من الحرب سيدبّ هلع كبير. ستصبح الأسعار جنونية، ثم سنفقد البضائع. وقد نعيش التجربة القاسية التي اختبرها الغزيون في القطاع».

وعانى قطاع غزة فقدان الكهرباء والمياه والدواء والمواد الأساسية، ووصل الأمر إلى حد مجاعة حقيقية أفقدت الناس حياتهم.

وبالنسبة إلى أبو شرخ، فإنه يفضّل أن يكون مستعداً، أسوة بالكثير من أصدقائه الذين لجأوا إلى شراء كميات أكبر من الطحين والمعلبات وصناديق المياه، وحتى كميات من البنزين أو السولار، كخطة احتياطية.

وفي اختبار قصير سابق، عندما انطلقت المسيّرات والصواريخ الإيرانية، تجاه إسرائيل، لم يكن ممكناً الوصول إلى البقالات بسهولة، وهرع الناس لشراء ما يجنبهم انقطاع الطعام الرئيسي، أما محطات الوقود ففقدت مخزونها لأيام عدة، في «بروفة» لما يمكن أن يحدث في حرب حقيقية.

ولا يريد عبد العظيم عواد، أن يضع نفسه في اختبار آخر.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «لم أجد بعد ساعة واحدة من انطلاق المسيّرات الإيرانية الكثير من المواد الغذائية. لم أجد وقوداً لأيام عدة. وخفت أن تندلع الحرب فعلاً. لم يكن لدي أي استعدادات».

وعلى الرغم من ذلك، يُمنّي عواد النفس بألا يضطر إلى عيش التجربة مرة أخرى على نحو أصعب، ولا يريد أن يرى حرباً أخرى.

وأضاف: «تعبنا من الحرب. الوضع صعب. الأشغال تضررت، الاقتصاد منهار. لا توجد رواتب والعمال لا يذهبون إلى إسرائيل. والتجار يشكون. حرب أخرى طويلة مع لبنان ستعني دماراً حقيقياً هنا. أعتقد سيكون وضعاً كارثياً».

ضائقة اقتصادية غير مسبوقة

وعانت الضفة الغربية وضعاً اقتصادياً معقداً ستحتاج معه إلى فترة ليست قصيرة من أجل التعافي.

وقال وزير الاقتصاد الفلسطيني محمد العامور، إن الاقتصاد الفلسطيني يواجه صدمة اقتصادية «غير مسبوقة»، تصاعدت حدتها، بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

عمال مياومة فلسطينيون ينتظرون عند معبر إسرائيلي ليتم إدخالهم للعمل (غيتي)

وأكد العامور معقّباً على تقرير للبنك الدولي حذَّر فيه من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر «انهيار في المالية العامة»، وأن العدوان، والإبادة الجماعية والحصار المالي والاقتصادي والسياسة المتطرفة التي تنفّذها حكومة الاحتلال تتسبب في انكماش اقتصادي وتعطل الحركة التجارية.

وتوقع أن يصل الانكماش إلى 10 في المائة.

وبحسبه، فإن الاقتصاد يخسر يومياً نحو 20 مليون دولار في جزئية توقف الإنتاج بشكل كلي في قطاع غزة، وتعطله في الضفة الغربية، إلى جانب تعطل العمالة، والتراجع الحاد في النشاط الاقتصادي والقوة الشرائية.

وكان البنك الدولي، قد حذّر في تقرير الشهر الماضي، من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر «انهيار في المالية العامة»، مع «نضوب تدفقات الإيرادات» والانخفاض الكبير في النشاط على خلفية العدوان على قطاع غزة.

وأكد البنك الدولي أن «تدفقات الإيرادات نضبت إلى حد كبير؛ بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إسرائيل لإيرادات المُقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية، والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي».

وبحسب التقرير، فإن «الاقتصاد الفلسطيني فقد ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ 7 أكتوبر، يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية».

وأكد التقرير أيضاً ارتفاع معدل الفقر، موضحاً: «في الوقت الحاضر، يعيش جميع سكان غزة تقريباً في حالة فقر».

وبحسب تقارير دولية سابقة، فقد أدت الحرب في غزة إلى إغلاق الاقتصاد فعلياً هناك، بعدما تم تدمير الأساس الإنتاجي للاقتصاد في القطاع والذي انكمش بنسبة 81 في المائة في الربع الأخير من عام 2023.

وتضرر الاقتصاد أيضاً في الضفة الغربية وانكمش كذلك، بسبب الحصار السياسي والمالي للسلطة والفلسطينيين.

مأزق السلطة

تعاني السلطة في الضفة وضعاً مالياً حرجاً اضطرت معه منذ بدء الحرب إلى دفع نصف راتب فقط لموظفيها.

ومنذ عامين تدفع السلطة رواتب منقوصة للموظفين في القطاعين المدني والعسكري؛ بسبب اقتطاع إسرائيل نحو 50 مليون دولار من العوائد الضريبية، تساوي الأموال التي تدفعها السلطة لعوائل مقاتلين قضوا في مواجهات سابقة، وأسرى في السجون الإسرائيلية، إضافة إلى بدل أثمان كهرباء وخدمات طبية.

وعمّقت الحرب على غزة هذه الأزمة بعدما بدأت إسرائيل باقتطاع حصة غزة كذلك.

مظاهرات داعمة لغزة في رام الله نهاية مايو الماضي (غيتي)

وإضافة إلى موظفي السلطة، فقد أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني من الضفة مصدر دخلهم الوحيد منذ السابع من أكتوبر الماضي، بعدما جمّدت إسرائيل تصاريح دخولهم إلى أراضيها أسوة بنحو 20 ألف عامل من قطاع غزة أُلغيت تصاريحهم بالكامل.

وساعد منع العمال من دخول إسرائيل في تدهور أسرع في الاقتصاد في الضفة الغربية، مع الوضع في الحسبان أن أجورهم كانت تصل إلى نحو مليار شيقل شهرياً (الدولار 3.70) مقارنة بفاتورة رواتب موظفي السلطة الشهرية التي تبلغ نحو 560 مليون شيقل شهرياً.

وقال مروان العجوري، أحد العمال الذين فقدوا مصدر رزقهم الوحيد، لـ«الشرق الأوسط»: «منذ 9 أشهر لم يدخل لي شيقل واحد. لقد استنفدنا».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «ننتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب في غزة، هل تعرف ماذا يعني حرب جديدة مع «حزب الله»؟ يعني على الدنيا السلام. دمار دمار. ما ظل إلا الهجرة بعدها». وتابع: «لا إسرائيل بتتحمل ولا إحنا».

ويخشى الفلسطينيون فعلاً أن إسرائيل قد تستخدم أدوات ضغط كبيرة عليهم في الضفة الغربية من أجل حثّهم على الهجرة، مستغلة انشغال العالم في حرب كبيرة مع لبنان.

مصادرة أراضٍ ودفع للهجرة

وخلال الأشهر القليلة الماضية، فتكت إسرائيل بالضفة الغربية بكل الطرق، حصار مالي وقتل واعتقالات ودفعت خططاً لتغيير الوضع القائم باتجاه إحباط أي أمل لإقامة الدولة الفلسطينية.

وفي الرابع من الشهر الحالي صادقت إسرائيل على مصادرة 12.7 كيلومتر مربع من أراضي الضفة الغربية، في مصادرة وصفتها منظمة «السلام الآن» الإسرائيلية بأنها الأكبر منذ ثلاثة عقود وتمثل ضربة جديدة للسلام بين الجانبين.

وبحسب «السلام الآن»، فإن الأراضي التي حوّلتها إسرائيل «أراضي دولة» تقع في منطقة غور الأردن، وهي الأكبر منذ اتفاقيات أوسلو 1993.

وبهذه المصادرة، ترتفع مساحة الأراضي التي أعلنتها إسرائيل «أراضي دولة» منذ بداية العام إلى 23.7 كيلومتر مربع.

بعد ذلك بأيام عدة صادرت إسرائيل أراضي أخرى قرب مستوطنات في الضفة.

وتسيطر إسرائيل على الضفة الغربية منذ عام 1967، وأقامت الكثير من المستوطنات التي يعيش فيها من دون القدس الشرقية أكثر من 490 ألف إسرائيلي مقابل ثلاثة ملايين فلسطيني.

وهؤلاء المستوطنون بدأواً حرباً، خاصة في الضفة، مستغلين الحرب على قطاع، في محاولة لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة، فقتلوا فلسطينيين وهاجموا قرى وصادروا المزيد من الأراضي، تحت حماية الحكومة.

وقال مسؤول إسرائيلي كبير إن الحاكم الفعلي للضفة الغربية اليوم هم رؤساء المجالس المحلية للمستوطنات. متهماً رئيس المجالس الاستيطانية كافة، يوسي داغان، بقيادة الفوضى التي صاحبت حالة الحرب.

ولا ينحصر تأثير داعان في معرفته باعتداءات المستوطنين ودعمه توسعهم بكل الأشكال القانونية وغير القانونية، وإنما يمتد أيضاً إلى مجال إقناع السلطات الإسرائيلية والجيش برعاية هذه الاعتداءات أو غض النظر عنها.

وعملياً، ترعى الحكومة الإسرائيلية هؤلاء المستوطنين، ولا تخفي أنها في حرب على جبهة الضفة.

وقتلت إسرائيل نحو 600 فلسطيني منذ السابع من أكتوبر واعتقلت ما يقارب الـ10 آلاف ودمّرت بنى تحتية في طريقها لإضعاف السلطة الفلسطينية ومنعها من إقامة دولة.

واعترف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأنه لا يفعل أي شيء سري، وإنما يعمل بوضوح من أجل منع إقامة «دولة إرهاب فلسطيني» و«تعزيز وتطوير الأمن والاستيطان».

وجاء تصريح سموتريتش تعقيباً على ما أوردته صحيفة «نيويورك تايمز»، حول خطة حكومية رسمية سرية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية دون الحاجة إلى الإعلان رسمياً عن ضمها.

خطة لتغيير حكم الضفة

وكان تسجيل مسرّب لسموتريتش فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية، بحسب تقرير نُشر في صحيفة «نيويورك تايمز».

فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)

ونقل عن سموتريتش: «أنا أقول لكم، إنه أمر دراماتيكي ضخم. مثل هذه الأمور تغير الحمض النووي للنظام».

وتحكم السلطة الفلسطينية اليوم المنطقة «أ» في الضفة الغربية وتشارك الحكم في المنطقة «ب» مع إسرائيل في حين تسيطر إسرائيل على المنطقة «ج» التي تشكل ثلثي مساحة الضفة.

وكان يفترض أن يكون هذا الإجراء مؤقتاً عند توقيع اتفاق أوسلو بداية التسعينات، حتى إقامة الدولة الفلسطينية خلال 5 سنوات، لكن تحول الوضع إلى دائم، قبل أن تتخذ إسرائيل خطوات ممنهجة ضد السلطة أدت إلى إضعافها بشكل كبير.

وفي خطوة مهمة وحاسمة ضمن خطة سموتريتش، صادق جنرال عسكري كبير على تحويل مجموعة من الصلاحيات في الضفة الغربية إلى مدير مدني هو هيليل روط، في مؤشر على أن الحكومة الإسرائيلية زادت من سيطرتها المدنية على المنطقة في خطوة أخرى نحو الضم الفعلي.

ووصف الناشط المناهض للاستيطان يهودا شاؤول هذه الخطوة بأنها «ضم قانوني»، مضيفاً أن «الحكم المدني الإسرائيلي امتد إلى الضفة الغربية» تحت إشراف سموتريتش.

وتشمل الصلاحيات المفوضة لروط السلطة على معاملات العقارات، والممتلكات الحكومية، وترتيبات الأراضي والمياه، وحماية الأماكن المقدسة (باستثناء الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل وقبر صموئيل)، والقوانين المتعلقة بالغابات، والسياحة، والحمامات العامة، وتخطيط المدن والقرى والبناء، وبعض عمليات تسجيل الأراضي، وإدارة المجالس الإقليمية، وغير ذلك الكثير.

واليوم على الأقل لا يوجد داخل الحكومة الإسرائيلية، أي خلاف بشأن ضم المناطق «ج»، حتى أن مسؤولين يرون أنه واحدة من الحلول للضغط على «حماس» نفسها في غزة.

واقترح النائب ألموج كوهين من «عوتسماه يهوديت» الذي يتزعمه وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير خلال مقابلة مع «i24NEW» ضم المناطق حتى يعود المحتجزون في غزة. وأضاف: «الأراضي مقابل المختطفين، الأمر بسيط للغاية».

وقال الخبير في الشأن الإسرائيلي كريم عساكرة إن اندلاع حرب بين «حزب الله» وإسرائيل، سيجلب تداعيات خطيرة على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، لا سيما من الناحيتين الإنسانية والسياسية.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «سيفتكون بالضفة بلا شك. حيث يتوقع أن يستغل اليمين في الحكومة الإسرائيلية الحرب، وانشغال العالم بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار، لتنفيذ مخططات الضم والتهويد التي ستجعل من الضفة الغربية ملحقاً لإسرائيل لا يمكن أن يكون مكاناً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة».

وتابع: «التحريض الإسرائيلي على الفلسطينيين في الضفة الغربية، ووجود دعم إيراني لتحريك العمل العسكري في الضفة، ربما أيضاً يكون ذريعة لعقاب جماعي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، فتزيد من القمع والحصار والتنكيل بهم لدرجة يصل فيها الفلسطينيون إلى مرحلة لا يستطيعون العيش في ظل تلك الظروف، التي تسعى إسرائيل إلى أن تنتهي بترحيل قسم من الفلسطينيين إلى خارج وطنهم.»

أما على الجانب الإنساني، فيرى عساكرة «أن ارتباط الفلسطينيين في الضفة بإسرائيل في نواحي الحياة كافة، سيؤدي إلى تأثرهم بشكل كبير، خاصة في مجال الطاقة والمياه، وفقدان الاستقرار الغذائي نتيجة لتضرر الموانئ الإسرائيلية، وربما سيكون وضع الفلسطينيين أكثر صعوبة من الإسرائيليين؛ لعدم وجود سلطة قادرة على تقديم أي مساعدة طارئة للمواطنين، على عكس إسرائيل التي تدرس كل جوانب التأثير الإنساني للحرب لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين».

وهذا الوضع لا تغفله السلطة الفلسطينية التي تدرك حجم الضرر المتوقع، وتبدو آخر كيان يريد لهذه الحرب أن تشتعل.

وقال مسؤول فلسطيني لـ«الشرق الأوسط»: «حتى قبل حرب محتملة مع لبنان. إنهم يسعون لتفكيك السلطة وانهيارها، ولديهم مخطط واضح لدفع الفلسطينيين على الهجرة. ليس فقط في قطاع غزة وإنما الضفة. هذا اليمين المجنون لن يفوّت حرباً كهذه قبل أن يحقق حلمه بالسيطرة والاستيطان والتخلص من الكينونة الفلسطينية».

ويعترف المسؤول بأنه ليس لدى السلطة القدرة على مواجهة تداعيات حرب كهذه، وهي تواجه قبل ذلك خطر الانهيار.

باختصار شديد، خلف «حزب الله»، توجد إيران وفصائل في العراق وسوريا واليمن، وفي النهاية الدولة اللبنانية التي خلفها توجد دول، وخلف إسرائيل توجد الولايات المتحدة ودول وقوى أخرى عظمى. اما الفلسطينيون في الضفة الغربية فخلفهم سلطة محاصرة وضعيفة لا حول لها ولا قوة، وتقريباً لا بواكي لهم أو لها.