«المقاومة العراقية» إلى «حرب أوسع» في لبنان

باقري كني فاجأ بغداد بأسئلة عن «حزب الله»... وطهران مشغولة بـ3 أزمات مركبة

فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
TT

«المقاومة العراقية» إلى «حرب أوسع» في لبنان

فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)

حين حذّر وزير خارجية العراق، فؤاد حسين، من اندلاع حرب في لبنان، كان من المرجح أن يلقى كلامه المقلق استجابة عاصفة من الفصائل العراقية الموالية لإيران، أقلها التحضير لمساندة الحليف «حزب الله» اللبناني. ولم يحدث هذا كما جرت العادة بين حلفاء «محور المقاومة».

في 13 يونيو (حزيران)، كان الوزير حسين، يتحدث في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الإيراني بالإنابة، علي باقري كني، ومن دون سياق مسبق، وفي سابقة بين البلدين، رمى «طلقة تحذير» حول الجنوب اللبناني، بينما بغداد ملتزمة بالهدنة بظلال حكومة تحظى بإعجاب الأميركيين يوماً بعد آخر.

قال حسين: «لو اندلعت حرب هناك، ستتأثر المنطقة برمتها، وليس لبنان فقط».

وبالنسبة لكثيرين، كان كلام كبير الدبلوماسية العراقية «رسالة» تستند إلى معطيات وفرّها الزائر الإيراني، باقري كني، الذي كان قبل أسبوعين من وصوله إلى بغداد، يجري لقاءات «طبيعية» في بيروت ودمشق عن «الشراكة الوثيقة والدائمة».

شخصيتان في «الإطار التنسيقي»، أخبرتا «الشرق الأوسط»، أن باقري كني حين وصل إلى بغداد تحدث في الكواليس مع مسؤولين عراقيين، عن «حرب محتملة تُخطط لها إسرائيل في جنوب لبنان، فما موقف العراقيين؟».

وتقاطعت معلومات المصدرين حول أن باقري طلب صراحةً أن يكون «لبنان محور المؤتمر الصحافي المشترك». وقال أحدهما لـ«الشرق الأوسط»: «بالطبع، الحرب في لبنان تقلق الجميع، وستُسمع أصداؤها في بغداد أولاً»، ولهذا تبرّع الوزير العراقي بالتحذير، لأن حكومته والتحالف الشيعي الحاكم كان عليهم التعاطي مع جس نبض الإيرانيين بشأن لبنان.

وفي محاولة لاستنباط موقف «العسكريين»، تحدثت «الشرق الأوسط» إلى قائد فصيل عراقي فقال: «لقد وجّهت إلينا أسئلة عن موقفنا لو اشتعلت جبهة لبنان أكثر. فقلنا: مستعدون (...) سنذهب إلى هناك».

لكن الدوائر الدبلوماسية والسياسية ليست حاسمة إلى تلك الدرجة، فقد أكد مسؤول دبلوماسي أن «الأمر (طلب باقري) لم يكن بهذه الطريقة»، كما أن خبيراً عراقياً فسّر كلام فؤاد حسين بأنه «للموازنة السياسية بين الحكومة والمقاومة»، مقللاً من احتمالات حرب «أوسع».

وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين تولّى التحذير من حرب في لبنان بحضور نظيره الإيراني باقري كني (رويترز)

مَن يريد توسعة الحرب... إيران أم إسرائيل؟

تشهد مناطق الجنوب اللبناني والشمال الإسرائيلي منذ أشهر أعنف هجمات متبادلة منذ حرب 2006، لكنها أقل من أن توصف بالحرب المفتوحة. ثمة قواعد اشتباك غير تقليدية تجعلها حرباً على جرعات، بتكاليف عالية، لاسيما من جهة «حزب الله» وحاضنته في الجنوب.

تقول مصادر لبنانية، لـ«الشرق الأوسط»، إن حصيلة الأشهر الماضية تعادل أضرار حرب شاملة، لكنها في ميزان القوى، ليست كذلك.

وتزداد كثافة النيران الإسرائيلية على عمق 4 كيلومترات من الحدود، بمعدل قصف يومي، وتقل تدريجياً بعد عمق 10 كيلومترات وصولاً إلى نهر الليطاني.

المصادر التي قدمت هذه التوصيفات الميدانية قالت إن مناطق القصف شبه خالية ومدمرة على نحو غير مسبوق، والحديث عن «حرب أشد» مستحيل بغياب حاضنة اجتماعية، ومع تغير مواقع إدارة العمليات لـ«حزب الله»، على نحو طارئ.

لبنانيات يلتقطن صورة إلى جانب منزل مدمَّر بغارة إسرائيلية في بلدة عيتا الشعب بالجنوب (أ.ف.ب)

إذن، ما الحرب الأشد التي حذّر منها الوزير فؤاد حسين؟ ومَن يريد إشعالها؟ طهران أم حكومة بنيامين نتنياهو؟ على الأقل، فإن آموس هوكستين، مستشار الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي وصل إلى إسرائيل الاثنين، ومنها إلى بيروت، لديه رسالة لثني نتنياهو عن أي تصعيد محتمل، قد يثير ذعر إيران ويدفعها إلى التدخل المباشر في لبنان، والتدخل سيكون بأذرعها في العراق.

ويعتقد عقيل عباس، وهو أستاذ العلوم السياسية من واشنطن، أن نتنياهو «يريد هذه الحرب أكثر من (حزب الله)، ومن إيران بالضرورة»، لأن الأخيرة تريد المحافظة على نسق الضربات المتواترة من «حزب الله» لتخفيف الضغط على «حماس» في غزة. أكثر من هذا سيكون ضاراً لها.

كما أن «حزب الله» نفسه يريد الحفاظ على «ديناميكية الردع» بمنسوبها الحالي، فإن أي عملية عسكرية مفتوحة من الإسرائيليين ستدمر البنى التحتية اللبنانية أكثر مما هي الحال الآن، و«هذا يسبب مشكلة لحسن نصر الله مع الشركاء اللبنانيين»، كما يقول عباس.

رواية أخرى... إيران تُلوّح بورقة «حزب الله»

قبل أن يصل باقري كني إلى بغداد، كانت إيران تنقل رسائل جس نبض إلى العراقيين توحي بأنها تواجه 3 مشاكل مستعصية؛ فراغًا خلّفه رئيسي وعبداللهيان، والضغط الهائل من الأميركيين والغرب في البرنامج النووي، وموضع طهران في صفقة وقف النار بغزة، وفي كل منها ستضطر إلى التخلي عن أحد محاورها في المنطقة، لكن الحصة «في المقابل» لا تساوي ثمنها، كما يصف سياسي عراقي على اطلاع بهذه الرسائل.

يقول السياسي العراقي: «إن التلويح بحرب قائمة بالفعل ضغط سياسي، حتى يعرف الإيرانيون حصتهم من صفقة وقف النار في غزة، لا سيما المرحلة الثانية منها».

في هذه الأجواء، إيران هي من تريد وضع ورقة «جنوب لبنان» على الطاولة لتحسين ظروفها في المفاوضات. ليس من الواضح ملاءمة هذه الفرضية مع حالة «حزب الله» الذي يتحدث كثيرون عن إنهاكه ومحدودية حركته. ويرد السياسي العراقي بالقول: «لم يختبر أحد حتى الآن حقيقة أن (حزب الله) منهك، بينما يستطيع في أي وقت إحداث خرق مؤذٍ للإسرائيليين».

وإلى حد كبير يوافق على هذا الطرح عقيل عباس، الذي يرصد قلقاً إسرائيلياً تشاركه تل أبيب مع واشنطن بشأن «القدرات العسكرية والتكنولوجية لـ(حزب الله)»، حتى بعد أشهر من الاستنزاف.

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

«الأيدي على الزناد يا لبنان»

حين خرج الوزير العراقي بتحذيره اللبناني، كانت بغداد تحظى بمسافة أمان عن نيران حرب غزة في المنطقة. الحكومة استطاعت إدامة الهدنة مع القوات الأميركية لأشهر، ورئيسها محمد شياع السوداني يمسك بصعوبة بلحظة التوازن بين متطلبات إيران وطموحات الفصائل، ومنذ وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لم يسمع قادة الأحزاب الشيعية والفصائل أشياء كثيرة مهمة من الإيرانيين.

يقول قائد فصيل شيعي في بغداد، طلب عدم نشر اسمه وعنوان الفصيل، إن الزيارات غير المعلنة للعسكريين الإيرانيين إلى العراق أصبحت قليلة جداً منذ وفاة رئيسي. مع ذلك، «هناك اتصالات روتينية فُهم منها أن طهران مشغولة بمشكلتها (...) سنتكلم لاحقاً».

قبل أن يزور باقري كني بغداد وأربيل، وصلت «أسئلة مباشرة من الإيرانيين لكتائب «حزب الله» وحركة «النجباء»: «هل تشاركون في حرب جنوب لبنان لو هاجمتها إسرائيل». يقول قائد الفصيل، لـ«الشرق الأوسط»: «قلنا لهم، نعم بالطبع. الأيدي على الزناد، نشارك وندعم».

قائد قوة القدس التابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني، إسماعيل قاآني كان في قلب تلك الاتصالات التي كسرت صمت طهران عن الحلفاء العراقيين منذ وفاة رئيسي. وحين وصل باقري كني كانت الحكومة العراقية تشعر بالضغط، كما يقول قيادي في الإطار التنسيقي، واضطرت إلى التحذير لمنح الانطباع بأن العراق لن يواصل الجلوس في «منطقة الراحة» خلف توترات غزة، في لبنان تحديداً.

مع ذلك، يرى الخبير عقيل عباس، أن كلام الوزير العراقي «فعل موازنة سياسي وإعلامي لإظهار أن العراق مع إيران ومع المقاومة بشكل عام، وليس محور المقاومة بشكل خاص».

يفسر عباس هذه المعادلة بأن ما تقوم به الحكومة من وراء كل هذه التحركات، بما فيها التحذير من حرب في جنوب لبنان، هو الموازنة، لا أكثر. «لأن حكومة السوداني غاضبة من الفصائل، وتحاجج ضدها داخل الإطار التنسيقي، وتطالب بمواقف جدية ضدها، من ضمنها إدخال إيران نفسها بصفتها فاعلاً ضاغطاً يردع الفصائل».

لكن الفصائل ليست سعيدة، خصوصاً حركة «النجباء» وكتائب «حزب الله»، اللتين تظهران حنقاً من الهدنة، وتحاولان استغلال أي فرصة للتمرد عليها.

وكانت مصادر عراقية، أبلغت «الشرق الأوسط» أن الهجمات التي تعرضت لها مطاعم أميركية في بغداد والمحافظات كان تخفي «نية للتمرد على الهدنة، وإيصال رسالة للإيرانيين بأنها حانقة على قرار التهدئة الذي ترعاه طهران في العراق».

وأكدت المصادر أن السوداني «تحدث مع قادة حلفاء وأصدقاء عن ضرورة لجم هذه الحركات التي لا معنى لها، سوى الاعتراض على وضع سياسي لا يلائم بعض القادة الشيعة».

بهذا المعنى، يقول سياسي عراقي مقرب من رئيس الحكومة: «إن الأخير يلاحق جميع المنافذ التي يمكن أن تفلت منها الفصائل إلى حرب (تجر معها الجميع)».

هوكستين أبلغ بري بأن التهديد الإسرائيلي «جدي جداً» (رئاسة البرلمان اللبناني)

«حزب الله» لا يريد العراقيين

«بالفعل، نستعد لأي طارئ في لبنان (...) نعرف ما تواجهه درة تاج المقاومة في المنطقة (حزب الله)»، يقول قائد ميداني لفصيل شيعي متنفذ، ينشط في محافظة نينوى (شمال العراق)، وزعم أنه «أبلغ (الحرس الثوري) الاستعداد للقتال إلى جانب المقاومة في لبنان».

يبدو أن طهران تريد من «الأطراف المعنية» إظهار هذا الموقف علناً، بينما يتعرض «حزب الله» إلى ضغط هائل من الإسرائيليين الذين يخططون لحرب بهدف تفكك «المقاومة جنوب لبنان»، كانوا يريدون منح الانطباع بأن الهجوم على الجنوب أكثر سيجذب كل المقاومة أكثر إلى حرب شاملة.

غير أن مشاركة العراقيين «المقاومين» في حرب إلى جانب «حزب الله» ليست مضمونة، رغم أن العراقيين يعرضون «العدة البشرية»، فالفصيل اللبناني لم يبلغ أحداً من «رفاق المقاومة» بأنه سيسمح لهم بالانتشار في الميدان، على الأراضي اللبنانية.

يتفق قائدا الفصيلين الشيعيين في بغداد ونينوى على أن «(حزب الله) لن يستقبل العراقيين، لأنه ينظر إليهم غير مؤهلين، ولا يمتلكون كياناً متماسكاً، وهم في أفضل الأحوال حلفاء سيئون، لديهم مشاكل لا تعد ولا تحصى في صناعة القرار».

ما يزيد القناعة بعدم مشاركة الفصائل العراقية في حرب جنوب لبنان، هو التفاهم النادر بين الإيرانيين والحكومة في بغداد على حماية صيغة الاستقرار القائمة.

يقول مسؤول بارز في حكومة عادل عبد المهدي إن «العراق هو درة التاج لدى الإيرانيين، أكثر من (حزب الله)، ولن يغامر به في حرب جنوب لبنان». ويضيف: «ما قام به الوزير فؤاد حسين هو الضغط لمنع الحرب، وليس العكس».

ويقول عقيل عباس، إن «الجنرال قاآني توصل إلى اتفاق مع الأميركيين، نضج مع وزير الخارجية الراحل حسين أمير عبداللهيان، بعدم استهداف القوات الأميركية حتى تنتهي الحملة الانتخابية للرئيس جو بايدن».

يدفع هذا عباس إلى الاعتقاد بأن طهران لا تريد تسهيل فوز ترمب بضرب الأميركيين تحت ولاية منافسه بايدن.

في السياق، يكشف المسؤول العراقي السابق، أن إيران «أكثر من هذا»، تريد إبعاد الحرب عن حدود العراق، لأنهم «الآن أكثر حرصاً على الهدوء في العراق».

وأظهرت إيران خلال مراسم عزاء رئيسي إشارات تهدئة، حينما قدّم المرشد الإيراني، في مجلس تأبين أقامه يوم في 25 مايو (أيار) 2024، شخصيات سياسية ضالعة في الحكومة الحالية، وليس في الفصائل «المتمردة»، وأجلست في الصف الأول من المعزين شخصيات، مثل عمار الحكيم زعيم تيار «الحكمة»، ورئيس مجلس القضاء فائق زيدان، وحيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق، خلافاً لقادة فصائل وضعت ترتيب جلوسهم في المقاعد الخلفية، مثل أكرم الكعبي زعيم حركة «النجباء»، وعبد العزيز المحمداوي، المعروف بـ«أبو فدك»، رئيس أركان هيئة «الحشد الشعبي».

صورة وزعها مكتب خامنئي لتأبين رئيسي في 25 مايو ويظهر في الصف الأول مسؤولون وسياسيون عراقيون

النموذج السوري في لبنان

يقول المسؤول العراقي السابق، بناءً على اتصالات يجريها من واشنطن مع قيادات عراقية ولبنانية حول التوتر الأخير، إن «الحرب الشاملة غير موجودة إلا في خيالات اللبنانيين». ومع ذلك، لو حدثت «ليس من المرجح أن يحتاج (حزب الله) إلى الكتائب العراقية، على سبيل المثال»، لأن «الوضع الميداني صعب على أبناء المقاومة المحلية، الذين يتحركون بالكاد في مناطقهم، فكيف على مسلح قادم من العراق».

لكن لو اندلعت الحرب فإن «إيران لن تترك (حزب الله) لوحده. هذا لن يحدث (...) ستفعل شيئاً بالتأكيد»، يقول المسؤول الذي يرى أن مجيء سفيرة أميركية جديدة إلى العراق بموقف متطرف ضد الإيرانيين على صلة بالأمر، «يبدو أن واشنطن تحسب حسابات اليوم التالي لحرب غزة بتدابير سياسية جديدة من بغداد، لصد رد الفعل الإيراني على المرحلة الثانية من وقف الحرب في القطاع (...) لو أنجزت المرحلة الأولى منه».

لكن السيناريو المغرق في التشاؤم يفيد بأن الحرب «الأوسع» ستندلع في جنوب لبنان، وحينها ستلجأ إيران إلى النموذج السوري في لبنان، تحت ضغط صفقة غزة، ومفاوضات النووي. يقول المسؤول العراقي: «هذا يعني تقسيم خريطة لبنان وفق معطيات وحسابات معينة، بين فصائل من العراق واليمن وأفغانستان، والزحف إليها سيبدأ من سوريا».

في المحصلة، ليس هناك تقاطع معلومات حاسم بشأن حرب أوسع في جنوب لبنان، ومشاركة الفصائل العراقية فيها. على الأرجح فإن الطرف العراقي المعني بـ«محور المقاومة» يمتلك الرسائل دون الحقائق، وأن إيران من خلفه تحاول استخدام جميع الأوراق بحذر لإجراء تعديلات لصالحها في صفقة «اليوم التالي» لغزة، وتخشى انفلات «الساحات» التي تديرها إلى حرب تفقدها القدرة على المناورة.


مقالات ذات صلة

مصادر: فصائل عراقية بانتظار تعليمات طهران لدعم «حزب الله»

المشرق العربي عناصر من كتائب «حزب الله» في جرف الصخر (أ.ف.ب)

مصادر: فصائل عراقية بانتظار تعليمات طهران لدعم «حزب الله»

تفيد مؤشرات في بغداد بأن الفصائل العراقية تنتظر تعليمات من طهران لدعم «حزب الله» اللبناني بعد تأكيد اغتيال أمينه العام حسن نصر الله.

فاضل النشمي (بغداد)
المشرق العربي رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني مع الرئيس الأميركي جو بايدن في واشنطن (أرشيفية - أ.ف.ب)

مهمة «التحالف الدولي» انتهت في العراق... ومستمرة في سوريا

بعد نحو 9 أشهر من المفاوضات، أعلنت كل من واشنطن وبغداد رسمياً عن انتهاء مهمة التحالف الدولي في العراق خلال 12 شهراً.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي السوداني خلال لقائه أنطونيو غوتيريش في نيويورك (إعلام حكومي)

مصادر عراقية: إيران لا تريد إحراج السوداني في حرب لبنان

رغم أن الحكومة العراقية انخرطت في الجهود الدولية الهادفة إلى وقف النار في لبنان، فإنها تجاهلت إعلان الفصائل المسلحة الموالية لإيران استعدادها للمشاركة في الحرب.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي الرئيس العراقي السابق برهم صالح (الشرق الأوسط)

برهم صالح لـ«الشرق الأوسط»: العراق أفضل شاهد على العنف... والمنطقة قريبة من الهاوية

دشّنت «الشرق الأوسط» سلسلة جلسات حوارية مع صنّاع القرار حول العالم، بدأت مع الرئيس العراقي السابق برهم صالح، الذي قدّم تصوراته عن مستقبل التصعيد في المنطقة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد الاجتماع بين نائب وزير الخزانة الأميركي والي أدييمو ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (وكالة الأنباء العراقية)

العراق يتعاقد مع شركات عالمية لإعادة هيكلة المصارف الحكومية

تسعى الحكومة العراقية والاتجاهات المالية والمصرفية القريبة منها إلى تسويق فكرة «الإصلاح المالي» وتجاوز العقبات التي تواجهها البلاد جرّاء تخلف نظامها المصرفي.

فاضل النشمي (بغداد)

لبنان الناهض على الصداقة ولبنان الناهض على العداوة

جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
TT

لبنان الناهض على الصداقة ولبنان الناهض على العداوة

جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)

حين نشأ لبنان في 1920 وحين استقلّ في 1943، لم تكن فكرة العداوة والعدوّ من شِيمَه، ولا كانت على لسانه. فلحسن الحظّ لم يكن لدينا «مليون شهيد» نتباهى بهم، بل لم يكن لدينا أيّ شهيد أصلاً. وقد خلا تاريخنا الاستقلاليّ من معارك، كمعركة ميسلون في سوريّا. فـ«الآباء المؤسّسون»، إذا صحّت الاستعارة الأميركيّة، اهتمّوا بالصداقة وبناء الجسور، فوصفوا بلدهم بأنّه «جسر بين الشرق والغرب»، ترصّعه المدارس والجامعات والمستشفيات والمصارف والرساميل والفنادق.

وكان من مصادر التكريم الذي أُسبغ على فينيقيا، وعلى الاستمراريّة التي قيل إنّها تضمّنا إليها، أنّ الفينيقيّين تجّار يعبرون المحيطات ويقصّرون المسافات. وكان في وسع الفينيقيّين أولئك أن يعيشوا في جوار عرب مسالمين أيضاً، فضلاً عن كونهم يأتوننا سيّاحاً ومصطافين ومستثمرين. وإذا كان لا بدّ من أعداء، لأنّ الأساطير المؤسِّسة للأوطان تتطلّب الأعداء، اختار أولئك الآباء أعداء اندثروا ولم تعد لهم ذريّة. هكذا أعلنوا عتبهم على الإسكندر المقدونيّ الذي حاصر صور قبل زمن المسيح، وعلى الملك الفارسيّ أرتحششتا الذي حاصر صيدا في زمن مُقارب. فكأنّما أريدَ القول إنّ لبنان لم يولد من رحم العداوة، وحين كانت العداوة تقصده كان يقاومها مضطرّاً، وهي في الأحوال كافّة، مرّت مروراً سريعاً ولم تعمّر.

صحيح أنّ الرواية التاريخيّة المعتمَدة لم تستطع تجاهل العثمانيّين. فهم قتلوا فخر الدين المعنيّ، الذي رفعته السرديّة الرسميّة جَدّاً أوّل للوطن، كما نفوا جدّه الثاني، بشير الشهابيّ. لكنّ العثمانيّة هي أيضاً صارت تاريخاً بلا وريث منذ ألغى أتاتورك سلطنتها وخلافتها. وبالمعنى هذا أصبحت الإحالات الكثيرة إلى الأربعمائة سنة عثمانيّة لا تدلّ إلى أحد، إذ قبل رجب طيّب إردوغان لم يكن في تركيّا حاكمٌ يتعصّب لها أو يُغضبه هجاؤها.

الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام باشا وسفير العراق لدى واشنطن علي جودت ومندوب العراق لدى الأمم المتحدة فاضل جميلي ومندوب لبنان شارل مالك في استراحة غداء في أثناء اجتماع اللجنة السياسية بشأن فلسطين... وبعد جلسة غاضبة تخللها تبادل الشتائم صوتت الأمم المتحدة على عدم استقلال فلسطين (غيتي)

أمّا الامتحان الأصعب الذي عبره لبنان فكان موضوعه جمال باشا عام 1916. هكذا أُطلقت استدراكات ثلاثة لتطويق تلك العداوة: فأوّلاً، بولغَ في التوكيد على أنّ الرجل سفّاح، وهذا ما امتصّ مضمون العداوة السياسيّ وردّها إلى ساديّة مَرَضيّة أصيلة فيه. وثانياً، كُرّم الشهداء بأن جُعل لهم عيد، فكأنّ المقصود أنّ هذا احتفال أو تنصيب يحصل مرّة واحدة، مثلما الحال حين يُحتفل بعيد قدّيس معيّن. وثالثاً، وبما أنّ جمال أعدم مسيحيّين ومسلمين، جُعل الإعدام جسراً آخر يؤدّي إلى الوحدة الوطنيّة ويمتّنها. آخرُ الأحزان جعلناه، إذاً، أوّل الأفراح.

وكان من أسباب البساطة هذه أنّ الأوضاع نفسها بسيطة لا تحوِج إلى تعقيد. أمّا الحرّيّة فأكثر من كافية لجعل بلد قليل العداوات وكثير الصداقات شيئاً قابلاً للحياة. وفي وقت لاحق، نطقَ رجل، لم تصدر عنه إلا الكليشيهات المضجرة، بعبارة مبدعة هي أنّ «قوّة لبنان في ضعفه»، بمعنى أنّ الجسور مدافع اللبنانيّين وسلاحهم الثقيل.

وظلّ تعبير «العدوّ» غير مُستساغ في القاموس اللبنانيّ السائد، شأنه شأن باقي التعابير التي تلازمه عادةً، كـ«الاستعمار» و«الرجعيّة» و«الصهيونيّة». ولكثيرين بدا الشيوعيّون الذين يشهّرون بـ«الحلف الأطلسيّ»، والعروبيّون الذين يتباهون بمعارك اليرموك والقادسيّة، أشخاصاً غريبين يتحدّثون لغة عجيبة. ولئن تسرّع البعض حين خوّنوا إميل إدّه، إبّان الاستقلال، بقي المعترضون على فكرة التخوين، والمشمئزّون من جوّها التشهيريّ، كثيرين. وبالطبع لم تنشأ محاكمات ولم تحصل إعدامات من النوع الذي يلازم تهمة الخيانة. هكذا رفض اللبنانيّون، مرّة أخرى، أن يكون الدم أحد آبائهم. وبعد ثلاث سنوات على الاستقلال، حوّل إميل إدّه مؤيّديه إلى حزب سياسيّ شرعيّ، وحين توفّي، بعد ثلاث سنوات أخرى، أقيم له مأتم شعبيّ حاشد.

مقهى بيروتي تقليدي في 1951 (غيتي)

تفادي ذيول النكبة

وحتّى عندما نشبت حرب فلسطين في 1948، تراءى أنّ إطفاء نارها أمر ممكن. وبالفعل وقّعتْ على هدنة رودُس، بعد عام واحد، مصر وسوريّا والأردن، ما حالَ دون ظهور لبنان كأنّه متفرّد، أي كأنّه مسيحيّ في عالم الإسلام. والحلّ هذا لم يكن سهلاً فحسب، بل كان مُربحاً أيضاً، إذ أعفى اللبنانيّين من احتمالات الحرب كما أعفاهم من مغبّة التنافس مع مرفأ حيفا الصاعد في دولة إسرائيل ذات الوجه الغربيّ. وبهذا تمكّن الشاطر اللبنانيّ من أن يؤكّد شطارته التي لا يُمارى فيها. وبعد سنوات، تجرّأ لبنانيّون على أن يقدّموا نموذجهم الذي سمّوه «عيشاً مشتركاً»، بديلاً عن النموذج الصهيونيّ لإسرائيل.

يومذاك كان التأمّل ممكناً ونقاش التأمّلات ممكناً أيضاً، تماماً كما كانت الشطارة. وبرغم النكبة، ثمّ الانقلابات العسكريّة التي راحت منذ 1949 تضرب الجوار السوريّ، ومحاولة انقلاب فولكلوريّة نفّذها أنطون سعادة، «زعيم» القوميّين السوريّين، وأُعدم بنتيجتها، لم يعرف لبنان، في 1952، أكثر من «ثورة بيضاء» أطاحت ببشارة الخوري وعهده. وهذه كانت أشبه بمشاجرة قرويّة أو مباراة زجليّة، اندرجت في تاريخ من العراضات التي كانت تنتهي بتبويس اللحى، وباكتشاف أنّنا أخوة متحابّون.

وظلّ ممكناً، حتّى أواسط الخمسينات، الحفاظ على طريقة الحياة هذه. وكان ما يسهّل الأمر أنّ الأنظمة العربيّة، ما قبل الانقلابات، شابهت نظام لبنان. فهي أيضاً حرصت على علاقة جيّدة مع الدول الغربيّة، وأبقت على الإدارة والتعليم كما أنشأهما الاستعمار الغربيّ، كما أقدمت على محاولات تجريبٍ في البرلمانيّة شابتْها، كما كلّ المحاولات الأولى، شوائب ونواقص.

ولأنّهم رأوا البلد رائقاً ومُطَمْئناً، التحم به المسيحيّون الذين أسّسوه التحاماً صوفيّاً. فهو عندهم ليس وطناً فحسب، بل هو البيت والجبل والبحر، وهو عصارة الكون و«أرز الربّ» الذي لا يكون الشاعر شاعراً إن لم يكتب نصف شعره عنه، ولا يكون المغنّي مغنّياً إن لم يُغنّ له. هكذا رُفعت الوطنيّة إلى ديانة متعالية ومطلقة تطالب بالموافقة على كلّ حرف فيها. أمّا الذي يشكّك بهذه الفهم للوطنيّة فجرى التشكيك بلبنانيّته نفسها. وفي المقابل، حافظ المسلمون على مسافتهم الهادئة التي تفضّل أن يكون الوطن جواز سفر وفرصة عمل وعلاقة جوار ولا تستسيغ رومنطيقيّة الريف وهذا الاحتفال الدائم بالنفس. والمسافة تلك كان يمكنها، لو اختلفت الظروف، أن تعقلن الوطنيّة اللبنانيّة وتثبّتها على سكّة أكثر دستوريّة وديمقراطيّة، بيد أنّ أواسط الخمسينات راحت تدفع في اتّجاهات أخرى.

فمع تمكين جمال عبد الناصر قبضته في مصر، نشأ قاموس سياسيّ جديد في المنطقة مفرداته الثورة والتحرير ومكافحة الاستعمار وتخوين «أعوان الاستعمار» والتحريض على إسقاطهم، وهذا فضلاً عن تعطيل الأحزاب السياسيّة وتأميم الصحافة وتدجين النقابات وهروب الرساميل. لقد استقرّت الرئاسة والزعامة في يد ضابط، وفي 1956 تحديداً، مع «حرب السويس» أو «العدوان الثلاثيّ»، انهالت على ذاك الضابط أوصاف هي غالباً ممّا يُمنح للأنبياء والرسل.

جمال عبد الناصر، ياسر عرفات، معمر القذافي والملك حسین في القاهرة عام 1970 (غيتي)

هكذا راح يتبدّى كأنّ الحياة اللبنانيّة، كما رسمها القاموس السائد، هي في أحسن أحوالها نعيم مضجر لا يطاق، وفي أسوأها هروب جبان من صناعة الأقدار والمصائر الملحميّة. فالمنطقة باتت تنتج العداوات وتستهلكها بنهم وشراهة، فتطرد أفكار التوافق والتسوية، فيما هي تغلق البرلمانات تباعاً، ولا ترى طريقاً إلى المستقبل غير نكء جراح الماضي. وبات لبنان مطالَباً بأن يكون له موقف: فبدعوة من رئيس الجمهوريّة كميل شمعون، عُقدت في بيروت قمّة للتضامن مع مصر، وأكّد بيان القمّة الختاميّ على «مناصرة مصر ضدّ العدوان الثلاثيّ (...) واعتبار سيادة مصر أساس حلّ قضيّة السويس، وتأييد نضال الشعب الجزائريّ من أجل الاستقلال». لكنّ عبد الناصر أراد أكثر كثيراً، فطلب من الحكومة اللبنانيّة قطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا. وكان طبيعيّاً أن يرفض شمعون طلباً كهذا. فهو، من جهة، يقطع بعض الشرايين الأساسيّة لبلد ناشئ يرى أنّ علاقته بالغرب شرط شارط لازدهاره ولتعليمه. وهو، من جهة أخرى، يغيّر معنى لبنان كما رسمه «الآباء المؤسّسون». وعلى عكس ما أشيع، لم يكن في ذلك شيء من «الانعزال عن العرب»، إذ الأكثريّة الساحقة من الحكّام العرب كانت ترى ما رآه شمعون، وتتخوّف من «المارد الأسمر» مثلما تخوّف.

لكنّ الأمر لم يقتصر على حاكم مصر العسكريّ. فيومها كان الاتّحاد السوفياتيّ ما بعد الستالينيّ، والضالع في حرب باردة مع الغرب، يتقدّم من الشرق الأوسط، وكانت سوريّا، التي تحدّ لبنان من الشمال والشرق، تخضع لحكم ضبّاط يختبئون خلف واجهة مدنيّة. وكان هؤلاء الضبّاط، من ذوي الميول القوميّة العربيّة والبعثيّة، قد سحقوا خصومهم من «حزب الشعب» والقوميّين السوريّين وشرعوا يدفعون بلدهم نحو وحدة اندماجيّة مع مصر الناصريّة. وفي المعمعة هذه بدأت إعادة تأسيس القضيّة الفلسطينيّة بوصفها قضيّة لا تُعالَج بالهدنة والسياسة والوساطات الدوليّة، بل بتحريرٍ يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل 1948. هكذا ارتسمت العداوة، التي حرص لبنان على تجنّبها، قدراً لا سبيل إلى تجنّبه، ولا تستطيع الشطارة تذليله.

عودة المكبوت

وكانت قضيّة فلسطين بالطريقة التي صارت تُطرح فيها أشبه بعودة المكبوت وهو جريح مُدمّى. فالفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم وبيوتهم، وفي عدادهم مائة ألف نزحوا من الجليل إلى لبنان، وجدوا في عبد الناصر وإذاعة «صوت العرب» ما يغريهم بالعودة والتحرير، ويقنعهم بانسداد طرق السياسة والتسويات. وفي لبنان استيقظ مكبوت آخر هو تاريخ البلد نفسه، إذ صار إنشاء «لبنان الكبير» في 1920 قابلاً لإعادة النظر. فهو ضمّ، في الأطراف، أكثريّات إسلاميّة مشدودة اقتصاديّاً وقرابيّاً وعاطفيّاً إلى سوريّا وفلسطين، لكنّ الأطراف هذه وُحّدت مع ما كان متصرفيّة جبل لبنان ذات اللون المسيحيّ الطاغي. وفي ظلّ توازنات القوى الجديدة، من تحوّلات الديموغرافيا اللبنانيّة إلى الصعود الناصريّ، لم يعد مقبولاً ما بدا مقبولاً على مضض صامت في زمن أسبق. فالسياسة الموصوفة بممالأة الغرب وبمناوأة عبد الناصر، والنظام الرئاسيّ، خصوصاً وقد زوّر انتخابات 1957 وأسقط معظم القادة المسلمين لتعاطفهم مع الزعيم المصريّ، باتا عبئاً على استمرار النظام. وفي 1958، وبعد شهرين على قيام الوحدة المصريّة السوريّة، انفجرت حرب أهليّة طائفيّة كانت تمريناً أوّليّاً على حروب أشدّ شراسة سوف تلي. هكذا بدا أنّ يقظة القديم المسكوت عنه لا تأتي إلاّ على شكل حرب.

مظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان في سبتمبر (أيلول) 1984 (غيتي)

وفي تسوية أميركيّة - مصريّة، جيء بفؤاد شهاب رئيساً موصوفاً بالقدرة على توحيد لبنان. فهو، وإن كان مارونيّاً لا يرقى الشكّ إلى مارونيّته، لم يزجّ الجيش، بوصفه قائداً له، في مواجهة 1958. لكنّ نجاح تجربة الإصلاح الشهابيّ استدعت ربط السياسة الخارجيّة للبنان بالقاهرة، وأُحكمت السيطرة على الإعلام اللبنانيّ. كذلك زُوّرت انتخابات 1964 مثلما زُوّرت انتخابات 1957 إنّما على نحو معكوس، فأُسقط كميل شمعون وريمون إدّه، ومُنح جهاز «الشعبة الثانية» صلاحيّات يصعب تبريرها في نظام برلمانيّ. وما كادت تنتهي التجربة الشهابيّة، في النصف الثاني من عهد شارل حلو، حتّى انشقّ اللبنانيّون من حول المقاومة الفلسطينيّة الناشئة للتوّ، ووجدنا أنفسنا على أبواب حرب لن تلبث أن تندلع.

في تلك الغضون حاول الرحابنة وفيروز إقناعنا بأنّ مشاكلنا بسيطة، ناجمة عن سوء فهم وقابلةٌ لأن تُحلّ بالتفهّم والمحبّة، على غرار ما يحصل في القرى برعاية الشاويش والمختار. إلا أنّ الأعرف بيننا شرعت تُضحكهم تلك النهايات السعيدة. ذاك أنّ قاموسين مكتملين ارتسما في الأفق يتجاوزان الانقسام الحاصل ما بين تأييد الجيش وتأييد الفدائيّين الفلسطينيّين. فالقاموس الأوّل تعامل مع لبنان بوصفه بلداً ناجزاً، لا ينقصه إلاّ بعض الإصلاح، وكان أصحاب هذا القاموس يستوحون بلدان أوروبا المستقرّة نموذجاً لهم. أمّا القاموس الثاني فاعتبره بلداً فادح النقص ينبغي أن يعاد تأسيسه من صفر، وأصحابُ هذا القاموس كانوا يجدون نماذجهم في بلدان «العالم الثالث» المندرجة حينذاك في مكافحة الاستعمار. والقاموس الأوّل ظلّ، رغم كلّ شيء، يرسمه بلداً رائعاً أنجز تحرّره ولم يعد بحاجة لأن يحارب ويقاتل لأنّ تاريخ الآلام بات وراءه، فيما كان القاموس الثاني يرسمه بلداً شنيعاً وكريهاً لا يزال عليه أن يجتاز شوط التحرّر الطويل. أمّا الحروب والعذابات فإنّما تبدأ للتوّ، وهي ستكون هذه المرّة أكبر من أيّ وقت سابق. والأسوأ أنّ ما ظنّه أهل القاموس الأوّل أدوات تحرّر، كالجامعة والمصرف، كان بالضبط ما ظنّه أهل القاموس الثاني أدوات استعبادٍ تُعزّز ربطنا بـ«الإمبرياليّة والاستعمار والرجعيّة العربيّة». وهم اقترحوا علينا، بعد أن نطلّق هؤلاء كلّهم، نماذج بديلة كسوريّا والعراق البعثيّين واليمن الجنوبيّ المتمركس والبلدان الشيوعيّة في أوروبا الشرقيّة. وعلى العموم، أصبحنا مثل رجل مصاب بمرضين، واحدٍ يُعالَج بالإكثار من تناول المسكّنات والآخر يُعالَج بالامتناع عن تناولها.

وفي أواسط السبعينات شرعنا نتحرّر، فإذا بها حرب أهليّة متمادية وضروس، صبغتْها المجازر وتطهير المناطق أو تطهّرها من المختلفين، وهذا ناهيك عن تعطيل الدولة وشيوع الميليشيات ممّا راح يتعاظم مذّاك. وفي آخر المطاف تأدّى عن ذلك اجتياح 1982 الإسرائيليّ، فلم يتحرّر اللبنانيّون ولا انتصر الفلسطينيّون.

سيدة لبنانية تطلب النجدة لزوجها الذي سقط جريحاً في اشتباكات ببيروت (غيتي)

أمّا دعاة الحلّ عبر انتصار كاسح يحتمي بالغزو الإسرائيليّ فرأوا أنّ رئاسة بشير الجميّل تطوي صفحة الماضي. هكذا رُفض كميل شمعون أو بيار الجميّل كمرشّحين للرئاسة، وهما مَن هما في التصلّب المسيحيّ، ولم يعد مقبولاً في موقع الرئاسة إلاّ رمز التحدّي وقائد الميليشيا بشير الجميّل. فالردّ على ما اعتبره أغلب المسيحيّين خيانة المسلمين بانحيازهم إلى المقاومة الفلسطينيّة واعتبارها جيشهم لا يكون إلا ببشير. لكنّ الأخير اغتيل قبل وصوله إلى قصره، ثمّ كانت حرب الجبل وحرب المخيّمات وحرب الإلغاء وحرب التحرير، وراحت الكراهية، في وداع متعدّد الفصول للبنان القديم، تشقّ طريقها من الأجسام الاجتماعيّة الأكبر إلى الأجسام النواتيّة الأصغر.

والحال أنّ لبنان القديم لم يكن سيّئاً، وهو قطعاً كان أفضل الموجود في الشرق الأوسط. صحيح أنّ القصور والخطأ لازماه لكنّ النجاحات التي لازمته كانت أكبر. فهنا، وبفعل الحرّيّة المتاحة، كان التاريخ يتحوّل ويفتح باباً للاحتمال، وخلال سنوات قليلة من عمر الاستقلال تمدّدت الرأسماليّة من المركز إلى الأطراف، واشتدّ عود الطبقة الوسطى، وحصل اللبنانيّون على تعليم جيّد جعلهم شعباً مؤهّلاً لكثير من الأدوار والوظائف في داخل بلدهم وفي خارجه، كما اتّسع نطاق العمل الحزبيّ والنقابيّ مثلما اتّسعت رقعة الإعلام وما يمارسه من نفوذ. وهذا جميعاً لم يترافق مع ظهور ديكتاتور أو آيديولوجيا رسميّة تقول للسكّان: هكذا كونوا ولا تكونوا هكذا.

عبادة الأسد ونصر الله

لكنْ إبّان الحرب المديدة التي كسرت لبنان القديم جدّ عاملان شدّانا من شَعرنا إلى الانحطاط وكان لهما دور بارز في تأسيس الجمهوريّة الثانية. فقبل الغزو الإسرائيليّ وبعده، فرض نظام الوصاية، وعلى نحو غير مسبوق في لبنان، آيديولوجيا رسميّة على لبنانيّين كانوا قبلذاك أحراراً. هكذا لم يعد مقبولاً أن نفكّر ونناقش ونستنتج في ما يخصّ «عروبة لبنان» أو «قداسة المقاومة». وكان من نتائج التحوّل هذا انكماش الفضاء العامّ وازدهار التلقين والتخوين والتشهير في التعامل مع الرأي الآخر، تماماً كما هي الحال في الأنظمة الديكتاتوريّة والتوتاليتاريّة المؤسّسة على العداء والكراهية.

ومنذ ذلك الحين راحت تتزايد المقدّسات في حياتنا كما تتزايد المدنّسات. وكانت ثنائيّة المقدّس والمدنّس، وهي دوماً طريق إلى العنف والعداوة، تمهيداً لعبادة أولياء صالحين كان أبرزهم حافظ الأسد ومن بعده حسن نصر الله. وراح يتبدّى بجلاء، وعلى عكس الحكمة الشائعة، أنّ الجمع مستحيل بين أن تكون مقاوماً وأن تكون حرّاً يقتل نفسه فدى لحذاء زعيم. وهذا، بطبيعة الحال، جاء مصحوباً بفقر أكبر وتعليم أسوأ وهجرات شبابيّة إلى سائر أرجاء المعمورة.

أمّا العامل الآخر فكان الثورة الإيرانيّة، أعظم الكوارث التي شهدتها منطقتنا في تاريخها الحديث. فمعها لم تعد العداوة والعنف يستهدفان طرفاً في حاضرنا، بل باتا يدفعاننا عميقاً في الماضي إلى يزيد بن معاوية والحسين بن عليّ. فكأنّما العداوة أصل أصيل في البشر ما إن يبرأوا منه حتّى يبرأوا من بشريّتهم. وبعدما كان عيب الثورات إصرارها على فرض التنوير دونما اكتراث بالواقع، بات عيب هذه الثورة إصرارها على رفض التنوير من أساسه.

عرض لـ«حزب الله» في الضاحية الجنوبية لبيروت نهاية 1989 في الذكرى الأولى لأول عملية انتحارية ضد جنود إسرائيليين في بلدة كفركلا (غيتي)

وعن الرعايتين السوريّة والإيرانيّة، وفي ظلّ تردّي الجسد اللبنانيّ المنهك بحروبه، انتهت السياسة، فرمزَ إلى نهايتها الطاقم الذي تولّى الحكم متوّجاً بالرئيس إميل لحّود، الموظّف المطواع لدى المتحكّمين في دمشق وطهران. أمّا الثمرة الأكبر التي نجمت عن زواج الرعايتين هاتين فكان «حزب الله» الذي استثني من حلّ الميليشيات، كما قضى به اتّفاق الطائف، بذريعة الاحتلال الإسرائيليّ ومقاومته.

لكنّ زوال الاحتلال في 2000 لم يُنه السلاح الذي ازداد افتتاناً بذاته، وفي حرب 2006 أضاف العرب إلى افتتانه بنفسه افتتانهم به، إذ، كما قيل، صمد وقاتل وهزم إسرائيل. وما لبث هذا الحزب، بعد عامين فحسب، أن وضع يده على بيروت بعدما غزاها وأذلّها. وعلى مدى تلك المرحلة التي جعلت لبنان ملحقاً بـ«حزب الله»، راح يهطل علينا القتل والقتال والشهادة والشهداء بوصفهم الصناعة الحصريّة للبنان، وانقسم المواطنون إلى واحد يحمي وآخر يُحمى، وهما كانا ينقلبان، حين تستدعي الظروف، إلى واحد يهدِّد وبيده السلاح، وآخر منزوع السلاح يُهدَّد وليس له إلا الله. والحقّ أنّ الصناعة الإيرانيّة - السوريّة، وبالاستفادة من التصدّع اللبنانيّ لما بعد الحرب، نجحت في جعل الوحش أكبر من الغرفة التي يقيم فيها، بحيث غدا تهديم الغرفة شرطاً لقتل الوحش.

وإذ أصبح اكتساب الأصدقاء وبناء الجسور تهمة، غدت أعمال التفجير والاغتيال والخطف رياضة يوميّة. وحتّى لو وضعنا جانباً تلك الارتكابات التي طالت لبنانيّين وأجانب، وكانت بمثابة حرب تطهيرٍ للبنانيّة المعروفة، بقي اغتيال رفيق الحريري في 2005 والاغتيالات اللاحقة لسياسيّين وصحافيّين شهادةً على أنّ الوطن الواحد صار مهمّة صعبة، إذ انشطر السكّان إلى قاتل وقتيل.

وفيما توطّد نظام تقسيم العمل بين المقاومة والفساد، شاعت لدى بعض اللبنانيّين لغة ورواية للتاريخ مزعومتان لا تنطويان إلاّ على الضدّيّة وتمجيد العنف. فنحن منذ كنّا، وبغضّ النظر عمّا نفعل، مُستهدَفون بالأطماع، وليس متاحاً لنا إلاّ القتال حتّى نهاية العالم، وأمّا الكرامة فلا تُكتسب بالعلم أو التقدّم أو الإنجاز، بل هي تعريف أن نقاتل إسرائيل. وهذا، في عمومه، كان برنامجاً لتصغير العقل وشفط المعرفة وتلغيز العالم.

وبدوره جاء صعود ميشال عون في الوسط المسيحيّ ليعلن تمكّن السمّ من المسيحيّين. فهم تصرّفوا كالعامل الذي يضطهده ربّ عمله فيفجّر غضبه انتقاماً من زوجته ومن أبنائه. هكذا حاولت العدوانيّة العونيّة، المغطّاة بكثير من الزجل، أن توهمنا بأنّ الالتحاق بـ«حزب الله» هو وحدة بين أنداد متساوين يخوضون معاً حرب الأقلّيّات. ولاحقاً، إبّان حرب «حزب الله» في سوريّا، حاول الطرفان إيهامنا بأنّنا ننتقل من سويّة التحرّر الذي أنجزناه إلى سويّة التحرير الذي ننخرط فيه. فبدل التوقّف لمراجعة الأكلاف الهائلة التي رتّبها علينا «التحرّر» منذ ابتدائه في 1975 حتّى تصاعده النوعيّ مع «حزب الله»، هربنا إلى «التحرير» عبر احتلال جزء من سوريّا وقتل السوريّين وتهجيرهم.

امرأة تحمل صورة لأمين عام «حزب الله» وتعبر بها وسط الدمار في بلدة عيتا الشعب بجنوب لبنان (أ.ب)

وأن تسيطر إيران، من خلال «حزب الله»، على قرارات البلد الأساسيّة فهذا متعدّد الأبعاد والمعاني، لكنّ المعنى الذي يهمّنا هنا هو أنّ العداوة والضدّيّة والعنف باتت عنواناً لحياتنا العامّة، حيث «الموت عادة» و«كلّ يوم كربلاء وكلّ أرض عاشوراء».

وإذ وفّرت حرب غزّة مسرحاً نموذجيّاً للعيش وفق القتال، بات واضحاً أنّ الخيارين اللبنانيّين وصلا إلى نقطة اللاعودة، وأنّه بات من المشكوك فيه أن يتصالح هذان التصوّران عن لبنان وعن العيش فيه حتّى لو هبّت رياح إقليميّة ودوليّة لغير صالح الحزب المسلّح.

صحيح أنّ هذا التناول لم يتوقّف عند أخطاء كثيرة ارتكبها الجميع، وارتكبتها الطوائف كلّها، والحكّام جميعاً، أكان في إدارة البلد أو في اقتصاده أو تعليمه أو غير ذلك. لكنّ هذه العوامل، على أهميّتها، لم تكن سبب تفجيره وجعله مستحيلاً. فأغلب الظنّ أنّ المشكلة الأمّ تكمن في السؤال: أيّ لبنان نريد؟ وهل نغلّب الصداقة أو نغلّب العداوة؟ فاللبنانيّون لم يتّفقوا في الأساسيّات، وكلُّ ما يلوح في الأفق يوحي أنّ عدم اتّفاقهم سيكبر ويتعاظم. وهذا ما يُلزمهم، أو يُفترض أن يلزمهم، بالتفكير في عدم اتّفاقهم وفي تحويله إلى نظام وإلى مؤسّسة يحلّان محلّ الفوضى المشبعة باحتمالات العنف الخصبة. والأسرع الأفضل، كي لا تنتهي بنا الحال إلى ما انتهت بـ«الحمار الفلسفيّ» الذي كتب عنه فيلسوف القرن الرابع عشر الفرنسيّ جون بوريدان. ذاك أنّ حماراً ضربه الجوع والعطش وجد نفسه في النقطة الوسطى بين كومة قشّ وسطل ماء، فراح يفكّر: هل أشرب أوّلاً أو آكل أوّلاً؟ وظلّ يطرح هذا السؤال على نفسه إلى أن مات جائعاً وعطشاناً معاً.

* ألقي هذا النصّ في ندوة استضافها «حزب الكتلة الوطنيّة» في لبنان.