روسيا تراجع سياسات الهجرة بعد هجوم «داعش»

10 ملايين مهاجر من آسيا الوسطى... فئات هشة تتحول هدفاً سهلاً للتجنيد

تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
TT

روسيا تراجع سياسات الهجرة بعد هجوم «داعش»

تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)

شهر كامل مر على الهجوم الدموي المروع الذي استهدف المركز التجاري الترفيهي «كروكوس» قرب العاصمة الروسية موسكو، ولم يستفق بعد الجزء الأعظم من الروس من الصدمة.

استغرقت العملية نحو ربع ساعة فقط، منذ أن ترجل أربعة مسلحين من سيارة رينو بيضاء، واقتحموا البوابات بسهولة، وفتحوا نيراناً كثيفة من أسلحة آلية على كل من وقع في طريقهم نحو قاعة احتفالات موسيقية. في القاعة ألقوا عبوات ناسفة أشعلت النيران في المبنى. من لم يقتل بالرصاص مات اختناقاً أو بسبب الحروق.

هجوم رسمت تفاصيله بدقة. ولكن أيضاً ببساطة مذهلة.

كان المهاجمون يعرفون سلفاً الطريق التي سوف يسلكونها. ويعرفون جيداً أن رجال الأمن في المكان ليسوا مسلحين إلا بما تيسر من هراوات وآلات صاعقة لم تصمد للحظة أمام هجوم البنادق والرصاص.

ربع ساعة زلزلت روسيا، وأعادت إلى الأذهان سلسلة كاملة من مآسي الهجمات الانتحارية وتفجير المباني السكنية، واستهداف الطائرات المدنية في بداية الألفية الثالثة.

سرعان ما تبين أن المهاجمين الأربعة من طاجكستان. الجمهورية الآسيوية الوادعة، التي تعد من بين البلدان الأفقر في الفضاء السوفياتي السابق، والتي تدفع معدلات البطالة وانعدام فرص العمل فيها فئات الشباب إلى الهجرة شمالاً نحو روسيا بحثاً عن حياة أفضل وعن فرص عمل في البلد الجار الكبير.

صور للمشتبه بهم الأربعة في تنفيذ الهجوم نُشرت مع بدء محاكمتهم بموسكو (أ.ف.ب)

صحيح أن الرواية الرسمية الروسية وجهت أصابع الاتهام إلى أوكرانيا، وربطت الهجوم بـ«الحرب الشاملة» من جانب الغرب على روسيا. وحتى عندما اتضح أن منفذي الهجوم ومن عاونهم في التحرك داخل روسيا ومن زودهم بـالمتفجرات والسلاح والمال ينخرطون مباشرة في صفوف تنظيم «داعش - خراسان»، ظلت موسكو مصممة على روايتها بأن الأجهزة الأوكرانية والغربية استخدمت إرهابيين لتحقيق أغراضها.

نتيجة التحقيقات الأولية فتحت على مخاوف جدية؛ خصوصاً أن المتهمين الـ13 الذين يقبعون حالياً في سجن التحقيق، أعلنوا خلال الاستجواب ارتباطهم بتنظيم «داعش - خراسان» الذي ينشط في منطقة آسيا الوسطى، وبعضهم كان قد مارس نشاطات في داغستان الواقعة في منطقة شمال القوقاز، وتعد الخاصرة الرخوة لروسيا ومركز النشاط المسلّح للمجموعات المتشددة.

مرة واحدة، أعاد هجوم كروكوس إلى الواجهة فزاعة «الإرهاب الإسلامي» الذي عاشت معه روسيا سنوات صعبة. ومرة واحدة بات ملايين المسلمين الذين قادتهم أحوالهم المعيشية القاسية للهجرة من أوطانهم في قفص اتهام كبير، حتى وصل الأمر إلى أن تصفهم تعليقات في وسائل إعلام حكومية بأنهم «قنبلة موقوتة» تهدد روسيا.

من جحيم الفقر إلى دائرة الاتهام

يعيش في روسيا وفقاً لتقديرات دوائر الإحصاء نحو 17 مليون أجنبي. وهو رقم كبير للغاية بالنسبة إلى بلد لا يزيد عدد سكانه على 144 مليون نسمة، ولا يشجع تقليدياً على الهجرة إليه، كما أنه لا يمنح امتيازات للمهاجرين الجدد.

بين هؤلاء نحو 10 ملايين نسمة من جمهوريات آسيا الوسطى الخمس (كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وتركمانستان).

قوات الأمن الروسية تنتشر في الميدان الأحمر بموسكو عقب أسبوع من هجوم دامٍ في قاعة للحفلات قرب العاصمة الروسية (أ.ف.ب)

يصعب وضع أرقام مؤكدة عن نسب المهاجرين غير الشرعيين منهم، أي أولئك الذين اجتازوا الحدود وخالفوا قوانين الهجرة والإقامة منذ سنوات. إذ تراوح تقديرات الأجهزة المختصة لحجم هذه الفئة بين أربعة ملايين وسبعة ملايين مهاجر ليسوا مسجلين لدى دوائر الدولة.

يعيش الجزء الأعظم من هؤلاء في ظروف معيشية قاسية، داخل تجمعات مغلقة، غالباً ما تكون مستودعات تابعة لأصحاب الأعمال في مجالات مختلفة على رأسها قطاع البناء. ويتكدس عشرات من العمال الوافدين داخل غرف ضيقة وغير مجهزة للسكن. أو يختار كثيرون أن يسكنوا داخل ما يسمى «الغرف المطاطية» وهو تعبير رائج لشقق سكنية ضيقة أو مبان ينحشر فيها عدد كبير من الوافدين يفوق قدرتها الاستيعابية الطبيعية، طمعاً في توفير أجرة المسكن وتقليص النفقات الخاصة بالمأكل والنفقات المعيشية الضرورية الأخرى.

ولا تعد مشكلة العمالة الوافدة حديثة العهد في روسيا، فقد ظلت تؤرق الأجهزة الخاصة على مدى سنوات طويلة، لكن التركيز عليها يشتد أو يتراخى وفقاً للظروف التي تعيشها البلاد. فمثلا زادت ظروف الحرب في أوكرانيا من الحاجة للعمالة الرخيصة، واستفادت قطاعات اقتصادية واسعة من «جيش العمال الوافدين» لتطوير أعمالها وخصوصاً في مجالات البناء والنقل والتنظيفات وبعض الصناعات والخدمات الأخرى.

أيضاً، أطلقت موسكو سلسلة تسهيلات للإفادة من هذا الجيش البشري الكبير عبر تبسيط إجراءات الحصول على الجنسية وتصويب الوضع القانوني للمهاجرين غير الشرعيين في مقابل الخدمة على الجبهة لفترات محددة لسد النقص في القوة البشرية المطلوبة.

في المقابل، فإن هجوم كروكوس أعاد التذكير بالخطر الكامن، وبرزت تحذيرات من سهولة تجنيد إرهابيين في مقابل مبالغ مالية محدودة. يكفي القول إن منفذي هجوم كركوس حصلوا على مبلغ متواضع للغاية مقابل تنفيذ الهجوم الدموي، ودلت الاعترافات على أن المخططين حولوا مبالغ نقدية بقيمة نصف مليون روبل (5000 دولار) ووعدوا بدفع مبلغ مماثل بعد إتمام العملية.

مباشرة بعد الهجوم، رفعت روسيا درجة التأهب حيال مشكلة العمالة الوافدة إلى أقصى مستوى.

جاءت إشارة البداية من الرئيس فلاديمير بوتين الذي أمر بتجديد جذري لسياسات الهجرة. ودعا أمام مجلس إدارة وزارة الداخلية، وكالات إنفاذ القانون والخدمات الخاصة بالعمل مع الوزارة والتنسيق مع الحكومة والإدارة الرئاسية، لتحقيق هذا الهدف.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أرشيفية - د.ب.أ)

مباشرة بدأت حملة واسعة من عمليات الدهم والملاحقة، على أماكن تجمع المهاجرين وظهرت على الفور «الحاجة إلى وضع قواعد بيانات إلكترونية رقمية حديثة».

كما أطلقت وزارة الداخلية مشروع قانون لتشديد سيطرة الدولة على مجال الهجرة. ووفقاً للنسخة الجديدة من القانون يخضع الأجانب لتدابير صارمة للغاية وتخفض أيضاً فترة إقامتهم في البلاد إلى 90 يوماً في السنة.

سفر معاكس

بعد الهجوم الإرهابي على كروكوس مباشرة، سجلت الدوائر المختصة عمليات سفر جماعي للعمال الوافدين، وخصوصاً بين مواطني طاجيكستان.

وقال نائب وزير العمل في الجمهورية، شاخنوزا نوديري، إن عمليات الفرار الجماعي «لا تتعلق على الأرجح بالمضايقات الأمنية، بل بتفشي الخوف والذعر من عمليات انتقامية محتملة».

رغم ذلك، توقعت الوزارة أن يكون التدفق ظاهرة مؤقتة ودعت مواطنيها إلى عدم الاستسلام للرسائل الاستفزازية التي انتشرت بكثرة على الإنترنت وحملت تهديدات لمواطني طاجيكستان في روسيا.

ووفقاً لوزارة العمل في طاجيكستان، يقطن في روسيا أكثر من مليون طاجيكي غالبيتهم الساحقة عمال معدمون لا يتمتعون بخبرات عملية أو كفاءات مهنية.

في عام 2023، قدم 627 ألف طاجيكي إلى روسيا للعمل. ووفقاً لتقارير مؤسسة «روس ستات» الإحصائية، فإن هذا يعادل ربع عدد الأجانب الذين دخلوا البلاد.

عمّال ممنوعون من العمل

اللافت أنه في غمار النقاشات حول «الخطر» الذي يحمله المهاجرون من منطقة آسيا الوسطى، وعلى خلفية الأجواء الأمنية المكثفة بعد الهجوم، سارعت بعض المناطق والقطاعات إلى وضع تشريعات جديدة تحظر توظيف العمال الوافدين، وخصوصاً في المناطق الحساسة والحدودية مع أوكرانيا؛ حيث تتنامى المخاوف من استخدام متشددين لشن هجمات.

وهكذا، أعلنت سلطات شبه جزيرة القرم حظر استخدام العمالة الوافدة في عشرات المهن في هذه المنطقة.

وبدأت عمليات واسعة لـ«تطهير» الإقليم منهم. وفقاً للعملية الجارية حالياً سيتم حتى نهاية عام 2024، توسيع الحظر الشامل على جذب الأجانب للعمل في إنتاج المحاصيل وصيانة المباني والأقاليم وجمع النفايات والتخلص منها. ووقع رئيس الإقليم المعين من جانب موسكو سيرغي أكسينوف مرسوماً بهذا الشأن.

عمال تنظيف النوافذ يستخدمون الحبال الهوائية لتنظيف نوافذ مطار دوموديدوفو في موسكو ويملكه رجل الأعمال الروسي دميتري كامينشيك (خدمة غيتي للصور)

ووفقاً للتدابير الجديدة سيتعرض المهاجرون للمسؤولية الجنائية والطرد من البلاد بسبب أي انتهاك.

وتشمل قائمة المجالات التي يتم فيها فرض قيود على عمل الأجانب إنتاج المحاصيل وتربية الماشية والصيد، والتعدين، وإنتاج الأغذية والمشروبات، وتوفير الكهرباء والغاز، وجمع ومعالجة مياه الصرف الصحي. كما يُحظر على العمال المهاجرين في شبه جزيرة القرم العمل في تجارة الجملة والتجزئة (باستثناء مبيعات السيارات والدراجات النارية)، في التلفزيون والراديو، في المعاملات العقارية في التعليم، في مجال الرياضة والترفيه والتسلية. بالإضافة إلى ذلك، لن يتمكن الأجانب في المنطقة من مزاولة أعمال النشر والتأجير، أو العمل في مجال تكنولوجيا المعلومات، في المكتبات ودور المحفوظات والمتاحف.

ووفقاً لخبراء سوف يؤثر الحظر المفروض على توظيف المهاجرين على إنتاج المنتجات المطاطية والبلاستيكية، ومصايد الأسماك وتربيتها، والهندسة المعمارية والتصميم الهندسي، ومجالات التوظيف واختيار الموظفين.

أثر بالغ على الإنتاج

في مناطق أخرى من البلاد بينها العاصمة موسكو قرر عدد من مديري شركات الإدارة إعطاء الأولوية عند التوظيف للسكان المحليين. لكنْ هذه التدابير وكثير مثلها أثارت مخاوف جدية لدى قطاعات اقتصادية واسعة. ويقول سيرغي كوستيوتشينكوف، رئيس لجنة الإسكان والخدمات المجتمعية بغرفة التجارة والصناعة: «على مدى السنوات العشرين الماضية، ركزت روسيا على جذب المهاجرين غير المهرة، واليوم باتوا يشكلون جزءاً كبيراً من اقتصادنا». مشيراً إلى أنه «من المستحيل الآن رفض خدماتهم».

وأوضح الخبير الاقتصادي فياتشيسلاف بوستافنين أنه «سوف تنهار الخدمات السكنية والمجتمعية والزراعة والنقل وغيرها من الصناعات». وأضاف أنه لا يوجد مثال واحد في العالم تطورت فيه دولة ذات عدد سكان منخفض دون تدفقات الهجرة.

وباتت روسيا حالياً، وفقاً للخبراء تواجه معضلة واختياراً صعباً بين المتطلبات الأمنية والحاجة إلى تشديد خطط السيطرة الكاملة على حياة المهاجرين في الاتحاد الروسي والمحافظة في الوقت ذاته على تلبية الحاجة الماسة إليهم بين أصحاب العمل الروس.

وهو أمر أوضحه الأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي إيمانجالي تاسماجامبيتوف عندما قال إنه من المهم للغاية التصرف «بهدوء» وعدم الانجرار للأفعال العاطفية، محذراً من «أخطاء يمكن أن تكون لها عواقب سلبية للغاية وطويلة الأمد». في هذا الإطار يضع المسؤول الإقليمي بين المخاطر، التأثيرات على مستوى العلاقات ببلدان الجوار الروسي، وزاد أنه «من المهم للغاية عدم السماح بتدهور الوضع في مجال سياسة الجنسية والهجرة في روسيا. وإذا تم اتخاذ خطوات تؤدي إلى الضغط على العمالة المهاجرة من دول آسيا الوسطى، فإن ذلك سيؤدي إلى نزوحهم الجماعي. المشكلة، بالطبع، ليست فقط أن هذا سيؤثر سلباً على قطاعات معينة من الاقتصاد الروسي؛ حيث يوجد نقص موضوعي في العمال، ولكن أولاً وقبل كل شيء، سيحفز المشاعر المعادية لروسيا في بلدان الجوار». وحذّر تاسماجامبيتوف من أن هذا المسار سوف يقود إلى تلبية أهداف المبادرين والمنفذين للهجوم الإرهابي في قاعة كروكوس.

هل ينجح «داعش» في التمدد داخل روسيا؟

واحد من الأسئلة الرئيسية التي طرحها إرهاب كروكوس بقوة، حول قدرة تنظيم «داعش خراسان»، الذي تحول وفقاً لخبراء إلى الكتلة الرئيسية للتنظيم على المستوى الدولي، على التمدد داخل روسيا وتشكيل خطر جدي مستقبلي.

لفت الأنظار في هذا السياق أن التنظيم أعلن مسؤوليته عن العملية في منطقة تعد تقليدياً منطقة نشاط فرع شمال القوقاز، بمعنى أنه استخدم هجوم كروكوس للإعلان رسمياً عن انتقال نشاطه إلى الداخل الروسي، ووضع فرع شمال القوقاز تحت قيادته مباشرة. ويدعم هذه الفرضية أن العناصر التي قامت بتسهيل تنقل المنفذين وتزويدهم بالسلاح هم من المتشددين في داغستان.

جندي أفغاني يتفقد مبنى تضرر خلال عملية ضد تنظيم «داعش خراسان» في منطقة آسين في أفغانستان ويعتقد أن حافظ سعيد خان، أمير التنظيم في مقاطعة خراسان، قُتل خلالها (أرشيفية- خدمة غيتي للصور).

يقول الخبير الأوزبكي البارز في شؤون الإرهاب، فيكتور ميخائيلوف، إن القائمين على تجنيد متطوعين في روسيا من بين العمال المهاجرين، باتوا ينجحون في تحقيق خطوات واسعة، رغم أنهم يواجهون عقبات في إرسال المجندين إلى مناطق أخرى، بسبب الصعوبات اللوجيستية.

وبحسب ميخائيلوف، فإن التنظيم الدولي يعمل حالياً على تثبيت فكرة مغايرة لمبدأ عمل تنظيم «القاعدة» سابقاً، الذي ركز على «الهجرة من أجل الجهاد»، فنشاط «داعش» كما يقول الخبير يقوم في روسيا على «إحلال الخلايا الجهادية داخل مناطق العدو».

بهذا المعنى تشكل روسيا نقطة حساسة، لأنها أحد مراكز التوظيف النشط بين العمال المهاجرين الذين يسهل العمل في أوساطهم.

وفي رأي الخبير فإن جميع الهجمات الإرهابية التي ارتكبها «داعش» لها سمات مشتركة، «وهم يعرفون كيفية العثور على منفذين» وكيف يمكن توجيه «الضربات» في المناسبات العامة.

كمثال؛ يقول ميخائيلوف إن مواطني أوزبكستان المقيمين حالياً في روسيا يبلغ تعدادهم نحو مليون و200 ألف، «وهذه الفئات الاجتماعية ضعيفة للغاية، ولدينا دراسة كاملة حول هذا الموضوع. لقد تواصلنا مع القائمين بالتجنيد أنفسهم ومع أولئك الذين تم تجنيدهم، ونعرف جميع خوارزمياتهم جيداً».

يقول ميخائيلوف إن تعبير «القنبلة الموقوتة» الذي تم إطلاقه على المهاجرين من منطقة آسيا الوسطى لا يعكس مبالغة كبيرة لجهة سهولة عمل التنظيم الإرهابي في أوساط العمال الوافدين.

لتوضيح الفكرة، ينطلق من أن «داعش» خلافاً لتنظيم «القاعدة» الذي كان ينشط على وسائل التواصل الاجتماعي، يفضل العمل المباشر مع المرشحين للتجنيد. كما أن التجنيد المباشر لا يحتاج إلى فترات زمنية طويلة لإعداد كوادر متشددة نفسياً وقتالياً، كما كان يفعل تنظيم «القاعدة»، لأن الحاجة هنا تتلخص في إعطاء تعليمات بتنفيذ عملية محددة هدفها الترويع إلى أقصى درجة، و«إذا نجح المنفذ في الفرار بعد ذلك فهذا جيد وإذا لم ينجح فلا بأس».

ووفقاً لهذه الرؤية، يرى الخبير أن فرص توظيف الإرهابيين في روسيا كبيرة للغاية، لأن تلك الفئات الهشة الضعيفة تعد وسطاً جيداً جداً للتعامل معها.

ويضيف: «هم ببساطة شبه متعلمين، ولا يعرفون القرآن جيداً، ويتغذون على قصاصات من المواعظ وما يوضع في آذانهم. مع هؤلاء المرشحين يبدأ مسؤول التوظيف عملاً محدداً. ولذلك، في أغلب الأحيان يجد القائم بالتجنيد مجنديه المحتملين في المساجد بين الشباب المتحمسين دينياً. وفي الوقت نفسه، فإنهم صادقون في دوافعهم، ويتجنبون، على سبيل المثال، المخدرات والكحول، مثل المؤمنين المسلمين الحقيقيين».

وتشير الإحصاءات التي استند إليها الخبير إلى أنه «بين كل 10 أشخاص يعمل معهم المجند، واحد فقط مستعد للذهاب نحو عمل تفجيري أو هجوم مسلح». ورغم أن النسبة ليست كبيرة جداً لكنها تبقى خطيرة للغاية.

أيضا يرى ميخائيلوف أن تمدد نشاط «داعش» في روسيا يصنع مشكلتين كبيرتين: «الأولى هي أن رُهاب المهاجرين سوف يتطور داخل البلاد. والمشكلة الثانية هي مع مصير هؤلاء المهاجرين الذين سيضطرون إلى الخروج من (بلد الكسب)، وسيضطرون إلى العودة إلى ديارهم. فماذا سيحدث إذا عاد ما لا يقل عن 150 إلى 200 ألف مهاجر إلى دول آسيا الوسطى؟». ويتابع قوله: «ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن كل مهاجر يطعم خمسة أفراد من أسرته على الأقل. هذا سوف يخلق وضعاً صعباً وخطيراً للغاية، ويجعل تجنيد إرهابيين جدد في هذه البيئة أمراً بسيطاً للغاية». وهكذا فإن «ولاية خراسان» وفقاً له، بعد أن نفذت الهجوم الإرهابي في روسيا: «حققت مائة في المائة من أهدافها».



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.