كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟

«الشرق الأوسط» تنشر الحلقة الأخيرة لقصة توسعة الحرم المكي

كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟
TT

كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟

كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟

تناول الفصلان الأولان من قصة تصميم التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام، بدايات الموضوع بتشكيل فريق من المختصين من أساتذة الجامعات السعودية وغيرهم من الخبراء العالميين لدراسة المشروع المقترح للتوسعة، وذلك بناء على الأمر السامي الذي صدر في عام 1429هـ - 2008م، مع ذكر أبرز أسماء رؤساء اللجان والفرق الفنية المشاركة في الفريق الذي قام بتقويم وضع الحرم المكي من خلال الدراسات والمسوحات الميدانية، إضافة إلى تقويم التصميم المقترح، علاوة على تقديم رؤية تقنية للمسجد الحرام قام بها فريق من أساتذة وباحثي معهد ماساتشوستس للتقنية (إم آي تي MIT ). كذلك ذكرت أسماء فريق الباحثين الذين قدموا تلك الأبحاث، وكيف تمت الاستفادة من بعض الأفكار والمقاربات التصميمية والرؤى المستقبلية التي قدمها كبار المعماريين والمكاتب الاستشارية العالمية وبعض المكاتب والجامعات السعودية، في تطوير الفكرة التصميمية التي قدمتها جامعة الملك سعود وتم اختيارها من المقام السامي.

تصميم جامعة أم القرى المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف

يتطرق هذا الفصل إلى إعادة تشكيل اللجان والفرق التخصصية، ومنهجية العمل مع الاستشاري (دار الهندسة) والمقاول (مجموعة بن لادن)، والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي (رئاسة الحرمين)، إضافة إلى مسارات العمل وآلية عمل الفرق، وتشكيل الفريق المؤقت الذي باشر تطوير التصميم المقترح، وكان غالبية أعضائه من كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود، بحكم أنها الجهة صاحبة الفكرة التصميمية.

وكان الفريق باشر تلك المهمة في مكاتب «دار الهندسة» بالقاهرة، وبالتضامن مع فرقها الفنية، وصولاً إلى اعتماد الملك عبد الله رحمه الله للمسار التطويري (التجزئة على مستوى الكتلة والحيز الفراغي الأصغر)، وصولاً إلى الفكرة التخطيطية والتصميمية لمشروع توسعة الملك عبد الله بصورتها التي انتهت إليها.

ويلفت الفصل إلى عمل فريق الوزارة مع بدء التنفيذ وآلية العمل والتنسيق مع المقاول خلال تلك المرحلة، وتزامن العمل مع طرح فكرة مشروع رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف وما تم بعدها، وتشكيل فريق فني ميداني من جامعة أم القرى لتولي بعض المهام، ثم كيفية انتهاء مهمة فريق الوزارة. كذلك سيتم ذكر المشروعات الخمسة الرئيسية التي دشنها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ضمن المشروع الشامل للتوسعة السعودية الثالثة، مروراً ببعض القصص والمواقف المتعلقة بمشروع التوسعة وأعضاء الفريق، والوقوف عند أهمية هذه التجربة وفرادتها وكيف يمكن الاستفادة منها في المشروعات التي تنفذ اليوم.

انطلاق المرحلة الثانية

فور صدور التوجيه السامي بتطوير التصميم المقترح من جامعة الملك سعود، انطلقت أعمال المرحلة الثانية للمشروع في شهر ربيع الأول عام 1430هـ - مارس (آذار) 2009م، من خلال عدد من المهام والأعمال التي تضمنها التوجيه وأوكل تنفيذها إلى فريق الوزارة.

وحدد الفريق الأساس الذي تولى أعمال المرحلة السابقة، وآلية العمل ومنهجيته لهذه المرحلة بما يضمن جودة دراسة المشروع ومستوى تخطيطه وتصميمه وتميزه من الناحية المعمارية والهندسية والتشغيلية والأمنية، فضلاً عن تحقيقه مبادئ الاستدامة ومفهومها، وإحداث نقلة نوعية في عمارة المسجد الحرام ترتقي إلى مستوى تطلعات القيادة السعودية الرامية إلى تيسير أداء العبادة لقاصدي المسجد الحرام، والنهوض بمستوى تقديم الخدمة لهم، وما تحمله هذه التطلعات من مضامين عميقة ورؤية واضحة، ترنو إلى مستوى عالٍ من التميز والجودة لمشروع التوسعة، ووفقاً لما نص عليه التوجيه السامي، وتلخصت آلية العمل في هذه المرحلة كما يلي:

أولاً: اللجنة الثلاثية

حلت بدلاً من اللجنة التوجيهية السابقة، لجنة ثلاثية مكونة من وزير التعليم العالي (د. خالد العنقري)، والرئيس العالم لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي (الشيخ صالح الحصين)، ورئيس «مجموعة بن لادن السعودية» (م. بكر بن لادن)، وهي تعمل كمرجعية للمشروع. وكان ممثلو فريق الوزارة يعرضون مخرجات العمل الجوهرية على هذه اللجنة بين فترة وأخرى، ويطلعونها على وضع المشروع ومساره وتحدياته.

ثانياً: إعادة تشكيل الفرق التخصصية

أُعيد تشكيل الفرق التخصصية للعمل ضمن إطار المشروع وفق الآتي:

أولاً، الفريق الفني في وزارة التعليم العالي الذي ضم عدداً من الفرق الفنية المتخصصة والمتكاملة، من مختلف منسوبي الجامعات السعودية. وتعد هذه الفرق الذراع الفنية لإدارة المشروع المعنية بتحديد وتوجيه الدراسات اللازمة والتصاميم المطلوبة، وكذلك مراجعة واعتماد الدراسات والتصاميم المقدمة من الاستشاري (دار الهندسة)، وجاء تشكيل الفرق على النحو الآتي:

الإدارة الفنية العامة: برئاسة أ.د. صالح بن حامد السيد.

الفريق المعماري: برئاسة د. سمير بن محمود زهر الليالي.

الفريق الإنشائي: برئاسة أ.د. يوسف بن عبد الله السلوم.

فريق الحركة والحشود والخدمات المساندة: برئاسة أ.د. عبد الرحيم بن حمود الزهراني.

فريق الكهروميكانيكا والمرافق الصحية: برئاسة د. إبراهيم بن عمر حبيب الله.

فريق البيئة والاستدامة: برئاسة د. خالد بن محمد الجماز.

ثانياً، هناك الفرق الفنية التخصصية لدى الاستشاري (دار الهندسة) والمقاول (مجموعة بن لادن السعودية)، وتعمل بالتضامن والتنسيق التام مع الفريق الفني في وزارة التعليم العالي على إعداد الدراسات والتصاميم اللازمة بتوجيه من الفريق الفني في الوزارة، الذي يقوم بمراجعتها وتقويمها ومن ثم اعتمادها. وأخيراً ممثل إدارة المشروعات في الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي.

ثالثاً: منهجية تنسيق الفريق مع الاستشاري والمقاول ورئاسة الحرمين

لعله من المناسب إعطاء نبذة عن «دار الهندسة» (استشاري المشروع)، التي ارتبطت بعلاقة استراتيجية مع «مجموعة بن لادن السعودية» وغدت استشاري مشروعات الحرمين الشريفين. تأسست «دار الهندسة» عام 1956 (1376هـ) على يد 4 من أساتذة كلية الهندسة في الجامعة الأميركية ببيروت؛ وهم كمال الشاعر ونزيه طالب وخليل معلوف وسمير ثابت، ونمت وتطورت عبر السنوات لتصبح إحدى كبرى الشركات المهنية والمكاتب الاستشارية الهندسية حول العالم. وفي الثمانينات من القرن الماضي، تشابكت «مجموعة بن لادن السعودية» وترابطت مع «دار الهندسة»، الأمر الذي مكن الأخيرة ومن خلال مكتبها بالقاهرة تحديداً، من أن تصبح «الصندوق الأسود» لمشروعات الحرمين الشريفين، بحيث بات لديها كل المعلومات والخرائط والمخططات والدراسات والتصاميم والمسارات، وغيرها من المعلومات المهمة والمرتبطة بمشروعات الحرمين الشريفين. هذا الكم من المعلومات إضافة إلى كوادرها المهنية المتميزة جعل دورها مهماً ومحورياً في تطوير التصميم.

هيكلية تنظيمية لفرق العمل

وقد انتهج الفريق الفني في وزارة التعليم العالي أسلوب عمل فريداً يعتمد على العمل الجماعي المتكامل داخل فريق الوزارة بتخصصاته المختلفة، وعلى التنسيق المباشر والتكامل مع الاستشاري والمقاول ورئاسة الحرمين خلال مراحل العمل المشترك. واتسم المنهج بالمرونة والكفاءة الفاعلة والعمل بروح واحدة وعقول متعددة، وبالحرص على اقتناص كل فكرة تطويرية واعدة في أي مجال تخصصي بغض النظر عن مصدرها، ومناقشتها وتعزيزها ودعمها وإثرائها من الجميع.

واشتملت منهجية العمل الجماعي هذه على ورش العمل الدورية، حيث نُظمت مجموعة من ورش العمل التخصصية الدورية لتدارس وتنظيم العمل في مشروع تصميم توسعة المسجد الحرام وضبط جودته، ومناقشة المهام الفرعية المرتبطة به، ومتابعة أعمال تطوير التصميم وتوجيهه. وعُقدت ورش العمل هذه بحضور الفرق التخصصية المختلفة في وزارة التعليم العالي والاستشاريين في «دار الهندسة» و«مجموعة بن لادن السعودية» ورئاسة الحرمين، وبحضور خبراء عالميين في الاختصاصات المختلفة، استعين بهم أحياناً بحسب متطلبات مرحلة العمل.

الشيخ صالح الحصين والدكتور صالح السيد والدكتور يوسف السلوم أمام مجسم التصميم قبل تطويره

كذلك، اعتمدت المنهجية على تشكيل فرق عمل تصميم مشتركة لتسريع العمل ودعم تطوير تصميم مشروع التوسعة ولرفع مستوى الجودة ودقة الأداء. وشُكلت فرق عمل موحدة، بحسب ما تقتضيه المرحلة، مكونة من أعضاء بالفرق التخصصية بوزارة التعليم العالي ومن الاستشاري والمقاول ورئاسة الحرمين. وقد أنيط بها مهمة تطوير التصاميم المعمارية والهندسية لمشروع التوسعة المعتمد من المقام السامي الكريم، بحيث يقوم فريق الوزارة بمتابعة وتوجيه ودعم الأعمال المقدمة من الاستشاري (دار الهندسة) عبر التكامل مع فرقه المتخصصة والعمل معها، والمساهمة المشتركة الفاعلة بالأفكار والمقترحات التطويرية، كما أنيط بالفرق التخصصية في فريق الوزارة مهمة اتخاذ القرارات التصميمية والإشراف على مراجعة ضبط وتوحيد منظومات الأنظمة الأخرى في لغة معمارية وهندسية موحدة.

رابعاً: مسارات العمل

لما كانت المرحلة الثانية من المشروع تقتضي مراجعة وتقويم مخرجات تطوير تصميم مشروع التوسعة وتعزيزه بالأفكار الفنية التطويرية، اتخذ العمل في هذه المرحلة المسارات المتتابعة الآتية:

مسار البحث والبرمجة: تضمن هذا المسار إعداد الدراسات اللازمة لمشروع التوسعة ووضع المعايير المرجعية التصميمية العامة والتفصيلية والبرنامج الفراغي للمشروع وتحديد المساحة البنائية التقديرية للتوسعة.

وقد شرع فريق وزارة التعليم العالي ضمن هذا المسار في دراسة وتحليل جميع المقترحات التصميمية (الرؤى المعمارية) التي قدمت في المرحلة الأولى من قبل دور الخبرة المحلية والعالمية بهذا المجال، في ورشة عمل بالتعاون مع الاستشاري (دار الهندسة) و«مجموعة بن لادن السعودية»، وبمشاركة الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وخبراء محليين تم إشراكهم مؤقتاً في هذا المهمة. وتم استخلاص بعض الأفكار والحلول التصميمية الواعدة من هذه المقترحات.

كذلك حدد فريق الوزارة الدراسات اللازمة للمشروع وصاغ الإطار العام للملخص التصميمي التفصيلي في جميع الجوانب الفنية للمشروع، بالإضافة إلى تحديد نطاق البرنامج الفراغي، وتقدير مساحة البناء، بينما عمل الاستشاري (دار الهندسة) على إعداد المعايير التفصيلية والبرنامج المعماري التفصيلي، وذلك بالتنسيق مع فريق الوزارة الذي تولى مراجعتها واعتمادها.

مسار تطوير تصميم مشروع التوسعة: عني هذا المسار بتطوير تصميم مشروع التوسعة من قبل الاستشاري (دار الهندسة) وبالتعاون والتنسيق المباشر والآني مع الفريق الفني في وزارة التعليم العالي.

وسعى الفريق الفني بالوزارة ضمن هذا المسار إلى توجيه ومتابعة أعمال تصميم مشروع التوسعة والمشاركة الفاعلة والجوهرية في تطويره فكرياً وفنياً؛ منذ البداية وحتى عمل التصاميم المعمارية والهندسية التطويرية وتفاصيلها ومراجعة تطبيقها في أرض الواقع.

ولتنفيذ المهام المتضمنة في هذا المسار بجودة وإتقان، تطلب ذلك تكامل الفريق الفني للوزارة واندماجه أحياناً مع الفرق المتخصصة للاستشاري (دار الهندسة) و«مجموعة بن لادن السعودية» ورئاسة الحرمين، والعمل معاً كفريق عمل موحد متكامل باتباع منهجية التصميم المتكامل لا المتتابع، كالتشاور المستمر والمتبادل بين جميع التخصصات، ما أدى إلى تسريع وتيرة العمل والارتقاء بجودته ونوعيته.

وقد اتسم تشكيل فرق عمل المشروع بالديناميكية والمرونة بما يتوافق مع حاجات العمل وطبيعة مراحل المشروع، بحيث يشارك الأعضاء في مراحل المشروع حسب الحاجة. وتميزت طريقة العمل بروح الفريق الواحد والانسجام بين الأعضاء، وكانوا يتعاملون كزملاء في هذه المهمة السامية، فتتبلور الأفكار والحلول وتطرح من خلال النقاشات الجماعية، دون تمييز بين رئيس ومرؤوس؛ بل إنه كان يُناب بعض الأعضاء في حال غياب المدير الفني العام أو رؤساء الفرق، وكان الجميع يعملون بروح الفريق كما يقال: «الجميع يعمل على طاولة مستديرة».

وأنيط بالفريق خلال انطلاق المرحلة الثانية مهمة ضبط جودة واتجاه تطوير تصميم التوسعة انطلاقاً من الفكرة التخطيطية والتصميمية لمشروع جامعة الملك سعود والمعتمدة من المقام السامي، وكان على الفريق الالتزام بمضامين التوجيه السامي خلال العمل في التطوير، وبالتضامن مع الفريق الفني للاستشاري (دار الهندسة) والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وتطلبت هذه المرحلة تكوين فريق عمل مشترك (مؤقت) برئاسة رئيس الفريق المعماري للمشروع، وعضوية عميد كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود، الذي كان رئيساً لفريق التصميم الأساسي، وعدد من أعضاء هيئة التدريس ممن شاركوا ضمن فريق التصميم الأساسي بالكلية، بحكم أنها الجهة صاحبة الفكرة التصميمية، وذلك كاستشاريين غير متفرغين، كما انضم أيضاً إلى هذا الفريق أعضاء آخرون من كليات العمارة في الجامعات الأخرى، وأصبح بعضهم لاحقاً استشاريين متفرغين.

وعقدت اجتماعات هذا الفريق المؤقت بمقر «دار الهندسة» في القاهرة، وذلك خلال الفترة من 17 جمادى الآخرة 1430هـ - 10 يونيو (حزيران) 2009م، إلى 16 رجب 1430هـ - 9 يوليو (تموز) 2009م.

وأسفرت هذه المهمة التعاونية والتكاملية العاجلة التي استمرت لمدة شهر عن تطوير مسارات تطويرية متكافئة انطلقت جميعها من الفكرة التخطيطية والمعمارية للتصميم المقترح من جامعة الملك سعود والمعتمد من المقام السامي أساساً للتطوير، حيث ارتكزت هذه المسارات التطويرية على المبادئ الآتية:

المسار التطويري الأول: القائم على مبدأ التجزئة على مستوى الكتلة والحيز الفراغي الأوسع.

المسار التطويري الثاني: القائم على مبدأ التجزئة على مستوى الكتلة والحيز الفراغي الأصغر.

والمساران متكافئان، أما الفرق الأساسي بينهما ففي التشكيل المعماري الداخلي للتوسعة.

مخططات للتوسعة الثالثة

وقد قُوّمت مخرجات هذين المسارين التطويريين المتكافئين والمطورين من قبل الفريق ذاته باستخدام معايير محددة، وبتفصيل أدق وضعت بهدف التحقق قبل عرضهما على المقام السامي من أن كلا المسارين يمكن أن يعمل بكفاءة في حال اختياره.

أما معايير تقويم مخرجات المسارات التطويرية فهي:

معايير مرتبطة بالأمن والسلامة وحركة الحشود: الأمن والسلامة ضمن المبنى والفراغات الخارجية - حركة الحشود ضمن المبنى والفراغات الخارجية - حركة الحشود من مبنى المسجد الحرام (التوسعتان الأولى والثانية) وإليه - التعرف المكاني (way finding) - ووضوح الإرشاد للمستخدمين.

معايير مرتبطة بالكفاءة التشغيلية:

العبادية، والمتعلقة خصوصاً بأماكن أداء الصلاة؛ ومنها اتجاه الكعبة وانتظام صفوف المصلين وتحفيز الخشوع.

أداء الأنشطة الأخرى: إلقاء المحاضرات والدروس العلمية والوصول إلى المصاحف والوضوء والسقيا وغيرها.

اقتصاديات التوزيع الفراغي: ترشيد مناطق الخدمات التشغيلية وترشيد ممرات الحركة الأفقية وترشيد مناطق الحركة الرأسية والاقتصاد في حجم شبكات الخدمات (مياه، تكييف، كهرباء، حريق... إلخ).

مرونة إدارة المنشأة: تنظيم توزيع الرجال والنساء بعدة خيارات وتنظيم استخدام أجزاء محددة من المبنى وتنظيم إغلاق أو فتح بعض أجزاء المبنى على المستوى الأفقي، كما تنظيم إغلاق أو فتح بعض أجزاء المبنى على المستوى الرأسي، بالإضافة إلى تنظيم الوصول إلى مبنى التوسعة السعودية الأولى دون الحاجة لفتح مبنى التوسعة السعودية الثالثة للاستخدام، وتنظيم صيانة المنشأة وشبكات الخدمات دون الاختلاط بالمستخدمين في جميع الأوقات، بما في ذلك أوقات الذروة.

معايير مرتبطة بعلاقة التشكيل الفراغي بالجوانب البيئية: الاستفادة القصوى من الإضاءة والتهوية الطبيعيتين وحماية محيط المبنى من العوامل البيئية وترشيد استخدام الطاقة غير المتجددة.

معايير مرتبطة بالجودة الجمالية لعناصر مكونات المشروع: مبدأ الوحدة (Unity) - إثراء تجربة المستخدم للمكان من خلال التنوع المكاني (Variety) - التوازن بين المقياس الإنساني (Human Scale) وتحقيق المهابة الشرفية (Formalty) - الانسيابية (Spatial Interpenetration) - الشفافية (Form Transparency).

معايير مرتبطة بمرونة التنفيذ: مرونة تحديد مراحل التنفيذ (Construction Phasing) - توحيد عناصر البناء (Building Components Standardization).

لقطات لتصاميم المسار التطويري الثاني

العرض والموافقة:

في يوم السبت 18 رجب 1430هـ الموافق 11 يوليو 2009، عُرض المساران التطويريان المتكافئان على الملك عبد الله بن عبد العزيز في قصره بمدينة جدة من قبل أعضاء فريق الوزارة، وبحضور عدد من أصحاب السمو الملكي الأمراء والمعالي الوزراء، من بينهم وزير التعليم العالي ونائبه والرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، إضافة إلى رئيس «مجموعة بن لادن السعودية»، حيث اعتمد حينها المسار التطويري الثاني خياراً لتطوير تصميم مقترح جامعة الملك سعود للتوسعة، وصدرت الموافقة السامية بذلك.

المرحلة الثالثة:

استمر فريق الوزارة في ممارسة أعماله بالكفاءة ذاتها والروح الجماعية المتفائلة والمتفانية، ويشهد لها كل من عايش المشروع أو سنحت له فرصة الاطلاع على العمل من مسؤولين وغيرهم.

وانطلاقاً من مبدأ العمل كفريق واحد بين وزارة التعليم العالي والاستشاري (دار الهندسة)، والمقاول (مجموعة بن لادن السعودية)، والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، سعى الفريق المعماري وجميع الفرق التخصصية الأخرى بالوزارة في فترة تزيد على السنة، وبالتحديد في المدة من 22 رجب 1430هـ الموافق 13 يوليو 2009، إلى 23 رمضان 1431هـ الموافق 2 سبتمبر (أيلول) 2010، في عمل دائب ومتواصل إلى تطوير التصاميم الابتدائية والتصاميم التفصيلية للتوسعة، وذلك من خلال عقد ورش عمل متعددة ومكثفة ولقاءات نقاش ومراجعة متتالية في مقر الاستشاري (دار الهندسة) بالقاهرة أو بيروت حيناً، ومقر فريق الوزارة في كلية علوم البحار بجدة أحياناً أخرى. مع الأخذ في الحسبان تحقيق التكامل في جميع التصاميم المعمارية مع حلول ومقترحات وتصاميم النظم الهندسية (الإنشائية، والكهروميكانيكية، وتغذية المياه والصرف) وغيرها.

وكان العمل في الفريق يسير وفق ما انتهجه منذ بداية تشكيله في المرحلة الأولى؛ على طاولة مستديرة تتلاقح فيها الأفكار والعقول وتسودها روح مهنية واحدة رغم اختلاف الآراء الذي كان يثري العمل ولا يعيقه.

والجدير ذكره في هذه المرحلة أن العمل فيها كان بمنهجية تزامن التصميم والتنفيذ في الموقع (Design-Build Approach)، وهذا احتاج إلى مراعاة عالية للأولويات وضبط دقيق في جدول المهام والوقت وتناسق تام للمهام رغم تعددها وتراكبها وتداخلها.

وبذلك كانت التصاميم والمخططات المعتمدة نهائياً تسلم للمقاول أولاً بأول للتنفيذ المباشر.

جانب من التفاصيل المعمارية الداخلية

يشار هنا إلى أن الحوار الثنائي بين أعمال الموقع وأعمال التصميم كان يغذي بعضها بعضاً، حيث كان تطوير التصميم يستجيب بصورة جادة مع معطيات الموقع، كمسارات زمزم ونحوها مما يستجد ظهوره، كما يستجيب في الوقت ذاته لمتطلبات التنفيذ والتصنيع والتوريد.

نماذج من زخارف وتفاصيل معمارية للتوسعة

ولم يكن العمل في هذه المرحلة مكتبياً أو على الورق أو الرسومات ثنائية الأبعاد، بل كانت التصاميم تمر بـ4 مستويات من العمل المهني التكاملي: التصاميم الورقية والحاسوبية، والمحاكاة الحاسوبية (Digital modeling)، والتجسيم الفيزيائي (physical modeling)، والبناء الفعلي للنماذج التصميمية (mockup) بمقياس 1:1 في ورشة بناء تقع في بحرة بين جدة ومكة المكرمة، خُصصت لاختبارات التصاميم من قبل المقاول المنفذ، ومراجعة ذلك في حركة تغذيات راجعة وتعديلات حتى الوصول إلى التصميم الأكمل، ومن ثم ينفذ على أرض الواقع بصورته النهائية المعتمدة.

وفي هذه المرحلة تمت تغطية جميع جوانب التصاميم الأساسية من مساقط وقطاعات وواجهات داخلية وخارجية وأسقف وأرضيات ونظم صوتية وإضاءة وغيرها، واختيار المواد والعينات، وكثير من الجوانب التصميمية والمواصفات التفصيلية، سواء على المستوى المعماري أو التخصصات الهندسية الأخرى. وسواء كانت التصاميم لمبنى التوسعة الرئيسي، أو لمبنى الخدمات (المصاطب) بكل مكوناتها وعناصرها، أو مبنى الخدمات المركزية للتكييف والمعالجة، الواقع على بعد كيلومترات من التوسعة، أو بما يتعلق بأنفاق المشاة والأنفاق الأخرى تحت جبل الشامية (جبل قعيقعان)، أو الساحات وجسورها وما تحت الساحات من خدمات مواضئ ودورات مياه وغيرها، كل ذلك تمت تغطيته وإنهاء تصاميمه الأساسية وتفاصيلها، وتم اختبارها على أرض الواقع بمقياس 1:1، بل وتنفيذ أهمها فعلياً.

وبعد هذا الإنجاز الضخم من الأعمال والتصاميم، بدا أن مهمة الفريق الفني التابع لوزارة التعليم العالي تقترب من نهايتها، تلك المهمة السامية التي انطلقت بتقويم التصميم المقترح للتوسعة المقدم من «مجموعة بن لادن السعودية»، وانتهت بتطوير التصميم المقترح من جامعة الملك سعود، ومرت خلالها بتكليف الفريق بدراسة عدد من المشروعات النوعية أو الحرجة الإضافية التي أحيلت إليه، وتخص بعض الجهات الحكومية، لكن تلك المشروعات لها قصة ثانية.

كما تزامن عمل الفريق في تطوير تصميم التوسعة مع طرح فكرة دعوة كليات وأقسام العمارة في جامعات الملك سعود، والملك عبد العزيز، وأم القرى، والدمام (الإمام عبد الرحمن الفيصل حالياً)، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، لتقديم مقترحات تصميمية لزيادة الطاقة الاستيعابية للمطاف، وأعد الفريق الأسس والشروط المرجعية لتصميم هذا المشروع.

تصميم جامعة الملك عبدالعزيز المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف

وأسند إلى جامعة أم القرى تطوير تصميمها المقترح في فترة لاحقة بعد انتهاء عمل الفريق، وذلك بالتضامن مع أحد المكاتب الاستشارية العالمية. وتم عرض المقترح على خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله، في قصر الصفا بمكة المكرمة مساء يوم السبت 27 رمضان 1432هـ الموافق 22 يونيو 2011. وكانت الجامعة شكلت لجنة فنية بإشراف مديرها الأستاذ الدكتور بكري بن معتوق عساس، وتولت اللجنة متابعة أعمال تشييد التوسعة السعودية الثالثة التي تنفذها «مجموعة بن لادن السعودية»، إلى جانب مراجعة دراسات وتصاميم مشروع رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف، من خلال فريق فني برئاسة الأستاذ الدكتور فيصل بن فؤاد وفا. لكن تفاصيل تصميم ثم تنفيذ مشروع توسعة المطاف ومراحله تحديداً، وما حصل فعلاً على أرض الواقع، تستحق قصة منفصلة.

تصميم جامعة الدمام (الإمام عبد الرحمن الفيصل حالياً) المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف

المرحلة الأخيرة

بانتهاء المرحلة الثالثة والاطمئنان على سلامة مخرجات تصاميم تطوير مشروع التوسعة الثالثة، بل وتنفيذ أجزاء منها، لم يتبقَّ حينذاك إلا مهمة مواصلة العمل في متابعة الرسومات التفصيلية لبعض الأجزاء ومتابعة تنفيذ ما تم اعتماده سابقاً في المرحلة الثالثة، مثل منظومة الاهتداء ومنظومة صحة المنشأة التي اعتمدت توجهاتها وبعض متطلباتها، بعد هذا كله رأت الوزارة وجاهة تجديد الدماء في الفريق، فتم إنهاء عمل الفريق الأساسي الذي بدأ منذ اليوم الأول حتى انقضاء المرحلة الثالثة بخطابات شكر خاصة بكل فرد منهم. وحينذاك رجع أعضاء الفريق الأساسي إلى مواقعهم بالجامعات، والبعض رأى الانضمام لـ«مجموعة بن لادن» للعمل هناك.

الأمير نايف والأمير خالد الفيصل يستمعان لشرح من الدكتور سمير زهر الليالي

وتزامناً مع هذا التغيير انتهت أيضاً مهمة اللجنة الثلاثية، وأسندت بعد ذلك بعض مهام فريق الوزارة إلى فريق جامعة أم القرى الذي توسعت مهامه الفنية والإدارية، ليصبح اسمه «اللجنة الفنية لمشروعات توسعة المسجد الحرام والعناصر المرتبطة به».

ومن المهم الإشارة هنا إلى ملخص الفكرة التخطيطية والتصميمية لمشروع التوسعة بصورتها التطويرية التي انتهت إليه، كما يلي:

يتكون مشروع التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام من جزأين رئيسيين.

الجزء الأول: ويقع في منطقة الشامية بالجهة الشمالية من المسجد الحرام، ويشتمل على المبنى الرئيسي للتوسعة، والمصاطب المتدرجة والمرافق الخدمية الملحقة بها، إلى جانب الأفنية والساحات المفتوحة.

الجزء الثاني: ويقع في منطقة التيسير على بعد 2 كم في الجهة الشمالية الغربية من المسجد الحرام، ويشتمل على محطة خدمات مركزية لخدمة المشروع تتضمن محطة تبريد مياه التكييف، والمولدات الاحتياطية، ومعالجة المياه الرمادية، والتخلص من النفايات، وورش الصيانة ونحوها.

وقد اعتمدت الفكرة التخطيطية لتصميم مشروع التوسعة السعودية الثالثة على مبدأ «احترام مركزية الكعبة المشرفة وصفوف الصلاة، وتجزئة الحشود». لذا فقد تم تشكيل المشروع عن طريق توظيف محاور إشعاعية منطلقة من الكعبة المشرفة تقسم المشروع إلى أجزاء تتقاطع مع قطاعات حلقية دائرية مركزها الكعبة المشرفة، كالآتي:

القطاعات الحلقية الدائرية: تشكل مكونات المشروع وتتضمن:

المبنى الرئيسي: يتكون من 3 أجزاء رئيسية تقع بين 4 محاور إشعاعية.

الأفنية الخارجية المفتوحة: تقع شمال وجنوب المبنى الرئيسي.

المصاطب المتدرجة ومباني المرافق الخدمية: تقع شمال الأفنية الخارجية المفتوحة.

الساحات الخارجية تقع حول المشروع من الجهات الشرقية (ساحة المسعى ومنطقة المروة) والغربية (ساحة باب العمرة وشارع أم القرى).

المحاور الإشعاعية:

تشكل هذه المحاور الإشعاعية جسوراً وممرات للحركة الأفقية والرأسية. وتقسم هذه المحاور للمشروع إلى أجزاء يمكن لكل منها احتواء عدد محدد من الحشود، مما يدعم من انسيابية وسلاسة حركة الحشود وتدفقهم وتعريفهم ويعمل على تحقيق أمنهم وسلامتهم. كما تحتوي على مجموعة الخدمات المساندة لخدمة تلك الحشود وتربط هذه المحاور بين أجزاء وعناصر المشروع.

وقد اعتمدت الفكرة الأساسية لجامعة الملك سعود التي انطلق تطوير التصميم (المشروع) منها على مبدأ «الوحدة الوظيفية النموذجية» التي تمثل وحدة بنائية متكاملة في وظائفها وخدماتها، ويمكن تكرارها في اتجاه المحاور الإشعاعية، أو في اتجاه القطاعات الحلقية الدائرية لتكوين الكتل البنائية للمشروع التي تكوّن في مجموعها تشكيلاً عمرانياً وظيفياً مترابطاً يلبي المتطلبات الرئيسية للمشروع، ويتجانس مع مبنى المسجد الحرام ويراعي طبوغرافية الموقع. ويمكن من خلال هذه الوحدات البنائية تحقيق ما يلي:

تجزئة الحشود إلى أجزاء محددة يمثل كل منها الحجم الأمثل الذي يمكن التعامل معه بصورة تحقق الأمن والسلامة وتساعد في انتظام صفوف المصلين وتمكنهم من أداء الشعائر التعبدية بسكينة وخشوع.

توفير الخدمات والوظائف الحيوية للمستخدمين بصورة متكاملة من قاعات الصلاة والخدمات الملحقة بها.

توفير المرونة اللازمة لتشغيل المبنى؛ مثل إمكانية استخدام أجزاء من المبنى في كل دور فقط أو استخدام أدوار محددة فقط بحسب الحاجة خلال المواسم المختلفة، مع إمكانية تخصيص مواقع مصليات النساء والرجال بشكل مرن.

تيسر أعمال الصيانة لشبكات النظم الهندسية في مستويات ومسارات منفصلة تماماً للمستخدمين، وصيانة الفراغات الداخلية لكل وحدة بنائية دون التأثير على الأداء الوظيفي للوحدات عن حركة الأخرى.

تصميم مكونات قياسية نموذجية لكل العناصر والتفاصيل المستخدمة بالمشروع المعمارية والنظم الهندسية.

دعم وتيسير استراتيجيات مراحل التنفيذ أو التمدد للمستقبلي.

إثراء التشكيل الفراغي وتحقيق الجودة الجمالية لعناصر المشروع مع إمكانية تميز كل وحدة بنائية بشخصية مستقلة تحقق سهولة التوجيه والإرشاد المكاني في كل منطقة من مناطق المشروع.

البهو الرئيسي للتوسعة في المراحل النهائية

وماذا بعد؟

توفي الملك عبد الله رحمه الله في 3 ربيع الثاني 1436هـ الموافق 23 يناير (كانون الثاني) 2015، وأكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله، فور توليه مقاليد الحكم، مواصلة العمل بواجبات ومسؤوليات خدمة الحرمين الشريفين التي تشرف بها ملوك البلاد السابقون، وتوفير الأمن والراحة والطمأنينة لضيوف الرحمن. وتأكيداً لحرصه على كل ما من شأنه أداء قاصدي المسجد الحرام لمناسكهم بكل يسر وراحة، تفقد الملك سلمان يوم السبت 12 شعبان 1436ه الموافق 30 مايو (أيار) 2015، مراحل مشروع التوسعة السعودية الثالثة للحرم المكي، ووجه بتسخير كل الإمكانات والمتطلبات التي يحتاج إليها المسجد الحرام ومشروع التوسعة. وقال: «سأنفذ وصية الملك عبد الله وقد أوصاني بالمشاريع في مكة».

خادم الحرمين الشريفين يدشن عدد من المشاريع الرئيسية ضمن المشروع الشامل للتوسعة السعودية للحرم المكي(واس)

وفي يوم 24 رمضان 1436هـ الموافق 11 يوليو 2015، دشَّن الملك سلمان 5 مشروعات رئيسية ضمن المشروع الشامل للتوسعة السعودية الثالثة، الذي تشرف على تنفيذه وزارة المالية، وهي: مشروع مبنى التوسعة الرئيسي، ومشروع الساحات، ومشروع أنفاق المشاة، ومشروع محطة الخدمات المركزية للحرم، ومشروع الطريق الدائرية الأول.

قصة تصميم التوسعة ليست قصة أشخاص، أو جامعات، أو شركات أو استشاريين، أسهم كل منهم بدوره وجهده، ولكنها قصة عمل مهني مشرف، وقبل ذلك وبعده قصة قيادة نذرت نفسها لخدمة الحرمين ودولة سخرت مواردها لأمن وسلامة وراحة قاصديهما واستثمرت في الإنسان الذي أسهم في عمارتهما، وقدم الفكرة التصميمية لثالث التوسعات بعد نحو 75 عاماً من تصميم أول توسعة سعودية للحرمين الشريفين.

وبعد، هذا جزء يسير من تاريخ التوسعة الطويل، مما يمكن استلحاقه لاحقاً.

وكان في زوايا القصة وكواليسها جوانب مشرقة ومواقف مقدرة وجهود مشكورة، وقبل ذلك وبعده كثير من التوفيق والتيسير من المولى القدير، رغم التحديات والصعوبات التي تمثلت في ضيق الوقت المحدد لإنهاء الدراسة والجوانب المتعددة والمعقدة المتصلة بطبيعة وضع المسجد الحرام من حيث الإنشاءات والحركة وتباين ثقافات وخلفيات القاصدين وغير ذلك.

أما عن الأعضاء، بل أكثرهم فتلك قصة أخرى. بعضهم رفض تسلم المكافآت رغم حاجته لها، وجلهم كانوا لا يريدون أن تذكر أسماؤهم في سجلات توثيق المشروع ولا غيرها، لأنهم يرون أن مجرد المشاركة في مشروع توسعة الحرم شرف لا يضاهيه شرف، وكل ذلك رغبة فيما عند الله وحده، وبذلك تولوا إلى الظل من دون أن يتباهوا بما قدموا أو يحمدوا بما عملوا.

وتلك ليست مبالغة. فهنا قصتان فيهما خير مثال. أولاً فريق كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود الذي طلب رئيسه تنفيذ استوديو افتراضي ثلاثي الأبعاد مقابل اختيار تصميم الجامعة أساساً لتصميم التوسعة، ليكون مكافأة لمنسوبي الكلية وتعم الفائدة للجميع، وبالفعل تم تنفيذ الاستوديو وتجهيزه في أحد معامل الكلية.

الاستوديو الافتراضي الثلاثي الأبعاد بكلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود

أما القصة الثانية، فقد كانت هناك حاجة ملحة لرئاسة الحرمين لاستشارة فنية حول إحدى المنشآت الإلكتروميكانيكية المرتبطة بالمسجد الحرام، وكانت كل الحلول التي قدمت من مقاول الصيانة تتجه إلى استبدال الأجهزة الموجودة بالكامل؛ بل ونقل المحطة إلى مكان آخر بما يستلزم ذلك من حفر لأنفاق وتكاليف إنشاء وتجهيز، فقرر الشيخ صالح الحصين رحمه الله، أن يستعين بأحد الاستشاريين المختصين في ذات التخصص المطلوب (هذا الاستشاري من جنسية عربية، وعمل لاحقاً ضمن الفريق الأساسي لوزارة التعليم العالي في مشروع التوسعة الثالثة)، وبعد أن عاين الدكتور المشكلة، واطلع على التقارير التي قدمت، اجتمع مع الفريق المسؤول عن تلك المنشأة ودرس بعناية مقترحات الاستبدال وما يقابلها من بديل، ورأى أن مقترح رفع مستوى حجم وطاقة المحطة الحالية في الموقع ذاته أمر ممكن ومجدٍ، وقدم التصور الكامل لإمكانية تحقيق ذلك فنياً، مما حسم الأمر، هذا الحل وفر ملايين الريالات على الميزانية العامة فرأى الشيخ الحصين تقديم مكافأة مالية له تعادل نسبة مئوية من إجمالي قيمة التوفير واستصدر الموافقة على ذلك، وحين قابل الشيخ الدكتور وشكره على جهده قدم له ظرفاً يحوي شيكاً بقيمة الأتعاب الاستشارية المقدرة، فلما علم الدكتور أن في الظرف شيكاً له رفض تسلمه من دون أن ينظر حتى إلى قيمة المبلغ (وكان كبيراً)، وباءت كل محاولات الشيخ لإقناعه بأخذه لأنه حقه الشرعي والنظامي أو ربما هو أقل، وأن عمله كان سبباً للتوفير على خزينة الدولة، وأدى لاختصار الجهد والوقت.

كما صاحب تلك التجربة الفريدة والمعقدة الكثير من التسهيلات والدعم اللامحدود من حكومة خادم الحرمين الشريفين وتوفير جميع احتياجات الفريق وتأمين طلباته وتيسير الإجراءات واستقدام كبار الخبراء في العالم عند الحاجة، وتسهيل التواصل مع مراكز الفكر وبيوت الخبرة العالمية. كل ذلك من أجل توسعة بيت الله الحرام لاستيعاب الأعداد المزدادة من الحجاج والمعتمرين وتيسير أداء نسكهم بكل راحة وسلامة وأمان.

إن المتمعن في هذه التجربة، يجد أنها مختلفة في منهجها عما سبق من توسعات الحرمين وفريدة في مشروعات الدولة الكبرى، عمل عليها مئات المتخصصين من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات السعودية والخبراء العالميين في مختلف المجالات، وغيرهم من المهندسين والفنيين تجاوز عددهم المئات من مختلف الجنسيات، هذا عدا بيوت الخبرة والجامعات العالمية والرواد المعماريين، وغيرهم، بتنسيق بديع وتكامل فريد، وأنفق عليها مئات الملايين من الريالات. لذا يجب ألا تتوقف؛ بل يمكن أن تُدرس وتقوم ويستفاد منها ويؤسس عليها؛ ليس في مخرجاتها فحسب، بل وفي كونها تجربة مهنية جماعية نقلت كثيراً من العلوم والمعارف والتجارب والخبرات، وأسهمت في تطوير معارف وتجارب أعضاء الفريق وسن طريقة غير مسبوقة في تنفيذ دراسات المشروعات العملاقة من خلال منظومة عمل فرق تكاملية في جميع التخصصات والعلوم.

ولعل الأهم بعد هذا التوثيق معرفة كيف يمكن تقويم تلك التجربة الفريدة والاستفادة منها ثم البناء عليها...

*كاتب وباحث سعودي

اقرأ أيضاً


مقالات ذات صلة

الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
تحقيقات وقضايا لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج play-circle 05:39

لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج

على مدى أكثر من 100 عام، تعهدت الدولة السعودية بخدمة الحجاج، ونجحت في إدارة الحشود المليونية التي كانت قبل العهد السعودي لا تصل إلى 4 آلاف حاج من الخارج.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر
المشرق العربي زوار يطلون من جبل الزيتون على المسجد الأقصى في القدس القديمة (أرشيفية - أ. ب)

«دائرة الأوقاف» في القدس تحذر من مضاعفة اقتحامات المستوطنين للأقصى

حذر مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية من خطط مضاعفة عدد المقتحمين من المستوطنين وطمس المعالم العربية والإسلامية.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
يوميات الشرق وصل البث المباشر لآخر حدود الصين واليابان شرقاً والأميركيتين الشمالية والجنوبية غرباً (واس)

بعد 4 عقود من نقل صلاة التراويح... كيف يبدو البث التلفزيوني في الحرمين؟

كان أول بث مباشر على التلفزيون السعودي لصلاة التراويح وختمة القرآن الكريم من المسجد الحرام في «العشر الأواخر» من شهر رمضان عام 1397هـ.

غازي الحارثي (الرياض)
يوميات الشرق أضحى وصول ملايين المسلمين إلى مكة المكرمة في وقت واحد متيسراً بفضل تطور الخدمات من المغادرة حتى البلوغ (هيئة العناية بالحرمين)

«دروب مكة»... عناصر ثقافية وكنوز تراثية وحضارية عبر العصور

تقود السعودية مشروعاً لتوثيق دروب مكة المكرمة وعناصرها الثقافية التي شكلت هوية المكان، والمساجد التاريخية والصناعات الثقافية التي تطورت وتبلورت عبر الزمن.

عمر البدوي (الرياض)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.