كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟

«الشرق الأوسط» تنشر الحلقة الأخيرة لقصة توسعة الحرم المكي

كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟
TT

كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟

كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟

تناول الفصلان الأولان من قصة تصميم التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام، بدايات الموضوع بتشكيل فريق من المختصين من أساتذة الجامعات السعودية وغيرهم من الخبراء العالميين لدراسة المشروع المقترح للتوسعة، وذلك بناء على الأمر السامي الذي صدر في عام 1429هـ - 2008م، مع ذكر أبرز أسماء رؤساء اللجان والفرق الفنية المشاركة في الفريق الذي قام بتقويم وضع الحرم المكي من خلال الدراسات والمسوحات الميدانية، إضافة إلى تقويم التصميم المقترح، علاوة على تقديم رؤية تقنية للمسجد الحرام قام بها فريق من أساتذة وباحثي معهد ماساتشوستس للتقنية (إم آي تي MIT ). كذلك ذكرت أسماء فريق الباحثين الذين قدموا تلك الأبحاث، وكيف تمت الاستفادة من بعض الأفكار والمقاربات التصميمية والرؤى المستقبلية التي قدمها كبار المعماريين والمكاتب الاستشارية العالمية وبعض المكاتب والجامعات السعودية، في تطوير الفكرة التصميمية التي قدمتها جامعة الملك سعود وتم اختيارها من المقام السامي.

تصميم جامعة أم القرى المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف

يتطرق هذا الفصل إلى إعادة تشكيل اللجان والفرق التخصصية، ومنهجية العمل مع الاستشاري (دار الهندسة) والمقاول (مجموعة بن لادن)، والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي (رئاسة الحرمين)، إضافة إلى مسارات العمل وآلية عمل الفرق، وتشكيل الفريق المؤقت الذي باشر تطوير التصميم المقترح، وكان غالبية أعضائه من كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود، بحكم أنها الجهة صاحبة الفكرة التصميمية.

وكان الفريق باشر تلك المهمة في مكاتب «دار الهندسة» بالقاهرة، وبالتضامن مع فرقها الفنية، وصولاً إلى اعتماد الملك عبد الله رحمه الله للمسار التطويري (التجزئة على مستوى الكتلة والحيز الفراغي الأصغر)، وصولاً إلى الفكرة التخطيطية والتصميمية لمشروع توسعة الملك عبد الله بصورتها التي انتهت إليها.

ويلفت الفصل إلى عمل فريق الوزارة مع بدء التنفيذ وآلية العمل والتنسيق مع المقاول خلال تلك المرحلة، وتزامن العمل مع طرح فكرة مشروع رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف وما تم بعدها، وتشكيل فريق فني ميداني من جامعة أم القرى لتولي بعض المهام، ثم كيفية انتهاء مهمة فريق الوزارة. كذلك سيتم ذكر المشروعات الخمسة الرئيسية التي دشنها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ضمن المشروع الشامل للتوسعة السعودية الثالثة، مروراً ببعض القصص والمواقف المتعلقة بمشروع التوسعة وأعضاء الفريق، والوقوف عند أهمية هذه التجربة وفرادتها وكيف يمكن الاستفادة منها في المشروعات التي تنفذ اليوم.

انطلاق المرحلة الثانية

فور صدور التوجيه السامي بتطوير التصميم المقترح من جامعة الملك سعود، انطلقت أعمال المرحلة الثانية للمشروع في شهر ربيع الأول عام 1430هـ - مارس (آذار) 2009م، من خلال عدد من المهام والأعمال التي تضمنها التوجيه وأوكل تنفيذها إلى فريق الوزارة.

وحدد الفريق الأساس الذي تولى أعمال المرحلة السابقة، وآلية العمل ومنهجيته لهذه المرحلة بما يضمن جودة دراسة المشروع ومستوى تخطيطه وتصميمه وتميزه من الناحية المعمارية والهندسية والتشغيلية والأمنية، فضلاً عن تحقيقه مبادئ الاستدامة ومفهومها، وإحداث نقلة نوعية في عمارة المسجد الحرام ترتقي إلى مستوى تطلعات القيادة السعودية الرامية إلى تيسير أداء العبادة لقاصدي المسجد الحرام، والنهوض بمستوى تقديم الخدمة لهم، وما تحمله هذه التطلعات من مضامين عميقة ورؤية واضحة، ترنو إلى مستوى عالٍ من التميز والجودة لمشروع التوسعة، ووفقاً لما نص عليه التوجيه السامي، وتلخصت آلية العمل في هذه المرحلة كما يلي:

أولاً: اللجنة الثلاثية

حلت بدلاً من اللجنة التوجيهية السابقة، لجنة ثلاثية مكونة من وزير التعليم العالي (د. خالد العنقري)، والرئيس العالم لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي (الشيخ صالح الحصين)، ورئيس «مجموعة بن لادن السعودية» (م. بكر بن لادن)، وهي تعمل كمرجعية للمشروع. وكان ممثلو فريق الوزارة يعرضون مخرجات العمل الجوهرية على هذه اللجنة بين فترة وأخرى، ويطلعونها على وضع المشروع ومساره وتحدياته.

ثانياً: إعادة تشكيل الفرق التخصصية

أُعيد تشكيل الفرق التخصصية للعمل ضمن إطار المشروع وفق الآتي:

أولاً، الفريق الفني في وزارة التعليم العالي الذي ضم عدداً من الفرق الفنية المتخصصة والمتكاملة، من مختلف منسوبي الجامعات السعودية. وتعد هذه الفرق الذراع الفنية لإدارة المشروع المعنية بتحديد وتوجيه الدراسات اللازمة والتصاميم المطلوبة، وكذلك مراجعة واعتماد الدراسات والتصاميم المقدمة من الاستشاري (دار الهندسة)، وجاء تشكيل الفرق على النحو الآتي:

الإدارة الفنية العامة: برئاسة أ.د. صالح بن حامد السيد.

الفريق المعماري: برئاسة د. سمير بن محمود زهر الليالي.

الفريق الإنشائي: برئاسة أ.د. يوسف بن عبد الله السلوم.

فريق الحركة والحشود والخدمات المساندة: برئاسة أ.د. عبد الرحيم بن حمود الزهراني.

فريق الكهروميكانيكا والمرافق الصحية: برئاسة د. إبراهيم بن عمر حبيب الله.

فريق البيئة والاستدامة: برئاسة د. خالد بن محمد الجماز.

ثانياً، هناك الفرق الفنية التخصصية لدى الاستشاري (دار الهندسة) والمقاول (مجموعة بن لادن السعودية)، وتعمل بالتضامن والتنسيق التام مع الفريق الفني في وزارة التعليم العالي على إعداد الدراسات والتصاميم اللازمة بتوجيه من الفريق الفني في الوزارة، الذي يقوم بمراجعتها وتقويمها ومن ثم اعتمادها. وأخيراً ممثل إدارة المشروعات في الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي.

ثالثاً: منهجية تنسيق الفريق مع الاستشاري والمقاول ورئاسة الحرمين

لعله من المناسب إعطاء نبذة عن «دار الهندسة» (استشاري المشروع)، التي ارتبطت بعلاقة استراتيجية مع «مجموعة بن لادن السعودية» وغدت استشاري مشروعات الحرمين الشريفين. تأسست «دار الهندسة» عام 1956 (1376هـ) على يد 4 من أساتذة كلية الهندسة في الجامعة الأميركية ببيروت؛ وهم كمال الشاعر ونزيه طالب وخليل معلوف وسمير ثابت، ونمت وتطورت عبر السنوات لتصبح إحدى كبرى الشركات المهنية والمكاتب الاستشارية الهندسية حول العالم. وفي الثمانينات من القرن الماضي، تشابكت «مجموعة بن لادن السعودية» وترابطت مع «دار الهندسة»، الأمر الذي مكن الأخيرة ومن خلال مكتبها بالقاهرة تحديداً، من أن تصبح «الصندوق الأسود» لمشروعات الحرمين الشريفين، بحيث بات لديها كل المعلومات والخرائط والمخططات والدراسات والتصاميم والمسارات، وغيرها من المعلومات المهمة والمرتبطة بمشروعات الحرمين الشريفين. هذا الكم من المعلومات إضافة إلى كوادرها المهنية المتميزة جعل دورها مهماً ومحورياً في تطوير التصميم.

هيكلية تنظيمية لفرق العمل

وقد انتهج الفريق الفني في وزارة التعليم العالي أسلوب عمل فريداً يعتمد على العمل الجماعي المتكامل داخل فريق الوزارة بتخصصاته المختلفة، وعلى التنسيق المباشر والتكامل مع الاستشاري والمقاول ورئاسة الحرمين خلال مراحل العمل المشترك. واتسم المنهج بالمرونة والكفاءة الفاعلة والعمل بروح واحدة وعقول متعددة، وبالحرص على اقتناص كل فكرة تطويرية واعدة في أي مجال تخصصي بغض النظر عن مصدرها، ومناقشتها وتعزيزها ودعمها وإثرائها من الجميع.

واشتملت منهجية العمل الجماعي هذه على ورش العمل الدورية، حيث نُظمت مجموعة من ورش العمل التخصصية الدورية لتدارس وتنظيم العمل في مشروع تصميم توسعة المسجد الحرام وضبط جودته، ومناقشة المهام الفرعية المرتبطة به، ومتابعة أعمال تطوير التصميم وتوجيهه. وعُقدت ورش العمل هذه بحضور الفرق التخصصية المختلفة في وزارة التعليم العالي والاستشاريين في «دار الهندسة» و«مجموعة بن لادن السعودية» ورئاسة الحرمين، وبحضور خبراء عالميين في الاختصاصات المختلفة، استعين بهم أحياناً بحسب متطلبات مرحلة العمل.

الشيخ صالح الحصين والدكتور صالح السيد والدكتور يوسف السلوم أمام مجسم التصميم قبل تطويره

كذلك، اعتمدت المنهجية على تشكيل فرق عمل تصميم مشتركة لتسريع العمل ودعم تطوير تصميم مشروع التوسعة ولرفع مستوى الجودة ودقة الأداء. وشُكلت فرق عمل موحدة، بحسب ما تقتضيه المرحلة، مكونة من أعضاء بالفرق التخصصية بوزارة التعليم العالي ومن الاستشاري والمقاول ورئاسة الحرمين. وقد أنيط بها مهمة تطوير التصاميم المعمارية والهندسية لمشروع التوسعة المعتمد من المقام السامي الكريم، بحيث يقوم فريق الوزارة بمتابعة وتوجيه ودعم الأعمال المقدمة من الاستشاري (دار الهندسة) عبر التكامل مع فرقه المتخصصة والعمل معها، والمساهمة المشتركة الفاعلة بالأفكار والمقترحات التطويرية، كما أنيط بالفرق التخصصية في فريق الوزارة مهمة اتخاذ القرارات التصميمية والإشراف على مراجعة ضبط وتوحيد منظومات الأنظمة الأخرى في لغة معمارية وهندسية موحدة.

رابعاً: مسارات العمل

لما كانت المرحلة الثانية من المشروع تقتضي مراجعة وتقويم مخرجات تطوير تصميم مشروع التوسعة وتعزيزه بالأفكار الفنية التطويرية، اتخذ العمل في هذه المرحلة المسارات المتتابعة الآتية:

مسار البحث والبرمجة: تضمن هذا المسار إعداد الدراسات اللازمة لمشروع التوسعة ووضع المعايير المرجعية التصميمية العامة والتفصيلية والبرنامج الفراغي للمشروع وتحديد المساحة البنائية التقديرية للتوسعة.

وقد شرع فريق وزارة التعليم العالي ضمن هذا المسار في دراسة وتحليل جميع المقترحات التصميمية (الرؤى المعمارية) التي قدمت في المرحلة الأولى من قبل دور الخبرة المحلية والعالمية بهذا المجال، في ورشة عمل بالتعاون مع الاستشاري (دار الهندسة) و«مجموعة بن لادن السعودية»، وبمشاركة الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وخبراء محليين تم إشراكهم مؤقتاً في هذا المهمة. وتم استخلاص بعض الأفكار والحلول التصميمية الواعدة من هذه المقترحات.

كذلك حدد فريق الوزارة الدراسات اللازمة للمشروع وصاغ الإطار العام للملخص التصميمي التفصيلي في جميع الجوانب الفنية للمشروع، بالإضافة إلى تحديد نطاق البرنامج الفراغي، وتقدير مساحة البناء، بينما عمل الاستشاري (دار الهندسة) على إعداد المعايير التفصيلية والبرنامج المعماري التفصيلي، وذلك بالتنسيق مع فريق الوزارة الذي تولى مراجعتها واعتمادها.

مسار تطوير تصميم مشروع التوسعة: عني هذا المسار بتطوير تصميم مشروع التوسعة من قبل الاستشاري (دار الهندسة) وبالتعاون والتنسيق المباشر والآني مع الفريق الفني في وزارة التعليم العالي.

وسعى الفريق الفني بالوزارة ضمن هذا المسار إلى توجيه ومتابعة أعمال تصميم مشروع التوسعة والمشاركة الفاعلة والجوهرية في تطويره فكرياً وفنياً؛ منذ البداية وحتى عمل التصاميم المعمارية والهندسية التطويرية وتفاصيلها ومراجعة تطبيقها في أرض الواقع.

ولتنفيذ المهام المتضمنة في هذا المسار بجودة وإتقان، تطلب ذلك تكامل الفريق الفني للوزارة واندماجه أحياناً مع الفرق المتخصصة للاستشاري (دار الهندسة) و«مجموعة بن لادن السعودية» ورئاسة الحرمين، والعمل معاً كفريق عمل موحد متكامل باتباع منهجية التصميم المتكامل لا المتتابع، كالتشاور المستمر والمتبادل بين جميع التخصصات، ما أدى إلى تسريع وتيرة العمل والارتقاء بجودته ونوعيته.

وقد اتسم تشكيل فرق عمل المشروع بالديناميكية والمرونة بما يتوافق مع حاجات العمل وطبيعة مراحل المشروع، بحيث يشارك الأعضاء في مراحل المشروع حسب الحاجة. وتميزت طريقة العمل بروح الفريق الواحد والانسجام بين الأعضاء، وكانوا يتعاملون كزملاء في هذه المهمة السامية، فتتبلور الأفكار والحلول وتطرح من خلال النقاشات الجماعية، دون تمييز بين رئيس ومرؤوس؛ بل إنه كان يُناب بعض الأعضاء في حال غياب المدير الفني العام أو رؤساء الفرق، وكان الجميع يعملون بروح الفريق كما يقال: «الجميع يعمل على طاولة مستديرة».

وأنيط بالفريق خلال انطلاق المرحلة الثانية مهمة ضبط جودة واتجاه تطوير تصميم التوسعة انطلاقاً من الفكرة التخطيطية والتصميمية لمشروع جامعة الملك سعود والمعتمدة من المقام السامي، وكان على الفريق الالتزام بمضامين التوجيه السامي خلال العمل في التطوير، وبالتضامن مع الفريق الفني للاستشاري (دار الهندسة) والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وتطلبت هذه المرحلة تكوين فريق عمل مشترك (مؤقت) برئاسة رئيس الفريق المعماري للمشروع، وعضوية عميد كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود، الذي كان رئيساً لفريق التصميم الأساسي، وعدد من أعضاء هيئة التدريس ممن شاركوا ضمن فريق التصميم الأساسي بالكلية، بحكم أنها الجهة صاحبة الفكرة التصميمية، وذلك كاستشاريين غير متفرغين، كما انضم أيضاً إلى هذا الفريق أعضاء آخرون من كليات العمارة في الجامعات الأخرى، وأصبح بعضهم لاحقاً استشاريين متفرغين.

وعقدت اجتماعات هذا الفريق المؤقت بمقر «دار الهندسة» في القاهرة، وذلك خلال الفترة من 17 جمادى الآخرة 1430هـ - 10 يونيو (حزيران) 2009م، إلى 16 رجب 1430هـ - 9 يوليو (تموز) 2009م.

وأسفرت هذه المهمة التعاونية والتكاملية العاجلة التي استمرت لمدة شهر عن تطوير مسارات تطويرية متكافئة انطلقت جميعها من الفكرة التخطيطية والمعمارية للتصميم المقترح من جامعة الملك سعود والمعتمد من المقام السامي أساساً للتطوير، حيث ارتكزت هذه المسارات التطويرية على المبادئ الآتية:

المسار التطويري الأول: القائم على مبدأ التجزئة على مستوى الكتلة والحيز الفراغي الأوسع.

المسار التطويري الثاني: القائم على مبدأ التجزئة على مستوى الكتلة والحيز الفراغي الأصغر.

والمساران متكافئان، أما الفرق الأساسي بينهما ففي التشكيل المعماري الداخلي للتوسعة.

مخططات للتوسعة الثالثة

وقد قُوّمت مخرجات هذين المسارين التطويريين المتكافئين والمطورين من قبل الفريق ذاته باستخدام معايير محددة، وبتفصيل أدق وضعت بهدف التحقق قبل عرضهما على المقام السامي من أن كلا المسارين يمكن أن يعمل بكفاءة في حال اختياره.

أما معايير تقويم مخرجات المسارات التطويرية فهي:

معايير مرتبطة بالأمن والسلامة وحركة الحشود: الأمن والسلامة ضمن المبنى والفراغات الخارجية - حركة الحشود ضمن المبنى والفراغات الخارجية - حركة الحشود من مبنى المسجد الحرام (التوسعتان الأولى والثانية) وإليه - التعرف المكاني (way finding) - ووضوح الإرشاد للمستخدمين.

معايير مرتبطة بالكفاءة التشغيلية:

العبادية، والمتعلقة خصوصاً بأماكن أداء الصلاة؛ ومنها اتجاه الكعبة وانتظام صفوف المصلين وتحفيز الخشوع.

أداء الأنشطة الأخرى: إلقاء المحاضرات والدروس العلمية والوصول إلى المصاحف والوضوء والسقيا وغيرها.

اقتصاديات التوزيع الفراغي: ترشيد مناطق الخدمات التشغيلية وترشيد ممرات الحركة الأفقية وترشيد مناطق الحركة الرأسية والاقتصاد في حجم شبكات الخدمات (مياه، تكييف، كهرباء، حريق... إلخ).

مرونة إدارة المنشأة: تنظيم توزيع الرجال والنساء بعدة خيارات وتنظيم استخدام أجزاء محددة من المبنى وتنظيم إغلاق أو فتح بعض أجزاء المبنى على المستوى الأفقي، كما تنظيم إغلاق أو فتح بعض أجزاء المبنى على المستوى الرأسي، بالإضافة إلى تنظيم الوصول إلى مبنى التوسعة السعودية الأولى دون الحاجة لفتح مبنى التوسعة السعودية الثالثة للاستخدام، وتنظيم صيانة المنشأة وشبكات الخدمات دون الاختلاط بالمستخدمين في جميع الأوقات، بما في ذلك أوقات الذروة.

معايير مرتبطة بعلاقة التشكيل الفراغي بالجوانب البيئية: الاستفادة القصوى من الإضاءة والتهوية الطبيعيتين وحماية محيط المبنى من العوامل البيئية وترشيد استخدام الطاقة غير المتجددة.

معايير مرتبطة بالجودة الجمالية لعناصر مكونات المشروع: مبدأ الوحدة (Unity) - إثراء تجربة المستخدم للمكان من خلال التنوع المكاني (Variety) - التوازن بين المقياس الإنساني (Human Scale) وتحقيق المهابة الشرفية (Formalty) - الانسيابية (Spatial Interpenetration) - الشفافية (Form Transparency).

معايير مرتبطة بمرونة التنفيذ: مرونة تحديد مراحل التنفيذ (Construction Phasing) - توحيد عناصر البناء (Building Components Standardization).

لقطات لتصاميم المسار التطويري الثاني

العرض والموافقة:

في يوم السبت 18 رجب 1430هـ الموافق 11 يوليو 2009، عُرض المساران التطويريان المتكافئان على الملك عبد الله بن عبد العزيز في قصره بمدينة جدة من قبل أعضاء فريق الوزارة، وبحضور عدد من أصحاب السمو الملكي الأمراء والمعالي الوزراء، من بينهم وزير التعليم العالي ونائبه والرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، إضافة إلى رئيس «مجموعة بن لادن السعودية»، حيث اعتمد حينها المسار التطويري الثاني خياراً لتطوير تصميم مقترح جامعة الملك سعود للتوسعة، وصدرت الموافقة السامية بذلك.

المرحلة الثالثة:

استمر فريق الوزارة في ممارسة أعماله بالكفاءة ذاتها والروح الجماعية المتفائلة والمتفانية، ويشهد لها كل من عايش المشروع أو سنحت له فرصة الاطلاع على العمل من مسؤولين وغيرهم.

وانطلاقاً من مبدأ العمل كفريق واحد بين وزارة التعليم العالي والاستشاري (دار الهندسة)، والمقاول (مجموعة بن لادن السعودية)، والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، سعى الفريق المعماري وجميع الفرق التخصصية الأخرى بالوزارة في فترة تزيد على السنة، وبالتحديد في المدة من 22 رجب 1430هـ الموافق 13 يوليو 2009، إلى 23 رمضان 1431هـ الموافق 2 سبتمبر (أيلول) 2010، في عمل دائب ومتواصل إلى تطوير التصاميم الابتدائية والتصاميم التفصيلية للتوسعة، وذلك من خلال عقد ورش عمل متعددة ومكثفة ولقاءات نقاش ومراجعة متتالية في مقر الاستشاري (دار الهندسة) بالقاهرة أو بيروت حيناً، ومقر فريق الوزارة في كلية علوم البحار بجدة أحياناً أخرى. مع الأخذ في الحسبان تحقيق التكامل في جميع التصاميم المعمارية مع حلول ومقترحات وتصاميم النظم الهندسية (الإنشائية، والكهروميكانيكية، وتغذية المياه والصرف) وغيرها.

وكان العمل في الفريق يسير وفق ما انتهجه منذ بداية تشكيله في المرحلة الأولى؛ على طاولة مستديرة تتلاقح فيها الأفكار والعقول وتسودها روح مهنية واحدة رغم اختلاف الآراء الذي كان يثري العمل ولا يعيقه.

والجدير ذكره في هذه المرحلة أن العمل فيها كان بمنهجية تزامن التصميم والتنفيذ في الموقع (Design-Build Approach)، وهذا احتاج إلى مراعاة عالية للأولويات وضبط دقيق في جدول المهام والوقت وتناسق تام للمهام رغم تعددها وتراكبها وتداخلها.

وبذلك كانت التصاميم والمخططات المعتمدة نهائياً تسلم للمقاول أولاً بأول للتنفيذ المباشر.

جانب من التفاصيل المعمارية الداخلية

يشار هنا إلى أن الحوار الثنائي بين أعمال الموقع وأعمال التصميم كان يغذي بعضها بعضاً، حيث كان تطوير التصميم يستجيب بصورة جادة مع معطيات الموقع، كمسارات زمزم ونحوها مما يستجد ظهوره، كما يستجيب في الوقت ذاته لمتطلبات التنفيذ والتصنيع والتوريد.

نماذج من زخارف وتفاصيل معمارية للتوسعة

ولم يكن العمل في هذه المرحلة مكتبياً أو على الورق أو الرسومات ثنائية الأبعاد، بل كانت التصاميم تمر بـ4 مستويات من العمل المهني التكاملي: التصاميم الورقية والحاسوبية، والمحاكاة الحاسوبية (Digital modeling)، والتجسيم الفيزيائي (physical modeling)، والبناء الفعلي للنماذج التصميمية (mockup) بمقياس 1:1 في ورشة بناء تقع في بحرة بين جدة ومكة المكرمة، خُصصت لاختبارات التصاميم من قبل المقاول المنفذ، ومراجعة ذلك في حركة تغذيات راجعة وتعديلات حتى الوصول إلى التصميم الأكمل، ومن ثم ينفذ على أرض الواقع بصورته النهائية المعتمدة.

وفي هذه المرحلة تمت تغطية جميع جوانب التصاميم الأساسية من مساقط وقطاعات وواجهات داخلية وخارجية وأسقف وأرضيات ونظم صوتية وإضاءة وغيرها، واختيار المواد والعينات، وكثير من الجوانب التصميمية والمواصفات التفصيلية، سواء على المستوى المعماري أو التخصصات الهندسية الأخرى. وسواء كانت التصاميم لمبنى التوسعة الرئيسي، أو لمبنى الخدمات (المصاطب) بكل مكوناتها وعناصرها، أو مبنى الخدمات المركزية للتكييف والمعالجة، الواقع على بعد كيلومترات من التوسعة، أو بما يتعلق بأنفاق المشاة والأنفاق الأخرى تحت جبل الشامية (جبل قعيقعان)، أو الساحات وجسورها وما تحت الساحات من خدمات مواضئ ودورات مياه وغيرها، كل ذلك تمت تغطيته وإنهاء تصاميمه الأساسية وتفاصيلها، وتم اختبارها على أرض الواقع بمقياس 1:1، بل وتنفيذ أهمها فعلياً.

وبعد هذا الإنجاز الضخم من الأعمال والتصاميم، بدا أن مهمة الفريق الفني التابع لوزارة التعليم العالي تقترب من نهايتها، تلك المهمة السامية التي انطلقت بتقويم التصميم المقترح للتوسعة المقدم من «مجموعة بن لادن السعودية»، وانتهت بتطوير التصميم المقترح من جامعة الملك سعود، ومرت خلالها بتكليف الفريق بدراسة عدد من المشروعات النوعية أو الحرجة الإضافية التي أحيلت إليه، وتخص بعض الجهات الحكومية، لكن تلك المشروعات لها قصة ثانية.

كما تزامن عمل الفريق في تطوير تصميم التوسعة مع طرح فكرة دعوة كليات وأقسام العمارة في جامعات الملك سعود، والملك عبد العزيز، وأم القرى، والدمام (الإمام عبد الرحمن الفيصل حالياً)، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، لتقديم مقترحات تصميمية لزيادة الطاقة الاستيعابية للمطاف، وأعد الفريق الأسس والشروط المرجعية لتصميم هذا المشروع.

تصميم جامعة الملك عبدالعزيز المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف

وأسند إلى جامعة أم القرى تطوير تصميمها المقترح في فترة لاحقة بعد انتهاء عمل الفريق، وذلك بالتضامن مع أحد المكاتب الاستشارية العالمية. وتم عرض المقترح على خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله، في قصر الصفا بمكة المكرمة مساء يوم السبت 27 رمضان 1432هـ الموافق 22 يونيو 2011. وكانت الجامعة شكلت لجنة فنية بإشراف مديرها الأستاذ الدكتور بكري بن معتوق عساس، وتولت اللجنة متابعة أعمال تشييد التوسعة السعودية الثالثة التي تنفذها «مجموعة بن لادن السعودية»، إلى جانب مراجعة دراسات وتصاميم مشروع رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف، من خلال فريق فني برئاسة الأستاذ الدكتور فيصل بن فؤاد وفا. لكن تفاصيل تصميم ثم تنفيذ مشروع توسعة المطاف ومراحله تحديداً، وما حصل فعلاً على أرض الواقع، تستحق قصة منفصلة.

تصميم جامعة الدمام (الإمام عبد الرحمن الفيصل حالياً) المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف

المرحلة الأخيرة

بانتهاء المرحلة الثالثة والاطمئنان على سلامة مخرجات تصاميم تطوير مشروع التوسعة الثالثة، بل وتنفيذ أجزاء منها، لم يتبقَّ حينذاك إلا مهمة مواصلة العمل في متابعة الرسومات التفصيلية لبعض الأجزاء ومتابعة تنفيذ ما تم اعتماده سابقاً في المرحلة الثالثة، مثل منظومة الاهتداء ومنظومة صحة المنشأة التي اعتمدت توجهاتها وبعض متطلباتها، بعد هذا كله رأت الوزارة وجاهة تجديد الدماء في الفريق، فتم إنهاء عمل الفريق الأساسي الذي بدأ منذ اليوم الأول حتى انقضاء المرحلة الثالثة بخطابات شكر خاصة بكل فرد منهم. وحينذاك رجع أعضاء الفريق الأساسي إلى مواقعهم بالجامعات، والبعض رأى الانضمام لـ«مجموعة بن لادن» للعمل هناك.

الأمير نايف والأمير خالد الفيصل يستمعان لشرح من الدكتور سمير زهر الليالي

وتزامناً مع هذا التغيير انتهت أيضاً مهمة اللجنة الثلاثية، وأسندت بعد ذلك بعض مهام فريق الوزارة إلى فريق جامعة أم القرى الذي توسعت مهامه الفنية والإدارية، ليصبح اسمه «اللجنة الفنية لمشروعات توسعة المسجد الحرام والعناصر المرتبطة به».

ومن المهم الإشارة هنا إلى ملخص الفكرة التخطيطية والتصميمية لمشروع التوسعة بصورتها التطويرية التي انتهت إليه، كما يلي:

يتكون مشروع التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام من جزأين رئيسيين.

الجزء الأول: ويقع في منطقة الشامية بالجهة الشمالية من المسجد الحرام، ويشتمل على المبنى الرئيسي للتوسعة، والمصاطب المتدرجة والمرافق الخدمية الملحقة بها، إلى جانب الأفنية والساحات المفتوحة.

الجزء الثاني: ويقع في منطقة التيسير على بعد 2 كم في الجهة الشمالية الغربية من المسجد الحرام، ويشتمل على محطة خدمات مركزية لخدمة المشروع تتضمن محطة تبريد مياه التكييف، والمولدات الاحتياطية، ومعالجة المياه الرمادية، والتخلص من النفايات، وورش الصيانة ونحوها.

وقد اعتمدت الفكرة التخطيطية لتصميم مشروع التوسعة السعودية الثالثة على مبدأ «احترام مركزية الكعبة المشرفة وصفوف الصلاة، وتجزئة الحشود». لذا فقد تم تشكيل المشروع عن طريق توظيف محاور إشعاعية منطلقة من الكعبة المشرفة تقسم المشروع إلى أجزاء تتقاطع مع قطاعات حلقية دائرية مركزها الكعبة المشرفة، كالآتي:

القطاعات الحلقية الدائرية: تشكل مكونات المشروع وتتضمن:

المبنى الرئيسي: يتكون من 3 أجزاء رئيسية تقع بين 4 محاور إشعاعية.

الأفنية الخارجية المفتوحة: تقع شمال وجنوب المبنى الرئيسي.

المصاطب المتدرجة ومباني المرافق الخدمية: تقع شمال الأفنية الخارجية المفتوحة.

الساحات الخارجية تقع حول المشروع من الجهات الشرقية (ساحة المسعى ومنطقة المروة) والغربية (ساحة باب العمرة وشارع أم القرى).

المحاور الإشعاعية:

تشكل هذه المحاور الإشعاعية جسوراً وممرات للحركة الأفقية والرأسية. وتقسم هذه المحاور للمشروع إلى أجزاء يمكن لكل منها احتواء عدد محدد من الحشود، مما يدعم من انسيابية وسلاسة حركة الحشود وتدفقهم وتعريفهم ويعمل على تحقيق أمنهم وسلامتهم. كما تحتوي على مجموعة الخدمات المساندة لخدمة تلك الحشود وتربط هذه المحاور بين أجزاء وعناصر المشروع.

وقد اعتمدت الفكرة الأساسية لجامعة الملك سعود التي انطلق تطوير التصميم (المشروع) منها على مبدأ «الوحدة الوظيفية النموذجية» التي تمثل وحدة بنائية متكاملة في وظائفها وخدماتها، ويمكن تكرارها في اتجاه المحاور الإشعاعية، أو في اتجاه القطاعات الحلقية الدائرية لتكوين الكتل البنائية للمشروع التي تكوّن في مجموعها تشكيلاً عمرانياً وظيفياً مترابطاً يلبي المتطلبات الرئيسية للمشروع، ويتجانس مع مبنى المسجد الحرام ويراعي طبوغرافية الموقع. ويمكن من خلال هذه الوحدات البنائية تحقيق ما يلي:

تجزئة الحشود إلى أجزاء محددة يمثل كل منها الحجم الأمثل الذي يمكن التعامل معه بصورة تحقق الأمن والسلامة وتساعد في انتظام صفوف المصلين وتمكنهم من أداء الشعائر التعبدية بسكينة وخشوع.

توفير الخدمات والوظائف الحيوية للمستخدمين بصورة متكاملة من قاعات الصلاة والخدمات الملحقة بها.

توفير المرونة اللازمة لتشغيل المبنى؛ مثل إمكانية استخدام أجزاء من المبنى في كل دور فقط أو استخدام أدوار محددة فقط بحسب الحاجة خلال المواسم المختلفة، مع إمكانية تخصيص مواقع مصليات النساء والرجال بشكل مرن.

تيسر أعمال الصيانة لشبكات النظم الهندسية في مستويات ومسارات منفصلة تماماً للمستخدمين، وصيانة الفراغات الداخلية لكل وحدة بنائية دون التأثير على الأداء الوظيفي للوحدات عن حركة الأخرى.

تصميم مكونات قياسية نموذجية لكل العناصر والتفاصيل المستخدمة بالمشروع المعمارية والنظم الهندسية.

دعم وتيسير استراتيجيات مراحل التنفيذ أو التمدد للمستقبلي.

إثراء التشكيل الفراغي وتحقيق الجودة الجمالية لعناصر المشروع مع إمكانية تميز كل وحدة بنائية بشخصية مستقلة تحقق سهولة التوجيه والإرشاد المكاني في كل منطقة من مناطق المشروع.

البهو الرئيسي للتوسعة في المراحل النهائية

وماذا بعد؟

توفي الملك عبد الله رحمه الله في 3 ربيع الثاني 1436هـ الموافق 23 يناير (كانون الثاني) 2015، وأكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله، فور توليه مقاليد الحكم، مواصلة العمل بواجبات ومسؤوليات خدمة الحرمين الشريفين التي تشرف بها ملوك البلاد السابقون، وتوفير الأمن والراحة والطمأنينة لضيوف الرحمن. وتأكيداً لحرصه على كل ما من شأنه أداء قاصدي المسجد الحرام لمناسكهم بكل يسر وراحة، تفقد الملك سلمان يوم السبت 12 شعبان 1436ه الموافق 30 مايو (أيار) 2015، مراحل مشروع التوسعة السعودية الثالثة للحرم المكي، ووجه بتسخير كل الإمكانات والمتطلبات التي يحتاج إليها المسجد الحرام ومشروع التوسعة. وقال: «سأنفذ وصية الملك عبد الله وقد أوصاني بالمشاريع في مكة».

خادم الحرمين الشريفين يدشن عدد من المشاريع الرئيسية ضمن المشروع الشامل للتوسعة السعودية للحرم المكي(واس)

وفي يوم 24 رمضان 1436هـ الموافق 11 يوليو 2015، دشَّن الملك سلمان 5 مشروعات رئيسية ضمن المشروع الشامل للتوسعة السعودية الثالثة، الذي تشرف على تنفيذه وزارة المالية، وهي: مشروع مبنى التوسعة الرئيسي، ومشروع الساحات، ومشروع أنفاق المشاة، ومشروع محطة الخدمات المركزية للحرم، ومشروع الطريق الدائرية الأول.

قصة تصميم التوسعة ليست قصة أشخاص، أو جامعات، أو شركات أو استشاريين، أسهم كل منهم بدوره وجهده، ولكنها قصة عمل مهني مشرف، وقبل ذلك وبعده قصة قيادة نذرت نفسها لخدمة الحرمين ودولة سخرت مواردها لأمن وسلامة وراحة قاصديهما واستثمرت في الإنسان الذي أسهم في عمارتهما، وقدم الفكرة التصميمية لثالث التوسعات بعد نحو 75 عاماً من تصميم أول توسعة سعودية للحرمين الشريفين.

وبعد، هذا جزء يسير من تاريخ التوسعة الطويل، مما يمكن استلحاقه لاحقاً.

وكان في زوايا القصة وكواليسها جوانب مشرقة ومواقف مقدرة وجهود مشكورة، وقبل ذلك وبعده كثير من التوفيق والتيسير من المولى القدير، رغم التحديات والصعوبات التي تمثلت في ضيق الوقت المحدد لإنهاء الدراسة والجوانب المتعددة والمعقدة المتصلة بطبيعة وضع المسجد الحرام من حيث الإنشاءات والحركة وتباين ثقافات وخلفيات القاصدين وغير ذلك.

أما عن الأعضاء، بل أكثرهم فتلك قصة أخرى. بعضهم رفض تسلم المكافآت رغم حاجته لها، وجلهم كانوا لا يريدون أن تذكر أسماؤهم في سجلات توثيق المشروع ولا غيرها، لأنهم يرون أن مجرد المشاركة في مشروع توسعة الحرم شرف لا يضاهيه شرف، وكل ذلك رغبة فيما عند الله وحده، وبذلك تولوا إلى الظل من دون أن يتباهوا بما قدموا أو يحمدوا بما عملوا.

وتلك ليست مبالغة. فهنا قصتان فيهما خير مثال. أولاً فريق كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود الذي طلب رئيسه تنفيذ استوديو افتراضي ثلاثي الأبعاد مقابل اختيار تصميم الجامعة أساساً لتصميم التوسعة، ليكون مكافأة لمنسوبي الكلية وتعم الفائدة للجميع، وبالفعل تم تنفيذ الاستوديو وتجهيزه في أحد معامل الكلية.

الاستوديو الافتراضي الثلاثي الأبعاد بكلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود

أما القصة الثانية، فقد كانت هناك حاجة ملحة لرئاسة الحرمين لاستشارة فنية حول إحدى المنشآت الإلكتروميكانيكية المرتبطة بالمسجد الحرام، وكانت كل الحلول التي قدمت من مقاول الصيانة تتجه إلى استبدال الأجهزة الموجودة بالكامل؛ بل ونقل المحطة إلى مكان آخر بما يستلزم ذلك من حفر لأنفاق وتكاليف إنشاء وتجهيز، فقرر الشيخ صالح الحصين رحمه الله، أن يستعين بأحد الاستشاريين المختصين في ذات التخصص المطلوب (هذا الاستشاري من جنسية عربية، وعمل لاحقاً ضمن الفريق الأساسي لوزارة التعليم العالي في مشروع التوسعة الثالثة)، وبعد أن عاين الدكتور المشكلة، واطلع على التقارير التي قدمت، اجتمع مع الفريق المسؤول عن تلك المنشأة ودرس بعناية مقترحات الاستبدال وما يقابلها من بديل، ورأى أن مقترح رفع مستوى حجم وطاقة المحطة الحالية في الموقع ذاته أمر ممكن ومجدٍ، وقدم التصور الكامل لإمكانية تحقيق ذلك فنياً، مما حسم الأمر، هذا الحل وفر ملايين الريالات على الميزانية العامة فرأى الشيخ الحصين تقديم مكافأة مالية له تعادل نسبة مئوية من إجمالي قيمة التوفير واستصدر الموافقة على ذلك، وحين قابل الشيخ الدكتور وشكره على جهده قدم له ظرفاً يحوي شيكاً بقيمة الأتعاب الاستشارية المقدرة، فلما علم الدكتور أن في الظرف شيكاً له رفض تسلمه من دون أن ينظر حتى إلى قيمة المبلغ (وكان كبيراً)، وباءت كل محاولات الشيخ لإقناعه بأخذه لأنه حقه الشرعي والنظامي أو ربما هو أقل، وأن عمله كان سبباً للتوفير على خزينة الدولة، وأدى لاختصار الجهد والوقت.

كما صاحب تلك التجربة الفريدة والمعقدة الكثير من التسهيلات والدعم اللامحدود من حكومة خادم الحرمين الشريفين وتوفير جميع احتياجات الفريق وتأمين طلباته وتيسير الإجراءات واستقدام كبار الخبراء في العالم عند الحاجة، وتسهيل التواصل مع مراكز الفكر وبيوت الخبرة العالمية. كل ذلك من أجل توسعة بيت الله الحرام لاستيعاب الأعداد المزدادة من الحجاج والمعتمرين وتيسير أداء نسكهم بكل راحة وسلامة وأمان.

إن المتمعن في هذه التجربة، يجد أنها مختلفة في منهجها عما سبق من توسعات الحرمين وفريدة في مشروعات الدولة الكبرى، عمل عليها مئات المتخصصين من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات السعودية والخبراء العالميين في مختلف المجالات، وغيرهم من المهندسين والفنيين تجاوز عددهم المئات من مختلف الجنسيات، هذا عدا بيوت الخبرة والجامعات العالمية والرواد المعماريين، وغيرهم، بتنسيق بديع وتكامل فريد، وأنفق عليها مئات الملايين من الريالات. لذا يجب ألا تتوقف؛ بل يمكن أن تُدرس وتقوم ويستفاد منها ويؤسس عليها؛ ليس في مخرجاتها فحسب، بل وفي كونها تجربة مهنية جماعية نقلت كثيراً من العلوم والمعارف والتجارب والخبرات، وأسهمت في تطوير معارف وتجارب أعضاء الفريق وسن طريقة غير مسبوقة في تنفيذ دراسات المشروعات العملاقة من خلال منظومة عمل فرق تكاملية في جميع التخصصات والعلوم.

ولعل الأهم بعد هذا التوثيق معرفة كيف يمكن تقويم تلك التجربة الفريدة والاستفادة منها ثم البناء عليها...

*كاتب وباحث سعودي

اقرأ أيضاً


مقالات ذات صلة

أكثر من 68 مليون زائر ومعتمر بالحرمين الشريفين خلال شهر

الخليج عدد المُصلين بالمسجد الحرام بلغ 30 مليوناً و16 ألفاً و73 مُصلياً خلال شهر (واس)

أكثر من 68 مليون زائر ومعتمر بالحرمين الشريفين خلال شهر

استقبل المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة، أكثر من 68 مليون زائر خلال شهر.

«الشرق الأوسط» (مكة المكرمة)
الخليج الأمير سعود بن مشعل لدى ترؤسه الاجتماع في مكة المكرمة الأربعاء (إمارة المنطقة)

سعود بن مشعل: خدمة المقدسات وقاصديها على هرم أولويات السعودية

أكّد الأمير سعود بن مشعل، نائب أمير منطقة مكة المكرمة، أن السعودية منذ تأسيسها «أولت خدمة المقدسات وقاصديها اهتماماً خاصاً، وجعلتها على هرم الأولويات».

«الشرق الأوسط» (مكة المكرمة)
الخليج عدد المعتمرين القادمين من الخارج أكثر من مليون معتمر (واس)

السعودية: 5.4 مليون معتمر خلال الربع الثاني من عام 2025

صدرت الهيئة العامة للإحصاء السعودية، نتائج إحصاءات العمرة للربع الثاني من عام 2025م، التي أظهرت أن إجمالي عدد المعتمرين من داخل السعودية والقادمين إليها.

«الشرق الأوسط» (مكة المكرمة)
الخليج تخطى عدد المصلين في المسجد الحرام 17.7 مليون مصلٍّ خلال شهر واحد (واس)

54.5 مليون زائر ومعتمر بالحرمين الشريفين في شهر

استقبل الحرمين الشريفين، أكثر من 54.5 مليون زائر خلال الفترة بين 23 سبتمبر و22 أكتوبر 2025، بزيادة بلغت أكثر من 938 ألف زائر مقارنة بالشهر الذي سبقه.

«الشرق الأوسط» (جدة)
في العمق أرقام مليونية شهدها المسجد الحرام تُعد نتيجة عمل دؤوب واهتمام بالغ استمر عشرات السنين (واس)

كيف استوعب الحَرمان الشريفان في رمضان 122 مليون زائر ومعتمر؟

بالتوازي مع الأرقام المليونية لزوار الحَرمين، خلال رمضان، تجدر الإشارة إلى قادة السعودية الذين كان لكل منهم مساهمته وبصمته التي سيُخلدها التاريخ.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟


ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.


نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
TT

نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)

لم تشهد العلاقات الأميركية - الإسرائيلية اضطراباً كما هي الحال اليوم. ورغم دعم واشنطن الاستراتيجي، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، والاحتضان الكبير من الرئيس دونالد ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي بلغ درجة التدخل العلني الصريح في شؤون القضاء، ومطالبته عبر رسالة رسمية من البيت الأبيض بإلغاء قضايا فساد يُحاكم عليها نتنياهو، فإن هناك قلقاً يساور تل أبيب وتساؤلات كثيرة من دون إجابات.

ومن بين أبرز الأسئلة ما يتعلق بترمب، وما إذا كان في الدورة الأولى من حكمه، هو الرئيس الجديد نفسه؟ وهل تخلى عن مفاهيمه حول «إسرائيل دولة صغيرة تحتاج إلى توسيع؟».

في وثيقة نشرتها إدارة ترمب مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2025، وحددت فيها الأهداف الاستراتيجية لإدارته، جاء أن القضية الفلسطينية غير قابلة للحل قريباً. فهل هذا يعني أن بالإمكان تخطي خطة ترمب لوقف الحرب في غزة، وإقامة سلام شامل في الشرق الأوسط؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن أن يمارس ضغوطاً على إسرائيل لفرض التسوية؟ وما حدود الدعم لإسرائيل؟ وأي اتفاق مساعدة سيمنحه ترمب في عهده للسنوات العشر المقبلة؟

في محيط نتنياهو لا تبدو الأمور واضحة، رغم التصريحات التي تبث تفاؤلاً حول متانة العلاقات.

نعم، حتى نتنياهو الذي يعد نفسه «أكبر خبير إسرائيلي في الشؤون الأميركية»، يُمضي ساعات في دراسة شخصية «ترمب الجديد».

يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يشير بيده بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون الدولي خلال زيارته إسرائيل 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

نتنياهو الذي عاش في أميركا

يسجل التاريخ السياسي أن 8 من مجموع 13 رئيس وزراء حكموا إسرائيل حتى الآن، عاشوا في الولايات المتحدة لفترة زمنية ما تزيد على ستة شهور. أكثر رئيس حكومة عاش في أميركا، كانت غولدا مائير، 18 عاماً. يأتي بعدها بنيامين نتنياهو، الذي عاش فيها 16 عاماً. وكلاهما كان يتباهى بأنه أكثر من يعرف أميركا من الداخل، بفضل عيشهما الطويل فيها.

إلا أن المؤرخين الإسرائيليين يرون الأمر بشكل معاكس. ويقول الصحافي والمؤرخ، تاني غولدشتاين، إن هناك من يعد غولدا ونتنياهو أسوأ رئيسي حكومة في إسرائيل مع الولايات المتحدة، وسجل في تاريخهما أنهما تسببا بأكبر عدد من الأزمات في العلاقات بين البلدين.

غولدا، كانت وزيرة خارجية إسرائيل عام 1958، عندما تدخلت الولايات المتحدة في لبنان خلال أزمتها الدستورية، وبالاتفاق مع رئيس الوزراء بن غوريون، وضعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية في خدمة القوات الأميركية. وبذلك تم وضع قاعدة لأول تعاون أمني بين تل أبيب وواشنطن، وبعد ثلاث سنوات عقد أول لقاء رسمي بين رئيس حكومة إسرائيلية وبين الرئيس الأميركي، الذي كان يومها جون كيندي. لكن غولدا نفسها، عندما أصبحت رئيسة للحكومة الإسرائيلية، أثارت أول أزمة كبيرة في العلاقات.

في مطلع السبعينات، بدأ الأميركيون طرح مشروع سلام إسرائيلي عربي، عرف باسم وزير الخارجية، ويليام روجرز. وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حاول الرئيس أنور السادات إحياء هذه الجهود بقوة، وأبدى استعداداً واضحاً لهذا السلام. واعتقد الرئيس ريتشارد نيكسون أن غولدا ستتصرف معه بصفتها شريكة وحليفة استراتيجية ستتحمس لاتفاق السلام الذي سيجلبه إلى إسرائيل، وقد صدم عندما رفضت.

الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يصفق في حين يعانق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن الرئيس المصري أنور السادات بالبيت الأبيض سبتمبر 1978 (أ.ف.ب)

في حرب 1973، عندما دخلت إسرائيل في أزمة أمنية، وشعرت بأن الجيشين المصري والسوري يهددان وجودها، سامح نيكسون غولدا، وأرسل شحنات أسلحة ضخمة وطائرات مقاتلة دخلت الحرب ضد مصر وسوريا، يقودها طيارون من سلاح الجو الأميركي.

ويقول المؤرخ المتخصص في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، البروفسور إيلي لادرهندلر، إن غولدا أثبتت أن ادعاءاتها بأنها تعرف أميركا من الداخل انعكست على إسرائيل بشكل سلبي. وثبُت أنها كانت متبجحة، وتتمتع بقدر عال من الثقة الزائدة بالنفس، فأسهمت معرفتها بأميركا بشكل عكسي في المصلحة الإسرائيلية.

ويتمتع نتنياهو أيضاً بثقة زائدة بالنفس، في الشعور بأنه يعرف أميركا من الداخل. وقد تفوق على غولدا في عدد وعمق الأزمات التي تسبب بها في العلاقات بين البلدين، خلال معظم سنوات حكمه. فقد شنّ حرباً على الرئيس باراك أوباما، ليمنعه من توقيع الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015.

ودخل نتنياهو في أزمة مع الرئيس السابق جو بايدن، الذي هب لنجدة إسرائيل بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأفشل مبادراته لوقف النار في غزة. وفي الوقت الذي حاول فيه كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية إقامة علاقات متوازنة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الأميركي، لكي تحظى إسرائيل بدعم من كليهما، سمح نتنياهو لنفسه بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح مرشحي الحزب الجمهوري، ودخل في مشكلة مع الديمقراطيين.

ويقول خصوم نتنياهو في واشنطن إنه هو الذي أقنع الرئيس دونالد ترمب في دورته الأولى بإلغاء الاتفاق النووي. وصار يشار إليه بالبنان كمن يريد توريط الولايات المتحدة بحرب. وخلال السنة الماضية، ثبت هذا التقدير ودخلت الولايات المتحدة في حرب مع إيران، قصيرة وخاطفة ولكنها حرب. وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى إلى إقناع الرئيس الأميركي بجولة أخرى، لتكون حرباً أميركية أو حرباً مشتركة بينهما ضد إيران.

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

متانة العلاقة

ليس هناك شك في أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية ومتينة، وهي كذلك في زمن ترمب أيضاً. لكنّ شيئاً ما تغير يجب أن يقلق إسرائيل، وبدأ يقلقها بالفعل.

الحلف مع الولايات المتحدة متين، لأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقبل على نفسها أن تكون خط الدفاع والهجوم الأول للمصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في الشرق الأوسط. الجنرال ألكسندر هيغ، الذي كان قائداً لحلف شمال الأطلسي، وأصبح وزيراً للخارجية الأميركية، كان يقول إن إسرائيل هي «حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط التي تخوض حروبنا من دون مشاركة أي جندي أميركي». والمستشار الألماني الحالي، ميرتس، قال إن «إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة عنا».

لهذا تحظى إسرائيل بهذا الدعم الهائل. وعلى مدى العقود الماضية نما حجم المساعدات العسكرية الأميركية بشكل كبير، ففي عام 1998 كان المبلغ السنوي نحو 1.8 مليار دولار وبحلول 2028 سيصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً.

وتطلب إسرائيل زيادته للمرحلة المقبلة، وهذا لا يشمل ما قدمته الولايات المتحدة خلال الحرب على غزة، الذي بلغ أكثر من 22 مليار دولار. وحسب صحيفة «هآرتس»، في 18 ديسمبر 2025 أنفقت الولايات المتحدة بسبب الحرب، ما مجموعه نحو 32 مليار دولار أميركي مساعدات لإسرائيل خلال العامين الماضيين. ونقلت الصحيفة عن مركز أبحاث الكونغرس وجامعة براون في واشنطن، أنه «إلى جانب تكاليف المساعدات المباشرة، المتمثلة في العمليات العسكرية الأميركية في اليمن وإيران، حوّلت واشنطن 21.7 مليار دولار أميركي إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خلال العامين الماضيين. إضافةً إلى ذلك، وافق مجلس النواب في بداية 2025 على مساعدات عسكرية خاصة بقيمة 26 مليار دولار أميركي، خُصص منها نحو 4 مليارات دولار أميركي لصواريخ اعتراض ضمن برنامج الدفاع الصاروخي، و1.2 مليار دولار أميركي لنظام الليزر الجديد (أور إيتان)».

وكان التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي مبنياً على «قيم مشتركة» للبلدين ورسم مشترك للمصالح، لكن الحرب على غزة أحدثت هزة شديدة في هذه القواعد، التي كان تستند على دولة عظمى، إذ تحتضن «ابنها المدلل» في منطقة الشرق الأوسط.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس خلال اجتماع في أحد مقار الجيش (الحكومة الإسرائيلية)

ترمب «غير المتوقع»

يدرك نتنياهو قوة الخدمة التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة، واستغلها هو بطريقة شرسة، خصوصاً في ظل إدارتي أوباما وبايدن، لكن قدوم ترمب إلى البيت الأبيض أحدث تغييراً في المعادلة لدرجة أربكت نتنياهو وحكومته، وجعلته يخطو بحذر حتى يبتعد عن المتاهات. فالولايات المتحدة تتغير، والأمر تجلى بشكل كبير في السنة الأولى من إدارة ترمب.

يُنظر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنه شخصية غير تقليدية، تتسم قراراته بعدم القابلية للتنبؤ، ما يفرض على من يتعامل معه قدراً أكبر من الحذر مقارنة برؤساء سابقين. وتقول الصحافة الإسرائيلية إن هذا النهج يثير قلقاً حتى لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يُشار إلى أنه يخشى التعرض لانتقادات علنية على غرار ما واجهه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ورغم إدراك ترمب للأهمية الاستراتيجية لإسرائيل، فإن تقديرات تشير إلى أن حساباته لا تقتصر على هذا العامل وحده.

وترمب من نوع القادة الذين يؤمنون بأنهم يعرفون مصلحة إسرائيل أكثر منها ومن قادتها، ومثلما يراها «حاملة طائرات أميركية» يقدر عالياً «الحروب» التي تخوضها الدولة العبرية، وتدفع ثمنها بأرواح الإسرائيليين، ولا تكلف أميركا أي جندي.

لكنه في الوقت نفسه مقتنع بأنه يستطيع توفير سلام حقيقي وشامل لإسرائيل في هذا العصر، مع الدول العربية والإسلامية، وهو يقرأ استطلاعات رأي تنشر في تل أبيب، مثل الذي صدر عن معهد أبحاث الشعب اليهودي في 21 ديسمبر 2025، وجاء فيه أن 60 في المائة من الإسرائيليين يثقون في أن ترمب يعمل وفق رؤية تغلب مصالح إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة، ثمة تراجع في قوة ونفوذ المسيحيين الصهيونيين المناصرين لإسرائيل، وكذلك في قوة اللوبي اليهودي (أيباك)، مقابل القوة الصاعدة لحركة «ماغا» التي تضع مصلحة أميركا أولاً، إذ تسمع في صفوفها الأصوات التي تطالب بتقليص الدعم لإسرائيل وزيادة الرقابة على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد سوريا ولبنان.

كما أن هناك تراجعاً حاداً في التأييد الأميركي الشعبي لإسرائيل. وجاء في دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، أن «هناك أزمة خطيرة في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، لدرجة الحديث عن خطر تشكيل تهديد استراتيجي».

وجاء في الدراسة التي نشرت في مطلع ديسمبر 2025، وأجراها الباحثان إلداد شافيت وتيد ساسون، أن «مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة وقعت في أزمة غير مسبوقة. الدعم التقليدي تآكل بشكل ملموس في أوساط الديمقراطيين وحتى لدى جزء من الجمهوريين».

وتظهر استطلاعات أن الرأي العام تجاه إسرائيل يتأثر سلباً بشكل مباشر من سلوك إسرائيل في الحرب، ومن الوضع الإنساني في قطاع غزة. كما يلاحظ في الجالية اليهودية خصوصاً في الأوساط الليبرالية، تراجع الدعم، وازدياد الانتقادات لإسرائيل، التي قد تضر بحرية العمل سواء السياسي أو العسكري لإسرائيل، وتشكل تهديداً حقيقياً على أمنها.

ولا يستطيع ترمب إهمال هذه التغيرات إذا أراد أن يحافظ على جمهوره، وإذا وجد أن نتنياهو يضع عراقيل أمام مخططات إدارته. وهو نفسه كان قد أشار إلى أن إسرائيل في عهد نتنياهو باتت من دون أصدقاء سوى الولايات المتحدة، وأنه هو وحده الذي يساندها، وعليها أن تتصرف بما لا يمس مصالح وإرادة الولايات المتحدة.

وتشهد هذه المصالح تغييراً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل في اللغة الجديدة التي يستخدمها ترمب مع القادة العرب في المنطقة. ويستمع نتنياهو إلى هذه «الموسيقى» بإصغاء، محاولاً فهم حدودها.

الآن، وبعد عام في ظل الرئيس الأميركي، يقال في محيط نتنياهو إنه لا يزال يحاول دراسة «شخصية ترمب الجديدة»، ويجد أن ما تعلمه عن الولايات المتحدة يحتاج إلى نسخة محدثة من الفهم.