بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

المجتمع الاستهلاكي لا يبحث عن منتجات وخدمات فحسب بل عن «تجارب استهلاكية»

بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي
TT

بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من الأسواق، في ظل دعم كبير من الذكاء الاصطناعي. ومع أننا لسنا أمام مفهوم اقتصادي جديد، إلا أن اقتصاد التجربة بدأ منذ سنوات بالتحوّل إلى إحدى أهم الركائز التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي الحديث. ولهذا سنشهد ربما في عام 2024 دينامية اقتصادية داعمة لكل ما يتعلق باقتصاد التجربة، وترسيخاً لوعي اقتصادي جديد حيال ما تستطيع التكنولوجيا فعله بدعمٍ من الذكاء الاصطناعي في عالمنا.

في عام 1998 قدّم كل من جوزف باين وجيمس غيلمور نظرتيهما إلى مفهوم اقتصاد التجربة في مقال، قبل أن يستفيضا بشرحها من خلال كتاب أصدراه في عام 1999 ركّز على تطّور القيمة الاقتصادية وانطلاق عصر المنتجات الزراعية وصولاً إلى عصر الخدمات. وبعد أن كانت الزراعة تشكل محور الاقتصاد العالمي لفترة طويلة من الزمن، جاءت الصناعة بكامل قوتها لتُعيد تعريف الكثير من المفاهيم الاقتصادية وتستحوذ على القيمة ضمن الناتج الاقتصادي العالمي. لم يستمر هذا الوضع طويلاً، فقد حلّت مرحلة اقتصاد الخدمات، الذي سيطر سريعاً على المفاصل الاقتصادية.

لحظة تاريخية

وفي تلك اللحظة التاريخية، تحوّلت الخدمات إلى سلع، وباتت المنافسة تتركز على الأسعار. لكن عندما تساوت السلع من حيث القيمة السعرية، بدأت الأسواق بمحاولة شجاعة، هدفها إخراج الأسعار من حلبة المنافسة وإضافة بُعد جديد يميّز الخدمات ويعطيها آفاقاً جديدة. هنا بالتحديد بدأت المنافسة تشتد بين السلع والخدمات، ووُلدت بذلك ما نسمّيها اليوم «تجربة العميل»، التي فتحت أبواباً واسعة أمام قيامة «اقتصاد التجربة». ولا شك أننا وصلنا إلى هذه المرحلة بـ«بركة التكنولوجيا» لأنها أعطت بُعداً كبيراً للتجارب التي يخوضها المُستهلك أو المستخدم في عالم الخدمات بشكل خاص.

وإذا نظرنا اليوم إلى سياق التطوّر التاريخي لاقتصاد التجربة سنرى أن التكنولوجيا لعبت الدور الحيوي الأكبر في تعزيز التفاعل بين المستهلك والعلامة التجارية، وبأساليب لم يسبق لنا أن تخيّلناها من قبل.

اقتصاد التجربة

ولهذا السبب تُعدّ فكرة «اقتصاد التجربة» بالنسبة إلى كبار الاقتصاديين كما لشركات التكنولوجيا مثل «أفايا»، نقلة اقتصادية تاريخية تختصر مجمل التحولاّت الاقتصادية الرئيسية في العالم. ومن البدهيّ القول إن مفهوم اقتصاد التجربة يستند إلى وعي اقتصادي حديث ومختلف للعلاقة التي تجمع الاستهلاك بتجربة الاستهلاك. وهو ما يؤكد أن المجتمع الاستهلاكي ككل لا يبحث عن منتجات وخدمات فحسب، بل يبحث أيضاً عن تجارب استهلاك مميّزة تترك شعوراً بالرضا والمتعة التي لا تُنسى. فالسلع متوفرة لدى المنافسين وكذلك الخدمات، أما «تجربة التعامل» مع السلع والخدمات فباتت أمراً آخر تتنافس عليه العلامات التجارية. وهذا ليس اكتشافاً، فمعظم الاقتصاديين الكبار ركّزوا على أهمية تحقيق فهم عميق للعلاقات التي تربط السلع بالعمل والقيمة، كونها مصدراً أساسياً أسهم في بناء الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الليبرالية.

قواعد اللعبة تغيّرت

في عام 2024 من المرجّح أن يشهد عالمنا تسارعاً ملحوظاً في عالم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والتطوّر الذي سنشهده لن تقتصر فوائده على المجالات التكنولوجية فحسب، لأن الذكاء الاصطناعي بدأ بالفعل بدفعنا جميعاً إلى مراجعة الأفكار والمسلّمات والمفاهيم الاقتصادية والاستهلاكية. إنه عالم تزداد فيه وتيرة وسرعة التغيرات. وفي ظل تطور مفهوم اقتصاد التجربة، حيث لا تقتصر اهتمامات المستهلك على مجرد الحصول فقط على المنتج أو الخدمة، يظهر دور الذكاء الاصطناعي بوصفه منصة فريدة من نوعها تدعم هذا التحوّل الإيجابي، كونها تسهم في صناعة تجربة استهلاك أفضل. وعندما نرى كم من المستهلكين يبحثون عن تجارب مميّزة تلبي تطلعاتهم، نفهم أكثر دور الذكاء الاصطناعي في تحقيق هذه الرغبات.

جيل الألفية وجيل «زد»

نسبة هؤلاء المستهلكين ليست ضئيلة وتزداد باستمرار، خصوصاً مع جيل الألفية وجيل «زد» Z اللذين لا يساومان على التجربة ونوعيتها وقدرتها على تلبية متطلباتهما، وتقديم ذكريات استهلاكية ممتعة. وإذا نظرنا إلى الجيلين بوصفهما شريحة متجانسة تلتقي تطلّعاتها عند موضوع التجارب المتعلقة بالخدمات والسلع، فإننا عملياً نتحدث هنا عن نحو 50 في المائة من سكان العالم، وتالياً ثمة شريحة استهلاكية كبيرة ربما لم تتحدد نسبتها بشكل دقيق بعد، ولكنها تمثّل الجزء الأكبر من الأجيال الاستهلاكية في عالمنا اليوم. نعم! لقد تغيّرت قواعد اللعبة، فالأجيال الجديدة مستعدة للإنفاق على القيمة والتجربة لا على الاستحواذ والملكية، ومن هنا نفهم أكثر سبب الرعب الذي يصيب العلامات التجارية التي لم تعرف بعد أن ولاء المستهلك لم يعد للعلامة التجارية والمنتج بل للتجربة والإحساس والذكريات المصاحبة لاستهلاك المنتج، سلعةً كان أم خدمةً.

تجارب الأجيال

التجربة التي تعيشها هذه الشريحة العالمية المشكّلة من جيلين، لم يشهد التاريخ الاقتصادي مثيلاً لها، لأنها مؤلَّفة من قاعدة استهلاكية تبنّت في معظمها الخدمات التكنولوجية الحديثة، وهي تتطلّع باستمرار إلى نوعية حياة مختلفة وجديدة، مما يسهم تالياً في حدوث تحوّل نوعي في الديناميات الاقتصادية. كما تتبنّى هذه الشريحة قيماً استهلاكية وشخصية مختلفة عن قيم الأجيال السابقة تجاه التسوّق والاستهلاك. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في حين يشعر جيل الألفية برغبة الانخراط في تجارب يعدها ممتعة ومفيدة وتترك أثراً، يتوقع جيل «زد» أن تقدم له العلامات التجارية تجارب استهلاك مخصّصة له، تتمتع بالفرادة وبالقدرة على التفاعل أو توفير الميزات التفاعلية، وهذا أمر لا تتيحه مبدئياً سوى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

كذلك، كِلا الجيلين يتوق إلى الاستفادة من الابتكار التكنولوجي واستخدام التقنيات الحديثة، لا بل إنهما يتوقعان توفير العلامات التجارية الخدمات والسلع في قالب من الابتكار والتفاعل ضمن تجربة استهلاك مميزة. وهذا الأمر يظهر جلياً مع الاعتماد المتنامي على التطبيقات الذكية في الحياة اليومية، ومشاركة المحتوى الرقمي مع الآخرين واستخدام الواقع الافتراضي والواقع المعزّز.

من هنا نفهم أكثر، أهمية الهاتف الذكي وباقي الأجهزة الذكية في حياة جيل الألفية وجيل «زد»، فكلاهما ينظر إلى الأجهزة الذكية وعلى رأسها الهاتف الذكي، بوصفها «البوابة الذهبية» التي سيعبران من خلالها إلى عالم جديد يلبي تطلعاتهما ورغباتهما الاستهلاكية، وأهمها تجربة الاستهلاك المدعوم بالذكاء الاصطناعي. وتعلم هذه الشريحة من الأجيال أن الذكاء الاصطناعي قادر على تحسين نوعية حياتها، لهذا تندفع العلامات التجارية ومعها مزوّدو حلول تطوير تجارب الاستهلاك الذكية مثل «أفايا»، إلى تعزيز القدرات في عالم الذكاء الاصطناعي.

على مشارف المستقبل

نقف جميعاً اليوم على مشارف مستقبل واعد في عالم اقتصاد التجربة، تقوده ثلاثية ذهبية مكوّنة من التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والأجيال الجديدة. ولا شك أن حضور الشركات بقوة على حلبة «اقتصاد التجربة»، إذ يجري تحويل السلع والخدمات إلى تجارب، سيكون له أثر كبير ومفيد لا في مستقبل الاستهلاك فحسب بل أيضاً في مستقبل الشركات نفسها. وليس من المبالغة القول إن تجارب العملاء في عالم اقتصاد التجربة سيُحدد مَن يبقى ويستمر ومَن يتلاشى ويرحل من الشركات. وبما أن تجارب العملاء التي ستقدمها الشركات هي بيت القصيد في عالم اقتصاد التجربة، فإن التركيز في عام 2024 قد يكون ابتكار تجربة عملاء تحقق التمايز والنمو في آن معاً. وتدرك قيادات العلامات التجارية أن مراكز الاتصال وأنظمة الاتصالات والتعاون بين فرق العمل، سيشكّلان «رأس الحربة» لقيادة عملية توليد تجارب مميزّة لعملائها، وستكون الابتكارات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في مقدمة عملية تعزيز حلول تجربة العملاء.

وإذا كان عام 2023 هو عام اكتشاف الإمكانات الكبيرة للذكاء الاصطناعي، فإن عام 2024 سيكون الميدان الذي نرى فيه كيف ستتم ترجمة الاستثمارات في مجال الذكاء الاصطناعي بشكل ملموس إلى بلورة قيمة الأعمال.

أخلاقيات العمل

ولأن الرؤساء التنفيذيين ومجالس الإدارة في مختلف الشركات، يركزون حالياً وبشكل متصاعد على إدارة المخاطر والخصوصية والأمن والمخاوف المتعلقة بأخلاقيات العمل المرتبطة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، فإن عام 2024 قد يكون العام الذي يُفتح فيه النقاش واسعاً حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وهذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة لكل الشركات والمؤسسات والهيئات الناظمة والمجالس التشريعية التي تعي أهمية أخلاقيات الأعمال.

وبغضّ النظر عن كيف ستسير الأمور على مستوى اقتصاد التجربة ودور الذكاء الاصطناعي وتفاعل شرائح المستهلكين مع التجارب الجديدة في عالم الخدمات والسلع، فإن الأكيد أننا أمام ولادة عصر جديد، لأن اقتصاد التجربة يشكل نهجاً حيوياً غير مسبوق في العلاقة التي تجمع العلامات التجارية بالمستهلكين. إنه يتجاوز مجرد مفهوم تبادل المنتجات والخدمات، ويتمحور حول التجربة الناتجة عن الاستهلاك. وليس لديَّ أدنى شك في أن اقتصاد التجربة سيوفّر التفاعل العاطفي بين المستهلك والعلامة التجارية، وهو ما سيؤدي إلى بناء علاقات بينهما تتسم بالقوة والمتانة. وبالتالي ستحقق الشركات نجاحاً أكبر عندما ستضع المستهلك وسط تجربة فريدة تعزّز الولاء والرغبة بتكرار عمليات الشراء.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص رئيس الاحتياطي الفدراسي في مؤتمر صحافي 13 ديسمبر (أ.ف.ب)

خاص 2024... سنة معقّدة ومحورية للاقتصاد العالمي

الانخفاضات المتوقعة في معدلات الفائدة من قبل المصارف المركزية الرئيسية في يونيو (حزيران) 2024 تأتي مصحوبة بجوانب من عدم اليقين.

سمير عساف

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.