بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

المجتمع الاستهلاكي لا يبحث عن منتجات وخدمات فحسب بل عن «تجارب استهلاكية»

بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي
TT

بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من الأسواق، في ظل دعم كبير من الذكاء الاصطناعي. ومع أننا لسنا أمام مفهوم اقتصادي جديد، إلا أن اقتصاد التجربة بدأ منذ سنوات بالتحوّل إلى إحدى أهم الركائز التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي الحديث. ولهذا سنشهد ربما في عام 2024 دينامية اقتصادية داعمة لكل ما يتعلق باقتصاد التجربة، وترسيخاً لوعي اقتصادي جديد حيال ما تستطيع التكنولوجيا فعله بدعمٍ من الذكاء الاصطناعي في عالمنا.

في عام 1998 قدّم كل من جوزف باين وجيمس غيلمور نظرتيهما إلى مفهوم اقتصاد التجربة في مقال، قبل أن يستفيضا بشرحها من خلال كتاب أصدراه في عام 1999 ركّز على تطّور القيمة الاقتصادية وانطلاق عصر المنتجات الزراعية وصولاً إلى عصر الخدمات. وبعد أن كانت الزراعة تشكل محور الاقتصاد العالمي لفترة طويلة من الزمن، جاءت الصناعة بكامل قوتها لتُعيد تعريف الكثير من المفاهيم الاقتصادية وتستحوذ على القيمة ضمن الناتج الاقتصادي العالمي. لم يستمر هذا الوضع طويلاً، فقد حلّت مرحلة اقتصاد الخدمات، الذي سيطر سريعاً على المفاصل الاقتصادية.

لحظة تاريخية

وفي تلك اللحظة التاريخية، تحوّلت الخدمات إلى سلع، وباتت المنافسة تتركز على الأسعار. لكن عندما تساوت السلع من حيث القيمة السعرية، بدأت الأسواق بمحاولة شجاعة، هدفها إخراج الأسعار من حلبة المنافسة وإضافة بُعد جديد يميّز الخدمات ويعطيها آفاقاً جديدة. هنا بالتحديد بدأت المنافسة تشتد بين السلع والخدمات، ووُلدت بذلك ما نسمّيها اليوم «تجربة العميل»، التي فتحت أبواباً واسعة أمام قيامة «اقتصاد التجربة». ولا شك أننا وصلنا إلى هذه المرحلة بـ«بركة التكنولوجيا» لأنها أعطت بُعداً كبيراً للتجارب التي يخوضها المُستهلك أو المستخدم في عالم الخدمات بشكل خاص.

وإذا نظرنا اليوم إلى سياق التطوّر التاريخي لاقتصاد التجربة سنرى أن التكنولوجيا لعبت الدور الحيوي الأكبر في تعزيز التفاعل بين المستهلك والعلامة التجارية، وبأساليب لم يسبق لنا أن تخيّلناها من قبل.

اقتصاد التجربة

ولهذا السبب تُعدّ فكرة «اقتصاد التجربة» بالنسبة إلى كبار الاقتصاديين كما لشركات التكنولوجيا مثل «أفايا»، نقلة اقتصادية تاريخية تختصر مجمل التحولاّت الاقتصادية الرئيسية في العالم. ومن البدهيّ القول إن مفهوم اقتصاد التجربة يستند إلى وعي اقتصادي حديث ومختلف للعلاقة التي تجمع الاستهلاك بتجربة الاستهلاك. وهو ما يؤكد أن المجتمع الاستهلاكي ككل لا يبحث عن منتجات وخدمات فحسب، بل يبحث أيضاً عن تجارب استهلاك مميّزة تترك شعوراً بالرضا والمتعة التي لا تُنسى. فالسلع متوفرة لدى المنافسين وكذلك الخدمات، أما «تجربة التعامل» مع السلع والخدمات فباتت أمراً آخر تتنافس عليه العلامات التجارية. وهذا ليس اكتشافاً، فمعظم الاقتصاديين الكبار ركّزوا على أهمية تحقيق فهم عميق للعلاقات التي تربط السلع بالعمل والقيمة، كونها مصدراً أساسياً أسهم في بناء الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الليبرالية.

قواعد اللعبة تغيّرت

في عام 2024 من المرجّح أن يشهد عالمنا تسارعاً ملحوظاً في عالم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والتطوّر الذي سنشهده لن تقتصر فوائده على المجالات التكنولوجية فحسب، لأن الذكاء الاصطناعي بدأ بالفعل بدفعنا جميعاً إلى مراجعة الأفكار والمسلّمات والمفاهيم الاقتصادية والاستهلاكية. إنه عالم تزداد فيه وتيرة وسرعة التغيرات. وفي ظل تطور مفهوم اقتصاد التجربة، حيث لا تقتصر اهتمامات المستهلك على مجرد الحصول فقط على المنتج أو الخدمة، يظهر دور الذكاء الاصطناعي بوصفه منصة فريدة من نوعها تدعم هذا التحوّل الإيجابي، كونها تسهم في صناعة تجربة استهلاك أفضل. وعندما نرى كم من المستهلكين يبحثون عن تجارب مميّزة تلبي تطلعاتهم، نفهم أكثر دور الذكاء الاصطناعي في تحقيق هذه الرغبات.

جيل الألفية وجيل «زد»

نسبة هؤلاء المستهلكين ليست ضئيلة وتزداد باستمرار، خصوصاً مع جيل الألفية وجيل «زد» Z اللذين لا يساومان على التجربة ونوعيتها وقدرتها على تلبية متطلباتهما، وتقديم ذكريات استهلاكية ممتعة. وإذا نظرنا إلى الجيلين بوصفهما شريحة متجانسة تلتقي تطلّعاتها عند موضوع التجارب المتعلقة بالخدمات والسلع، فإننا عملياً نتحدث هنا عن نحو 50 في المائة من سكان العالم، وتالياً ثمة شريحة استهلاكية كبيرة ربما لم تتحدد نسبتها بشكل دقيق بعد، ولكنها تمثّل الجزء الأكبر من الأجيال الاستهلاكية في عالمنا اليوم. نعم! لقد تغيّرت قواعد اللعبة، فالأجيال الجديدة مستعدة للإنفاق على القيمة والتجربة لا على الاستحواذ والملكية، ومن هنا نفهم أكثر سبب الرعب الذي يصيب العلامات التجارية التي لم تعرف بعد أن ولاء المستهلك لم يعد للعلامة التجارية والمنتج بل للتجربة والإحساس والذكريات المصاحبة لاستهلاك المنتج، سلعةً كان أم خدمةً.

تجارب الأجيال

التجربة التي تعيشها هذه الشريحة العالمية المشكّلة من جيلين، لم يشهد التاريخ الاقتصادي مثيلاً لها، لأنها مؤلَّفة من قاعدة استهلاكية تبنّت في معظمها الخدمات التكنولوجية الحديثة، وهي تتطلّع باستمرار إلى نوعية حياة مختلفة وجديدة، مما يسهم تالياً في حدوث تحوّل نوعي في الديناميات الاقتصادية. كما تتبنّى هذه الشريحة قيماً استهلاكية وشخصية مختلفة عن قيم الأجيال السابقة تجاه التسوّق والاستهلاك. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في حين يشعر جيل الألفية برغبة الانخراط في تجارب يعدها ممتعة ومفيدة وتترك أثراً، يتوقع جيل «زد» أن تقدم له العلامات التجارية تجارب استهلاك مخصّصة له، تتمتع بالفرادة وبالقدرة على التفاعل أو توفير الميزات التفاعلية، وهذا أمر لا تتيحه مبدئياً سوى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

كذلك، كِلا الجيلين يتوق إلى الاستفادة من الابتكار التكنولوجي واستخدام التقنيات الحديثة، لا بل إنهما يتوقعان توفير العلامات التجارية الخدمات والسلع في قالب من الابتكار والتفاعل ضمن تجربة استهلاك مميزة. وهذا الأمر يظهر جلياً مع الاعتماد المتنامي على التطبيقات الذكية في الحياة اليومية، ومشاركة المحتوى الرقمي مع الآخرين واستخدام الواقع الافتراضي والواقع المعزّز.

من هنا نفهم أكثر، أهمية الهاتف الذكي وباقي الأجهزة الذكية في حياة جيل الألفية وجيل «زد»، فكلاهما ينظر إلى الأجهزة الذكية وعلى رأسها الهاتف الذكي، بوصفها «البوابة الذهبية» التي سيعبران من خلالها إلى عالم جديد يلبي تطلعاتهما ورغباتهما الاستهلاكية، وأهمها تجربة الاستهلاك المدعوم بالذكاء الاصطناعي. وتعلم هذه الشريحة من الأجيال أن الذكاء الاصطناعي قادر على تحسين نوعية حياتها، لهذا تندفع العلامات التجارية ومعها مزوّدو حلول تطوير تجارب الاستهلاك الذكية مثل «أفايا»، إلى تعزيز القدرات في عالم الذكاء الاصطناعي.

على مشارف المستقبل

نقف جميعاً اليوم على مشارف مستقبل واعد في عالم اقتصاد التجربة، تقوده ثلاثية ذهبية مكوّنة من التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والأجيال الجديدة. ولا شك أن حضور الشركات بقوة على حلبة «اقتصاد التجربة»، إذ يجري تحويل السلع والخدمات إلى تجارب، سيكون له أثر كبير ومفيد لا في مستقبل الاستهلاك فحسب بل أيضاً في مستقبل الشركات نفسها. وليس من المبالغة القول إن تجارب العملاء في عالم اقتصاد التجربة سيُحدد مَن يبقى ويستمر ومَن يتلاشى ويرحل من الشركات. وبما أن تجارب العملاء التي ستقدمها الشركات هي بيت القصيد في عالم اقتصاد التجربة، فإن التركيز في عام 2024 قد يكون ابتكار تجربة عملاء تحقق التمايز والنمو في آن معاً. وتدرك قيادات العلامات التجارية أن مراكز الاتصال وأنظمة الاتصالات والتعاون بين فرق العمل، سيشكّلان «رأس الحربة» لقيادة عملية توليد تجارب مميزّة لعملائها، وستكون الابتكارات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في مقدمة عملية تعزيز حلول تجربة العملاء.

وإذا كان عام 2023 هو عام اكتشاف الإمكانات الكبيرة للذكاء الاصطناعي، فإن عام 2024 سيكون الميدان الذي نرى فيه كيف ستتم ترجمة الاستثمارات في مجال الذكاء الاصطناعي بشكل ملموس إلى بلورة قيمة الأعمال.

أخلاقيات العمل

ولأن الرؤساء التنفيذيين ومجالس الإدارة في مختلف الشركات، يركزون حالياً وبشكل متصاعد على إدارة المخاطر والخصوصية والأمن والمخاوف المتعلقة بأخلاقيات العمل المرتبطة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، فإن عام 2024 قد يكون العام الذي يُفتح فيه النقاش واسعاً حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وهذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة لكل الشركات والمؤسسات والهيئات الناظمة والمجالس التشريعية التي تعي أهمية أخلاقيات الأعمال.

وبغضّ النظر عن كيف ستسير الأمور على مستوى اقتصاد التجربة ودور الذكاء الاصطناعي وتفاعل شرائح المستهلكين مع التجارب الجديدة في عالم الخدمات والسلع، فإن الأكيد أننا أمام ولادة عصر جديد، لأن اقتصاد التجربة يشكل نهجاً حيوياً غير مسبوق في العلاقة التي تجمع العلامات التجارية بالمستهلكين. إنه يتجاوز مجرد مفهوم تبادل المنتجات والخدمات، ويتمحور حول التجربة الناتجة عن الاستهلاك. وليس لديَّ أدنى شك في أن اقتصاد التجربة سيوفّر التفاعل العاطفي بين المستهلك والعلامة التجارية، وهو ما سيؤدي إلى بناء علاقات بينهما تتسم بالقوة والمتانة. وبالتالي ستحقق الشركات نجاحاً أكبر عندما ستضع المستهلك وسط تجربة فريدة تعزّز الولاء والرغبة بتكرار عمليات الشراء.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص رئيس الاحتياطي الفدراسي في مؤتمر صحافي 13 ديسمبر (أ.ف.ب)

خاص 2024... سنة معقّدة ومحورية للاقتصاد العالمي

الانخفاضات المتوقعة في معدلات الفائدة من قبل المصارف المركزية الرئيسية في يونيو (حزيران) 2024 تأتي مصحوبة بجوانب من عدم اليقين.

سمير عساف

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

TT

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)
يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)

حتى بعد مرور عام على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لم يعرف أحد على وجه الدقة الهدف من الهجوم المباغت لحركة «حماس» الفلسطينية على إسرائيل، الذي يوشك اليوم على تغيير وجه الشرق الأوسط، ويجرّ خلفه 3 حروب، واحدة مدمرة في غزة، وثانية دموية في لبنان، وثالثة صامتة طويلة الأمد في الضفة الغربية، وعدة حروب باردة مع إيران وأذرعها في العراق واليمن وسوريا.

من المبكر الحكم على نتائج الهجوم الذي فاجأ إسرائيل، تحديداً لجهة إقامة دولة فلسطينية. ثمة وجهتا نظر، تفيد الأولى بأن 7 أكتوبر ستنتهي إلى مسار الدولة، ويزعم الثاني أن الباب قد فُتح لإسرائيل، ليس للقضاء على حل الدولتين، بل احتلال أجزاء من دول أخرى في المنطقة.

لكن بالنسبة لـ«حماس» التي بدأت الهجوم وتلقت الردّ عليه، يمكن القول إنها دفعت ثمناً لم تكن تتخيله يوماً. فماذا حدث خلال عام؟ وكيف أصبحت الحركة في ميزان الربح والخسارة؟

قبل الهجوم، كانت «حماس» بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين قوة لا يستهان بها، وليس من الوارد أن تضحي بموقعها ومكاسبها في حرب مدمرة، وكان هذا سر الهجوم، قبل أن يكلفها الكثير لاحقاً.

وإذا كانت الحرب قد بدأت بضربة «حماس» وغارات جوية إسرائيلية لاحقة، فالأكيد أن الحركة لم تكن تتوقع أن الحرب البرية ستكون بهذا الزخم الذي طال جميع مناطق غزة، متراً بمتر، وشبراً بشبر.

اليوم، فقدت «حماس» وجناحها المسلح، الكثير من الأشياء، كما أنها في المقابل كسبت أشياء أخرى.

خسرت «حماس» الكثير في هجوم 7 أكتوبر المباغت لكنها ربحت أشياء أيضاً (أ.ب)

حساب الربح... إحصاء الخسارة

على الأقل، فقدت «حماس» دعماً سياسياً ولو كان خافتاً من قبل دول أوروبية ودولية، ومثله دعم مالي لتمويل مشاريع حكومية ومؤسساتية وخدماتية لسكان غزة، وإلى حد ما تضررت علاقة الحركة بدول إقليمية دعمتها في الصراع ضد إسرائيل، أو ما يتعلق بالمصالحة مع حركة «فتح».

وبعد هجومها الكبير، نّدت دول بـ«حماس»، وبقي هذا الموقف يتصاعد مع مرور الأيام في ظل الحملة الإعلامية الإسرائيلية التي صاحبت هجوم 7 أكتوبر.

وخلال ذلك، ظهرت مؤشرات قوية على خسارة الحركة لكثير من شرعيتها التي اكتسبتها لسنوات بتطوير علاقات كانت صعبة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية، وعلى وجه الخصوص تضررت إلى حد ما العلاقة مع مصر وقطر، إذ قالت مصادر موثوقة لـ«الشرق الأوسط»، إن «علاقة (حماس) بهاتين الدولتين العربيتين لم تعد كما كانت».

ويفهم قياديون في «حماس»، وفقاً للمصادر، أنه «في لحظة ما قد تطالبهم قطر بالخروج (...) كما أن الوضع مع مصر لم يعد على أحسن حال».

وتطالب مصر اليوم، وتعمل على عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، ويشمل ذلك تسليمها معبر رفح البري، وليس إسرائيل أو «حماس».

مقابل ذلك، زاد دعم «حماس» في «محور المقاومة» المدعوم من إيران، لكن هذا الأخير تعرض لخسائر عدة على أصعد مختلفة بفعل الحرب.

وكسبت الحركة أيضاً تأييداً من دول مثل تركيا وروسيا، وإلى حد ما من الصين، الأمر الذي دفع مراقبين إلى الاعتقاد بأن «حماس» تموضعت في استقطاب إقليمي حاد، في لحظة تقترب فيها المنطقة من شفا حرب مفتوحة.

شعبية «حماس» ونفوذها

أيام قليلة بعد 7 أكتوبر 2023، ارتفعت شعبية «حماس» بشكل كبير في مناطق غزة والضفة الغربية. كان يمكن ملاحظة كيف أن الإعجاب بالهجوم المباغت طغى على كل شيء، ولكن سرعان ما تبدد كل ذلك، خصوصاً في القطاع، مع استمرار الهجمات الإسرائيلية التي كبدت الغزيين خسائر مريرة في الأرواح والأملاك.

وباتت غالبية من سكان غزة يُحمّلون «حماس» مسؤولية ما حلّ بهم، الأمر الذي أدى إلى تراجع تأييد الحركة بشكل كبير، وأفقدها ميزة الدعم الكبير.

رغم كل هذا التراجع، فإن الحركة ما تزال ترى نفسها جزءاً واضحاً من مستقبل غزة والقضية الفلسطينية، وأن لديها القدرة على البقاء سياسياً وعسكرياً ومدنياً وشعبياً حتى حكومياً.

ومع ذلك، فإن الحكم على قدرة «حماس» على البقاء من عدمه سيكون حين تنتهي الحرب، ويتبين شكل الشرق الأوسط في اليوم التالي، لكن الأكيد أن الحركة لم تعد قادرة على حكم القطاع الذي يحتاج إلى دعم دولي واسع لإنقاذ سكانه وإعادة إعماره، وإحياء اقتصاده المنهار.

يرى خبراء عسكريون أن بقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من «صورة المنتصر» (أ.ف.ب)

قيادات «حماس»... مَن بقي؟

فقدت «حماس» أهم قياداتها السياسية والحكومية والعسكرية، وجزءاً لا يستهان به من مسلحيها، إلى جانب ناشطين في المجالات الدعوية والاجتماعية والاقتصادية.

مع بداية الحرب، وصلت إسرائيل إلى زكريا أبو معمر وجواد أبو شمالة من أعضاء المكتب السياسي للحركة، وأيمن نوفل وأحمد الغندور وهما قائدا لواءي الوسط والشمال في «كتائب القسام»، إلى جانب أيمن صيام قائد الوحدة الصاروخية في الكتائب.

وقد دأبت «حماس» على نعي جميع الشخصيات التي فقدتها خلال الحرب وإعلان أسمائهم، قبل أن تغير هذا النهج لتخفي معلومات قادتها والمسلحين الذين يتم قتلهم.

لاحقاً، نجحت إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في طهران، ونائبه صالح العاروري في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكلاهما نعتهما الحركة.

لكن بعيداً عن إعلانات «حماس»، أكدت إسرائيل اغتيال قائد «كتائب القسام» والمطلوب الأول منذ عقود محمد الضيف في ضربة جوية نفّذتها بمنطقة مواصي خان يونس، جنوب غزة، في 13 يوليو (تموز) الماضي، إلى جانب رافع سلامة، قائد لواء خان يونس، وقبلهما أكدت اغتيال مروان عيسى، نائب الضيف، في نفق وسط مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، في 10 مارس (آذار) الماضي.

وكانت مصادر من «حماس» قد أكدت لـ«الشرق الأوسط» اغتيال سلامة وعيسى، لكنها لم تدلِ بأي معلومات حول الضيف.

وكشفت «الشرق الأوسط» في وقت سابق، عن مقتل اثنين من أعضاء المكتب السياسي، هما روحي مشتهى وسامح السراج في ضربة استهدفت نفقاً جنوب مدينة غزة، إلى جانب قيادات عسكرية وازنة في «القسام».

ومن بين الاغتيالات المؤثرة في «القسام»، استهداف أيمن المبحوح أحد أهم قادة الكتائب والمسؤول الأول عن استخبارات الكتائب وأسرارها الأمنية، الذي كان لسنوات مسؤولاً عن الدائرة الأمنية الخاصة بحماية محمد الضيف.

ولم تؤكد «حماس» اغتيال أي من هؤلاء، بل إنها تشدد على أن الضيف ما زال حياً، فيما تصرّ إسرائيل على نجاحها باغتياله.

وفقدت «القسام» مئات من قياداتها الميدانيين، منهم قادة «كتائب» و«سرايا» و«فصائل» و«مجموعات»، وهي مسميات عسكرية بالترتيب وفق تقسيمات معينة ومحددة، ورغم أنها خسائر فادحة فإن المحلل العسكري العقيد المتقاعد منير حمد من غزة يميل إلى الاعتقاد بأنها «لا تعني القضاء تماماً على الكتائب».

وقال حمد، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» استطاعت حتى الآن الحفاظ على حياة قائدها يحيى السنوار، خاصة بعد اغتيال هنية في طهران، ما يعني «توفق الحركة استخبارياً، على الأقل حتى الآن».

ورأى حمد أن «إبقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من صورة النصر التي تحاول الحصول عليها منذ أشهر».

ويُحسب لحركة «حماس» أنها وضعت قضية اغتيال قياداتها وعناصرها رهن التكهنات، سواء بالنسبة لإسرائيل أو غيرها، ما يؤشر على صعوبات أمنية واجهتها وما زالت تواجهها المخابرات الإسرائيلية في الوصول لقيادات «حماس» و«القسام»، على عكس ما يجري حالياً على الجبهة اللبنانية مع «حزب الله».

ولا تكتفي إسرائيل بملاحقة السنوار، بل إنها تبحث عن شقيقه محمد، أحد أبرز قادة «القسام» والرجل الثاني بعد الضيف، كما تبحث عن قائد لواء رفح محمد شبانة، وعن قائد لواء غزة عز الدين الحداد الذي تلقبه بـ«الشبح»، وعن قيادات أخرى من المجلس العسكري مثل رائد سعد، وأبو عمر السوري، اللذين نجيا من عمليتي اغتيال في غزة.

وتدفع هذه المعطيات العقيد المتقاعد منير حمد إلى الجزم بأن «حماس» قادرة على النهوض مجدداً، خاصة أن عدداً من قياداتها المؤثرة ما زال على قيد الحياة.

ويؤكد مراقبون أنه في حال تم التوصل لاتفاق تهدئة، يمكن لـ«حماس» أن تعيد بناء نفسها وقوتها مجدداً، خاصة مع وجود العامل البشري الذي يمكن أن تستغله، كما أن هناك قيادات بارزة قادرة على قيادة الحركة من جديد، بمن فيهم شخصيات تنشط في الخارج لم تتأثر بالضربات الإسرائيلية.

ويتفق حمد مع مراقبين على أن «حماس» نجحت حتى الآن في الاحتفاظ بعشرات الإسرائيليين المحتجزين كأسرى في غزة، بعد عام من حرب مدمرة طالت كل شبر من القطاع، وهو ما يمنحها مكاسب أكبر لفرض شروطها في التفاوض الذي يسير ببطء شديد في ظروف معقدة.

الحرب الأخيرة في غزة أظهرت خطأ التقدير الإسرائيلي لحجم شبكة الأنفاق في غزة (أ.ف.ب)

أنفاق «حماس»

فقدت «حماس» كثيراً من قوتها خلال عام من الحرب. وبعد ضربات متتالية، شملت الخدمة العامة، والمرافق التنظيمية والعسكرية والاقتصادية، تكاد الخسائر تكون شاملة على نحو واسع.

لكن فقدان معظم أنفاق «حماس» قد يكون الخسارة الأبرز لجهة أنها «سلاح استراتيجي» كان بيد الحركة.

واستخدمت «حماس» تلك الأنفاق في التحكم السيطرة، ولحماية قياداتها، وكذلك لإخفاء الإسرائيليين، ومن ثم في إدارة المعركة لتنفيذ هجمات، مباشرة أو صاروخية.

وبحسب مصادر «الشرق الأوسط»، فقد «نجحت إسرائيل في تدمير كثير من أنفاق الحركة». وقالت إن «الجيش الإسرائيلي عثر على كثير من الأنفاق الاستراتيجية الهجومية والدفاعية».

واستخدمت «حماس» الأنفاق في مناسبات مختلفة كمخابئ لبعض قادتها الذين تمت ملاحقتهم فوق وتحت الأرض، وهو الأمر الذي جرى مع عضو المكتب السياسي للحركة روحي مشتهى وقيادات أخرى، ما أدى لمقتلهم في أحد تلك الأنفاق.

تقدر مصادر مطلعة لـ«لشرق الأوسط» أن «حماس» تمتلك في كل منطقة داخل غزة (شمال القطاع مثلاً) ما لا يقل عن 700 نفق بأحجام ومهمات مختلفة، لكن ذلك يرتبط بجغرافيا وطبيعة التربة التي يمكن من خلالها حفر عدد أكبر أو أقل من الأنفاق.

وتقول المصادر: «في خان يونس جنوب القطاع، يختلف عدد الأنفاق كلياً، وربما هو الأكبر على مستوى القطاع، وخاصة في المناطق الشرقية منها باعتبارها مناطق زراعية وسهلة الحفر، ويمكن فيها العثور على أكثر من مسار للنفق الواحد بتفرعات مختلفة وبتوزيعات جغرافية مختلفة من مكان إلى آخر، ويقدر عددها بنحو ألف نفق».

وقدرت إسرائيل سابقاً أن تكون «حماس» حفرت أكثر من 500 كيلومتر من الأنفاق، لكن الحرب الحالية أظهرت أن تقديراتها خاطئة، وكانت أكبر بكثير.

وتفسر هذه المعطيات كيف نجحت «حماس» حتى اللحظة في تسهيل حركة قياداتها ومقاتليها بين مواقع، فوق الأرض وتحتها، إذ الواقع الفعلي لشبكة الأنفاق يتيح لهم المناورة مع إسرائيل.

«حماس» أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ (أ.ف.ب)

ترسانة الصواريخ

مثّلت الصواريخ سلاحاً فارقاً لدى «حماس»، وشكّلت في مرحلة ما أحد أهم وسائل الردع، بعدما كانت الحركة قادرة على ضرب المدن والمستوطنات الإسرائيلية وقتما تشاء، خاصة تلك التي كانت تصل إلى تل أبيب والقدس.

تقول مصادر موثوقة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» فقدت غالبية مخزونها من الصواريخ. ومع ذلك يعتقد مراقبون أن الحركة تخفي عدداً منها، وسوف تستخدمها في وقت ما.

وتزعم مصادر ميدانية من «حماس» أن جناحها المسلح كان يمتلك قبيل الحرب ما يزيد على 60 ألف صاروخ، ما بين صواريخ بعيدة المدى وأخرى متوسطة وقصيرة.

وكانت «حماس» قد أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر، ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ، غالبيتها متوسطة وقصيرة المدى تزامناً مع بدء الهجوم العسكري.

ومع ذلك، يصعب معرفة العدد الدقيق للصواريخ التي تمتلكها «حماس» قبل الحرب، وما تبقى خلال عام بعد اندلاعها.

وتزعم إسرائيل أنها نجحت في تدمير كثير من الصواريخ، إلى جانب ضرب أماكن تصنيعها وتخزينها، ومنصات إطلاقها.

خسرت حماس الكثير من قياداتها لكن وجود عدد منهم خارج غزة يمنحها القدرة على المناورة (غيتي)

بنك المال والمعلومات السرية

لم تتوقع «حماس» أن القوات البرية الإسرائيلية ستتعمق داخل غزة، كل هذا الوقت وبهذا العمق والسعة، ما منعها من نقل أو إتلاف ملفات بالغة السرية، من بينها ملفات اجتماعات مغلقة، وملفات أمنية ومالية، نجحت إسرائيل في السيطرة عليها، كما الفيديو الذي ظهر فيه قائد «كتائب القسام»، محمد الضيف، الذي كان يوصف بأنه رجل الظل الذي لا تعرف صورته.

وأكدت مصادر في الحركة، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الوقت لم يسعف عناصر (حماس) لتدمير ما لديها من ملفات، وإلا كان تم زرع عبوات ناسفة لتفخيخ المواقع التي تحوي مثل هذه الملفات على الأقل».

على الصعيد الحكومي، يمكن الجزم أن «حماس» خسرت جميع مقراتها، كما فقدت قيادات حكومية بارزة كانت تقود عملها الخدمي وغيره، إلى جانب كثير من أركان هيئة الطوارئ التي شكّلتها لإدارة العمل الحكومي للسكان خلال الحرب، وليس آخرهم على الأغلب المهندس ماجد صالح، المدير في وزارة الأشغال، الذي كان هدفاً لإسرائيل مرات عدة خلال هذه الحرب، وقد فقد زوجته وعدداً من أبنائه.

ترافق ذلك مع خسارة «حماس» كثيراً من مواردها المالية التي كانت تعتمد عليها، فهي إلى جانب الدعم الخارجي والدخل الحكومي، ثمة مصانع ومحال وعقارات وغيرها كانت تدرّ على الحركة شهرياً مبالغ طائلة.

وخلال الحرب تعمدت إسرائيل استهداف جميع مصادر تمويل «حماس»، وقصفت بنكاً تابعاً للحركة، وغرفاً محددة كان تخزن أموالاً، وهاجمت مركبات نقل أموال، واستولت على ملايين «الشواقل» من أماكن داهمتها، الأمر الذي أفقد «حماس» في كثير من الفترات قدرتها على صرف رواتب موظفيها وعناصرها، سواء الحكوميون أو المنضمون لجناحها العسكري وغيرهم.

في نهاية المطاف، طال الدمار كل شيء، كل شارع وحي، وجميع العائلات التي رزحت تحت نار الحرب طوال عام. لكن حسابات الربح والخسارة بالنسبة لـ«حماس» أمر بلاغ التعقيد، ولا يمكن الجزم به. ففي اليوم التالي للحرب، ستكون المعطيات حاسمة لمعرفة أن الحركة انتهت بالفعل، أم أنها طبقاً للظروف قادرة على العودة والنهوض مجدداً.