هل يستطيع السودان الصمود؟

حتى ينتهي القتال وتنتهي حالة الانقسام الموجودة حالياً على أرض الواقع، من الضروري تقديم كل الأطراف السودانية لتنازلات تتعلق بمصالحهم والتوصل إلى تسوية مرضية توفق بين هذه المصالح.

سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)
سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)
TT

هل يستطيع السودان الصمود؟

سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)
سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)

بدأ عام 2023 بداية كانت تبدو مبشّرة وداعية للتفاؤل بالنسبة إلى السودان، حيث أبرم كل من القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اتفاق إطار لتشكيل حكومة مدنية انتقالية. للأسف مع نهاية العام يواجه السودان انقساماً على أرض الواقع مثله مثل ليبيا. فقد دُمرت العاصمة، واستشرى القتال على أساس عرقي، ونزح نحو 5.5 مليون سوداني، في حين يعاني 18 مليوناً من الجوع الشديد.

هذا الوضع أبعد ما يكون عما تصوره الشعب السوداني، والولايات المتحدة الأميركية، وغيرهم بعد عزل الرئيس البشير في أبريل (نيسان) 2019، وما أعقب ذلك من تشكيل حكومة انتقالية يغلب عليها الطابع المدني. كيف ساءت الأمور بهذا الشكل؟ تبين أن الدولة الفاسدة، التي أقامها البشير، قوية وثابتة وراسخة رغم عزله من منصبه. ازدادت الأطراف الفاعلة السياسية المدنية انقساماً وفرقة، وفشلت في التواصل مع النساء والشباب الذين قادوا الثورة التي اندلعت خلال عامي 2018 و2019. وعندما حاولت الحكومة الانتقالية نقل بعض السلطات المرتبطة بالاقتصاد من أيدي الجيش، نفّذ كل من الفريق أول البرهان وحميدتي انقلاباً في أكتوبر (تشرين الأول) 2021.

قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان (أ.ب)

وبعد الانقلاب، حاول كل من الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، وهي مؤسسة إقليمية، بشكل مشترك تيسير تسوية جديدة بين الأطراف السياسية المدنية والقائدين. دعمت الولايات المتحدة الأميركية هذه المحاولات، وأسفرت العملية عن اتفاق يؤسس لتشكيل حكومة مدنية انتقالية جديدة في أبريل 2023. مع ذلك ظلت المسألة المثيرة للجدل، والمتمثلة في دمج قوات «الدعم السريع» والقوات المسلحة السودانية في جيش واحد قائمةً وعصيّة عن الحل، واستغل المخربون والمفسدون ذلك.

وفي 15 أبريل اندلع قتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات «الدعم السريع» داخل العاصمة الخرطوم ومحيطها، وسرعان ما اتسع نطاق القتال. وعند نهاية العام، سيطرت قوات «الدعم السريع» على أربع ولايات من إجمالي خمس ولايات في إقليم دارفور في الغرب، وأجزاء مهمة من إقليم كردفان في الجنوب، إضافة إلى جزء كبير من الخرطوم الكبرى، في حين تهيمن القوات المسلحة السودانية على غالبية مناطق النيل الأبيض. لقد بات السودان في حالة انقسام فعلي.

لم يتجاهل العالم هذه الأزمة الجديدة في السودان، وسرعان ما نظمت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مفاوضات في جدة سعياً لوقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية للنازحين السودانيين. وعلى رغم وعود القائدين بوقف إطلاق النار، استمر القتال وتم تعليق المفاوضات. كذلك حاولت أطراف فاعلة خارجية القيام بجهود وساطة. مع ذلك رفضت حكومة البرهان جهود الاتحاد الأفريقي بقولها إن تعليق الاتحاد عضوية السودان بعد الانقلاب دليل على الانحياز.

كذلك رفض البرهان محاولات اللجنة الرباعية التابعة للهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) بزعم أن القيادة الكينية لها تفضل قوات «الدعم السريع» وتنحاز لها. وعرقل أيضاً أي دور لبعثة الأمم المتحدة في السودان. وعقدت مصر اجتماعاً لدول الجوار، لكن أخفقت تلك الجهود أيضاً في وقف القتال. وكانت النتيجة الأكثر بشاعة لتوسيع نطاق الصراع هي مذبحة المساليت العرقية التي ارتكبتها قوات «الدعم السريع» بالتعاون مع حلفائها من القبائل البدوية. استمرت جرائم القتل والاغتصاب دون رقيب من جانب قيادة قوات «الدعم السريع».

قائد قوات «الدعم السريع» محمد حميدتي (أ.ب)

في أكتوبر 2023، استأنف كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية محادثات جدة، ونجحت في الدفع باتجاه التوصل إلى اتفاق بين القوات المسلحة السودانية وقوات «الدعم السريع» لمناقشة إجراءات بناء الثقة بهدف التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار. مع ذلك سرعان ما عاد القائدان السودانيان إلى المطالبة بالحد الأقصى من بعضهما البعض، واستمر القتال.

في الأثناء، عقدت الهيئة الحكومية للتنمية قمة استثنائية في 3 ديسمبر (كانون الأول)، ويُقال إن البرهان وحميدتي وافقا على اللقاء في غضون 15 يوماً لمناقشة وقف إطلاق نار مدته 30 يوماً. وما إن عاد البرهان من القمة، حتى بدأ وزير خارجيته يقوّض نتيجتها، وما أسفرت عنه، ويبدو أن جهود السلام قد وصلت إلى طريق مسدود.

وعلى رغم المكاسب التي حققتها قوات «الدعم السريع» على الأرض مؤخراً، يبدو أن القتال يتجه إلى طريق مسدود هو الآخر. هل يمكن لأي من القوات المسلحة السودانية أو قوات «الدعم السريع» هزيمة الآخر؟ في الوقت الذي قد يعتقد فيه القائدان ذلك، يشير تاريخ السودان إلى خلافه. لقد أسفرت 38 عاماً من الحرب الأهلية السابقة عن انقسام البلاد لا عن نصر عسكري.

هل تقسيم السودان بدرجة أكبر من ذلك هو ما يريده أي شخص، سواء كان سودانياً أو غير سوداني، حقاً؟ ولصالح مَن هذه النتيجة؟ بالتأكيد ليست لصالح السودانيين الذين سيظلون يعانون ويموتون إذا ما استمر القتال. وبالتأكيد ليس ذلك أيضاً لصالح الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا اللتين تريدان توقف القتل العرقي، وتدفق مواد الإغاثة الإنسانية، وإقامة حكم ديمقراطي في السودان. كذلك ليس ذلك لصالح أي من دول جوار السودان، كما هو مأمول، التي إما تخشى امتداد حالة الفوضى وانعدام الأمن إليها، وإما تريد الاستثمار في الإمكانيات الهائلة الزراعية أو التجارية أو في الثروة المعدنية في السودان. فهل تكون الاستثمارات آمنة إذا ظل المعسكران المسلحان يقتتلان؟

حتى ينتهي القتال وتنتهي حالة الانقسام الموجودة حالياً على أرض الواقع، من الضروري تقديم كل الأطراف لتنازلات تتعلق بمصالحهم والتوصل إلى تسوية مرضية توفق بين هذه المصالح. من أين يمكن البدء؟ على الأرجح ليس مع القائدين السودانيين اللذين لا يزالان يسعيان وراء نصر عسكري، ولا يقدمان أي مسار مقبول للسلام. ربما يمكن البدء بأولئك الذين يتيحون استمرار القتال.

يتمتع المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المعيّن حديثاً، رمتان لامامرا، بالخبرة والوقار اللازمين لإشراك كافة أطراف الصراع في مسار لوقف القتال وإتاحة المجال لحل سياسي. كذلك قد يكون التعيين الفوري لمبعوث للهيئة الحكومية للتنمية نافعاً، شريطة توحيد الجهود مع لامامرا. ويمكن أيضاً لجهود «المسار الثاني» غير الرسمية أن تكون مفيدة في التوصل إلى صيغة تلبي ما يكفي من مصالح الطرفين لإنهاء القتال، والتوصل إلى مسار سياسي لإعادة توحيد السودان. مع ذلك سوف يتطلب أي توحيد وطني حقيقي لدعم الأغلبية العظمى من الشعب السوداني نفسه، ويعني ذلك ضرورة جعل الحركات المدنية السياسية والحركات الشعبية، التي تزداد وحدة وترابطاً، في صلب أي صيغة لسلام واستقرار مستدامين.

عاش السودان منذ الاستقلال في ظل حكم عسكري في غالبية المراحل، وأصبح دولة هشة. والاستمرار في شكل حكم يسيطر عليه الجيش، وتوقع نتيجة مختلفة، أمر غير مجد ولا طائل من ورائه.

هل يمكن للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا دعم مثل هذا النهج القائم على المصالح الذي يتطلب الكثير من التنازلات والمواءمات؟ هل ستتمكنان من تحقيق أهداف الشعب السوداني؛ من أمن وشروط حياة إنسانية وحكم رشيد إذا ما فعلتا ذلك؟ هل يمكن أن تدعما اتفاقات يتوصل إليها القائدان السودانيان وقادة مدنيون مع شركاء إقليميين للبلاد؟ بعبارة أخرى، هل يمكن لهم التنازل عن بعض مصالحهم إذا ما عزم من يشعلون الحرب ويستمرون في القتال على ذلك؟

يعتمد بقاء السودان وصموده على إنهاء القتال، ويتطلب ذلك دبلوماسية بارعة من جانب طرف موثوق به ليس لديه أي مصالح من أجل التوصل إلى تنازلات ومواءمات فيما يتعلق بمصالح سودانية وخارجية.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

TT

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)
يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)

حتى بعد مرور عام على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لم يعرف أحد على وجه الدقة الهدف من الهجوم المباغت لحركة «حماس» الفلسطينية على إسرائيل، الذي يوشك اليوم على تغيير وجه الشرق الأوسط، ويجرّ خلفه 3 حروب، واحدة مدمرة في غزة، وثانية دموية في لبنان، وثالثة صامتة طويلة الأمد في الضفة الغربية، وعدة حروب باردة مع إيران وأذرعها في العراق واليمن وسوريا.

من المبكر الحكم على نتائج الهجوم الذي فاجأ إسرائيل، تحديداً لجهة إقامة دولة فلسطينية. ثمة وجهتا نظر، تفيد الأولى بأن 7 أكتوبر ستنتهي إلى مسار الدولة، ويزعم الثاني أن الباب قد فُتح لإسرائيل، ليس للقضاء على حل الدولتين، بل احتلال أجزاء من دول أخرى في المنطقة.

لكن بالنسبة لـ«حماس» التي بدأت الهجوم وتلقت الردّ عليه، يمكن القول إنها دفعت ثمناً لم تكن تتخيله يوماً. فماذا حدث خلال عام؟ وكيف أصبحت الحركة في ميزان الربح والخسارة؟

قبل الهجوم، كانت «حماس» بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين قوة لا يستهان بها، وليس من الوارد أن تضحي بموقعها ومكاسبها في حرب مدمرة، وكان هذا سر الهجوم، قبل أن يكلفها الكثير لاحقاً.

وإذا كانت الحرب قد بدأت بضربة «حماس» وغارات جوية إسرائيلية لاحقة، فالأكيد أن الحركة لم تكن تتوقع أن الحرب البرية ستكون بهذا الزخم الذي طال جميع مناطق غزة، متراً بمتر، وشبراً بشبر.

اليوم، فقدت «حماس» وجناحها المسلح، الكثير من الأشياء، كما أنها في المقابل كسبت أشياء أخرى.

خسرت «حماس» الكثير في هجوم 7 أكتوبر المباغت لكنها ربحت أشياء أيضاً (أ.ب)

حساب الربح... إحصاء الخسارة

على الأقل، فقدت «حماس» دعماً سياسياً ولو كان خافتاً من قبل دول أوروبية ودولية، ومثله دعم مالي لتمويل مشاريع حكومية ومؤسساتية وخدماتية لسكان غزة، وإلى حد ما تضررت علاقة الحركة بدول إقليمية دعمتها في الصراع ضد إسرائيل، أو ما يتعلق بالمصالحة مع حركة «فتح».

وبعد هجومها الكبير، نّدت دول بـ«حماس»، وبقي هذا الموقف يتصاعد مع مرور الأيام في ظل الحملة الإعلامية الإسرائيلية التي صاحبت هجوم 7 أكتوبر.

وخلال ذلك، ظهرت مؤشرات قوية على خسارة الحركة لكثير من شرعيتها التي اكتسبتها لسنوات بتطوير علاقات كانت صعبة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية، وعلى وجه الخصوص تضررت إلى حد ما العلاقة مع مصر وقطر، إذ قالت مصادر موثوقة لـ«الشرق الأوسط»، إن «علاقة (حماس) بهاتين الدولتين العربيتين لم تعد كما كانت».

ويفهم قياديون في «حماس»، وفقاً للمصادر، أنه «في لحظة ما قد تطالبهم قطر بالخروج (...) كما أن الوضع مع مصر لم يعد على أحسن حال».

وتطالب مصر اليوم، وتعمل على عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، ويشمل ذلك تسليمها معبر رفح البري، وليس إسرائيل أو «حماس».

مقابل ذلك، زاد دعم «حماس» في «محور المقاومة» المدعوم من إيران، لكن هذا الأخير تعرض لخسائر عدة على أصعد مختلفة بفعل الحرب.

وكسبت الحركة أيضاً تأييداً من دول مثل تركيا وروسيا، وإلى حد ما من الصين، الأمر الذي دفع مراقبين إلى الاعتقاد بأن «حماس» تموضعت في استقطاب إقليمي حاد، في لحظة تقترب فيها المنطقة من شفا حرب مفتوحة.

شعبية «حماس» ونفوذها

أيام قليلة بعد 7 أكتوبر 2023، ارتفعت شعبية «حماس» بشكل كبير في مناطق غزة والضفة الغربية. كان يمكن ملاحظة كيف أن الإعجاب بالهجوم المباغت طغى على كل شيء، ولكن سرعان ما تبدد كل ذلك، خصوصاً في القطاع، مع استمرار الهجمات الإسرائيلية التي كبدت الغزيين خسائر مريرة في الأرواح والأملاك.

وباتت غالبية من سكان غزة يُحمّلون «حماس» مسؤولية ما حلّ بهم، الأمر الذي أدى إلى تراجع تأييد الحركة بشكل كبير، وأفقدها ميزة الدعم الكبير.

رغم كل هذا التراجع، فإن الحركة ما تزال ترى نفسها جزءاً واضحاً من مستقبل غزة والقضية الفلسطينية، وأن لديها القدرة على البقاء سياسياً وعسكرياً ومدنياً وشعبياً حتى حكومياً.

ومع ذلك، فإن الحكم على قدرة «حماس» على البقاء من عدمه سيكون حين تنتهي الحرب، ويتبين شكل الشرق الأوسط في اليوم التالي، لكن الأكيد أن الحركة لم تعد قادرة على حكم القطاع الذي يحتاج إلى دعم دولي واسع لإنقاذ سكانه وإعادة إعماره، وإحياء اقتصاده المنهار.

يرى خبراء عسكريون أن بقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من «صورة المنتصر» (أ.ف.ب)

قيادات «حماس»... مَن بقي؟

فقدت «حماس» أهم قياداتها السياسية والحكومية والعسكرية، وجزءاً لا يستهان به من مسلحيها، إلى جانب ناشطين في المجالات الدعوية والاجتماعية والاقتصادية.

مع بداية الحرب، وصلت إسرائيل إلى زكريا أبو معمر وجواد أبو شمالة من أعضاء المكتب السياسي للحركة، وأيمن نوفل وأحمد الغندور وهما قائدا لواءي الوسط والشمال في «كتائب القسام»، إلى جانب أيمن صيام قائد الوحدة الصاروخية في الكتائب.

وقد دأبت «حماس» على نعي جميع الشخصيات التي فقدتها خلال الحرب وإعلان أسمائهم، قبل أن تغير هذا النهج لتخفي معلومات قادتها والمسلحين الذين يتم قتلهم.

لاحقاً، نجحت إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في طهران، ونائبه صالح العاروري في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكلاهما نعتهما الحركة.

لكن بعيداً عن إعلانات «حماس»، أكدت إسرائيل اغتيال قائد «كتائب القسام» والمطلوب الأول منذ عقود محمد الضيف في ضربة جوية نفّذتها بمنطقة مواصي خان يونس، جنوب غزة، في 13 يوليو (تموز) الماضي، إلى جانب رافع سلامة، قائد لواء خان يونس، وقبلهما أكدت اغتيال مروان عيسى، نائب الضيف، في نفق وسط مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، في 10 مارس (آذار) الماضي.

وكانت مصادر من «حماس» قد أكدت لـ«الشرق الأوسط» اغتيال سلامة وعيسى، لكنها لم تدلِ بأي معلومات حول الضيف.

وكشفت «الشرق الأوسط» في وقت سابق، عن مقتل اثنين من أعضاء المكتب السياسي، هما روحي مشتهى وسامح السراج في ضربة استهدفت نفقاً جنوب مدينة غزة، إلى جانب قيادات عسكرية وازنة في «القسام».

ومن بين الاغتيالات المؤثرة في «القسام»، استهداف أيمن المبحوح أحد أهم قادة الكتائب والمسؤول الأول عن استخبارات الكتائب وأسرارها الأمنية، الذي كان لسنوات مسؤولاً عن الدائرة الأمنية الخاصة بحماية محمد الضيف.

ولم تؤكد «حماس» اغتيال أي من هؤلاء، بل إنها تشدد على أن الضيف ما زال حياً، فيما تصرّ إسرائيل على نجاحها باغتياله.

وفقدت «القسام» مئات من قياداتها الميدانيين، منهم قادة «كتائب» و«سرايا» و«فصائل» و«مجموعات»، وهي مسميات عسكرية بالترتيب وفق تقسيمات معينة ومحددة، ورغم أنها خسائر فادحة فإن المحلل العسكري العقيد المتقاعد منير حمد من غزة يميل إلى الاعتقاد بأنها «لا تعني القضاء تماماً على الكتائب».

وقال حمد، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» استطاعت حتى الآن الحفاظ على حياة قائدها يحيى السنوار، خاصة بعد اغتيال هنية في طهران، ما يعني «توفق الحركة استخبارياً، على الأقل حتى الآن».

ورأى حمد أن «إبقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من صورة النصر التي تحاول الحصول عليها منذ أشهر».

ويُحسب لحركة «حماس» أنها وضعت قضية اغتيال قياداتها وعناصرها رهن التكهنات، سواء بالنسبة لإسرائيل أو غيرها، ما يؤشر على صعوبات أمنية واجهتها وما زالت تواجهها المخابرات الإسرائيلية في الوصول لقيادات «حماس» و«القسام»، على عكس ما يجري حالياً على الجبهة اللبنانية مع «حزب الله».

ولا تكتفي إسرائيل بملاحقة السنوار، بل إنها تبحث عن شقيقه محمد، أحد أبرز قادة «القسام» والرجل الثاني بعد الضيف، كما تبحث عن قائد لواء رفح محمد شبانة، وعن قائد لواء غزة عز الدين الحداد الذي تلقبه بـ«الشبح»، وعن قيادات أخرى من المجلس العسكري مثل رائد سعد، وأبو عمر السوري، اللذين نجيا من عمليتي اغتيال في غزة.

وتدفع هذه المعطيات العقيد المتقاعد منير حمد إلى الجزم بأن «حماس» قادرة على النهوض مجدداً، خاصة أن عدداً من قياداتها المؤثرة ما زال على قيد الحياة.

ويؤكد مراقبون أنه في حال تم التوصل لاتفاق تهدئة، يمكن لـ«حماس» أن تعيد بناء نفسها وقوتها مجدداً، خاصة مع وجود العامل البشري الذي يمكن أن تستغله، كما أن هناك قيادات بارزة قادرة على قيادة الحركة من جديد، بمن فيهم شخصيات تنشط في الخارج لم تتأثر بالضربات الإسرائيلية.

ويتفق حمد مع مراقبين على أن «حماس» نجحت حتى الآن في الاحتفاظ بعشرات الإسرائيليين المحتجزين كأسرى في غزة، بعد عام من حرب مدمرة طالت كل شبر من القطاع، وهو ما يمنحها مكاسب أكبر لفرض شروطها في التفاوض الذي يسير ببطء شديد في ظروف معقدة.

الحرب الأخيرة في غزة أظهرت خطأ التقدير الإسرائيلي لحجم شبكة الأنفاق في غزة (أ.ف.ب)

أنفاق «حماس»

فقدت «حماس» كثيراً من قوتها خلال عام من الحرب. وبعد ضربات متتالية، شملت الخدمة العامة، والمرافق التنظيمية والعسكرية والاقتصادية، تكاد الخسائر تكون شاملة على نحو واسع.

لكن فقدان معظم أنفاق «حماس» قد يكون الخسارة الأبرز لجهة أنها «سلاح استراتيجي» كان بيد الحركة.

واستخدمت «حماس» تلك الأنفاق في التحكم السيطرة، ولحماية قياداتها، وكذلك لإخفاء الإسرائيليين، ومن ثم في إدارة المعركة لتنفيذ هجمات، مباشرة أو صاروخية.

وبحسب مصادر «الشرق الأوسط»، فقد «نجحت إسرائيل في تدمير كثير من أنفاق الحركة». وقالت إن «الجيش الإسرائيلي عثر على كثير من الأنفاق الاستراتيجية الهجومية والدفاعية».

واستخدمت «حماس» الأنفاق في مناسبات مختلفة كمخابئ لبعض قادتها الذين تمت ملاحقتهم فوق وتحت الأرض، وهو الأمر الذي جرى مع عضو المكتب السياسي للحركة روحي مشتهى وقيادات أخرى، ما أدى لمقتلهم في أحد تلك الأنفاق.

تقدر مصادر مطلعة لـ«لشرق الأوسط» أن «حماس» تمتلك في كل منطقة داخل غزة (شمال القطاع مثلاً) ما لا يقل عن 700 نفق بأحجام ومهمات مختلفة، لكن ذلك يرتبط بجغرافيا وطبيعة التربة التي يمكن من خلالها حفر عدد أكبر أو أقل من الأنفاق.

وتقول المصادر: «في خان يونس جنوب القطاع، يختلف عدد الأنفاق كلياً، وربما هو الأكبر على مستوى القطاع، وخاصة في المناطق الشرقية منها باعتبارها مناطق زراعية وسهلة الحفر، ويمكن فيها العثور على أكثر من مسار للنفق الواحد بتفرعات مختلفة وبتوزيعات جغرافية مختلفة من مكان إلى آخر، ويقدر عددها بنحو ألف نفق».

وقدرت إسرائيل سابقاً أن تكون «حماس» حفرت أكثر من 500 كيلومتر من الأنفاق، لكن الحرب الحالية أظهرت أن تقديراتها خاطئة، وكانت أكبر بكثير.

وتفسر هذه المعطيات كيف نجحت «حماس» حتى اللحظة في تسهيل حركة قياداتها ومقاتليها بين مواقع، فوق الأرض وتحتها، إذ الواقع الفعلي لشبكة الأنفاق يتيح لهم المناورة مع إسرائيل.

«حماس» أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ (أ.ف.ب)

ترسانة الصواريخ

مثّلت الصواريخ سلاحاً فارقاً لدى «حماس»، وشكّلت في مرحلة ما أحد أهم وسائل الردع، بعدما كانت الحركة قادرة على ضرب المدن والمستوطنات الإسرائيلية وقتما تشاء، خاصة تلك التي كانت تصل إلى تل أبيب والقدس.

تقول مصادر موثوقة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» فقدت غالبية مخزونها من الصواريخ. ومع ذلك يعتقد مراقبون أن الحركة تخفي عدداً منها، وسوف تستخدمها في وقت ما.

وتزعم مصادر ميدانية من «حماس» أن جناحها المسلح كان يمتلك قبيل الحرب ما يزيد على 60 ألف صاروخ، ما بين صواريخ بعيدة المدى وأخرى متوسطة وقصيرة.

وكانت «حماس» قد أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر، ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ، غالبيتها متوسطة وقصيرة المدى تزامناً مع بدء الهجوم العسكري.

ومع ذلك، يصعب معرفة العدد الدقيق للصواريخ التي تمتلكها «حماس» قبل الحرب، وما تبقى خلال عام بعد اندلاعها.

وتزعم إسرائيل أنها نجحت في تدمير كثير من الصواريخ، إلى جانب ضرب أماكن تصنيعها وتخزينها، ومنصات إطلاقها.

خسرت حماس الكثير من قياداتها لكن وجود عدد منهم خارج غزة يمنحها القدرة على المناورة (غيتي)

بنك المال والمعلومات السرية

لم تتوقع «حماس» أن القوات البرية الإسرائيلية ستتعمق داخل غزة، كل هذا الوقت وبهذا العمق والسعة، ما منعها من نقل أو إتلاف ملفات بالغة السرية، من بينها ملفات اجتماعات مغلقة، وملفات أمنية ومالية، نجحت إسرائيل في السيطرة عليها، كما الفيديو الذي ظهر فيه قائد «كتائب القسام»، محمد الضيف، الذي كان يوصف بأنه رجل الظل الذي لا تعرف صورته.

وأكدت مصادر في الحركة، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الوقت لم يسعف عناصر (حماس) لتدمير ما لديها من ملفات، وإلا كان تم زرع عبوات ناسفة لتفخيخ المواقع التي تحوي مثل هذه الملفات على الأقل».

على الصعيد الحكومي، يمكن الجزم أن «حماس» خسرت جميع مقراتها، كما فقدت قيادات حكومية بارزة كانت تقود عملها الخدمي وغيره، إلى جانب كثير من أركان هيئة الطوارئ التي شكّلتها لإدارة العمل الحكومي للسكان خلال الحرب، وليس آخرهم على الأغلب المهندس ماجد صالح، المدير في وزارة الأشغال، الذي كان هدفاً لإسرائيل مرات عدة خلال هذه الحرب، وقد فقد زوجته وعدداً من أبنائه.

ترافق ذلك مع خسارة «حماس» كثيراً من مواردها المالية التي كانت تعتمد عليها، فهي إلى جانب الدعم الخارجي والدخل الحكومي، ثمة مصانع ومحال وعقارات وغيرها كانت تدرّ على الحركة شهرياً مبالغ طائلة.

وخلال الحرب تعمدت إسرائيل استهداف جميع مصادر تمويل «حماس»، وقصفت بنكاً تابعاً للحركة، وغرفاً محددة كان تخزن أموالاً، وهاجمت مركبات نقل أموال، واستولت على ملايين «الشواقل» من أماكن داهمتها، الأمر الذي أفقد «حماس» في كثير من الفترات قدرتها على صرف رواتب موظفيها وعناصرها، سواء الحكوميون أو المنضمون لجناحها العسكري وغيرهم.

في نهاية المطاف، طال الدمار كل شيء، كل شارع وحي، وجميع العائلات التي رزحت تحت نار الحرب طوال عام. لكن حسابات الربح والخسارة بالنسبة لـ«حماس» أمر بلاغ التعقيد، ولا يمكن الجزم به. ففي اليوم التالي للحرب، ستكون المعطيات حاسمة لمعرفة أن الحركة انتهت بالفعل، أم أنها طبقاً للظروف قادرة على العودة والنهوض مجدداً.