دروس لم يتعلمها بايدن ودفعت أوكرانيا ثمنها

عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)
عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)
TT

دروس لم يتعلمها بايدن ودفعت أوكرانيا ثمنها

عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)
عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)

في الوقت الذي نتهيأ فيه للترحيب بالعام الجديد، ويقترب الصراع الروسي - الأوكراني من ذكراه الثانية، يتساءل الكثيرون على ضفتي الأطلسي حول ما إذا كانت أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية ستنتهي هذا العام أم لا. جدير بالذكر أن واشنطن أمدت كييف بالفعل بأكثر من 113 مليار دولار نقداً وأسلحة عالية التقنية. بجانب ذلك، حاول الرئيس الأميركي جو بايدن إقناع الكونغرس بالموافقة على منحها 67 مليار دولار أخرى. إلا أن المؤسف أن الإجابة جاءت «لا» مدوية.

وعلى خلاف ما أمله الكثيرون، فإن عام 2024 لن يجلب السلام، بل من المحتمل أن يشهد المزيد من إراقة الدماء، في خضم استعداد الأطراف المتحاربة الرئيسية - روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة (بالوكالة) - للمضي في حرب لا نهاية لها. ولا يبدو أن أياً من أطراف النزاع مهتم بوقف القتال، وإنما على العكس من ذلك، يجري تحفيز الثلاثة على المضي قدماً.

من جانبه، يعمل الرئيس الروسي بوتين على زيادة الحد الأقصى لعدد أفراد القوات المسلحة الروسية بمقدار 170 ألف جندي، لتصل إلى كامل قوامها البالغ مليوناً و320 ألف عنصر، كما وافق في الفترة الأخيرة على زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري. عام 2024، ستصل النفقات على الدفاع والأمن مجتمعة إلى 40 في المائة من ميزانية روسيا، أي بزيادة قدرها 70 في المائة عن عام 2023. ويعتمد هدف إيرادات روسيا لعام 2024 البالغ 391.2 مليار دولار على أسعار النفط المرتفعة.

في الوقت ذاته، تسعى الحكومة الروسية لاجتذاب مجندين جدداً، من خلال تقديم مبالغ ضخمة من المال مقابل الخدمة في الجيش. ويحصل كبار الجنود المتعاقدين الذين ينضمون إلى ما يسمى بـ«فرقة النخبة القتالية» على أجر ضخم قد يصل إلى مليون روبل (نحو 11.000 دولار).

وعلى رغم الفشل النهائي للهجوم المضاد في الصيف، يرفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الاستسلام، بل أعلن عن «مرحلة جديدة من الحرب» في 30 نوفمبر (تشرين الثاني)، بعد أن اعترف بالنقص المستمر في الأسلحة، وتقلص القوات، وخطر فقدان تدفق المساعدات الأمنية والمعدات العسكرية من الولايات المتحدة وأوروبا، مع تصاعد الصراع بين إسرائيل وجماعة «حماس»، والتي ألقت بظلالها على الحرب الروسية - الأوكرانية.

وقال زيلينسكي خلال مقابلة مع وكالة «أسوشييتد برس» في خاركوف، شمال شرقي أوكرانيا: «انظر، نحن لن نتراجع، وأنا راضٍ». ويواصل الممثل الكوميدي الأوكراني الذي أصبح رئيساً، مناشدة البيت الأبيض للحصول على المزيد من الدولارات الأميركية، بعد أن أرسل وفداً من كبار مسؤوليه إلى واشنطن.

وقال الرئيس الأوكراني خلال مقابلة مع مجلة «تايم»، في أكتوبر (تشرين الأول): «لا أحد يؤمن بانتصارنا مثلي. لا أحد». يأتي ذلك رغم اعتراف القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية، الجنرال فاليري زالوجني، قريباً بأن الحرب لا يمكن الفوز بها. وأضاف خلال مقابلة مع مجلة «إيكونوميست» في الأول من نوفمبر، أنه: «على الأرجح لن يكون هناك اختراق عميق وعظيم»، متحدثاً عن حالة التأزم السائدة بالصراع الآن.

ومع أنه من الواضح لأي محلل استخباراتي جاد أن أوكرانيا ليس أمامها سبيل عسكري لإحراز النصر، يواصل الرئيس بايدن تكرار شعاره «مهما تطلب الأمر»، والذي يوجز إلى حد كبير السياسة المضللة والفاشلة التي تنتهجها إدارته تجاه الصراع بين روسيا وأوكرانيا.

في السادس من ديسمبر (كانون الأول)، في أثناء اجتماع افتراضي لدول مجموعة السبع - التي تضم اليابان والولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي - أكد بايدن التزام بلاده بدعم أوكرانيا «مهما تطلب الأمر».

وفي اليوم نفسه، ناشد بايدن الجمهوريين قائلاً: «لا تدعوا بوتين يفوز»، وحثهم على الموافقة على تمويل إضافي لكييف. ومع ذلك، رفض مجلس الشيوخ الأميركي حزمة المساعدات البالغة 110 مليارات دولار لأوكرانيا وإسرائيل؛ لأن المشرعين الجمهوريين رفضوا دعمها من دون تغييرات ملموسة على سياسة بايدن تجاه أمن الحدود، حيث يتدفق المهاجرون إلى الولايات المتحدة عبر حدودها الجنوبية.

آثار قصف مسيرة روسية في أدويسا جنوب أوكرانيا (إ.ب.أ)

وقال بايدن: «إذا استولى بوتين على أوكرانيا، فلن يتوقف عند هذا الحد». وربما كان يرمي من وراء هذا التصريح إلى تخويف الجميع من أن بوتين ربما يقدم على مهاجمة إحدى الدول الحليفة داخل «الناتو». كما هدد بايدن بإمكانية اضطرار القوات الأميركية إلى قتال القوات الروسية، إذا نفدت أموال أوكرانيا.

ويتناقض تكتيك التخويف هذا مع خطاب واشنطن القائم على فكرة أن الجيش الروسي ضعيف للغاية وغير كفء، لدرجة أنه ليس بإمكانه مجرد إسقاط كييف وزيلينسكي.

والتساؤل هنا: هل يعتقد بايدن حقاً أن بوتين أحمق، أو مجنون انتحاري؟ المؤكد أن الهجوم ضد إحدى دول «الناتو» من شأنه أن يؤدي إلى تفعيل بند «الدفاع المشترك» الوارد بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، ما يضع روسيا في صراع مباشر مع قوات الولايات المتحدة والحلف بأكمله التي تتفوق تقليدياً على جيش موسكو.

وعلى النقيض من بايدن، يبدو بوتين - رغم كونه زعيماً لا يعرف الرحمة - عقلانياً وذكياً للغاية. ويتلخص هدف بوتين الأساسي في استعادة الحاجز الأمني الاستراتيجي الذي تتمتع به روسيا، من خلال ضمان عدم انضمام أي دولة سوفياتية سابقة، باستثناء دول البلطيق، إلى عضوية حلف «الناتو». وترى موسكو أن خطر تمركز قوات أو قواعد أو معدات عسكرية تخص الحلف المعادي، على مقربة من الحدود الروسية أمر غير مقبول، تماماً مثلما تعتبر واشنطن أن وجود أصول عسكرية صينية أو روسية في كندا أو المكسيك أمر غير مقبول هو الآخر.

ربما يتفاجأ بايدن عندما يعلم ذلك، لكن فلاديمير بوتين قد انتصر بالفعل في الحرب الدائرة بأوكرانيا، تبعاً لتعريفه للنصر. لقد غزا بوتين أوكرانيا لفرض خطه الأحمر، وهو إبقاء أوكرانيا خارج حلف «الناتو». وقد حقق بوتين بالفعل هذا الهدف. وما دامت ظلت القوات الأوكرانية منخرطة في قتال طويل الأمد مع الروس، وما دامت كييف لا تسيطر على كامل الأراضي الأوكرانية، فإن أوكرانيا لا تلبي متطلبات القبول بالحلف - التمتع بالسيادة والسلامة الإقليمية وعدم التورط بصراع مستمر.

علاوة على ذلك، لم تعد أوكرانيا دولة قابلة للحياة؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش بشكل مستقل، دون دعم مالي أجنبي. وبعد أن كان يطلق عليها ذات يوم «سلة خبز أوروبا»، أصبحت أوكرانيا اليوم في حالة خراب، بعد تدمير قاعدتها الزراعية وتضرر مؤسستها الصناعية، بما في ذلك البنية التحتية الحيوية، بشدة. كما تعرضت مراكزها الحضرية ومناطقها الريفية للقصف دونما هوادة بالصواريخ والضربات المدفعية الروسية، على مدار ما يقرب من عامين من القتال البري. علاوة على ذلك، تشهد أوكرانيا، أكبر دولة في القارة، إخلاءً من السكان، حيث تقترب الخسائر البشرية من ربع مليون قتيل أو مصاب بجروح خطيرة، وتشريد الملايين من المواطنين.

وتعد هذه المأساة الإنسانية غير المعقولة؛ نتاجاً لانعدام الكفاءة الاستراتيجية لواشنطن، والسياسة الخارجية الساذجة التي ينتهجها الرئيس بايدن تجاه روسيا وأوكرانيا. ولا يمكن لأحد سوى مجموعة من الأميين تاريخياً، تصور أن دعوة أوكرانيا للانضمام إلى «الناتو» - التي لطالما اعتمدت عليها روسيا لقرون عديدة لضمان أمنها - كانت فكرة رائعة. وبشكل يتعذر على التصديق، فشل «خبراء» واشنطن، مهد «مبدأ مونرو»، في توقع تحركات بوتين قائد «ثاني (أفضل) جيش في العالم»، بحسب اعتراف زيلينسكي نفسه لوكالة «أسوشييتد برس».

لقد فشل الرئيس بايدن في أن يتعلم من الفشل الذريع في أفغانستان أن المال والتكنولوجيا لا يحققان الانتصار في الحروب، وإنما الاستراتيجية تفعل ذلك. لم يكلف فريق بايدن نفسه عناء تطوير استراتيجية.

بايدن وزيلينسكي خلال لقائهما في البيت الأبيض 12 ديسمبر الجاري (أ.ب)

وبوصفي مسؤولة سابقة في موقع متقدم في وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية، وأحد ثلاثة محللين كبار للعقيدة والاستراتيجية الروسية في مجتمع الاستخبارات، فقد أطلعتُ شخصياً موظفي الأمن الوطني داخل البيت الأبيض في عهد الرئيس أوباما على خطط بوتين واستراتيجية روسيا تجاه خوض الحروب عدة مرات. كما أطلعتُ عدداً لا يحصى من كبار القادة العسكريين الأميركيين ومسؤولي «البنتاغون»، بالإضافة إلى مسؤولي «الناتو» وقادة عسكريين، على هذه المعلومات.

وبصفته نائباً للرئيس في ذلك الوقت، والشخص المرجعي فيما يتعلق بالسياسة الأوكرانية، ومهندس «إعادة ضبط» الاستراتيجية الفاشلة تجاه روسيا، كان لا بد من إعلام جو بايدن بتلك الإحاطات. ولا بد أن الرئيس وفريقه قد تلقوا إحاطات مماثلة قبل وفي أثناء رئاسته، بالنظر إلى مستوى الاهتمام بروسيا من قبل مجتمع الاستخبارات الأميركي، باعتبارها تهديداً من المستوى الأول لأمن الولايات المتحدة.

علاوة على ما سبق، كان لدى الرئيس الأميركي متسع من الوقت للتحرك من أجل ردع بوتين، والتفاوض على حل سلمي، ومنع الغزو الروسي لأوكرانيا، وتجنب التدفقات الباهظة من عائدات دافعي الضرائب الأميركيين إلى كييف، في إطار ما أصبح اليوم حرباً يتعذر الفوز فيها.

بدلاً عن ذلك، اختار بايدن أن يدفع الأوكرانيون ثمن إخفاقاته بدمائهم. ومن المحتمل للغاية أن فريق بايدن تعمد إطالة أمد الحرب الروسية - الأوكرانية، من خلال تدفق الأسلحة إلى كييف، من أجل إنهاك الجيش والاقتصاد الروسيين، تماماً كما صرح وزير الدفاع لويد أوستن، قبل بضعة أشهر.

ومع أن عدد سكان روسيا يفوق نظيره في أوكرانيا بثلاثة أضعاف، ومع استعداد بوتين للتضحية بالمزيد والمزيد من الجثث لحل هذه المشكلة، يبدو أن واشنطن ستقاتل موسكو حتى آخر أوكراني، وكل هذا باسم دعم «الحرية والديمقراطية».


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».