دروس لم يتعلمها بايدن ودفعت أوكرانيا ثمنها

عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)
عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)
TT

دروس لم يتعلمها بايدن ودفعت أوكرانيا ثمنها

عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)
عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)

في الوقت الذي نتهيأ فيه للترحيب بالعام الجديد، ويقترب الصراع الروسي - الأوكراني من ذكراه الثانية، يتساءل الكثيرون على ضفتي الأطلسي حول ما إذا كانت أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية ستنتهي هذا العام أم لا. جدير بالذكر أن واشنطن أمدت كييف بالفعل بأكثر من 113 مليار دولار نقداً وأسلحة عالية التقنية. بجانب ذلك، حاول الرئيس الأميركي جو بايدن إقناع الكونغرس بالموافقة على منحها 67 مليار دولار أخرى. إلا أن المؤسف أن الإجابة جاءت «لا» مدوية.

وعلى خلاف ما أمله الكثيرون، فإن عام 2024 لن يجلب السلام، بل من المحتمل أن يشهد المزيد من إراقة الدماء، في خضم استعداد الأطراف المتحاربة الرئيسية - روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة (بالوكالة) - للمضي في حرب لا نهاية لها. ولا يبدو أن أياً من أطراف النزاع مهتم بوقف القتال، وإنما على العكس من ذلك، يجري تحفيز الثلاثة على المضي قدماً.

من جانبه، يعمل الرئيس الروسي بوتين على زيادة الحد الأقصى لعدد أفراد القوات المسلحة الروسية بمقدار 170 ألف جندي، لتصل إلى كامل قوامها البالغ مليوناً و320 ألف عنصر، كما وافق في الفترة الأخيرة على زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري. عام 2024، ستصل النفقات على الدفاع والأمن مجتمعة إلى 40 في المائة من ميزانية روسيا، أي بزيادة قدرها 70 في المائة عن عام 2023. ويعتمد هدف إيرادات روسيا لعام 2024 البالغ 391.2 مليار دولار على أسعار النفط المرتفعة.

في الوقت ذاته، تسعى الحكومة الروسية لاجتذاب مجندين جدداً، من خلال تقديم مبالغ ضخمة من المال مقابل الخدمة في الجيش. ويحصل كبار الجنود المتعاقدين الذين ينضمون إلى ما يسمى بـ«فرقة النخبة القتالية» على أجر ضخم قد يصل إلى مليون روبل (نحو 11.000 دولار).

وعلى رغم الفشل النهائي للهجوم المضاد في الصيف، يرفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الاستسلام، بل أعلن عن «مرحلة جديدة من الحرب» في 30 نوفمبر (تشرين الثاني)، بعد أن اعترف بالنقص المستمر في الأسلحة، وتقلص القوات، وخطر فقدان تدفق المساعدات الأمنية والمعدات العسكرية من الولايات المتحدة وأوروبا، مع تصاعد الصراع بين إسرائيل وجماعة «حماس»، والتي ألقت بظلالها على الحرب الروسية - الأوكرانية.

وقال زيلينسكي خلال مقابلة مع وكالة «أسوشييتد برس» في خاركوف، شمال شرقي أوكرانيا: «انظر، نحن لن نتراجع، وأنا راضٍ». ويواصل الممثل الكوميدي الأوكراني الذي أصبح رئيساً، مناشدة البيت الأبيض للحصول على المزيد من الدولارات الأميركية، بعد أن أرسل وفداً من كبار مسؤوليه إلى واشنطن.

وقال الرئيس الأوكراني خلال مقابلة مع مجلة «تايم»، في أكتوبر (تشرين الأول): «لا أحد يؤمن بانتصارنا مثلي. لا أحد». يأتي ذلك رغم اعتراف القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية، الجنرال فاليري زالوجني، قريباً بأن الحرب لا يمكن الفوز بها. وأضاف خلال مقابلة مع مجلة «إيكونوميست» في الأول من نوفمبر، أنه: «على الأرجح لن يكون هناك اختراق عميق وعظيم»، متحدثاً عن حالة التأزم السائدة بالصراع الآن.

ومع أنه من الواضح لأي محلل استخباراتي جاد أن أوكرانيا ليس أمامها سبيل عسكري لإحراز النصر، يواصل الرئيس بايدن تكرار شعاره «مهما تطلب الأمر»، والذي يوجز إلى حد كبير السياسة المضللة والفاشلة التي تنتهجها إدارته تجاه الصراع بين روسيا وأوكرانيا.

في السادس من ديسمبر (كانون الأول)، في أثناء اجتماع افتراضي لدول مجموعة السبع - التي تضم اليابان والولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي - أكد بايدن التزام بلاده بدعم أوكرانيا «مهما تطلب الأمر».

وفي اليوم نفسه، ناشد بايدن الجمهوريين قائلاً: «لا تدعوا بوتين يفوز»، وحثهم على الموافقة على تمويل إضافي لكييف. ومع ذلك، رفض مجلس الشيوخ الأميركي حزمة المساعدات البالغة 110 مليارات دولار لأوكرانيا وإسرائيل؛ لأن المشرعين الجمهوريين رفضوا دعمها من دون تغييرات ملموسة على سياسة بايدن تجاه أمن الحدود، حيث يتدفق المهاجرون إلى الولايات المتحدة عبر حدودها الجنوبية.

آثار قصف مسيرة روسية في أدويسا جنوب أوكرانيا (إ.ب.أ)

وقال بايدن: «إذا استولى بوتين على أوكرانيا، فلن يتوقف عند هذا الحد». وربما كان يرمي من وراء هذا التصريح إلى تخويف الجميع من أن بوتين ربما يقدم على مهاجمة إحدى الدول الحليفة داخل «الناتو». كما هدد بايدن بإمكانية اضطرار القوات الأميركية إلى قتال القوات الروسية، إذا نفدت أموال أوكرانيا.

ويتناقض تكتيك التخويف هذا مع خطاب واشنطن القائم على فكرة أن الجيش الروسي ضعيف للغاية وغير كفء، لدرجة أنه ليس بإمكانه مجرد إسقاط كييف وزيلينسكي.

والتساؤل هنا: هل يعتقد بايدن حقاً أن بوتين أحمق، أو مجنون انتحاري؟ المؤكد أن الهجوم ضد إحدى دول «الناتو» من شأنه أن يؤدي إلى تفعيل بند «الدفاع المشترك» الوارد بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، ما يضع روسيا في صراع مباشر مع قوات الولايات المتحدة والحلف بأكمله التي تتفوق تقليدياً على جيش موسكو.

وعلى النقيض من بايدن، يبدو بوتين - رغم كونه زعيماً لا يعرف الرحمة - عقلانياً وذكياً للغاية. ويتلخص هدف بوتين الأساسي في استعادة الحاجز الأمني الاستراتيجي الذي تتمتع به روسيا، من خلال ضمان عدم انضمام أي دولة سوفياتية سابقة، باستثناء دول البلطيق، إلى عضوية حلف «الناتو». وترى موسكو أن خطر تمركز قوات أو قواعد أو معدات عسكرية تخص الحلف المعادي، على مقربة من الحدود الروسية أمر غير مقبول، تماماً مثلما تعتبر واشنطن أن وجود أصول عسكرية صينية أو روسية في كندا أو المكسيك أمر غير مقبول هو الآخر.

ربما يتفاجأ بايدن عندما يعلم ذلك، لكن فلاديمير بوتين قد انتصر بالفعل في الحرب الدائرة بأوكرانيا، تبعاً لتعريفه للنصر. لقد غزا بوتين أوكرانيا لفرض خطه الأحمر، وهو إبقاء أوكرانيا خارج حلف «الناتو». وقد حقق بوتين بالفعل هذا الهدف. وما دامت ظلت القوات الأوكرانية منخرطة في قتال طويل الأمد مع الروس، وما دامت كييف لا تسيطر على كامل الأراضي الأوكرانية، فإن أوكرانيا لا تلبي متطلبات القبول بالحلف - التمتع بالسيادة والسلامة الإقليمية وعدم التورط بصراع مستمر.

علاوة على ذلك، لم تعد أوكرانيا دولة قابلة للحياة؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش بشكل مستقل، دون دعم مالي أجنبي. وبعد أن كان يطلق عليها ذات يوم «سلة خبز أوروبا»، أصبحت أوكرانيا اليوم في حالة خراب، بعد تدمير قاعدتها الزراعية وتضرر مؤسستها الصناعية، بما في ذلك البنية التحتية الحيوية، بشدة. كما تعرضت مراكزها الحضرية ومناطقها الريفية للقصف دونما هوادة بالصواريخ والضربات المدفعية الروسية، على مدار ما يقرب من عامين من القتال البري. علاوة على ذلك، تشهد أوكرانيا، أكبر دولة في القارة، إخلاءً من السكان، حيث تقترب الخسائر البشرية من ربع مليون قتيل أو مصاب بجروح خطيرة، وتشريد الملايين من المواطنين.

وتعد هذه المأساة الإنسانية غير المعقولة؛ نتاجاً لانعدام الكفاءة الاستراتيجية لواشنطن، والسياسة الخارجية الساذجة التي ينتهجها الرئيس بايدن تجاه روسيا وأوكرانيا. ولا يمكن لأحد سوى مجموعة من الأميين تاريخياً، تصور أن دعوة أوكرانيا للانضمام إلى «الناتو» - التي لطالما اعتمدت عليها روسيا لقرون عديدة لضمان أمنها - كانت فكرة رائعة. وبشكل يتعذر على التصديق، فشل «خبراء» واشنطن، مهد «مبدأ مونرو»، في توقع تحركات بوتين قائد «ثاني (أفضل) جيش في العالم»، بحسب اعتراف زيلينسكي نفسه لوكالة «أسوشييتد برس».

لقد فشل الرئيس بايدن في أن يتعلم من الفشل الذريع في أفغانستان أن المال والتكنولوجيا لا يحققان الانتصار في الحروب، وإنما الاستراتيجية تفعل ذلك. لم يكلف فريق بايدن نفسه عناء تطوير استراتيجية.

بايدن وزيلينسكي خلال لقائهما في البيت الأبيض 12 ديسمبر الجاري (أ.ب)

وبوصفي مسؤولة سابقة في موقع متقدم في وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية، وأحد ثلاثة محللين كبار للعقيدة والاستراتيجية الروسية في مجتمع الاستخبارات، فقد أطلعتُ شخصياً موظفي الأمن الوطني داخل البيت الأبيض في عهد الرئيس أوباما على خطط بوتين واستراتيجية روسيا تجاه خوض الحروب عدة مرات. كما أطلعتُ عدداً لا يحصى من كبار القادة العسكريين الأميركيين ومسؤولي «البنتاغون»، بالإضافة إلى مسؤولي «الناتو» وقادة عسكريين، على هذه المعلومات.

وبصفته نائباً للرئيس في ذلك الوقت، والشخص المرجعي فيما يتعلق بالسياسة الأوكرانية، ومهندس «إعادة ضبط» الاستراتيجية الفاشلة تجاه روسيا، كان لا بد من إعلام جو بايدن بتلك الإحاطات. ولا بد أن الرئيس وفريقه قد تلقوا إحاطات مماثلة قبل وفي أثناء رئاسته، بالنظر إلى مستوى الاهتمام بروسيا من قبل مجتمع الاستخبارات الأميركي، باعتبارها تهديداً من المستوى الأول لأمن الولايات المتحدة.

علاوة على ما سبق، كان لدى الرئيس الأميركي متسع من الوقت للتحرك من أجل ردع بوتين، والتفاوض على حل سلمي، ومنع الغزو الروسي لأوكرانيا، وتجنب التدفقات الباهظة من عائدات دافعي الضرائب الأميركيين إلى كييف، في إطار ما أصبح اليوم حرباً يتعذر الفوز فيها.

بدلاً عن ذلك، اختار بايدن أن يدفع الأوكرانيون ثمن إخفاقاته بدمائهم. ومن المحتمل للغاية أن فريق بايدن تعمد إطالة أمد الحرب الروسية - الأوكرانية، من خلال تدفق الأسلحة إلى كييف، من أجل إنهاك الجيش والاقتصاد الروسيين، تماماً كما صرح وزير الدفاع لويد أوستن، قبل بضعة أشهر.

ومع أن عدد سكان روسيا يفوق نظيره في أوكرانيا بثلاثة أضعاف، ومع استعداد بوتين للتضحية بالمزيد والمزيد من الجثث لحل هذه المشكلة، يبدو أن واشنطن ستقاتل موسكو حتى آخر أوكراني، وكل هذا باسم دعم «الحرية والديمقراطية».


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.