«التعاون الخليجي» يستعد لدور استراتيجي أكبر

جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)
جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)
TT

«التعاون الخليجي» يستعد لدور استراتيجي أكبر

جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)
جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)

كان مجلس التعاون، ودوله الأعضاء منفردةً، خلال عام 2023 في عين العاصفة وملء السمع والبصر، ومن المتوقع أن يستمر على هذا المنوال في عام 2024. وهو دور غير مألوف للمجلس الذي فضّل في الماضي أن يعمل في صمت، بعيداً عن الأضواء. بعض التغيير أتى من الخارج، إذ ارتفع سقف توقعات شركائه الدوليين والإقليميين حول قدرته على التحرك والتأثير، بعد تتالي عدد من الأحداث والفعاليات التي كان لدول المجلس -مجتمعة أو منفردة- دور ناجح ومؤثر فيها.

وبعض هذا التغيير كان وليد ديناميكياته الداخلية، حين استعاد المجلس تماسكه في قمة العُلا في عام 2021، متزامناً مع النمو الاقتصادي غير المسبوق منذ ذلك الحين، وكانت منطقة الخليج أسرع المناطق في العالم نمواً وتعافياً من جائحة «كورونا»؛ إذ تجاوز حجم الاقتصاد الخليجي تريليوني دولار، لأول مرة في تاريخه، في عام 2022، وتجاوز 2.3 تريليون في 2023، في حين استمرت معظم المناطق الأخرى في الركود الاقتصادي بعد الجائحة نتيجة الحرب في أوكرانيا، وهو ما مكّن دول المجلس من مضاعفة حضورها الاستراتيجي.

اجتماع وزاري خليجي في عمان نوفمبر الماضي (د.ب.أ)

خلال عام 2023 كان هذا الحضور واضحاً، بدءاً بتوجّه المجلس إلى شراكات جديدة، فبعد إعلان الشراكة الاستراتيجية بين دول المجلس والصين في أول قمة بين الجانبين، كان ثمة نشاط غير مسبوق في تعميق هذه الشراكة سياسياً وأمنياً واقتصادياً.

فلعبت بكين دوراً مهماً في الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران، حين وقعتا اتفاقاً لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بعد قطيعة استمرت سبع سنوات، أعقبها نشاط دبلوماسي حثيث، كانت الصين حاضرة ومؤثرة فيه، ومن المأمول أن يكون لهذا التقارب دور ملحوظ في عام 2024؛ إذ أشارت الدولتان إلى رغبتهما في ترجمة هذا الاتفاق إلى خطوات عملية نحو التهدئة، وتصفير ما يمكن من أزمات المنطقة.

وبالمثل يُتوقّع أن تخطو الشراكة الخليجية - الصينية خطوات واثقة في عام 2024، في إطار خطة العمل المشترك التي أقرها الجانبان للفترة المقبلة، سواء في المجالات التقليدية، مثل الاقتصاد والحوار السياسي، أو في مجالات جديدة، مثل الأمن النووي والاستخدامات السلمية للطاقة النووية.

التنوع الاستراتيجي

وفي سياق التنوع الاستراتيجي، عقد المجلس قمماً متعددة مع عدة مناطق من العالم، ففي شهر يوليو (تموز) استضافت جدة أول قمة بين مجلس التعاون وآسيا الوسطى، بمشاركة قادة دول المجلس الست ودول آسيا الوسطى الخمس (أوزبكستان، وتركمانستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وكازاخستان)، أعقبتها قمة تاريخية أخرى بين مجلس التعاون ودول رابطة جنوب شرقي آسيا (الآسيان) في الرياض.

وصحب إعلان الشراكات الاستراتيجية في هذه القمم الاتفاق على خطط مزمّنة للعمل المشترك في عدد من المجالات ذات الأولوية، مثل الحوار السياسي والأمني، والتعاون الاقتصادي، خصوصاً الاستثمار، وتعزيز الحوار الثقافي والسياحة. وفي نيويورك عقد وزراء خارجية دول المجلس اجتماعاً لتأسيس شراكة جديدة مع رابطة الدول الكاريبية، وهي منظمة تجمع 25 دولة من دول البحر الكاريبي، وتم الإعلان أيضاً عن خطة للعمل المشترك في الحوار السياسي وتعزيز الاستثمار والسياحة. وتلا هذا الاجتماع قمة في الرياض في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) مع منظمة إقليمية أخرى هي «المجموعة الكاريبية».

نشاطات 2024

ومن المقرر أن يشهد عام 2024 تعميقاً لهذه الشراكات الجديدة، والبدء في شراكات أخرى، في إطار تنويع التحالفات الاستراتيجية لدول المجلس. ورغم أهمية هذه الشراكات فإنه من الخطأ الاعتقاد بأنها سوف تكون بديلاً عن العلاقات التقليدية لدول المجلس مع الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبا وغيرها، التي ستظل شراكات مهمة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً.

ففي الوقت الذي دُشّنت فيه الشراكات الجديدة، استمرت دول المجلس في تعزيز علاقاتها التقليدية، فعقدت عدة اجتماعات مع الولايات المتحدة تناولت جوانب مختلفة من شراكتهما الاستراتيجية، بما في ذلك اجتماعان مع وزير الخارجية الأميركي في الرياض ونيويورك، واجتماعات خُصصت لمناقشة الأمن البحري والدفاع الصاروخي ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى التجارة والاستثمار وغيرها.

وبالمثل دار حوار معمق في موسكو مع وزير خارجية روسيا، تناول الحرب في أوكرانيا وأزمات المنطقة. ومن المتوقع أن يشهد عام 2024 تطورات مهمة في الشراكة مع الولايات المتحدة، واستكشاف نقاط التقاء مع الجانب الروسي في إطار الحوار الاستراتيجي الذي يدور بين الجانبين منذ عام 2011.

أما الاجتماع السنوي للمجلس الوزاري الخليجي - الأوروبي، فقد وضع الأسس لأول مرة لحوار أمني مع الاتحاد الأوروبي. وتعود هذه الشراكة الخليجية - الأوروبية إلى أكثر من 35 عاماً؛ لكنها في الماضي كانت تركز على القضايا الاقتصادية والفنية، مع تبادل وجهات النظر حول القضايا السياسية، دون الدخول في المواضيع العسكرية والأمنية.

ولذلك فمن المتوقع أن يشهد عام 2024 تطوراً ملحوظاً للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك مع الدول الأوروبية منفردة، خصوصاً في إطار الحفاظ على الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي.

التنوع في الشراكات

والحقيقة أن التنوع في الشراكات مؤشر على نضج النظرة الاستراتيجية، فمن الوهم اعتقاد أن الدخول في هذه الشراكات يعني التوافق التام في وجهات النظر مع الدول والمنظومات المعنيّة، حيث لا تتفق وجهات النظر دائماً حيال جميع القضايا، كما هو مشاهد الآن في تباين وجهات النظر مع الولايات المتحدة حيال الحرب في غزة. وبالمثل مع روسيا، حيث لا يتفق الجانبان على جوانب مهمة في عدد من القضايا، بما في ذلك أوكرانيا وسوريا وإيران.

ففي التعامل مع هذه الدول والمنظمات الفاعلة يجب أن نُدرك أن تباين وجهات النظر أحياناً هو القاعدة، والتوافق هو الاستثناء، وأن نعمل على احتواء الاختلافات، وتوسعة دائرة التوافق من خلال الحوار المستمر، وتطوير التعاون في المجالات المتفق عليها، دون أن نتوقع أن يحدث التوافق في جميع القضايا.

وهذا أحد أسرار تطور العلاقة مع جمهورية الصين الشعبية -مثلاً- التي يختلف نظامها السياسي والاقتصادي اختلافاً جذرياً عن النظم السياسية والاقتصادية في دول المجلس، وكان الجانبان يتخذان مواقف متعارضة في كثير من القضايا على المستوى الدولي والإقليمي. أما العلاقات الاقتصادية فلم تكن تُذكر؛ إذ كان حجم التجارة الإجمالي بين الصين ودول المجلس مجتمعة أقل من ثلاثة مليارات دولار منذ 30 عاماً.

الشريك الأول

أما اليوم فإن الصين هي الشريك التجاري الأول لدول المجلس، إذ يتجاوز حجم التجارة بين الجانبين 230 مليار دولار، أو نحو 77 مرة ما كان عليه قبل ثلاثة عقود. وتمثل التجارة مع الصين أكثر من 20 في المائة من حجم التجارة الإجمالي لدول المجلس، وتستورد الصين نحو 30 في المائة من نفطها من دول المجلس، ونحو 10 في المائة من وارداتها من الغاز الطبيعي.

وتشكل الصين مقصد أكثر من 25 في المائة من صادرات دول المجلس الكيميائية والبتروكيميائية. وتتنامى الاستثمارات الخليجية في الصين، والصينية في الخليج، بشكل متسارع، كما تشارك دول الخليج في «مبادرة الحزام والطريق» بشكل فعال، حيث تشكل منطقة الخليج جزءاً مهماً من طريق الحرير البحري. أما اتفاقية التجارة الحرة بين الجانبين فقد أشرفت على الانتهاء.

ودون شك، ساعدت هذه العلاقة الاقتصادية المتميزة على انتقال الجانبين الصيني والخليجي من مرحلة التوجس والحذر -إن لم يكن العداء في فترة من الفترات- إلى شراكة استراتيجية مبنية على الاحترام والثقة المتبادلة، تمتد الآن إلى السياسة والأمن، على الرغم من بقاء عدد من النقاط المهمة التي تتباين فيها وجهات النظر.

وبالإضافة إلى هذه الشراكات الاستراتيجية الجديدة والمتجددة، شهدت دول المجلس أحداثاً مهمة، ومن المتوقع أن تستمر هذه الدول في استضافة مثل هذه الأحداث خلال عام 2024.

استضافت جدة -على سبيل المثال- القمة العربية الثانية والثلاثين التي شهدت عودة سوريا إلى الجامعة العربية، بعد أن توصلت الدول العربية إلى اتفاق مع الحكومة السورية، بما في ذلك العمل بشكل حثيث للتوصل إلى حل سياسي، ومعالجة مشكلة تهريب المخدرات. وتظل «لجنة الاتصال العربية» بمشاركة المملكة العربية السعودية وعضوية عدد من الدول العربية عنصراً مهماً في السعي لعودة سوريا إلى وضعها الطبيعي ودورها العربي التاريخي.

السودان والأمل

وتستضيف جدة المحادثات بين الأطراف السودانية، بمشاركة الولايات المتحدة ومنظمات أفريقية، وتظل منصة جدة أهم مصدر للأمل لحل الأزمة في السودان.

أما قضية فلسطين، فقد كانت محور النشاط الدبلوماسي لدول مجلس التعاون، خصوصاً المملكة العربية السعودية، حتى قبل اندلاع حرب إسرائيل على غزة وبعدها، ومن المؤكد أن هذا الاهتمام سوف يستمر خلال عام 2024. فقد كانت القضية حاضرة بقوة خلال القمم والاجتماعات الوزارية كافة، التي أشرت إليها، وتمكنت دول المجلس من الحصول على دعم ملموس للحق الفلسطيني، بما في ذلك من كثير من حلفاء إسرائيل الذين وافقوا على أن الحل لهذه القضية يتمثل في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.

في شهر سبتمبر (أيلول)، أطلقت المملكة العربية السعودية من نيويورك، خلال افتتاح الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، مبادرة لإحياء جهود السلام لحل القضية الفلسطينية، بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والأردن ومصر.

وبعد اندلاع الحرب، دعت سلطنة عمان إلى اجتماع طارئ لوزراء خارجية دول مجلس التعاون عُقد بمسقط في شهر أكتوبر (تشرين الأول) لوضع الخطوط العريضة لسياسة المجلس تجاه هذه الأزمة، ثم دعت المملكة العربية السعودية إلى قمة عربية - إسلامية طارئة، عُقدت بالرياض في نوفمبر، وصدر عنها توافق عربي - إسلامي، وشكلت لجنة وزارية برئاسة وزير الخارجية السعودي، بهدف بلورة تحرك دولي لوقف الحرب على غزة، والضغط من أجل إطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية لتحقيق السلام الدائم والشامل، وفق المرجعيات الدولية المعتمدة، وفقاً للبيان الختامي لهذه القمة، وربما كانت أعمال هذه اللجنة أهم جهود تُبذل في هذا المجال منذ سنوات.

وعلى الرغم من معارضة إسرائيل الشرسة لأي تحرك دولي لحل القضية الفلسطينية، فإن معظم دول العالم -بما في ذلك حلفاء إسرائيل وشركاؤها التقليديون- صوتت لتأييد الحق الفلسطيني، ولم يبقَ مع إسرائيل والولايات المتحدة سوى دويلات تُعد على أصابع اليد الواحدة. ويُلاحظ أن الولايات المتحدة تلعب دوراً مزدوجاً، فهي تؤيد إسرائيل تأييداً شبه مطلق في الحرب على غزة؛ لكنها مع التوافق الدولي بشأن حل الدولتين على حدود 1967.

من المتوقع أن تستمر جهود المملكة العربية السعودية خلال عام 2024، مدعومة من قبل دول المجلس الأخرى، في جهودها لإنهاء الحرب في غزة، وإحياء عملية السلام لدعم الحق الفلسطيني المشروع في دولته المستقلة.

بالإضافة إلى دورها في السياسة والحفاظ على الأمن الإقليمي، من المتوقع أن تستمر منظومة مجلس التعاون في لعب دور محوري خلال عام 2024 في الاقتصاد والثقافة والرياضة، وأن تترسخ شراكاتها العربية والإقليمية والدولية خلال العام المقبل. فعلى سبيل المثال، خلال السنوات المقبلة تستعد المنطقة لاستضافة كثير من الأحداث المهمة، بما في ذلك استضافة الرياض لمعرض «إكسبو 2030» وكأس العالم 2034، كما استضافت دبي «إكسبو 2020» والدوحة كأس العالم في 2022.

وتُظهر آلية التنافس هذا العام على «إكسبو» وكأس العالم مؤشراً مهماً على الاعتراف بالدور المحوري للمملكة، ولدول مجلس التعاون بشكل عام. فقد انسحب المنافسون المحتملون لاستضافة كأس العالم، وظلت المملكة المرشح الوحيد.

أما في منافسات «إكسبو 2030»، فقد صوتت 119 دولة لصالح السعودية، مقابل 29 صوتاً لصالح كوريا و17 صوتاً لصالح إيطاليا، وهي نتيجة مذهلة وغير مسبوقة، خصوصاً حين نأخذ بعين الاعتبار الوزن الاقتصادي والسياسي للدولتين المنافستين، والجهود الكبيرة التي بُذلت في الترويج لترشيحهما.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.