«التعاون الخليجي» يستعد لدور استراتيجي أكبر

جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)
جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)
TT

«التعاون الخليجي» يستعد لدور استراتيجي أكبر

جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)
جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)

كان مجلس التعاون، ودوله الأعضاء منفردةً، خلال عام 2023 في عين العاصفة وملء السمع والبصر، ومن المتوقع أن يستمر على هذا المنوال في عام 2024. وهو دور غير مألوف للمجلس الذي فضّل في الماضي أن يعمل في صمت، بعيداً عن الأضواء. بعض التغيير أتى من الخارج، إذ ارتفع سقف توقعات شركائه الدوليين والإقليميين حول قدرته على التحرك والتأثير، بعد تتالي عدد من الأحداث والفعاليات التي كان لدول المجلس -مجتمعة أو منفردة- دور ناجح ومؤثر فيها.

وبعض هذا التغيير كان وليد ديناميكياته الداخلية، حين استعاد المجلس تماسكه في قمة العُلا في عام 2021، متزامناً مع النمو الاقتصادي غير المسبوق منذ ذلك الحين، وكانت منطقة الخليج أسرع المناطق في العالم نمواً وتعافياً من جائحة «كورونا»؛ إذ تجاوز حجم الاقتصاد الخليجي تريليوني دولار، لأول مرة في تاريخه، في عام 2022، وتجاوز 2.3 تريليون في 2023، في حين استمرت معظم المناطق الأخرى في الركود الاقتصادي بعد الجائحة نتيجة الحرب في أوكرانيا، وهو ما مكّن دول المجلس من مضاعفة حضورها الاستراتيجي.

اجتماع وزاري خليجي في عمان نوفمبر الماضي (د.ب.أ)

خلال عام 2023 كان هذا الحضور واضحاً، بدءاً بتوجّه المجلس إلى شراكات جديدة، فبعد إعلان الشراكة الاستراتيجية بين دول المجلس والصين في أول قمة بين الجانبين، كان ثمة نشاط غير مسبوق في تعميق هذه الشراكة سياسياً وأمنياً واقتصادياً.

فلعبت بكين دوراً مهماً في الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران، حين وقعتا اتفاقاً لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بعد قطيعة استمرت سبع سنوات، أعقبها نشاط دبلوماسي حثيث، كانت الصين حاضرة ومؤثرة فيه، ومن المأمول أن يكون لهذا التقارب دور ملحوظ في عام 2024؛ إذ أشارت الدولتان إلى رغبتهما في ترجمة هذا الاتفاق إلى خطوات عملية نحو التهدئة، وتصفير ما يمكن من أزمات المنطقة.

وبالمثل يُتوقّع أن تخطو الشراكة الخليجية - الصينية خطوات واثقة في عام 2024، في إطار خطة العمل المشترك التي أقرها الجانبان للفترة المقبلة، سواء في المجالات التقليدية، مثل الاقتصاد والحوار السياسي، أو في مجالات جديدة، مثل الأمن النووي والاستخدامات السلمية للطاقة النووية.

التنوع الاستراتيجي

وفي سياق التنوع الاستراتيجي، عقد المجلس قمماً متعددة مع عدة مناطق من العالم، ففي شهر يوليو (تموز) استضافت جدة أول قمة بين مجلس التعاون وآسيا الوسطى، بمشاركة قادة دول المجلس الست ودول آسيا الوسطى الخمس (أوزبكستان، وتركمانستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وكازاخستان)، أعقبتها قمة تاريخية أخرى بين مجلس التعاون ودول رابطة جنوب شرقي آسيا (الآسيان) في الرياض.

وصحب إعلان الشراكات الاستراتيجية في هذه القمم الاتفاق على خطط مزمّنة للعمل المشترك في عدد من المجالات ذات الأولوية، مثل الحوار السياسي والأمني، والتعاون الاقتصادي، خصوصاً الاستثمار، وتعزيز الحوار الثقافي والسياحة. وفي نيويورك عقد وزراء خارجية دول المجلس اجتماعاً لتأسيس شراكة جديدة مع رابطة الدول الكاريبية، وهي منظمة تجمع 25 دولة من دول البحر الكاريبي، وتم الإعلان أيضاً عن خطة للعمل المشترك في الحوار السياسي وتعزيز الاستثمار والسياحة. وتلا هذا الاجتماع قمة في الرياض في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) مع منظمة إقليمية أخرى هي «المجموعة الكاريبية».

نشاطات 2024

ومن المقرر أن يشهد عام 2024 تعميقاً لهذه الشراكات الجديدة، والبدء في شراكات أخرى، في إطار تنويع التحالفات الاستراتيجية لدول المجلس. ورغم أهمية هذه الشراكات فإنه من الخطأ الاعتقاد بأنها سوف تكون بديلاً عن العلاقات التقليدية لدول المجلس مع الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبا وغيرها، التي ستظل شراكات مهمة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً.

ففي الوقت الذي دُشّنت فيه الشراكات الجديدة، استمرت دول المجلس في تعزيز علاقاتها التقليدية، فعقدت عدة اجتماعات مع الولايات المتحدة تناولت جوانب مختلفة من شراكتهما الاستراتيجية، بما في ذلك اجتماعان مع وزير الخارجية الأميركي في الرياض ونيويورك، واجتماعات خُصصت لمناقشة الأمن البحري والدفاع الصاروخي ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى التجارة والاستثمار وغيرها.

وبالمثل دار حوار معمق في موسكو مع وزير خارجية روسيا، تناول الحرب في أوكرانيا وأزمات المنطقة. ومن المتوقع أن يشهد عام 2024 تطورات مهمة في الشراكة مع الولايات المتحدة، واستكشاف نقاط التقاء مع الجانب الروسي في إطار الحوار الاستراتيجي الذي يدور بين الجانبين منذ عام 2011.

أما الاجتماع السنوي للمجلس الوزاري الخليجي - الأوروبي، فقد وضع الأسس لأول مرة لحوار أمني مع الاتحاد الأوروبي. وتعود هذه الشراكة الخليجية - الأوروبية إلى أكثر من 35 عاماً؛ لكنها في الماضي كانت تركز على القضايا الاقتصادية والفنية، مع تبادل وجهات النظر حول القضايا السياسية، دون الدخول في المواضيع العسكرية والأمنية.

ولذلك فمن المتوقع أن يشهد عام 2024 تطوراً ملحوظاً للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك مع الدول الأوروبية منفردة، خصوصاً في إطار الحفاظ على الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي.

التنوع في الشراكات

والحقيقة أن التنوع في الشراكات مؤشر على نضج النظرة الاستراتيجية، فمن الوهم اعتقاد أن الدخول في هذه الشراكات يعني التوافق التام في وجهات النظر مع الدول والمنظومات المعنيّة، حيث لا تتفق وجهات النظر دائماً حيال جميع القضايا، كما هو مشاهد الآن في تباين وجهات النظر مع الولايات المتحدة حيال الحرب في غزة. وبالمثل مع روسيا، حيث لا يتفق الجانبان على جوانب مهمة في عدد من القضايا، بما في ذلك أوكرانيا وسوريا وإيران.

ففي التعامل مع هذه الدول والمنظمات الفاعلة يجب أن نُدرك أن تباين وجهات النظر أحياناً هو القاعدة، والتوافق هو الاستثناء، وأن نعمل على احتواء الاختلافات، وتوسعة دائرة التوافق من خلال الحوار المستمر، وتطوير التعاون في المجالات المتفق عليها، دون أن نتوقع أن يحدث التوافق في جميع القضايا.

وهذا أحد أسرار تطور العلاقة مع جمهورية الصين الشعبية -مثلاً- التي يختلف نظامها السياسي والاقتصادي اختلافاً جذرياً عن النظم السياسية والاقتصادية في دول المجلس، وكان الجانبان يتخذان مواقف متعارضة في كثير من القضايا على المستوى الدولي والإقليمي. أما العلاقات الاقتصادية فلم تكن تُذكر؛ إذ كان حجم التجارة الإجمالي بين الصين ودول المجلس مجتمعة أقل من ثلاثة مليارات دولار منذ 30 عاماً.

الشريك الأول

أما اليوم فإن الصين هي الشريك التجاري الأول لدول المجلس، إذ يتجاوز حجم التجارة بين الجانبين 230 مليار دولار، أو نحو 77 مرة ما كان عليه قبل ثلاثة عقود. وتمثل التجارة مع الصين أكثر من 20 في المائة من حجم التجارة الإجمالي لدول المجلس، وتستورد الصين نحو 30 في المائة من نفطها من دول المجلس، ونحو 10 في المائة من وارداتها من الغاز الطبيعي.

وتشكل الصين مقصد أكثر من 25 في المائة من صادرات دول المجلس الكيميائية والبتروكيميائية. وتتنامى الاستثمارات الخليجية في الصين، والصينية في الخليج، بشكل متسارع، كما تشارك دول الخليج في «مبادرة الحزام والطريق» بشكل فعال، حيث تشكل منطقة الخليج جزءاً مهماً من طريق الحرير البحري. أما اتفاقية التجارة الحرة بين الجانبين فقد أشرفت على الانتهاء.

ودون شك، ساعدت هذه العلاقة الاقتصادية المتميزة على انتقال الجانبين الصيني والخليجي من مرحلة التوجس والحذر -إن لم يكن العداء في فترة من الفترات- إلى شراكة استراتيجية مبنية على الاحترام والثقة المتبادلة، تمتد الآن إلى السياسة والأمن، على الرغم من بقاء عدد من النقاط المهمة التي تتباين فيها وجهات النظر.

وبالإضافة إلى هذه الشراكات الاستراتيجية الجديدة والمتجددة، شهدت دول المجلس أحداثاً مهمة، ومن المتوقع أن تستمر هذه الدول في استضافة مثل هذه الأحداث خلال عام 2024.

استضافت جدة -على سبيل المثال- القمة العربية الثانية والثلاثين التي شهدت عودة سوريا إلى الجامعة العربية، بعد أن توصلت الدول العربية إلى اتفاق مع الحكومة السورية، بما في ذلك العمل بشكل حثيث للتوصل إلى حل سياسي، ومعالجة مشكلة تهريب المخدرات. وتظل «لجنة الاتصال العربية» بمشاركة المملكة العربية السعودية وعضوية عدد من الدول العربية عنصراً مهماً في السعي لعودة سوريا إلى وضعها الطبيعي ودورها العربي التاريخي.

السودان والأمل

وتستضيف جدة المحادثات بين الأطراف السودانية، بمشاركة الولايات المتحدة ومنظمات أفريقية، وتظل منصة جدة أهم مصدر للأمل لحل الأزمة في السودان.

أما قضية فلسطين، فقد كانت محور النشاط الدبلوماسي لدول مجلس التعاون، خصوصاً المملكة العربية السعودية، حتى قبل اندلاع حرب إسرائيل على غزة وبعدها، ومن المؤكد أن هذا الاهتمام سوف يستمر خلال عام 2024. فقد كانت القضية حاضرة بقوة خلال القمم والاجتماعات الوزارية كافة، التي أشرت إليها، وتمكنت دول المجلس من الحصول على دعم ملموس للحق الفلسطيني، بما في ذلك من كثير من حلفاء إسرائيل الذين وافقوا على أن الحل لهذه القضية يتمثل في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.

في شهر سبتمبر (أيلول)، أطلقت المملكة العربية السعودية من نيويورك، خلال افتتاح الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، مبادرة لإحياء جهود السلام لحل القضية الفلسطينية، بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والأردن ومصر.

وبعد اندلاع الحرب، دعت سلطنة عمان إلى اجتماع طارئ لوزراء خارجية دول مجلس التعاون عُقد بمسقط في شهر أكتوبر (تشرين الأول) لوضع الخطوط العريضة لسياسة المجلس تجاه هذه الأزمة، ثم دعت المملكة العربية السعودية إلى قمة عربية - إسلامية طارئة، عُقدت بالرياض في نوفمبر، وصدر عنها توافق عربي - إسلامي، وشكلت لجنة وزارية برئاسة وزير الخارجية السعودي، بهدف بلورة تحرك دولي لوقف الحرب على غزة، والضغط من أجل إطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية لتحقيق السلام الدائم والشامل، وفق المرجعيات الدولية المعتمدة، وفقاً للبيان الختامي لهذه القمة، وربما كانت أعمال هذه اللجنة أهم جهود تُبذل في هذا المجال منذ سنوات.

وعلى الرغم من معارضة إسرائيل الشرسة لأي تحرك دولي لحل القضية الفلسطينية، فإن معظم دول العالم -بما في ذلك حلفاء إسرائيل وشركاؤها التقليديون- صوتت لتأييد الحق الفلسطيني، ولم يبقَ مع إسرائيل والولايات المتحدة سوى دويلات تُعد على أصابع اليد الواحدة. ويُلاحظ أن الولايات المتحدة تلعب دوراً مزدوجاً، فهي تؤيد إسرائيل تأييداً شبه مطلق في الحرب على غزة؛ لكنها مع التوافق الدولي بشأن حل الدولتين على حدود 1967.

من المتوقع أن تستمر جهود المملكة العربية السعودية خلال عام 2024، مدعومة من قبل دول المجلس الأخرى، في جهودها لإنهاء الحرب في غزة، وإحياء عملية السلام لدعم الحق الفلسطيني المشروع في دولته المستقلة.

بالإضافة إلى دورها في السياسة والحفاظ على الأمن الإقليمي، من المتوقع أن تستمر منظومة مجلس التعاون في لعب دور محوري خلال عام 2024 في الاقتصاد والثقافة والرياضة، وأن تترسخ شراكاتها العربية والإقليمية والدولية خلال العام المقبل. فعلى سبيل المثال، خلال السنوات المقبلة تستعد المنطقة لاستضافة كثير من الأحداث المهمة، بما في ذلك استضافة الرياض لمعرض «إكسبو 2030» وكأس العالم 2034، كما استضافت دبي «إكسبو 2020» والدوحة كأس العالم في 2022.

وتُظهر آلية التنافس هذا العام على «إكسبو» وكأس العالم مؤشراً مهماً على الاعتراف بالدور المحوري للمملكة، ولدول مجلس التعاون بشكل عام. فقد انسحب المنافسون المحتملون لاستضافة كأس العالم، وظلت المملكة المرشح الوحيد.

أما في منافسات «إكسبو 2030»، فقد صوتت 119 دولة لصالح السعودية، مقابل 29 صوتاً لصالح كوريا و17 صوتاً لصالح إيطاليا، وهي نتيجة مذهلة وغير مسبوقة، خصوصاً حين نأخذ بعين الاعتبار الوزن الاقتصادي والسياسي للدولتين المنافستين، والجهود الكبيرة التي بُذلت في الترويج لترشيحهما.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!