كان مجلس التعاون، ودوله الأعضاء منفردةً، خلال عام 2023 في عين العاصفة وملء السمع والبصر، ومن المتوقع أن يستمر على هذا المنوال في عام 2024. وهو دور غير مألوف للمجلس الذي فضّل في الماضي أن يعمل في صمت، بعيداً عن الأضواء. بعض التغيير أتى من الخارج، إذ ارتفع سقف توقعات شركائه الدوليين والإقليميين حول قدرته على التحرك والتأثير، بعد تتالي عدد من الأحداث والفعاليات التي كان لدول المجلس -مجتمعة أو منفردة- دور ناجح ومؤثر فيها.
وبعض هذا التغيير كان وليد ديناميكياته الداخلية، حين استعاد المجلس تماسكه في قمة العُلا في عام 2021، متزامناً مع النمو الاقتصادي غير المسبوق منذ ذلك الحين، وكانت منطقة الخليج أسرع المناطق في العالم نمواً وتعافياً من جائحة «كورونا»؛ إذ تجاوز حجم الاقتصاد الخليجي تريليوني دولار، لأول مرة في تاريخه، في عام 2022، وتجاوز 2.3 تريليون في 2023، في حين استمرت معظم المناطق الأخرى في الركود الاقتصادي بعد الجائحة نتيجة الحرب في أوكرانيا، وهو ما مكّن دول المجلس من مضاعفة حضورها الاستراتيجي.
خلال عام 2023 كان هذا الحضور واضحاً، بدءاً بتوجّه المجلس إلى شراكات جديدة، فبعد إعلان الشراكة الاستراتيجية بين دول المجلس والصين في أول قمة بين الجانبين، كان ثمة نشاط غير مسبوق في تعميق هذه الشراكة سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
فلعبت بكين دوراً مهماً في الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران، حين وقعتا اتفاقاً لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بعد قطيعة استمرت سبع سنوات، أعقبها نشاط دبلوماسي حثيث، كانت الصين حاضرة ومؤثرة فيه، ومن المأمول أن يكون لهذا التقارب دور ملحوظ في عام 2024؛ إذ أشارت الدولتان إلى رغبتهما في ترجمة هذا الاتفاق إلى خطوات عملية نحو التهدئة، وتصفير ما يمكن من أزمات المنطقة.
وبالمثل يُتوقّع أن تخطو الشراكة الخليجية - الصينية خطوات واثقة في عام 2024، في إطار خطة العمل المشترك التي أقرها الجانبان للفترة المقبلة، سواء في المجالات التقليدية، مثل الاقتصاد والحوار السياسي، أو في مجالات جديدة، مثل الأمن النووي والاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
التنوع الاستراتيجي
وفي سياق التنوع الاستراتيجي، عقد المجلس قمماً متعددة مع عدة مناطق من العالم، ففي شهر يوليو (تموز) استضافت جدة أول قمة بين مجلس التعاون وآسيا الوسطى، بمشاركة قادة دول المجلس الست ودول آسيا الوسطى الخمس (أوزبكستان، وتركمانستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وكازاخستان)، أعقبتها قمة تاريخية أخرى بين مجلس التعاون ودول رابطة جنوب شرقي آسيا (الآسيان) في الرياض.
وصحب إعلان الشراكات الاستراتيجية في هذه القمم الاتفاق على خطط مزمّنة للعمل المشترك في عدد من المجالات ذات الأولوية، مثل الحوار السياسي والأمني، والتعاون الاقتصادي، خصوصاً الاستثمار، وتعزيز الحوار الثقافي والسياحة. وفي نيويورك عقد وزراء خارجية دول المجلس اجتماعاً لتأسيس شراكة جديدة مع رابطة الدول الكاريبية، وهي منظمة تجمع 25 دولة من دول البحر الكاريبي، وتم الإعلان أيضاً عن خطة للعمل المشترك في الحوار السياسي وتعزيز الاستثمار والسياحة. وتلا هذا الاجتماع قمة في الرياض في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) مع منظمة إقليمية أخرى هي «المجموعة الكاريبية».
نشاطات 2024
ومن المقرر أن يشهد عام 2024 تعميقاً لهذه الشراكات الجديدة، والبدء في شراكات أخرى، في إطار تنويع التحالفات الاستراتيجية لدول المجلس. ورغم أهمية هذه الشراكات فإنه من الخطأ الاعتقاد بأنها سوف تكون بديلاً عن العلاقات التقليدية لدول المجلس مع الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبا وغيرها، التي ستظل شراكات مهمة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً.
ففي الوقت الذي دُشّنت فيه الشراكات الجديدة، استمرت دول المجلس في تعزيز علاقاتها التقليدية، فعقدت عدة اجتماعات مع الولايات المتحدة تناولت جوانب مختلفة من شراكتهما الاستراتيجية، بما في ذلك اجتماعان مع وزير الخارجية الأميركي في الرياض ونيويورك، واجتماعات خُصصت لمناقشة الأمن البحري والدفاع الصاروخي ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى التجارة والاستثمار وغيرها.
وبالمثل دار حوار معمق في موسكو مع وزير خارجية روسيا، تناول الحرب في أوكرانيا وأزمات المنطقة. ومن المتوقع أن يشهد عام 2024 تطورات مهمة في الشراكة مع الولايات المتحدة، واستكشاف نقاط التقاء مع الجانب الروسي في إطار الحوار الاستراتيجي الذي يدور بين الجانبين منذ عام 2011.
أما الاجتماع السنوي للمجلس الوزاري الخليجي - الأوروبي، فقد وضع الأسس لأول مرة لحوار أمني مع الاتحاد الأوروبي. وتعود هذه الشراكة الخليجية - الأوروبية إلى أكثر من 35 عاماً؛ لكنها في الماضي كانت تركز على القضايا الاقتصادية والفنية، مع تبادل وجهات النظر حول القضايا السياسية، دون الدخول في المواضيع العسكرية والأمنية.
ولذلك فمن المتوقع أن يشهد عام 2024 تطوراً ملحوظاً للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك مع الدول الأوروبية منفردة، خصوصاً في إطار الحفاظ على الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي.
التنوع في الشراكات
والحقيقة أن التنوع في الشراكات مؤشر على نضج النظرة الاستراتيجية، فمن الوهم اعتقاد أن الدخول في هذه الشراكات يعني التوافق التام في وجهات النظر مع الدول والمنظومات المعنيّة، حيث لا تتفق وجهات النظر دائماً حيال جميع القضايا، كما هو مشاهد الآن في تباين وجهات النظر مع الولايات المتحدة حيال الحرب في غزة. وبالمثل مع روسيا، حيث لا يتفق الجانبان على جوانب مهمة في عدد من القضايا، بما في ذلك أوكرانيا وسوريا وإيران.
ففي التعامل مع هذه الدول والمنظمات الفاعلة يجب أن نُدرك أن تباين وجهات النظر أحياناً هو القاعدة، والتوافق هو الاستثناء، وأن نعمل على احتواء الاختلافات، وتوسعة دائرة التوافق من خلال الحوار المستمر، وتطوير التعاون في المجالات المتفق عليها، دون أن نتوقع أن يحدث التوافق في جميع القضايا.
وهذا أحد أسرار تطور العلاقة مع جمهورية الصين الشعبية -مثلاً- التي يختلف نظامها السياسي والاقتصادي اختلافاً جذرياً عن النظم السياسية والاقتصادية في دول المجلس، وكان الجانبان يتخذان مواقف متعارضة في كثير من القضايا على المستوى الدولي والإقليمي. أما العلاقات الاقتصادية فلم تكن تُذكر؛ إذ كان حجم التجارة الإجمالي بين الصين ودول المجلس مجتمعة أقل من ثلاثة مليارات دولار منذ 30 عاماً.
الشريك الأول
أما اليوم فإن الصين هي الشريك التجاري الأول لدول المجلس، إذ يتجاوز حجم التجارة بين الجانبين 230 مليار دولار، أو نحو 77 مرة ما كان عليه قبل ثلاثة عقود. وتمثل التجارة مع الصين أكثر من 20 في المائة من حجم التجارة الإجمالي لدول المجلس، وتستورد الصين نحو 30 في المائة من نفطها من دول المجلس، ونحو 10 في المائة من وارداتها من الغاز الطبيعي.
وتشكل الصين مقصد أكثر من 25 في المائة من صادرات دول المجلس الكيميائية والبتروكيميائية. وتتنامى الاستثمارات الخليجية في الصين، والصينية في الخليج، بشكل متسارع، كما تشارك دول الخليج في «مبادرة الحزام والطريق» بشكل فعال، حيث تشكل منطقة الخليج جزءاً مهماً من طريق الحرير البحري. أما اتفاقية التجارة الحرة بين الجانبين فقد أشرفت على الانتهاء.
ودون شك، ساعدت هذه العلاقة الاقتصادية المتميزة على انتقال الجانبين الصيني والخليجي من مرحلة التوجس والحذر -إن لم يكن العداء في فترة من الفترات- إلى شراكة استراتيجية مبنية على الاحترام والثقة المتبادلة، تمتد الآن إلى السياسة والأمن، على الرغم من بقاء عدد من النقاط المهمة التي تتباين فيها وجهات النظر.
وبالإضافة إلى هذه الشراكات الاستراتيجية الجديدة والمتجددة، شهدت دول المجلس أحداثاً مهمة، ومن المتوقع أن تستمر هذه الدول في استضافة مثل هذه الأحداث خلال عام 2024.
استضافت جدة -على سبيل المثال- القمة العربية الثانية والثلاثين التي شهدت عودة سوريا إلى الجامعة العربية، بعد أن توصلت الدول العربية إلى اتفاق مع الحكومة السورية، بما في ذلك العمل بشكل حثيث للتوصل إلى حل سياسي، ومعالجة مشكلة تهريب المخدرات. وتظل «لجنة الاتصال العربية» بمشاركة المملكة العربية السعودية وعضوية عدد من الدول العربية عنصراً مهماً في السعي لعودة سوريا إلى وضعها الطبيعي ودورها العربي التاريخي.
السودان والأمل
وتستضيف جدة المحادثات بين الأطراف السودانية، بمشاركة الولايات المتحدة ومنظمات أفريقية، وتظل منصة جدة أهم مصدر للأمل لحل الأزمة في السودان.
أما قضية فلسطين، فقد كانت محور النشاط الدبلوماسي لدول مجلس التعاون، خصوصاً المملكة العربية السعودية، حتى قبل اندلاع حرب إسرائيل على غزة وبعدها، ومن المؤكد أن هذا الاهتمام سوف يستمر خلال عام 2024. فقد كانت القضية حاضرة بقوة خلال القمم والاجتماعات الوزارية كافة، التي أشرت إليها، وتمكنت دول المجلس من الحصول على دعم ملموس للحق الفلسطيني، بما في ذلك من كثير من حلفاء إسرائيل الذين وافقوا على أن الحل لهذه القضية يتمثل في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.
في شهر سبتمبر (أيلول)، أطلقت المملكة العربية السعودية من نيويورك، خلال افتتاح الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، مبادرة لإحياء جهود السلام لحل القضية الفلسطينية، بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والأردن ومصر.
وبعد اندلاع الحرب، دعت سلطنة عمان إلى اجتماع طارئ لوزراء خارجية دول مجلس التعاون عُقد بمسقط في شهر أكتوبر (تشرين الأول) لوضع الخطوط العريضة لسياسة المجلس تجاه هذه الأزمة، ثم دعت المملكة العربية السعودية إلى قمة عربية - إسلامية طارئة، عُقدت بالرياض في نوفمبر، وصدر عنها توافق عربي - إسلامي، وشكلت لجنة وزارية برئاسة وزير الخارجية السعودي، بهدف بلورة تحرك دولي لوقف الحرب على غزة، والضغط من أجل إطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية لتحقيق السلام الدائم والشامل، وفق المرجعيات الدولية المعتمدة، وفقاً للبيان الختامي لهذه القمة، وربما كانت أعمال هذه اللجنة أهم جهود تُبذل في هذا المجال منذ سنوات.
وعلى الرغم من معارضة إسرائيل الشرسة لأي تحرك دولي لحل القضية الفلسطينية، فإن معظم دول العالم -بما في ذلك حلفاء إسرائيل وشركاؤها التقليديون- صوتت لتأييد الحق الفلسطيني، ولم يبقَ مع إسرائيل والولايات المتحدة سوى دويلات تُعد على أصابع اليد الواحدة. ويُلاحظ أن الولايات المتحدة تلعب دوراً مزدوجاً، فهي تؤيد إسرائيل تأييداً شبه مطلق في الحرب على غزة؛ لكنها مع التوافق الدولي بشأن حل الدولتين على حدود 1967.
من المتوقع أن تستمر جهود المملكة العربية السعودية خلال عام 2024، مدعومة من قبل دول المجلس الأخرى، في جهودها لإنهاء الحرب في غزة، وإحياء عملية السلام لدعم الحق الفلسطيني المشروع في دولته المستقلة.
بالإضافة إلى دورها في السياسة والحفاظ على الأمن الإقليمي، من المتوقع أن تستمر منظومة مجلس التعاون في لعب دور محوري خلال عام 2024 في الاقتصاد والثقافة والرياضة، وأن تترسخ شراكاتها العربية والإقليمية والدولية خلال العام المقبل. فعلى سبيل المثال، خلال السنوات المقبلة تستعد المنطقة لاستضافة كثير من الأحداث المهمة، بما في ذلك استضافة الرياض لمعرض «إكسبو 2030» وكأس العالم 2034، كما استضافت دبي «إكسبو 2020» والدوحة كأس العالم في 2022.
وتُظهر آلية التنافس هذا العام على «إكسبو» وكأس العالم مؤشراً مهماً على الاعتراف بالدور المحوري للمملكة، ولدول مجلس التعاون بشكل عام. فقد انسحب المنافسون المحتملون لاستضافة كأس العالم، وظلت المملكة المرشح الوحيد.
أما في منافسات «إكسبو 2030»، فقد صوتت 119 دولة لصالح السعودية، مقابل 29 صوتاً لصالح كوريا و17 صوتاً لصالح إيطاليا، وهي نتيجة مذهلة وغير مسبوقة، خصوصاً حين نأخذ بعين الاعتبار الوزن الاقتصادي والسياسي للدولتين المنافستين، والجهود الكبيرة التي بُذلت في الترويج لترشيحهما.