السعودية 2024... توقعات إيجابية تدعمها إرادة سياسية وقدرة اقتصادية

ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الكوري الجنوبي يحضران إحدى جلسات منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» (واس)
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الكوري الجنوبي يحضران إحدى جلسات منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» (واس)
TT

السعودية 2024... توقعات إيجابية تدعمها إرادة سياسية وقدرة اقتصادية

ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الكوري الجنوبي يحضران إحدى جلسات منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» (واس)
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الكوري الجنوبي يحضران إحدى جلسات منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» (واس)

في عالم تزيد فيه حالة عدم التيقن يوماً بعد يوم، تبقى الثوابت هي المستند الرئيسي لاستشراف المستقبل القريب، هذه الثوابت هي العوامل التي ترتكز عليها التوقعات المستقبلية، ويمكن اختصارها في ثلاثة عوامل: الأول هو الإرادة السياسية، وهي المحرك الأول لتوجهات الدول، وما تريد أن تصل إليه.

الثاني هو القدرة الاقتصادية، وهي الممكّن الذي يعين الدول على تنفيذ إرادتها السياسية، والأداة التي تسهم في تحويل الخطط إلى واقع ملموس.

أما الثالث فهو التغيّرات العالمية، وهي العوامل التي تؤثر في تنفيذ هذه الخطط سلباً أو إيجاباً، وهي أكبر مسبب لحالة عدم التيقن تجاه التوقعات المستقبلية، وتلعب سياسة الدول دوراً جوهرياً في تحديد ذلك. وعند تطبيق هذه النظرة على المملكة العربية السعودية، يمكن توقع ما سيكون عليه العام المقبل.

السعودية في 2023

البداية مع الإرادة السياسية، فعلى المستوى الداخلي، لا تزال المملكة ماضية في تنفيذ «رؤيتها الطموحة 2030»، ويدعمها في ذلك تحقيق كثير من المبادرات لمستهدفاتها بشكل مبكّر. ولا شك أن كثيراً من هذه المبادرات بدأت تؤتي أكلها، لا سيما تلك التي بدأت مبكراً لإعادة هيكلة بعض قطاعات الدولة.

ولم تقف المملكة عند برامجها التي أطلقتها مع بواكير رؤيتها، فاستمرت في إطلاق مبادرات ومشاريع عديدة استهدفت قطاعات كالسياحة والترفيه والرياضة، والأخير تحديداً بيّن مدى تأثير إرادة الدولة في تحويل الخطط إلى واقع، ففي غضون أعوام قليلة سرق الدوري السعودي لكرة القدم الأضواء من الدوريات العالمية الكبرى، وأصبح محط أنظار العالم بعد هيكلة القطاع الرياضي وتفعيل دور القطاع الخاص في المنظومة الرياضية.

ولكون «الرؤية» شاملة لجميع القطاعات الحيوية، ظهرت تقاطعات مشاريع «الرؤية» ودعم بعضها لبعض، فعلى سبيل المثال، اتضح أن القطاع السياحي بحاجة إلى تدعيم لوجيستي، فأطلق صندوق الاستثمارات العامة شركة «طيران الرياض» لتسهم في تحقيق مستهدفات القطاع السياحي، والأمر ينطبق على تقاطعات كثيرة بين برامج «الرؤية». ويسهم في زيادة فعالية هذه القطاعات إشراف القيادة العليا في المملكة على الاستراتيجيات الوطنية، بما يضمن تكامل الأعمال والبعد عن الازدواجية.

كما ظهر أثر الإرادة السياسية في المملكة من خلال علاقاتها الخارجية مع الدول، فمنذ أعوام مدَّت المملكة جسور التواصل مع دول العالم تحت شعار المصالح المشتركة وتبادل القيم، وفي حين اختتم عام 2022 بزيارة الرئيس الصيني للرياض، امتدت هذه الزيارات عالية المستوى لعام 2023، فشهدت المملكة عدداً من قمم القادة، مثل: القمة السعودية الأفريقية، وقمة دول الخليج ودول الآسيان، والقمة السعودية الكاريبية، والقمة العربية، والقمة الإسلامية.

القادة ورؤساء الحكومات المشاركون في القمة العربية - الإسلامية بالرياض (أ.ف.ب)

وتنوعت أهداف هذه القمم بين الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، والأسلوب المشترك فيها أن المملكة تعمل مع جميع الدول ذات الاهتمام المشترك والمصالح المتبادلة.

كما شاركت المملكة كذلك في قمم عالمية، أبرزها قمة العشرين التي أقيمت في الهند، والقمة من أجل ميثاق مالي جديد في باريس. وتبيّنت بعض آثار هذه الجهود والزيارات الدولية من خلال فوز المملكة بتنظيم معرض «إكسبو 2030» بعد أن جمعت المملكة أصوات غالبية الدول، مسخّرة قوة علاقاتها مع دول العالم.

القدرة الاقتصادية

العامل الثاني هو القدرة الاقتصادية التي قد تمثلها الميزانية العامة للعام القادم، فقد استمرت المملكة في سياساتها الإنفاقية التوسعية، ورصدت ميزانية فاقت 1.2 تريليون ريال، مع اتباعها سيناريوهات متحفظة من ناحية الإيرادات. ولم يزد العجز في الميزانية العامة للدولة على 2 في المائة، واستمرت الحكومة في تمويل قطاعاتها دون تغيير جذري يذكر، بما يضمن استمرارية الاستراتيجيات القطاعية للدولة، وبما يتوافق مع المتغيرات المحيطة بها.

وبينما انخفضت الإيرادات النفطية بسبب سياسة «أوبك» الاستباقية للحفاظ على استقرار أسواق النفط، استمرت الإيرادات غير النفطية في الازدياد لتصل إلى 441 مليار ريال، لتشكل نحو 37 في المائة من إيرادات الدولة، بعد أن كانت هذه النسبة نحو 32.5 في المائة عام 2018.

واستمرار المملكة في إنفاقها في الميزانية العامة دليل على أمرين: الأول، هو ثقتها بمتانة اقتصادها وقدرتها على الإيفاء بهذا الإنفاق التوسعي دون الإضرار بمعدل الدين للناتج الإجمالي العام ودون الإخلال باحتياطياتها، والثاني، هو مُضيّها في برامج «الرؤية الطموحة» وثقتها بنتائجها الإيجابية المستقبلية على الاقتصاد الوطني.

التغيرات العالمية

العامل الثالث هو التغيرات العالمية التي قد تشكل إما مخاطر وإما فرصاً للمملكة، هذه التغيرات قد تكون جيوسياسية، كاستمرار الحرب الروسية الأوكرانية، التي تؤثر على استقرار أسعار النفط، أو التغيرات في العدوان الإسرائيلي على غزة الذي يؤثر على المنطقة بشكل عام، أو الهجمات الحوثية التخريبية على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما يمكن أن تتمثل هذه التغيرات في وضع الاقتصاد العالمي، فلا يزال الاقتصاد العالمي يشهد تباطؤاً بفعل عوامل مثل التضخم، والسياسة النقدية المتشددة التي اتخذتها البنوك المركزية للحد منه، وتبعات الجائحة التي أثرت على سلاسل التوريد العالمية.

السعودية 2024

تغلب الإيجابية على التوقعات العامة للاقتصاد السعودي للعام القادم، فتوقعت «فيتش» أن ينمو الاقتصاد السعودي بين 2.6 و3.3 في المائة، وتوقعت «مودي» أن يكون النمو بنحو 4.6 في المائة، ورفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو المملكة في فترة قليلة لتصبح 4 في المائة، وأشارت التقديرات التي ذكرتها وزارة المالية في البيان التمهيدي للميزانية العام إلى أن تقديرات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 4.4 في المائة.

هذه التوقعات مدفوعة بعدد من العوامل المرتبطة بأحداث عام 2023، وبالسياسة العامة للمملكة. فإيرادات المملكة ارتفعت في هذا العام رغم خفضها لإنتاج النفط مدفوعة بارتفاع الإيرادات غير النفطية، ويتوقع أن تستمر هذه الإيرادات في الارتفاع العام القادم، كما ارتفعت في الأعوام الخمسة الماضية.

وسبب هذا الارتفاع هو ازدياد نشاط القطاع الخاص الذي يشجعه عدد من الإجراءات الحكومية، وبرامج «الرؤية». ويقلل هذا التوجه للحكومة السعودية من المخاطر والتقلبات التي قد تشهدها أسواق النفط العالمية، وهو في الأساس أحد أكبر محاور «الرؤية» التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل لضمان استدامة النمو والتنمية في المملكة.

وتعكس أحداث عام 2023 عدداً من التوقعات، فعلى سبيل المثال، من غير المستغرب أن تطلق السعودية عدداً من المشاريع المرتبطة بتنظيمها لـ«إكسبو 2030»، وقد يكون ذلك بتحديد موقع إقامة الحدث، وبدء الفعاليات المرتبطة به، كالمؤتمرات والمعارض والخطط الاستراتيجية، وقد يمتد ذلك إلى إنشاء جهة حكومية متخصصة تشرف على هذه الفعالية المهمة التي سعت حكومة المملكة إلى استضافتها.

كذلك، فمن المتوقع أن تحدث تغييرات في القطاع الرياضي في المملكة العام المقبل، فكما بدأت السعودية في تخصيص أنديتها بنقل ملكية 4 أندية لصندوق الاستثمارات العامة، قد يستمر ذلك العام المقبل بانتقال ملكية عدد أكبر من الأندية لكبريات الشركات السعودية.

كما يتوقع أن يزيد رتم العمل في وزارة الرياضة ضمن الإعلان المتوقع لاستضافة المملكة كأس العالم 2034، وذلك بتقديم ملف الاستضافة الذي قد يشمل إنشاء ملاعب جديدة وبنى تحتية لضمان استضافة متميزة، وللارتقاء بالقطاع الرياضي بما يتناسب مع الطموحات العالية بشأنه.

وبين استضافتي «إكسبو 2030» وكأس العالم 2034، يتوقع الإعلان عن مشاريع بنى تحتية متعددة، سواء في مدينة الرياض التي تشهد بالفعل عدداً كبيراً من مشاريع البنى التحتية، مثل مطار الملك سلمان، ومشروعي القدية وحديقة الملك سلمان، وغيرها من المشروعات الضخمة، أو في غيرها من مدن المملكة التي قد تلعب دوراً مهماً؛ لا سيما في تنظيم كأس العالم.

والمتابع لمشاريع «رؤية المملكة 2030» يرى أنها بدأت بعدد من المشاريع الطموحة، مثل: «نيوم، والبحر الأحمر، وآمالا، والقدية»، وقد بدأت بإطلاق عدد من المشروعات في مدينة الرياض في بدايات «الرؤية»، واستمرت بعدها في إطلاق مشاريع في مدن أخرى، مثل مشروع وسط جدة، أو رؤى المدينة المنورة، أو مشروعي السودة ومطار أبها.

وقد يدل ذلك على مزيد من المشاريع في مدن أخرى بالمملكة، سواء كانت هذه المشروعات لبنى تحتية، أو لمشاريع تخصصية، كما هي الحال في المشاريع الزراعية المرتبطة بمدن ذات خصائص جغرافية وبيئية معينة. ويعني ذلك أن العام القادم هو استمرار -بمشيئة الله- لـ«رؤية المملكة 2030» لتضمين عدد أكبر من المدن السعودية ضمن مشروعها الشمولي، بما يتوافق مع خصائص هذه المدن الثقافية والجغرافية.

مرونة المملكة

لقد أظهرت المملكة في الأعوام السابقة مرونتها في التعامل مع الأحداث الاقتصادية والسياسية، فلم تتأثر بالتضخم الناتج عن الجائحة كغيرها من الدول، واستطاعت تفادي الآثار السلبية للنزاعات الجيوسياسية العالمية، بل أطلقت مبادرات عالمية تهدف إلى التعامل مع نتائج هذه الأحداث، كما فعلت في مبادراتها لسلاسل الإمداد العالمية.

ومن غير المستغرب أن يستمر هذا النهج العام المقبل، بالتحوط من أي تغيرات قد تؤثر سلباً على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، واستثمار متانة اقتصادها وعلاقتها مع الدول في الوصول إلى حلول تفضي إلى الازدهار، كل ذلك دون التخلي عن مشروعها الوطني الذي يهدف إلى الارتقاء بقطاعاتها الاستراتيجية والحيوية.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.