في عالم تزيد فيه حالة عدم التيقن يوماً بعد يوم، تبقى الثوابت هي المستند الرئيسي لاستشراف المستقبل القريب، هذه الثوابت هي العوامل التي ترتكز عليها التوقعات المستقبلية، ويمكن اختصارها في ثلاثة عوامل: الأول هو الإرادة السياسية، وهي المحرك الأول لتوجهات الدول، وما تريد أن تصل إليه.
الثاني هو القدرة الاقتصادية، وهي الممكّن الذي يعين الدول على تنفيذ إرادتها السياسية، والأداة التي تسهم في تحويل الخطط إلى واقع ملموس.
أما الثالث فهو التغيّرات العالمية، وهي العوامل التي تؤثر في تنفيذ هذه الخطط سلباً أو إيجاباً، وهي أكبر مسبب لحالة عدم التيقن تجاه التوقعات المستقبلية، وتلعب سياسة الدول دوراً جوهرياً في تحديد ذلك. وعند تطبيق هذه النظرة على المملكة العربية السعودية، يمكن توقع ما سيكون عليه العام المقبل.
السعودية في 2023
البداية مع الإرادة السياسية، فعلى المستوى الداخلي، لا تزال المملكة ماضية في تنفيذ «رؤيتها الطموحة 2030»، ويدعمها في ذلك تحقيق كثير من المبادرات لمستهدفاتها بشكل مبكّر. ولا شك أن كثيراً من هذه المبادرات بدأت تؤتي أكلها، لا سيما تلك التي بدأت مبكراً لإعادة هيكلة بعض قطاعات الدولة.
ولم تقف المملكة عند برامجها التي أطلقتها مع بواكير رؤيتها، فاستمرت في إطلاق مبادرات ومشاريع عديدة استهدفت قطاعات كالسياحة والترفيه والرياضة، والأخير تحديداً بيّن مدى تأثير إرادة الدولة في تحويل الخطط إلى واقع، ففي غضون أعوام قليلة سرق الدوري السعودي لكرة القدم الأضواء من الدوريات العالمية الكبرى، وأصبح محط أنظار العالم بعد هيكلة القطاع الرياضي وتفعيل دور القطاع الخاص في المنظومة الرياضية.
ولكون «الرؤية» شاملة لجميع القطاعات الحيوية، ظهرت تقاطعات مشاريع «الرؤية» ودعم بعضها لبعض، فعلى سبيل المثال، اتضح أن القطاع السياحي بحاجة إلى تدعيم لوجيستي، فأطلق صندوق الاستثمارات العامة شركة «طيران الرياض» لتسهم في تحقيق مستهدفات القطاع السياحي، والأمر ينطبق على تقاطعات كثيرة بين برامج «الرؤية». ويسهم في زيادة فعالية هذه القطاعات إشراف القيادة العليا في المملكة على الاستراتيجيات الوطنية، بما يضمن تكامل الأعمال والبعد عن الازدواجية.
كما ظهر أثر الإرادة السياسية في المملكة من خلال علاقاتها الخارجية مع الدول، فمنذ أعوام مدَّت المملكة جسور التواصل مع دول العالم تحت شعار المصالح المشتركة وتبادل القيم، وفي حين اختتم عام 2022 بزيارة الرئيس الصيني للرياض، امتدت هذه الزيارات عالية المستوى لعام 2023، فشهدت المملكة عدداً من قمم القادة، مثل: القمة السعودية الأفريقية، وقمة دول الخليج ودول الآسيان، والقمة السعودية الكاريبية، والقمة العربية، والقمة الإسلامية.
وتنوعت أهداف هذه القمم بين الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، والأسلوب المشترك فيها أن المملكة تعمل مع جميع الدول ذات الاهتمام المشترك والمصالح المتبادلة.
كما شاركت المملكة كذلك في قمم عالمية، أبرزها قمة العشرين التي أقيمت في الهند، والقمة من أجل ميثاق مالي جديد في باريس. وتبيّنت بعض آثار هذه الجهود والزيارات الدولية من خلال فوز المملكة بتنظيم معرض «إكسبو 2030» بعد أن جمعت المملكة أصوات غالبية الدول، مسخّرة قوة علاقاتها مع دول العالم.
القدرة الاقتصادية
العامل الثاني هو القدرة الاقتصادية التي قد تمثلها الميزانية العامة للعام القادم، فقد استمرت المملكة في سياساتها الإنفاقية التوسعية، ورصدت ميزانية فاقت 1.2 تريليون ريال، مع اتباعها سيناريوهات متحفظة من ناحية الإيرادات. ولم يزد العجز في الميزانية العامة للدولة على 2 في المائة، واستمرت الحكومة في تمويل قطاعاتها دون تغيير جذري يذكر، بما يضمن استمرارية الاستراتيجيات القطاعية للدولة، وبما يتوافق مع المتغيرات المحيطة بها.
وبينما انخفضت الإيرادات النفطية بسبب سياسة «أوبك» الاستباقية للحفاظ على استقرار أسواق النفط، استمرت الإيرادات غير النفطية في الازدياد لتصل إلى 441 مليار ريال، لتشكل نحو 37 في المائة من إيرادات الدولة، بعد أن كانت هذه النسبة نحو 32.5 في المائة عام 2018.
واستمرار المملكة في إنفاقها في الميزانية العامة دليل على أمرين: الأول، هو ثقتها بمتانة اقتصادها وقدرتها على الإيفاء بهذا الإنفاق التوسعي دون الإضرار بمعدل الدين للناتج الإجمالي العام ودون الإخلال باحتياطياتها، والثاني، هو مُضيّها في برامج «الرؤية الطموحة» وثقتها بنتائجها الإيجابية المستقبلية على الاقتصاد الوطني.
التغيرات العالمية
العامل الثالث هو التغيرات العالمية التي قد تشكل إما مخاطر وإما فرصاً للمملكة، هذه التغيرات قد تكون جيوسياسية، كاستمرار الحرب الروسية الأوكرانية، التي تؤثر على استقرار أسعار النفط، أو التغيرات في العدوان الإسرائيلي على غزة الذي يؤثر على المنطقة بشكل عام، أو الهجمات الحوثية التخريبية على حركة الملاحة في البحر الأحمر.
كما يمكن أن تتمثل هذه التغيرات في وضع الاقتصاد العالمي، فلا يزال الاقتصاد العالمي يشهد تباطؤاً بفعل عوامل مثل التضخم، والسياسة النقدية المتشددة التي اتخذتها البنوك المركزية للحد منه، وتبعات الجائحة التي أثرت على سلاسل التوريد العالمية.
السعودية 2024
تغلب الإيجابية على التوقعات العامة للاقتصاد السعودي للعام القادم، فتوقعت «فيتش» أن ينمو الاقتصاد السعودي بين 2.6 و3.3 في المائة، وتوقعت «مودي» أن يكون النمو بنحو 4.6 في المائة، ورفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو المملكة في فترة قليلة لتصبح 4 في المائة، وأشارت التقديرات التي ذكرتها وزارة المالية في البيان التمهيدي للميزانية العام إلى أن تقديرات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 4.4 في المائة.
هذه التوقعات مدفوعة بعدد من العوامل المرتبطة بأحداث عام 2023، وبالسياسة العامة للمملكة. فإيرادات المملكة ارتفعت في هذا العام رغم خفضها لإنتاج النفط مدفوعة بارتفاع الإيرادات غير النفطية، ويتوقع أن تستمر هذه الإيرادات في الارتفاع العام القادم، كما ارتفعت في الأعوام الخمسة الماضية.
وسبب هذا الارتفاع هو ازدياد نشاط القطاع الخاص الذي يشجعه عدد من الإجراءات الحكومية، وبرامج «الرؤية». ويقلل هذا التوجه للحكومة السعودية من المخاطر والتقلبات التي قد تشهدها أسواق النفط العالمية، وهو في الأساس أحد أكبر محاور «الرؤية» التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل لضمان استدامة النمو والتنمية في المملكة.
وتعكس أحداث عام 2023 عدداً من التوقعات، فعلى سبيل المثال، من غير المستغرب أن تطلق السعودية عدداً من المشاريع المرتبطة بتنظيمها لـ«إكسبو 2030»، وقد يكون ذلك بتحديد موقع إقامة الحدث، وبدء الفعاليات المرتبطة به، كالمؤتمرات والمعارض والخطط الاستراتيجية، وقد يمتد ذلك إلى إنشاء جهة حكومية متخصصة تشرف على هذه الفعالية المهمة التي سعت حكومة المملكة إلى استضافتها.
كذلك، فمن المتوقع أن تحدث تغييرات في القطاع الرياضي في المملكة العام المقبل، فكما بدأت السعودية في تخصيص أنديتها بنقل ملكية 4 أندية لصندوق الاستثمارات العامة، قد يستمر ذلك العام المقبل بانتقال ملكية عدد أكبر من الأندية لكبريات الشركات السعودية.
كما يتوقع أن يزيد رتم العمل في وزارة الرياضة ضمن الإعلان المتوقع لاستضافة المملكة كأس العالم 2034، وذلك بتقديم ملف الاستضافة الذي قد يشمل إنشاء ملاعب جديدة وبنى تحتية لضمان استضافة متميزة، وللارتقاء بالقطاع الرياضي بما يتناسب مع الطموحات العالية بشأنه.
وبين استضافتي «إكسبو 2030» وكأس العالم 2034، يتوقع الإعلان عن مشاريع بنى تحتية متعددة، سواء في مدينة الرياض التي تشهد بالفعل عدداً كبيراً من مشاريع البنى التحتية، مثل مطار الملك سلمان، ومشروعي القدية وحديقة الملك سلمان، وغيرها من المشروعات الضخمة، أو في غيرها من مدن المملكة التي قد تلعب دوراً مهماً؛ لا سيما في تنظيم كأس العالم.
والمتابع لمشاريع «رؤية المملكة 2030» يرى أنها بدأت بعدد من المشاريع الطموحة، مثل: «نيوم، والبحر الأحمر، وآمالا، والقدية»، وقد بدأت بإطلاق عدد من المشروعات في مدينة الرياض في بدايات «الرؤية»، واستمرت بعدها في إطلاق مشاريع في مدن أخرى، مثل مشروع وسط جدة، أو رؤى المدينة المنورة، أو مشروعي السودة ومطار أبها.
وقد يدل ذلك على مزيد من المشاريع في مدن أخرى بالمملكة، سواء كانت هذه المشروعات لبنى تحتية، أو لمشاريع تخصصية، كما هي الحال في المشاريع الزراعية المرتبطة بمدن ذات خصائص جغرافية وبيئية معينة. ويعني ذلك أن العام القادم هو استمرار -بمشيئة الله- لـ«رؤية المملكة 2030» لتضمين عدد أكبر من المدن السعودية ضمن مشروعها الشمولي، بما يتوافق مع خصائص هذه المدن الثقافية والجغرافية.
مرونة المملكة
لقد أظهرت المملكة في الأعوام السابقة مرونتها في التعامل مع الأحداث الاقتصادية والسياسية، فلم تتأثر بالتضخم الناتج عن الجائحة كغيرها من الدول، واستطاعت تفادي الآثار السلبية للنزاعات الجيوسياسية العالمية، بل أطلقت مبادرات عالمية تهدف إلى التعامل مع نتائج هذه الأحداث، كما فعلت في مبادراتها لسلاسل الإمداد العالمية.
ومن غير المستغرب أن يستمر هذا النهج العام المقبل، بالتحوط من أي تغيرات قد تؤثر سلباً على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، واستثمار متانة اقتصادها وعلاقتها مع الدول في الوصول إلى حلول تفضي إلى الازدهار، كل ذلك دون التخلي عن مشروعها الوطني الذي يهدف إلى الارتقاء بقطاعاتها الاستراتيجية والحيوية.