غسان سلامة لـ«الشرق الأوسط»: عناصر حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لم تكتمل بعد

اتفاق «الطائف» اللبناني ليس كتاباً مقدساً... و«موسيقى ناعمة» تسمع من بكين

TT

غسان سلامة لـ«الشرق الأوسط»: عناصر حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لم تكتمل بعد

غسان سلامة خلال الحوار مع "الشرق الأوسط"
غسان سلامة خلال الحوار مع "الشرق الأوسط"

كما في نهاية كل عام، ثمة وقفة يُطرح خلالها كثير من الأسئلة حول ما حملته أشهر العام الماضي من أحداث ستبقى في الأذهان، وسيكون لها أثرها على المقبل من الأيام. ولكن أيضاً حول ما حضرته للعام الجديد من مفاجآت وتحديات ومصائب. وللتوقف عند ما قضى، واستجلاء ما سيأتي، قصدنا الدكتور غسان سلامة، الوزير السابق والأستاذ الجامعي وصاحب المؤلفات الكثيرة في العلاقات الدولية، والذي عمل للأمم المتحدة في العراق وليبيا وميانمار.

والحوار مع الدكتور سلامة ليس عملاً مثرياً بذاته بالنظر لقدراته التحليلية المرتكزة إلى متابعة دقيقة واتصالات رفيعة المستوى، بل هو أيضاً متعة حقيقية بفضل وضوح الرؤية لديه ووضوح ودقة التعبير. وفي جلسة مطولة استضاف خلالها «الشرق الأوسط» بباريس، كانت جولة واسعة على شؤون العالم العربي وعلى حالة العالم اليوم وما ستكون عليه غداً: من حرب غزة إلى حرب أوكرانيا مروراً بأوجاع العالم العربي، وصولاً الى المنافسة البنيوية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين وتحول الثقل العالمي نحو الشرق وفشل مجلس الأمن الدولي في القيام بالمهمة المنوطة به منذ تأسيسه؛ وهي الحفاظ على السلم العالمي وأسباب تقاعسه، كلها ملفات طرحت مع الدكتور غسان سلامة الذي تناولها بعمق. وفيما يلي نص الحوار:

نظرة سريعة على عام 2023

* بعد أيام قليلة نودع عام 2023 ونستقبل عام 2024. سنغوص لاحقاً في التحديات التي يطرحها العام الجديد أكان بالنسبة للعالم العربي أو بشكل عام. ولكن قبل ذلك؛ سؤالي الأول يتناول المحطات اللافتة التي توقفت أو تتوقف عندها في العام المنتهي...

- في العام المنتهي يكاد يكون استمراراً لما سبقه أكثر مما هو انفتاح على ما هو لاحق. أولاً، من الناحية الاقتصادية نرى أن العام المذكور كان إجمالاً إيجابياً بعد سنة 2022 التي كانت سلبية للغاية بالنسبة للاقتصاد العالمي. فقد شهدنا عودة الصين إلى السوق العالمية، ورأينا نمواً ولو ضعيفاً في الدول الغربية بالتوازي مع محاربة كثيفة للتضخم في مختلف اقتصادات العالم. واللافت أن الدول النامية لم تتأثر كثيراً بحرب أوكرانيا، لأن موسم 2023 من الحبوب كان جيداً للغاية. لذلك فإن عدم تمكن روسيا، خصوصاً أوكرانيا من تصدير الحبوب بصورة كافية لم يؤثر كثيراً على أسعار الحبوب، لا سيما أسعار القمح. وبالطبع، هذا أمر مهم لأن عدم توافر القمح وارتفاع أسعاره يفضيان، في كثير من الدول، إلى انتفاضات وثورات واضطرابات بالشارع.

غسان سلامة خلال الحوار مع "الشرق الأوسط"

إذن أعتقد أن الحكومات نجحت في تجنب هذا الهم الكبير باعتبار أن موسم الحبوب في السنتين الماضيتين كان جيداً في كل أنحاء العالم. من ناحية أخرى، رأينا أن حرب أوكرانيا التي انطلقت في شهر فبراير (شباط) من عام 2022، وتواصلت في العام الذي يليه دون توقف، تميزت بأمر أساسي؛ وهو أن الهجوم المضاد الذي حاولت أوكرانيا أن تقوم به ضد القوات الروسية في الدونباس فشل، ولم تتمكن أوكرانيا إلا من استعادة مساحات قليلة، ما يعني أن وضع الرئيس الأوكراني الذي كان يراهن كثيراً على نجاح هذا الهجوم المضاد قد ضعف. هو اليوم في فوهة المدفع كما يقال. وشهدنا، من الناحية الأخرى، تمكن بوتين من القضاء على نوع من الانتفاضة التي قام بها مؤسس حركة «فاغنر»، التي فاجأت الجميع بحصولها وبسهولة انطلاقها من جنوب روسيا نحو موسكو دون أن يوقفها أحد. لكنه بعد شهرين من ذلك، توفي مؤسس «فاغنر» في حادث جوي.

من جانبه، استمر الرئيس بوتين باللعب على ورقة يعدّها رابحة، وهو الوقت الذي يرى أنه يعمل لصالحه، إذ إن لديه إمكانات صناعية ذاتية لتأمين جيشه، بينما لأوكرانيا إمكانات خارجية فقط، حيث إنها تعتمد على الدعم الخارجي في الأعتدة والسلاح.

عام 2023 شهد أيضاً أمراً مهماً في أفريقيا؛ وهو عودة الانقلابات العسكرية في 8 من دولها، ما يعني أن أفريقيا تتراجع في الديمقراطية لمصلحة الأنظمة التسلطية العسكرية. ومعظم هذه الأنظمة التي تم الانقلاب عليها عسكرياً في منطقة الساحل. والجزء الثاني من الصورة هناك هو، عملياً، طرد الوجود العسكري الفرنسي من دول مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وغيرها، وهو أمر له بعد تاريخي لأن عدداً من القواعد العسكرية الفرنسية التي أقفلت عمرها أكثر من 30 أو 40 عاماً. إذن هناك انحسار حقيقي للنفوذ الفرنسي في منطقة الساحل. وآخر تجلياته بالأمس انتهاء الانسحاب العسكري الفرنسي من النيجر وإغلاق السفارة.

من العناصر الأخرى المثيرة للانتباه طبعاً عودة الشعبوية بكثرة إلى أميركا اللاتينية، لا سيما في انتخابات الأرجنتين التي جاءت بشخص شعبوي بامتياز إلى رئاسة الجمهورية. لكن الحدث الأبرز بالنسبة لنا، عربياً، كان ولا شك حرب غزة التي سنتوقف لاحقاً ملياً عندها.

أما في أنحاء العالم الأخرى فالجميع يتهيأ للعام المقبل الذي سيكون بامتياز عام الانتخابات، إذ سيحصل أكثر من 60 انتخاباً وطنياً؛ في الولايات المتحدة، في الهند، في جنوب أفريقيا، وفي دول كثيرة بالعالم. أما في الاتحاد الأوروبي، فستحصل انتخابات البرلمان الأوروبي. إذن السنة المقبلة هي سنة الانتخابات الكبيرة، وبالتالي هي سنة تأثر السياسة الخارجية بالحسابات الانتخابية الداخلية، وهو ما لم نعرفه كثيراً في 2023.

أمراض البلدان العربية

* بالنظر لمنطقتنا من لبنان إلى سوريا إلى العراق وليبيا واليمن وتونس وحتى السودان، لوجدنا أزمات متعددة ومختلفة. هل هناك علة واحدة يمكن أن تبين أسباب هذه التمزقات أم هناك مجموعة من العلل؟ ما هي؟ وكيف الخروج منها؟

- حقيقة الأمر أن هناك جوانب متشابهة لعدد من الأزمات، ولكن أيضاً هناك جوانب خاصة بكل بلد. فيما خص الجوانب المتشابهة، علينا أن نشير أولاً إلى أننا ندفع ثمن الانفجار السكاني الذي حصل في القرن العشرين بمختلف هذه البلدان. هذا الانفجار تضاءل بعض الشيء في القرن الحادي والعشرين، لكن أنت تشعر بخطورته عندما تصل أجيال ذلك الانفجار إلى سن العشرين أو سن الثلاثين، وتجد صعوبة في العثور على عمل. لذا، نحن نشهد وندفع أولاً وأساساً كلفة الانفجار السكاني الذي حصل في العقود الأخيرة من القرن العشرين، والذي حمل إلى سوق العمل شباباً وشابات مؤهلين تلقوا تعليمهم في الجامعات والمعاهد... ولذلك فإن اشمئزازهم من عجزهم عن الحصول على العمل أكبر من اشمئزاز الذين لم يتعلموا ولم يتدربوا.

هذا أمر عام في أنحاء المنطقة من المغرب إلى العراق، مروراً بمصر وتونس وغيرها من البلدان. وهناك سبب ثانٍ مهم في نظري؛ وهو أن العقد السابق من القرن الحادي والعشرين شهد نوعاً من الأمل بالتغيير من خلال ما سمي «الربيع العربي» الذي رأينا تداعياته تقريباً في نصف الدول العربية بينها مصر وتونس والجزائر وسوريا واليمن وغيرها من البلدان. هذا الأمل تحطم. ربما كان أملاً كاذباً منذ اليوم الأول.

أنا لا أريد الدخول بالتفاصيل هنا، ولكن من دون أي شك كان هناك أمل خصوصاً بالنسبة للشباب. وهذا الأمل تحطم، وحل مكان الأنظمة التي كان يسعى هؤلاء الشبان إلى تغييرها؛ إما أنظمة أكثر تسلطية من الأنظمة التي سقطت في الربيع العربي، أو اندلعت حروب أهلية دامية في عدد من البلدان وما زال بعضها جارياً حتى الساعة، لا سيما في دول مثل سوريا واليمن وغيرهما. هذا هو العنصر الثاني الجامع أو لنسميه «العابر للحدود» العربية كلها. والعنصر الثالث هو الدور الصعب الذي لعبه الإسلام السياسي في عدد من هذه البلدان، بمعنى أن الإسلام السياسي تمكن من الوصول إلى عتبة السلطة بالانتخاب، كما انتخاب محمد مرسي في مصر مثلاً، أو فوز النهضة بالانتخابات في تونس، أو عبر وسائل وطرق أخرى. ولكن الإسلام السياسي بدا كأنه على الخواء نفسه الذي نجده عند الأحزاب الأخرى أو عند الأنظمة القائمة: الخواء في المشروعات الاقتصادية والإنمائية، الخواء في المشروعات الاجتماعية... لا يكفي أن تقول إن الإسلام هو الحل. يجب أن يعرض الحلول العملية التي يقدمها. ورأينا ذلك مثلاً في مصر أو في تونس. أما الأحزاب العلمانية أو غير الإسلامية فقد بدت لنا أنها خاوية أيضاً. هذه بنظري العناصر العابرة لمختلف الدول العربية.

بيد أنني أريد أن أسأل: هل الأزمات التي تلم بهذه البلدان أمر طبيعي أم غير طبيعي؟ أنا أعتقد أن الأمر طبيعي أكثر مما نعترف به. علينا أن نسأل: بمن نقارن هذه الدول لنقول إنها دول مأزومة؟ هل لم تكن مأزومة في السابق وأصبحت مأزومة الآن؟ جوابي بالنفي. لقد كانت ربما مستقرة وهادئة ولكنها مأزومة. ما حصل الآن أن هذه الأزمات ظهرت إلى السطح وأضحت مجال تناول وبحث وتمحيص.

لا شك أن لكل بلد هناك خصوصياته. ولكن ما يتعين التوقف عنده أن رد الأزمات إلى التدخلات الخارجية من أسهل الأمور لأنها قابلة للرصد بسهولة. ولكنني تعلمت من تجاربي في العراق ولبنان وليبيا، أمراً مهماً؛ وهو أن الديناميات الداخلية أصعب قراءة من التدخلات الخارجية. هي في معظم الأحيان أساسية وأكثر خطورة على تطور البلدان. هذا ما يحصل في قراءة الأحداث بالمنطقة العربية حيث نركز على التدخلات الخارجية، لأننا نتمكن بسهولة من رصدها فيما فهم الديناميات الداخلية أساسي، لأنها في معظم الأحيان جوهر الموضوع أكبر بكثير من التدخلات الخارجية، لا سيما أن القوى الداخلية في الدول المأزومة أو الدول التي تمر بحروب هي التي تستدعي التدخلات الخارجية، وتوفر لها التربة الخصبة وهي التي تضع حداً لها إذا شاءت، وبالتالي فإن التدخلات الخارجية لا تحصل من فراغ. لذلك على الإعلام، وأيضاً على المراقبين السياسيين والدبلوماسيين، أن يكسروا هذه الآلية السهلة.

مصير الصيغة اللبنانية

* سنترك القراءة العامة وسندخل في التفاصيل بدءاً بلبنان حيث الأزمات تتراكم: دستورية، ومؤسساتية، وسياسية، واجتماعية، ومالية... سؤالي جذري: هل يعني تتابع وتوالي واستمرار هذه الأزمات أن ما يسمى «الصيغة اللبنانية» لم تعد قابلة للحياة وما يمكن أن يكون البديل عنها؟

- سؤالك جذري، وجوابي لن يكون أقل جذرية. لقد شاءت الظروف أن يكون لي دور متواضع في بلورة اتفاق الطائف، حيث عملت إلى جانب اللجنة العربية التي كانت تبحث آنذاك في عام 1989 عن حل. وأود التأكيد بادئ ذي بدء أنه لم يخطر ببالنا أبداً، لا اللجنة العربية ولا موفدها السيد الأخضر الإبراهيمي ولا مستشارها غسان سلامة يوماً، أننا نعمل للتوصل إلى النموذج الدستوري المثالي والأفضل للبنان. كنا نسعى للخروج من الحرب، لوضع حد للقصف العنيف والقتل والدمار. باختصار، كنا نبحث عن صيغة انتقالية تسمح بوقف الحرب من خلال تهدئة الميليشيات المتقاتلة، وأيضاً الطرف السوري الذي كان منخرطاً فيها.

من هنا، أرى أن التمسك اللاهوتي باتفاق الطائف في غير مكانه. في الطائف، كنا نأمل، بعد وقف الحرب، أن يدخل لبنان في مرحلة سلم واستقرار وبحبوحة تسمح لأبنائه بأن يفكروا بما هو النظام الأمثل الذي يصبون إليه. هذا التصحيح ضروري، لأن هناك من حول اتفاق الطائف إلى كتاب مقدس. هو ليس كتاباً مقدساً، هو مفيد وكان مفيداً في حينه، وأنا فخور بأنني شاركت فيه.

ثانياً، إن بلداً يحتاج لسنة أو سنتين أو 3 ليختار رئيساً للجمهورية في كل مرة يشغر ذلك المنصب، ويحتاج لأشهر وأشهر لتأليف حكومته، ويحتاج لأشهر وأشهر للتفاهم على التمديد لقائد جيش، كما يحتاج لأشهر لتعيين موظف على رأس مصرفه المركزي، هذا البلد يعاني من نظام لا يناسبه. النظام الحالي في لبنان لا يناسب مصلحة اللبنانيين. هذا جوابي الجذري على سؤالك الجذري.

أما البديل، فالمشكلة ليست فيه، بل في إيجاد الوقت والظروف المناسبين لفتح هذا الملف. ثمة حاجة لتوافر ظروف من الاستقرار الداخلي ومن الاحتضان الخارجي ومن تغير الأفئدة والأفكار التي تسمح بالتوافق على نظام جديد. الآن، تسود في لبنان ظروف لم تعد مناسبة لفتح هذا الملف. لذلك أنا لا أعترض على حلول ترقيعية مثل انتخاب رئيس جمهورية بما تيسر، أو تأليف حكومة بما تيسر. لكن يتعين أن تكون مهمتهم الأولى، بعد إعادة تسيير المؤسسات، العمل على فتح الملف الدستوري من أساسه: هل نريد فعلاً نظاماً أكثر لامركزية أو نظاماً أكثر مركزية؟ يتضمن اتفاق الطائف دعوة للامركزية. لكن ثمة من يتخوف من تفتت الدولة ويتمسك بالمركزية.

ثم هناك سؤال آخر مهم خصوصاً في جو طائفي مشحون. صحيح، إن اتفاق الطائف يقول بإلغاء الطائفية السياسية وإن هذا يبدأ من مجلس النواب. ورأيي أن هذا خطأ، إذ أرى أن يبدأ إلغاء الطائفية أولاً من الإدارة العامة ومن الحكومة ثانياً ومن الرئاسات ثالثاً، وأخيراً من مجلس النواب. لماذا؟ لأن مجلس النواب هو السلطة الوحيدة المنتخبة وبالتالي، في مرحلة الانتقال من نظام طائفي إلى نظام لا طائفي، نحن بحاجة لهيئة دستورية يعترف بها الناس ويعدّون أنها من صنعهم لكي تحميهم في هذه المرحلة الانتقالية التي قد تثير القلق لدى كثير منهم.

هناك موضوع ثالث لا يقل أهمية؛ وهو أن الخلاف في لبنان على المواضيع الكبرى وليس على المواضيع الصغرى. لذلك من يدعو اليوم مثلاً لإلغاء إحدى الطبقات في الإدارة العامة (القضاء أو المحافظة لأن البلد صغير) ربما لا يجيب عن السؤال الأساسي الذي يتناول الثقافة السياسية في لبنان التي هي في حالة مزرية، لدرجة أنها غير قادرة على تقبل فكرة الدولة. ربما أن اللبنانيين تعودوا، أكثر من اللازم، على الحياة من دون دولة وعلى مجتمع من دون دولة.

* لكن اللبنانيين نزلوا بعشرات الآلاف إلى الشوارع والساحات احتجاجاً على غياب الدولة والفساد وأزمة المصارف...

- صحيح أن الآلاف من الأشخاص نزلوا إلى الشوارع والساحات لكنه ليس أمراً خاصاً بلبنان. ما نراه الآن في مختلف أنحاء العالم هو أن وسائل التواصل الاجتماعي تسهل جداً تعبئة الناس وإنزالهم إلى الشارع، لكنها أيضاً وسائل كاذبة. قد تتمكن من إنزال الملايين في بلد ما ولا تصل إلى نتيجة. لماذا؟ لأن التعبئة المجتمعية على أساس التواصل الاجتماعي تؤدي إلى نوع من التعبئة الأفقية، ولكنها لا تؤدي إلى ظهور قيادات ولا تؤدي إلى تبني برامج واضحة بديلة عن برامج السلطة القائمة، وبالتالي هي مثيرة للإعجاب بحجمها أو بقدرتها على تعبئة أكبر عدد ممكن من الناس، ولكنها تثير الخيبة والمرارة لأنها عاجزة عن أن تتوصل إلى برنامج حكم أو إلى إفراز قادة جدد.

وإجمالاً، التركيز على الجانب الأفقي وعلى التعاضد الأفقي يصبح نوعاً من المرض الواسع في وسط هذه المظاهرات. هم لا يريدون أن يظهر قادة يأخذون مكان القادة الموجودين. لكن لا مناص في أي تغيير سياسي من وجوه جديدة تحل محل من هم في السلطة، ولا مناص من وجود برنامج متفق عليه يختلف عن برنامج المتربعين في السلطة. التعبئة على أساس «السوشيال ميديا» تعبئة سهلة مثيرة للإعجاب، ولكنها في معظم الأحيان دون نتيجة.

حرب غزة وحل الدولتين

* لو جئنا إلى حرب غزة، لدي سؤال مثلث الأضلع: أولاً؛ كيف يمكن أن تنتهي هذه الحرب؟ ثانياً؛ هل عودة الحديث عن حل الدولتين أمر جدي أم بيع أوهام للفلسطينيين؟ ثالثاً؛ هل يمكن الرهان على وجود إرادة أميركية حقيقية للذهاب إلى حل سياسي معروفة محدداته؟

- بدوري أطرح تساؤلاً: هل الطرف الفلسطيني جاهز لكي يلعب هذا الدور التاريخي كحاضن لدولة فلسطينية ممكنة؟ جوابي هو لا. «حماس» غير مقبولة، والسلطة غير قادرة، وبالتالي نحن أمام خواء فلسطيني. ثمة حاجة لمخاطبة طرف فلسطيني جديد مقبول، لديه صدقية وليس فقط لديه شرعية السلطة الفلسطينية (وفقاً لاتفاقات أوسلو). لكن الواقعية تقضي بأن نقول إنه ليست لديها صدقية.

وفي الجانب المقابل، ثمة حاجة أيضاً لطرف إسرائيلي. والحال أنه غير موجود، إذ هناك حكومة متطرفة جداً تتبنى رفض فكرة الدولتين بصورة واضحة وصريحة، ليس فقط على لسان المتطرفين فيها مثل سموتريتش، ولكن على لسان رئيسها بنفسه. وهناك أيضاً مجلس حرب يتميز بالتشدد الكبير. وفي زيارته إلى إسرائيل في الأسبوع الأول من الحرب، فوجئ الرئيس بايدن بأن النظرية القديمة التي تقول إن جنرالات إسرائيل هم أقل تطرفاً من السياسيين ليست صحيحة في هذه الحرب، إذ إن الجنرالات الذين دخلوا إلى مجلس الحرب قد يكونون أكثر تطرفاً من نتنياهو نفسه في تحديد أهداف الحرب. لماذا؟ لأن هؤلاء مهووسون باستعادة قدرة الردع التي فقدها الجيش الإسرائيلي، وهو أمر قد لا يهم نتنياهو كثيراً.

ثالثاً، الحل بحاجة لوسيط لأمور الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. الوسيط الوحيد اليوم الذي لديه وسائل ضغط على الطرف الإسرائيلي هو الولايات المتحدة. نشرت حاملات طائرات لردع خصوم إسرائيل كما قررت أن تمدها، إلى جانب المليارات الأربع السنوية بـ14 مليار إضافية. وهي، ثالثاً، تمنع تكراراً مجلس الأمن من أن يصوت على مشروع قرار يقبله الأعضاء الـ14 بالنسبة وترفضه هي. إذن لدى واشنطن وسائل ضغط حقيقية ليست موجودة عند أي طرف آخر، لا الصين ولا أوروبا.

لكن المشكلة أن الوسيط (أي الأميركي) مفقود. لماذا؟ أولاً لأن بايدن تميز كسيناتور، خلال 40 عاماً من حياته، بالاصطفاف المطلق وراء مصالح إسرائيل، وهو لم يتغير كرئيس رغم البرنامج الذي أوصله إلى الحكم. بايدن شخص مؤيد لإسرائيل أكثر من كل معاونيه دون استثناء. وإني أتحدث في هذا المجال عن معرفة وليس عن تبصر. وبايدن مكبل اليدين لأنه دخل في السنة الأخيرة من ولايته الأولى وولج المعركة الانتخابية، حيث هناك أصوات شبابية تدعوه إلى أن يكون أقل تطرفاً في الصراع. ولكن، بالمقابل، هو بحاجة لتمويل قد يأتي أو سيأتي من مصادر تدعوه للاستمرار في هذا الموقف المتشدد إلى جانب إسرائيل.

البحث عن «أفق سياسي» للفلسطينيين بحاجة لـ3 أطراف، ليس هناك أي منها في حالة مناسبة لكي يلعب الدور المنوط به. لذلك أنا أميل للتشاؤم، كما أتخوف من توسع رقعة الحرب بحيث تستمر في غزة لأسابيع وأسابيع مقبلة، وأن تنتقل أيضاً إلى الضفة الغربية، حيث التوتر بلغ أوجه، لا سيما بعد قتل أكثر من 300 فلسطيني وطرد الفلسطينيين من عدد من القرى. وقد تنطلق الحرب أيضاً بجنوب لبنان، لأن في إسرائيل هناك من يقول اليوم إن الحالة ممتازة للقيام بحرب في لبنان: 80 ألف إسرائيلي أجلوا عن الجليل الأعلى، وعدد كبير من المدنيين غادروا منازلهم في جنوب لبنان، بحيث أصبحت الساحة خالية من المدنيين.

في إسرائيل أصوات ترتفع وتدعو للحرب في لبنان، ومنها وزير الدفاع يوآف غالانت. لكن الأميركيين، حتى الساعة رغم تأييدهم لإسرائيل واستمرارها في الحرب في غزة، ما زالوا يعارضون فتح جبهة الشمال. بايدن أبلغهم بذلك في الأسبوع الأول من الحرب وعندما عادت نغمتها مجدداً للتداول منذ نحو أسبوعين، كررت الإدارة الأميركية رسمياً أنها ما زالت عند موقفها المعارض لفتح جبهة لبنان. لكن الخطر يبقى قائماً أولاً، لأن إسرائيل لا تطيع أميركا في كل الحالات، وثانياً لأن المناوشات الجارية في لبنان يومياً قد تتجاوز رغبة الطرفين بإبقاء النار هادئة أو بإبقاء النار تحت السيطرة وقد يحصل سوء تفاهم أو سوء تفسير، ويتم تجاوز الخطوط الحمر لقواعد الاشتباك التي تم التوصل إليها.

إصلاح مجلس الأمن

* بعد ما يزيد على 70 يوماً على حرب غزة وسقوط ما يزيد على 20 ألف قتيل وآلاف الجرحى، وتدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، عجز مجلس الأمن عن وقف المجزرة من خلال إصدار قرار بوقف إطلاق النار ولو لأغراض إنسانية. والحال أن الأمم المتحدة أوجدت أساساً للحفاظ على السلم في العالم. فما فائدة هذه المنظمة الدولية اليوم؟

- هذا سؤال يطرح لدى اندلاع كل أزمة ويطرح اليوم في موضوع غزة بصورة أوضح، إذ حصلت محاولات للتوصل إلى وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، من قبل البرازيل ومن قبل روسيا ومن قبل دولة الإمارات، ولم تصل إلى نتيجة. الأمم المتحدة أرخبيل من المؤسسات التي لا تعمل بالضرورة بالتنسيق فيما بينها. أنا أنظر إلى غزة وأشيد بالدور الذي تقوم به منظمات الأمم المتحدة. كذلك أريد تحية أمينها العام أنطونيو غوتيريش الذي قامت الدنيا عليه ولم تقعد حتى الساعة بسبب جملة واحدة قالها، وهي أن هجوم «حماس» يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) «لم يحصل من فراغ».

منظمات الأمم المتحدة المختلفة تنشط في غزة، وهي جزء حقيقي من الأمم المتحدة. وفي الجمعية العامة تحظى فلسطين بأكثرية مؤيدة لها. لسوء الحظ، قرارات الجمعية العامة ليست تنفيذية، ولكنّ لديها قدراً من الوزن السياسي، وبالتالي فإن الارتقاء بهذه المؤسسة إلى شيء آخر أمر يبدو ضرورياً يوماً بعد يوم، لكي تكون منظمة الأمم المتحدة أكثر تمثيلاً للعالم، كما هو اليوم، وليس كما أريد له أن يكون عام 1945.

بقي مجلس الأمن وخطيئته الأصلية اسمها «الفيتو». هذا «الفيتو»، بمعنى من المعاني، جعل الدول الكبرى تهتم بمجلس الأمن وتريده أن يبقى قلب نظام الأمم المتحدة. لكننا دفعنا لهذه الدول ثمناً غالياً بمنحها حق «الفيتو». أزمة غزة وقبلها أزمة أوكرانيا زادتا من الشعور بضرورة تغيير تركيبة مجلس الأمن، إما بحصر حق «الفيتو» بحالات معينة أو بمنعه تماماً في حالات إنسانية صعبة، أو بإعطاء عدد محدود من إمكانات استعماله خلال السنة الواحدة لكل دولة أو بإعطاء حق «الفيتو» لدول جديدة لديها وزن في النظام العالمي مثل الهند أو البرازيل أو الاتحاد الأفريقي، جرت محاولات عديدة لإصلاح مجلس الأمن، لكنها فشلت لأن الدول الخمس صاحبة حق «الفيتو» عارضتها. كثيرة هي الدول التي ترى أن نظام مجلس الأمن غير تمثيلي وغير عادل، بل إنه يعمل بمبدأ التمايز بين الدول.

* لكن ضمن أي شروط وفي أي ظروف يمكن أن يحصل الإصلاح المطلوب، علماً بأن هناك العشرات من مشروعات الإصلاح طرحت من 30 أو 40 سنة حتى اليوم...

- هناك نوع من غضبة عالمية على المنظمات الدولية، وهذا لا ينحصر فقط بمجلس الأمن، ولكن يتناول صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهما أيضاً نشآ في عام 1945، وهما أيضاً قائمان على اللامساواة بين الدول في إداراتها، وهناك غضبة تحملها دول مثل الصين والبرازيل، وطبعاً الهند ودول أخرى مما يسمى «الجنوب الشامل». ولكن المشكلة الكبرى أن بين هذه الدول كم من الخلافات المتعددة: بين الصين والهند ثمة أكثر من 30 نقطة خلافية على حدودهما، وهناك تنافس على النفوذ بينهما في المحيطين الهندي والهادي. وهناك تشجيع هائل حالياً من الغرب للهند لكي تقف بوجه الصين. ولو جئنا لتمثيل الأفارقة فأنا أسأل: هل يمثلهم الاتحاد الأفريقي؟ الاتحاد الأفريقي فشل في حل كثير من المشاكل. هل تتمثل أفريقيا بدولة، وما هذه الدولة؟ جنوب أفريقيا، نيجيريا، إثيوبيا، مصر؟ ثم ننتقل إلى أوروبا ونسأل: هل يتعين ضم ألمانيا؟ وهل تقبل إيطاليا بذلك؟ ثم هناك 3 دول أوروبية دائمة العضوية (فرنسا وبريطانيا وروسيا التي هي دولة أوروبية أيضاً) فهل يتعين ضم دولة رابعة؟

ثمة مشاكل كبيرة بين الدول الراغبة في إحداث تغيير بالمجلس المذكور بشأن مواضيع قد تكون أكثر أهمية لهم مما يمنعهم من التفاهم على التوافق إزاء إصلاح المنظمات الدولية. لذلك بدأنا نسمع نوعاً من «الموسيقى الناعمة» في أنحاء العالم التي انطلقت من بكين، وهي أن كل هذه الأنظمة قد لا تكون قابلة للإصلاح، وبالتالي لماذا لا نقوم بإنشاء صندوق نقد خاص بالدول النامية وبنك دولي بديل عن البنك الدولي؟ ولماذا، في حالة أخرى لا ننشئ ربما مجلساً للأمن يوازي في تمثيله أو يتفوق على مجلس الأمن الراهن؟

تعريف «الجنوب الشامل» مرتبك

* يكثر الحديث منذ سنوات قليلة عن مفهوم «الجنوب الشامل». ما المقصود به؟ هل هو النموذج المناقض للنموذج الغربي الليبرالي؟ وما يمكن أن يؤدي إليه بشكل عملي؟

- تعريف مفهوم «الجنوب الشامل» ما زال مرتبكاً، إذ توضع فيه دول لا علاقة لها ببعضها. الصين أصبحت دولة عظمى. فهل هي جزء من الجنوب مثل زيمبابوي أو لبنان؟ هل روسيا جزء من الجنوب رغم أنها، ديموغرافياً، دولة بيضاء وجغرافياً أكثر من نصفها في أوروبا، فضلاً عن أنها تملك سلاحاً نووياً؟

في الحقيقة هناك صيغ أخرى استعملت للتعبير عن الشيء نفسه مثل دول عدم الانحياز أو مجموعة 127 في الجمعية العامة، ثم سميت كذلك «الجنوب الشامل» في تعبير شهير للويس أندرسن، حيث يعني «ما تبقى» من دول العالم. قيل إن «البريكس» هو التعبير المؤسسي عن الجنوب الشامل. والحال هناك خلافات بين الهند والصين وروسيا. الصين تريد أن توسع الإطار والهند تريد أن تبقيه ضيقاً. ثم إن «البريكس» نشأ سنة 2009 وليس لديه حتى اليوم موقع إلكتروني يمكن أن تعتمد عليه، كما أنه يفتقر لأمانة عامة دائمة. كذلك ليس لـ«البريكس» برنامج ولا حد أدنى من التوافق، باستثناء نوع من الخيبة أو من الغضب على الغرب، وهو يفتقر لرابط كافٍ سياسياً ومؤسسياً.

الآن، هناك دول مصرة على فكرة «الجنوب الشامل»، لا سيما الهند، لأنها تعطيها دوراً رائداً، وهي تريد تحديده باستثناء الغرب منه واستثناء الدول الكبرى منه، لا سيما روسيا والصين لتبقى هي في موقع متميز داخل هذه المجموعة.

حرب أوكرانيا على طريق التجميد

* كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا هشاشة البنية الأمنية في أوروبا، وبينت مخاوف موسكو من جهة، وطموحاتها من جهة أخرى. بعد أقل من عامين قليلاً على اندلاعها، ما التحولات العميقة البنيوية التي ستفضي إليها؟ وما صورة الهندسة الأمنية المقبلة في القارة القديمة؟

- أعتقد أن الرئيس بوتين مصيب في حساباته، بمعنى أن الوقت يعمل لصالحه، لأن الإمدادات العسكرية متوافرة، ولأن إمكانية تعبئة عدد أكبر من الناس، على صعوبته في روسيا، أقل صعوبة مما هو في أوكرانيا. وميدانياً، تبدو استعادة كييف، الدونباس وشبه جزيرة القرم، في المرحلة الحالية، أمراً يصعب تصوره، وبالتالي ما سيحصل، على الأرجح، في هذه المناطق التي ضمت شكلاً إلى روسيا ولم يعترف بضمها أحد باستثناء بيلاروس وسوريا، هو التوجه نحو ما يسمى «تجميد النزاع».

حماسة الغربيين لدعم أوكرانيا بالسلاح والمال تراجعت، وهناك تيار قوي في الولايات المتحدة لا يريد استمرار الحرب، فضلاً عن احتمال انتخاب ترمب مجدداً للرئاسة. وبوتين يعلم تماماً أن من أولى أولوياته، عند وصوله، توقيف أي دعم لأوكرانيا. وربما يراهن بوتين على انتخاب بايدن، وقد يضع الحرب على نار هادئة حتى تاريخ نوفمبر (تشرين الثاني) 2024.

أما بالنسبة لأوروبا فقد رأينا، من جهة أولى، أن هذه الأزمة حملت الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى في تاريخه أن يوحد عملية شراء السلاح لإعطائه لأوكرانيا، رغم أن أمراً كهذا سيادي بامتياز. لذا، يمكن القول إن حرب أوكرانيا عززت وحدة الاتحاد الأوروبي. وثانياً، الحرب أنعشت الحلف الأطلسي بدخول فنلندا وبطلب انضمام السويد المتعثر حالياً بسبب رفض هنغاريا وتركيا لدخولها. وثالثاً أخرجت الحرب ألمانيا وعدداً من الدول الأخرى في أوروبا، لا سيما في أوروبا الشمالية من وهم نهاية التاريخ. وأعني بذلك أن هذه الدول كانت عملياً تنفق 1 في المائة من ناتجها القومي على الدفاع، وكانت تعد أن الحرب قد غادرت القارة العجوز نهائياً. لذا حرب أوكرانيا جعلتها تستفيق وتستعيد وعيها لتلمس أن نظرية «نهاية التاريخ» التي روج لها فوكوياما كانت مضللة.

هذا الوهم الأوروبي سقط. حرب أوكرانيا كانت هجوماً روسياً من دولة نووية تسعى في الأرجح؛ ليس فقط لزعزعة أوكرانيا، وإنما فكفكة الاتحاد الأوروبي من أساسه. الهجوم الروسي على أوكرانيا أخذ بعداً جيو استراتيجياً مباشراً، لأن دولة عظمى تسعى لاستعادة موضعها في النظام العالمي هاجمت بصورة واضحة دولة أوروبية.

* لكن ماذا بالنسبة للهندسة الأوروبية الأمنية المستقبلية؟ هل يمكن تصور شيء جديد في السنوات المقبلة؟

- هناك فكرة فرنسية قديمة تعود للجنرال ديغول؛ وهي فكرة «الاستقلال الاستراتيجي» التي تبناها ماكرون منذ اليوم الأول لوصوله إلى السلطة. لكن يجب علينا أن نعترف بأن فرنسا عجزت عن تسويقها في مختلف دول أوروبا، لأنه عند الحديث عن الأمن والاستراتيجية، هناك إقرار مسبق بضعف أوروبا بمواجهة روسيا أو بمواجهة الصين، وبالتالي تبرز الحاجة لاحتماء شبه تلقائي تحت المظلة الأميركية.

واضح الاختلاف في وجهات النظر الذي لم تنجح فرنسا في تجاوزه باستثناءات قليلة هنا وهناك. هناك أصداء قليلة في القارة العجوز تأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر فرنسا. لكن ما يثير انتباهي أن استطلاعات الرأي في فرنسا باتت تميل أيضاً إلى الاحتماء بحلف شمال الأطلسي، رغم أن لفرنسا قدرة ردع نووية، لكنها متواضعة (نحو 60 رأساً نووياً)، ولا توازي هول المخزون الأميركي والروسي أو حتى الصيني. الصين لديها حالياً برنامج طموح لزيادة رؤوسها النووية إلى الضعفين قبل عام 2030.

الطموحات الصينية

* بعد فترة من التوتر الشديد، عاد التواصل الدبلوماسي والاجتماعات الرسمية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. هل هذا يعني أن التنافس المنهجي بين الجانبين يمكن احتواؤه؟ أم أن الأمور بين هاتين القوتين ذاهبة إلى مزيد من التصعيد؛ إن بسبب تايوان أو لأسباب أخرى متعددة؟

- بدأ عام 2023 بـ«البالون الصيني» فوق أميركا وكندا، وزعمت بكين أنه لأغراض مناخية، بينما الجانب الأميركي كان متأكداً أنه بالون تجسس، وما زال عند هذا الرأي. وانتهى العام المذكور بلقاء في نوفمبر الماضي، على هامش قمة «أبيك»، باجتماع الرئيسين بايدن وتشي جينبينغ. المتفائلون يقولون بدأ بسوء تفاهم، وانتهى العام بقدر من التفاهم. لكن الأسس البنيوية للتنافس الحاد بين الولايات المتحدة والصين ما زالت هي هي.

أعداء الصين يتخوفون من الشعور القومي النافر لدى الرئيس الصيني وطموحاته النووية ومن تعزيز بحريته العسكرية التي تتفوق راهناً على البحرية الأميركية بالعدد، وليس من ناحية القدرات أو التقدم. أما بالنسبة لتايوان، فلا أعتقد أنها السبب الرئيسي للتوتر بين الجانبين، أو أنها جوهر الموضوع. قد تكون فتيلاً، لكن جوهر الموضوع يكمن في مكان آخر وعنوانه مسيرة العولمة.

الولايات المتحدة، كما قال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي والرجل القوي في البيت الأبيض، بصريح العبارة مراراً وتكراراً خلال العام الماضي، ما معناه، إننا توصلنا إلى قناعة بأن العولمة عملت ضد مصلحتنا لأنها قوت دولاً دون أن تؤدي إلى تبنيهم أنظمتنا السياسية الديمقراطية، وبالتالي أدت إلى متانة اقتصادية لدول تسلطية، وأدت أيضاً إلى شيء ثانٍ مهم؛ وهو معاقبة العامل أو الموظف في الدول المتقدمة، لأن العولمة أدخلته في تنافس غير شريف مع العامل أو الموظف في الدول النامية، فتراجع مدخوله وغضب على حكامه، وصوت لمن يسعى إلى سياسات حمائية وإلى إقفال الحدود وإلى معاقبة المهاجرين، وخصوصاً إلى وضع مكوس وضرائب على الواردات من الدول النامية.

الصين، في نظري، هي النموذج الأكبر لانتقال الأوزان في النظام العالمي من الغرب نحو آسيا، بسبب العولمة. ثم إن هناك أيضاً سنة انتخابية حاسمة في أميركا، حيث يعلم بايدن كما يعلم ترمب والمرشحون الآخرون أن الرأي العام الأميركي يؤيد تواصل التوتر واستمرار فرض الضرائب على البضائع الصينية، واستمرار تقليص رقع التعاون التكنولوجي والجامعي والبحثي بين البلدين، واستمرار اعتبار الصين المنافس الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة. إذن كان هناك أمر واحد يتفق عليه الحزبان الجمهوري والديمقراطي اليوم؛ هو موضوع الصين. ولأننا ندخل في عام انتخابي فلا أتوقع أن تتراجع خلال العام المقبل هذه العداوة للصين، لأن لديها صدى كبيراً لدى الناخب الأميركي، لا سيما لدى الموظف أو العامل في المؤسسات الاقتصادية الأميركية.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.