غسان سلامة لـ«الشرق الأوسط»: عناصر حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لم تكتمل بعد

اتفاق «الطائف» اللبناني ليس كتاباً مقدساً... و«موسيقى ناعمة» تسمع من بكين

TT

غسان سلامة لـ«الشرق الأوسط»: عناصر حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لم تكتمل بعد

غسان سلامة خلال الحوار مع "الشرق الأوسط"
غسان سلامة خلال الحوار مع "الشرق الأوسط"

كما في نهاية كل عام، ثمة وقفة يُطرح خلالها كثير من الأسئلة حول ما حملته أشهر العام الماضي من أحداث ستبقى في الأذهان، وسيكون لها أثرها على المقبل من الأيام. ولكن أيضاً حول ما حضرته للعام الجديد من مفاجآت وتحديات ومصائب. وللتوقف عند ما قضى، واستجلاء ما سيأتي، قصدنا الدكتور غسان سلامة، الوزير السابق والأستاذ الجامعي وصاحب المؤلفات الكثيرة في العلاقات الدولية، والذي عمل للأمم المتحدة في العراق وليبيا وميانمار.

والحوار مع الدكتور سلامة ليس عملاً مثرياً بذاته بالنظر لقدراته التحليلية المرتكزة إلى متابعة دقيقة واتصالات رفيعة المستوى، بل هو أيضاً متعة حقيقية بفضل وضوح الرؤية لديه ووضوح ودقة التعبير. وفي جلسة مطولة استضاف خلالها «الشرق الأوسط» بباريس، كانت جولة واسعة على شؤون العالم العربي وعلى حالة العالم اليوم وما ستكون عليه غداً: من حرب غزة إلى حرب أوكرانيا مروراً بأوجاع العالم العربي، وصولاً الى المنافسة البنيوية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين وتحول الثقل العالمي نحو الشرق وفشل مجلس الأمن الدولي في القيام بالمهمة المنوطة به منذ تأسيسه؛ وهي الحفاظ على السلم العالمي وأسباب تقاعسه، كلها ملفات طرحت مع الدكتور غسان سلامة الذي تناولها بعمق. وفيما يلي نص الحوار:

نظرة سريعة على عام 2023

* بعد أيام قليلة نودع عام 2023 ونستقبل عام 2024. سنغوص لاحقاً في التحديات التي يطرحها العام الجديد أكان بالنسبة للعالم العربي أو بشكل عام. ولكن قبل ذلك؛ سؤالي الأول يتناول المحطات اللافتة التي توقفت أو تتوقف عندها في العام المنتهي...

- في العام المنتهي يكاد يكون استمراراً لما سبقه أكثر مما هو انفتاح على ما هو لاحق. أولاً، من الناحية الاقتصادية نرى أن العام المذكور كان إجمالاً إيجابياً بعد سنة 2022 التي كانت سلبية للغاية بالنسبة للاقتصاد العالمي. فقد شهدنا عودة الصين إلى السوق العالمية، ورأينا نمواً ولو ضعيفاً في الدول الغربية بالتوازي مع محاربة كثيفة للتضخم في مختلف اقتصادات العالم. واللافت أن الدول النامية لم تتأثر كثيراً بحرب أوكرانيا، لأن موسم 2023 من الحبوب كان جيداً للغاية. لذلك فإن عدم تمكن روسيا، خصوصاً أوكرانيا من تصدير الحبوب بصورة كافية لم يؤثر كثيراً على أسعار الحبوب، لا سيما أسعار القمح. وبالطبع، هذا أمر مهم لأن عدم توافر القمح وارتفاع أسعاره يفضيان، في كثير من الدول، إلى انتفاضات وثورات واضطرابات بالشارع.

غسان سلامة خلال الحوار مع "الشرق الأوسط"

إذن أعتقد أن الحكومات نجحت في تجنب هذا الهم الكبير باعتبار أن موسم الحبوب في السنتين الماضيتين كان جيداً في كل أنحاء العالم. من ناحية أخرى، رأينا أن حرب أوكرانيا التي انطلقت في شهر فبراير (شباط) من عام 2022، وتواصلت في العام الذي يليه دون توقف، تميزت بأمر أساسي؛ وهو أن الهجوم المضاد الذي حاولت أوكرانيا أن تقوم به ضد القوات الروسية في الدونباس فشل، ولم تتمكن أوكرانيا إلا من استعادة مساحات قليلة، ما يعني أن وضع الرئيس الأوكراني الذي كان يراهن كثيراً على نجاح هذا الهجوم المضاد قد ضعف. هو اليوم في فوهة المدفع كما يقال. وشهدنا، من الناحية الأخرى، تمكن بوتين من القضاء على نوع من الانتفاضة التي قام بها مؤسس حركة «فاغنر»، التي فاجأت الجميع بحصولها وبسهولة انطلاقها من جنوب روسيا نحو موسكو دون أن يوقفها أحد. لكنه بعد شهرين من ذلك، توفي مؤسس «فاغنر» في حادث جوي.

من جانبه، استمر الرئيس بوتين باللعب على ورقة يعدّها رابحة، وهو الوقت الذي يرى أنه يعمل لصالحه، إذ إن لديه إمكانات صناعية ذاتية لتأمين جيشه، بينما لأوكرانيا إمكانات خارجية فقط، حيث إنها تعتمد على الدعم الخارجي في الأعتدة والسلاح.

عام 2023 شهد أيضاً أمراً مهماً في أفريقيا؛ وهو عودة الانقلابات العسكرية في 8 من دولها، ما يعني أن أفريقيا تتراجع في الديمقراطية لمصلحة الأنظمة التسلطية العسكرية. ومعظم هذه الأنظمة التي تم الانقلاب عليها عسكرياً في منطقة الساحل. والجزء الثاني من الصورة هناك هو، عملياً، طرد الوجود العسكري الفرنسي من دول مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وغيرها، وهو أمر له بعد تاريخي لأن عدداً من القواعد العسكرية الفرنسية التي أقفلت عمرها أكثر من 30 أو 40 عاماً. إذن هناك انحسار حقيقي للنفوذ الفرنسي في منطقة الساحل. وآخر تجلياته بالأمس انتهاء الانسحاب العسكري الفرنسي من النيجر وإغلاق السفارة.

من العناصر الأخرى المثيرة للانتباه طبعاً عودة الشعبوية بكثرة إلى أميركا اللاتينية، لا سيما في انتخابات الأرجنتين التي جاءت بشخص شعبوي بامتياز إلى رئاسة الجمهورية. لكن الحدث الأبرز بالنسبة لنا، عربياً، كان ولا شك حرب غزة التي سنتوقف لاحقاً ملياً عندها.

أما في أنحاء العالم الأخرى فالجميع يتهيأ للعام المقبل الذي سيكون بامتياز عام الانتخابات، إذ سيحصل أكثر من 60 انتخاباً وطنياً؛ في الولايات المتحدة، في الهند، في جنوب أفريقيا، وفي دول كثيرة بالعالم. أما في الاتحاد الأوروبي، فستحصل انتخابات البرلمان الأوروبي. إذن السنة المقبلة هي سنة الانتخابات الكبيرة، وبالتالي هي سنة تأثر السياسة الخارجية بالحسابات الانتخابية الداخلية، وهو ما لم نعرفه كثيراً في 2023.

أمراض البلدان العربية

* بالنظر لمنطقتنا من لبنان إلى سوريا إلى العراق وليبيا واليمن وتونس وحتى السودان، لوجدنا أزمات متعددة ومختلفة. هل هناك علة واحدة يمكن أن تبين أسباب هذه التمزقات أم هناك مجموعة من العلل؟ ما هي؟ وكيف الخروج منها؟

- حقيقة الأمر أن هناك جوانب متشابهة لعدد من الأزمات، ولكن أيضاً هناك جوانب خاصة بكل بلد. فيما خص الجوانب المتشابهة، علينا أن نشير أولاً إلى أننا ندفع ثمن الانفجار السكاني الذي حصل في القرن العشرين بمختلف هذه البلدان. هذا الانفجار تضاءل بعض الشيء في القرن الحادي والعشرين، لكن أنت تشعر بخطورته عندما تصل أجيال ذلك الانفجار إلى سن العشرين أو سن الثلاثين، وتجد صعوبة في العثور على عمل. لذا، نحن نشهد وندفع أولاً وأساساً كلفة الانفجار السكاني الذي حصل في العقود الأخيرة من القرن العشرين، والذي حمل إلى سوق العمل شباباً وشابات مؤهلين تلقوا تعليمهم في الجامعات والمعاهد... ولذلك فإن اشمئزازهم من عجزهم عن الحصول على العمل أكبر من اشمئزاز الذين لم يتعلموا ولم يتدربوا.

هذا أمر عام في أنحاء المنطقة من المغرب إلى العراق، مروراً بمصر وتونس وغيرها من البلدان. وهناك سبب ثانٍ مهم في نظري؛ وهو أن العقد السابق من القرن الحادي والعشرين شهد نوعاً من الأمل بالتغيير من خلال ما سمي «الربيع العربي» الذي رأينا تداعياته تقريباً في نصف الدول العربية بينها مصر وتونس والجزائر وسوريا واليمن وغيرها من البلدان. هذا الأمل تحطم. ربما كان أملاً كاذباً منذ اليوم الأول.

أنا لا أريد الدخول بالتفاصيل هنا، ولكن من دون أي شك كان هناك أمل خصوصاً بالنسبة للشباب. وهذا الأمل تحطم، وحل مكان الأنظمة التي كان يسعى هؤلاء الشبان إلى تغييرها؛ إما أنظمة أكثر تسلطية من الأنظمة التي سقطت في الربيع العربي، أو اندلعت حروب أهلية دامية في عدد من البلدان وما زال بعضها جارياً حتى الساعة، لا سيما في دول مثل سوريا واليمن وغيرهما. هذا هو العنصر الثاني الجامع أو لنسميه «العابر للحدود» العربية كلها. والعنصر الثالث هو الدور الصعب الذي لعبه الإسلام السياسي في عدد من هذه البلدان، بمعنى أن الإسلام السياسي تمكن من الوصول إلى عتبة السلطة بالانتخاب، كما انتخاب محمد مرسي في مصر مثلاً، أو فوز النهضة بالانتخابات في تونس، أو عبر وسائل وطرق أخرى. ولكن الإسلام السياسي بدا كأنه على الخواء نفسه الذي نجده عند الأحزاب الأخرى أو عند الأنظمة القائمة: الخواء في المشروعات الاقتصادية والإنمائية، الخواء في المشروعات الاجتماعية... لا يكفي أن تقول إن الإسلام هو الحل. يجب أن يعرض الحلول العملية التي يقدمها. ورأينا ذلك مثلاً في مصر أو في تونس. أما الأحزاب العلمانية أو غير الإسلامية فقد بدت لنا أنها خاوية أيضاً. هذه بنظري العناصر العابرة لمختلف الدول العربية.

بيد أنني أريد أن أسأل: هل الأزمات التي تلم بهذه البلدان أمر طبيعي أم غير طبيعي؟ أنا أعتقد أن الأمر طبيعي أكثر مما نعترف به. علينا أن نسأل: بمن نقارن هذه الدول لنقول إنها دول مأزومة؟ هل لم تكن مأزومة في السابق وأصبحت مأزومة الآن؟ جوابي بالنفي. لقد كانت ربما مستقرة وهادئة ولكنها مأزومة. ما حصل الآن أن هذه الأزمات ظهرت إلى السطح وأضحت مجال تناول وبحث وتمحيص.

لا شك أن لكل بلد هناك خصوصياته. ولكن ما يتعين التوقف عنده أن رد الأزمات إلى التدخلات الخارجية من أسهل الأمور لأنها قابلة للرصد بسهولة. ولكنني تعلمت من تجاربي في العراق ولبنان وليبيا، أمراً مهماً؛ وهو أن الديناميات الداخلية أصعب قراءة من التدخلات الخارجية. هي في معظم الأحيان أساسية وأكثر خطورة على تطور البلدان. هذا ما يحصل في قراءة الأحداث بالمنطقة العربية حيث نركز على التدخلات الخارجية، لأننا نتمكن بسهولة من رصدها فيما فهم الديناميات الداخلية أساسي، لأنها في معظم الأحيان جوهر الموضوع أكبر بكثير من التدخلات الخارجية، لا سيما أن القوى الداخلية في الدول المأزومة أو الدول التي تمر بحروب هي التي تستدعي التدخلات الخارجية، وتوفر لها التربة الخصبة وهي التي تضع حداً لها إذا شاءت، وبالتالي فإن التدخلات الخارجية لا تحصل من فراغ. لذلك على الإعلام، وأيضاً على المراقبين السياسيين والدبلوماسيين، أن يكسروا هذه الآلية السهلة.

مصير الصيغة اللبنانية

* سنترك القراءة العامة وسندخل في التفاصيل بدءاً بلبنان حيث الأزمات تتراكم: دستورية، ومؤسساتية، وسياسية، واجتماعية، ومالية... سؤالي جذري: هل يعني تتابع وتوالي واستمرار هذه الأزمات أن ما يسمى «الصيغة اللبنانية» لم تعد قابلة للحياة وما يمكن أن يكون البديل عنها؟

- سؤالك جذري، وجوابي لن يكون أقل جذرية. لقد شاءت الظروف أن يكون لي دور متواضع في بلورة اتفاق الطائف، حيث عملت إلى جانب اللجنة العربية التي كانت تبحث آنذاك في عام 1989 عن حل. وأود التأكيد بادئ ذي بدء أنه لم يخطر ببالنا أبداً، لا اللجنة العربية ولا موفدها السيد الأخضر الإبراهيمي ولا مستشارها غسان سلامة يوماً، أننا نعمل للتوصل إلى النموذج الدستوري المثالي والأفضل للبنان. كنا نسعى للخروج من الحرب، لوضع حد للقصف العنيف والقتل والدمار. باختصار، كنا نبحث عن صيغة انتقالية تسمح بوقف الحرب من خلال تهدئة الميليشيات المتقاتلة، وأيضاً الطرف السوري الذي كان منخرطاً فيها.

من هنا، أرى أن التمسك اللاهوتي باتفاق الطائف في غير مكانه. في الطائف، كنا نأمل، بعد وقف الحرب، أن يدخل لبنان في مرحلة سلم واستقرار وبحبوحة تسمح لأبنائه بأن يفكروا بما هو النظام الأمثل الذي يصبون إليه. هذا التصحيح ضروري، لأن هناك من حول اتفاق الطائف إلى كتاب مقدس. هو ليس كتاباً مقدساً، هو مفيد وكان مفيداً في حينه، وأنا فخور بأنني شاركت فيه.

ثانياً، إن بلداً يحتاج لسنة أو سنتين أو 3 ليختار رئيساً للجمهورية في كل مرة يشغر ذلك المنصب، ويحتاج لأشهر وأشهر لتأليف حكومته، ويحتاج لأشهر وأشهر للتفاهم على التمديد لقائد جيش، كما يحتاج لأشهر لتعيين موظف على رأس مصرفه المركزي، هذا البلد يعاني من نظام لا يناسبه. النظام الحالي في لبنان لا يناسب مصلحة اللبنانيين. هذا جوابي الجذري على سؤالك الجذري.

أما البديل، فالمشكلة ليست فيه، بل في إيجاد الوقت والظروف المناسبين لفتح هذا الملف. ثمة حاجة لتوافر ظروف من الاستقرار الداخلي ومن الاحتضان الخارجي ومن تغير الأفئدة والأفكار التي تسمح بالتوافق على نظام جديد. الآن، تسود في لبنان ظروف لم تعد مناسبة لفتح هذا الملف. لذلك أنا لا أعترض على حلول ترقيعية مثل انتخاب رئيس جمهورية بما تيسر، أو تأليف حكومة بما تيسر. لكن يتعين أن تكون مهمتهم الأولى، بعد إعادة تسيير المؤسسات، العمل على فتح الملف الدستوري من أساسه: هل نريد فعلاً نظاماً أكثر لامركزية أو نظاماً أكثر مركزية؟ يتضمن اتفاق الطائف دعوة للامركزية. لكن ثمة من يتخوف من تفتت الدولة ويتمسك بالمركزية.

ثم هناك سؤال آخر مهم خصوصاً في جو طائفي مشحون. صحيح، إن اتفاق الطائف يقول بإلغاء الطائفية السياسية وإن هذا يبدأ من مجلس النواب. ورأيي أن هذا خطأ، إذ أرى أن يبدأ إلغاء الطائفية أولاً من الإدارة العامة ومن الحكومة ثانياً ومن الرئاسات ثالثاً، وأخيراً من مجلس النواب. لماذا؟ لأن مجلس النواب هو السلطة الوحيدة المنتخبة وبالتالي، في مرحلة الانتقال من نظام طائفي إلى نظام لا طائفي، نحن بحاجة لهيئة دستورية يعترف بها الناس ويعدّون أنها من صنعهم لكي تحميهم في هذه المرحلة الانتقالية التي قد تثير القلق لدى كثير منهم.

هناك موضوع ثالث لا يقل أهمية؛ وهو أن الخلاف في لبنان على المواضيع الكبرى وليس على المواضيع الصغرى. لذلك من يدعو اليوم مثلاً لإلغاء إحدى الطبقات في الإدارة العامة (القضاء أو المحافظة لأن البلد صغير) ربما لا يجيب عن السؤال الأساسي الذي يتناول الثقافة السياسية في لبنان التي هي في حالة مزرية، لدرجة أنها غير قادرة على تقبل فكرة الدولة. ربما أن اللبنانيين تعودوا، أكثر من اللازم، على الحياة من دون دولة وعلى مجتمع من دون دولة.

* لكن اللبنانيين نزلوا بعشرات الآلاف إلى الشوارع والساحات احتجاجاً على غياب الدولة والفساد وأزمة المصارف...

- صحيح أن الآلاف من الأشخاص نزلوا إلى الشوارع والساحات لكنه ليس أمراً خاصاً بلبنان. ما نراه الآن في مختلف أنحاء العالم هو أن وسائل التواصل الاجتماعي تسهل جداً تعبئة الناس وإنزالهم إلى الشارع، لكنها أيضاً وسائل كاذبة. قد تتمكن من إنزال الملايين في بلد ما ولا تصل إلى نتيجة. لماذا؟ لأن التعبئة المجتمعية على أساس التواصل الاجتماعي تؤدي إلى نوع من التعبئة الأفقية، ولكنها لا تؤدي إلى ظهور قيادات ولا تؤدي إلى تبني برامج واضحة بديلة عن برامج السلطة القائمة، وبالتالي هي مثيرة للإعجاب بحجمها أو بقدرتها على تعبئة أكبر عدد ممكن من الناس، ولكنها تثير الخيبة والمرارة لأنها عاجزة عن أن تتوصل إلى برنامج حكم أو إلى إفراز قادة جدد.

وإجمالاً، التركيز على الجانب الأفقي وعلى التعاضد الأفقي يصبح نوعاً من المرض الواسع في وسط هذه المظاهرات. هم لا يريدون أن يظهر قادة يأخذون مكان القادة الموجودين. لكن لا مناص في أي تغيير سياسي من وجوه جديدة تحل محل من هم في السلطة، ولا مناص من وجود برنامج متفق عليه يختلف عن برنامج المتربعين في السلطة. التعبئة على أساس «السوشيال ميديا» تعبئة سهلة مثيرة للإعجاب، ولكنها في معظم الأحيان دون نتيجة.

حرب غزة وحل الدولتين

* لو جئنا إلى حرب غزة، لدي سؤال مثلث الأضلع: أولاً؛ كيف يمكن أن تنتهي هذه الحرب؟ ثانياً؛ هل عودة الحديث عن حل الدولتين أمر جدي أم بيع أوهام للفلسطينيين؟ ثالثاً؛ هل يمكن الرهان على وجود إرادة أميركية حقيقية للذهاب إلى حل سياسي معروفة محدداته؟

- بدوري أطرح تساؤلاً: هل الطرف الفلسطيني جاهز لكي يلعب هذا الدور التاريخي كحاضن لدولة فلسطينية ممكنة؟ جوابي هو لا. «حماس» غير مقبولة، والسلطة غير قادرة، وبالتالي نحن أمام خواء فلسطيني. ثمة حاجة لمخاطبة طرف فلسطيني جديد مقبول، لديه صدقية وليس فقط لديه شرعية السلطة الفلسطينية (وفقاً لاتفاقات أوسلو). لكن الواقعية تقضي بأن نقول إنه ليست لديها صدقية.

وفي الجانب المقابل، ثمة حاجة أيضاً لطرف إسرائيلي. والحال أنه غير موجود، إذ هناك حكومة متطرفة جداً تتبنى رفض فكرة الدولتين بصورة واضحة وصريحة، ليس فقط على لسان المتطرفين فيها مثل سموتريتش، ولكن على لسان رئيسها بنفسه. وهناك أيضاً مجلس حرب يتميز بالتشدد الكبير. وفي زيارته إلى إسرائيل في الأسبوع الأول من الحرب، فوجئ الرئيس بايدن بأن النظرية القديمة التي تقول إن جنرالات إسرائيل هم أقل تطرفاً من السياسيين ليست صحيحة في هذه الحرب، إذ إن الجنرالات الذين دخلوا إلى مجلس الحرب قد يكونون أكثر تطرفاً من نتنياهو نفسه في تحديد أهداف الحرب. لماذا؟ لأن هؤلاء مهووسون باستعادة قدرة الردع التي فقدها الجيش الإسرائيلي، وهو أمر قد لا يهم نتنياهو كثيراً.

ثالثاً، الحل بحاجة لوسيط لأمور الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. الوسيط الوحيد اليوم الذي لديه وسائل ضغط على الطرف الإسرائيلي هو الولايات المتحدة. نشرت حاملات طائرات لردع خصوم إسرائيل كما قررت أن تمدها، إلى جانب المليارات الأربع السنوية بـ14 مليار إضافية. وهي، ثالثاً، تمنع تكراراً مجلس الأمن من أن يصوت على مشروع قرار يقبله الأعضاء الـ14 بالنسبة وترفضه هي. إذن لدى واشنطن وسائل ضغط حقيقية ليست موجودة عند أي طرف آخر، لا الصين ولا أوروبا.

لكن المشكلة أن الوسيط (أي الأميركي) مفقود. لماذا؟ أولاً لأن بايدن تميز كسيناتور، خلال 40 عاماً من حياته، بالاصطفاف المطلق وراء مصالح إسرائيل، وهو لم يتغير كرئيس رغم البرنامج الذي أوصله إلى الحكم. بايدن شخص مؤيد لإسرائيل أكثر من كل معاونيه دون استثناء. وإني أتحدث في هذا المجال عن معرفة وليس عن تبصر. وبايدن مكبل اليدين لأنه دخل في السنة الأخيرة من ولايته الأولى وولج المعركة الانتخابية، حيث هناك أصوات شبابية تدعوه إلى أن يكون أقل تطرفاً في الصراع. ولكن، بالمقابل، هو بحاجة لتمويل قد يأتي أو سيأتي من مصادر تدعوه للاستمرار في هذا الموقف المتشدد إلى جانب إسرائيل.

البحث عن «أفق سياسي» للفلسطينيين بحاجة لـ3 أطراف، ليس هناك أي منها في حالة مناسبة لكي يلعب الدور المنوط به. لذلك أنا أميل للتشاؤم، كما أتخوف من توسع رقعة الحرب بحيث تستمر في غزة لأسابيع وأسابيع مقبلة، وأن تنتقل أيضاً إلى الضفة الغربية، حيث التوتر بلغ أوجه، لا سيما بعد قتل أكثر من 300 فلسطيني وطرد الفلسطينيين من عدد من القرى. وقد تنطلق الحرب أيضاً بجنوب لبنان، لأن في إسرائيل هناك من يقول اليوم إن الحالة ممتازة للقيام بحرب في لبنان: 80 ألف إسرائيلي أجلوا عن الجليل الأعلى، وعدد كبير من المدنيين غادروا منازلهم في جنوب لبنان، بحيث أصبحت الساحة خالية من المدنيين.

في إسرائيل أصوات ترتفع وتدعو للحرب في لبنان، ومنها وزير الدفاع يوآف غالانت. لكن الأميركيين، حتى الساعة رغم تأييدهم لإسرائيل واستمرارها في الحرب في غزة، ما زالوا يعارضون فتح جبهة الشمال. بايدن أبلغهم بذلك في الأسبوع الأول من الحرب وعندما عادت نغمتها مجدداً للتداول منذ نحو أسبوعين، كررت الإدارة الأميركية رسمياً أنها ما زالت عند موقفها المعارض لفتح جبهة لبنان. لكن الخطر يبقى قائماً أولاً، لأن إسرائيل لا تطيع أميركا في كل الحالات، وثانياً لأن المناوشات الجارية في لبنان يومياً قد تتجاوز رغبة الطرفين بإبقاء النار هادئة أو بإبقاء النار تحت السيطرة وقد يحصل سوء تفاهم أو سوء تفسير، ويتم تجاوز الخطوط الحمر لقواعد الاشتباك التي تم التوصل إليها.

إصلاح مجلس الأمن

* بعد ما يزيد على 70 يوماً على حرب غزة وسقوط ما يزيد على 20 ألف قتيل وآلاف الجرحى، وتدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، عجز مجلس الأمن عن وقف المجزرة من خلال إصدار قرار بوقف إطلاق النار ولو لأغراض إنسانية. والحال أن الأمم المتحدة أوجدت أساساً للحفاظ على السلم في العالم. فما فائدة هذه المنظمة الدولية اليوم؟

- هذا سؤال يطرح لدى اندلاع كل أزمة ويطرح اليوم في موضوع غزة بصورة أوضح، إذ حصلت محاولات للتوصل إلى وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، من قبل البرازيل ومن قبل روسيا ومن قبل دولة الإمارات، ولم تصل إلى نتيجة. الأمم المتحدة أرخبيل من المؤسسات التي لا تعمل بالضرورة بالتنسيق فيما بينها. أنا أنظر إلى غزة وأشيد بالدور الذي تقوم به منظمات الأمم المتحدة. كذلك أريد تحية أمينها العام أنطونيو غوتيريش الذي قامت الدنيا عليه ولم تقعد حتى الساعة بسبب جملة واحدة قالها، وهي أن هجوم «حماس» يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) «لم يحصل من فراغ».

منظمات الأمم المتحدة المختلفة تنشط في غزة، وهي جزء حقيقي من الأمم المتحدة. وفي الجمعية العامة تحظى فلسطين بأكثرية مؤيدة لها. لسوء الحظ، قرارات الجمعية العامة ليست تنفيذية، ولكنّ لديها قدراً من الوزن السياسي، وبالتالي فإن الارتقاء بهذه المؤسسة إلى شيء آخر أمر يبدو ضرورياً يوماً بعد يوم، لكي تكون منظمة الأمم المتحدة أكثر تمثيلاً للعالم، كما هو اليوم، وليس كما أريد له أن يكون عام 1945.

بقي مجلس الأمن وخطيئته الأصلية اسمها «الفيتو». هذا «الفيتو»، بمعنى من المعاني، جعل الدول الكبرى تهتم بمجلس الأمن وتريده أن يبقى قلب نظام الأمم المتحدة. لكننا دفعنا لهذه الدول ثمناً غالياً بمنحها حق «الفيتو». أزمة غزة وقبلها أزمة أوكرانيا زادتا من الشعور بضرورة تغيير تركيبة مجلس الأمن، إما بحصر حق «الفيتو» بحالات معينة أو بمنعه تماماً في حالات إنسانية صعبة، أو بإعطاء عدد محدود من إمكانات استعماله خلال السنة الواحدة لكل دولة أو بإعطاء حق «الفيتو» لدول جديدة لديها وزن في النظام العالمي مثل الهند أو البرازيل أو الاتحاد الأفريقي، جرت محاولات عديدة لإصلاح مجلس الأمن، لكنها فشلت لأن الدول الخمس صاحبة حق «الفيتو» عارضتها. كثيرة هي الدول التي ترى أن نظام مجلس الأمن غير تمثيلي وغير عادل، بل إنه يعمل بمبدأ التمايز بين الدول.

* لكن ضمن أي شروط وفي أي ظروف يمكن أن يحصل الإصلاح المطلوب، علماً بأن هناك العشرات من مشروعات الإصلاح طرحت من 30 أو 40 سنة حتى اليوم...

- هناك نوع من غضبة عالمية على المنظمات الدولية، وهذا لا ينحصر فقط بمجلس الأمن، ولكن يتناول صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهما أيضاً نشآ في عام 1945، وهما أيضاً قائمان على اللامساواة بين الدول في إداراتها، وهناك غضبة تحملها دول مثل الصين والبرازيل، وطبعاً الهند ودول أخرى مما يسمى «الجنوب الشامل». ولكن المشكلة الكبرى أن بين هذه الدول كم من الخلافات المتعددة: بين الصين والهند ثمة أكثر من 30 نقطة خلافية على حدودهما، وهناك تنافس على النفوذ بينهما في المحيطين الهندي والهادي. وهناك تشجيع هائل حالياً من الغرب للهند لكي تقف بوجه الصين. ولو جئنا لتمثيل الأفارقة فأنا أسأل: هل يمثلهم الاتحاد الأفريقي؟ الاتحاد الأفريقي فشل في حل كثير من المشاكل. هل تتمثل أفريقيا بدولة، وما هذه الدولة؟ جنوب أفريقيا، نيجيريا، إثيوبيا، مصر؟ ثم ننتقل إلى أوروبا ونسأل: هل يتعين ضم ألمانيا؟ وهل تقبل إيطاليا بذلك؟ ثم هناك 3 دول أوروبية دائمة العضوية (فرنسا وبريطانيا وروسيا التي هي دولة أوروبية أيضاً) فهل يتعين ضم دولة رابعة؟

ثمة مشاكل كبيرة بين الدول الراغبة في إحداث تغيير بالمجلس المذكور بشأن مواضيع قد تكون أكثر أهمية لهم مما يمنعهم من التفاهم على التوافق إزاء إصلاح المنظمات الدولية. لذلك بدأنا نسمع نوعاً من «الموسيقى الناعمة» في أنحاء العالم التي انطلقت من بكين، وهي أن كل هذه الأنظمة قد لا تكون قابلة للإصلاح، وبالتالي لماذا لا نقوم بإنشاء صندوق نقد خاص بالدول النامية وبنك دولي بديل عن البنك الدولي؟ ولماذا، في حالة أخرى لا ننشئ ربما مجلساً للأمن يوازي في تمثيله أو يتفوق على مجلس الأمن الراهن؟

تعريف «الجنوب الشامل» مرتبك

* يكثر الحديث منذ سنوات قليلة عن مفهوم «الجنوب الشامل». ما المقصود به؟ هل هو النموذج المناقض للنموذج الغربي الليبرالي؟ وما يمكن أن يؤدي إليه بشكل عملي؟

- تعريف مفهوم «الجنوب الشامل» ما زال مرتبكاً، إذ توضع فيه دول لا علاقة لها ببعضها. الصين أصبحت دولة عظمى. فهل هي جزء من الجنوب مثل زيمبابوي أو لبنان؟ هل روسيا جزء من الجنوب رغم أنها، ديموغرافياً، دولة بيضاء وجغرافياً أكثر من نصفها في أوروبا، فضلاً عن أنها تملك سلاحاً نووياً؟

في الحقيقة هناك صيغ أخرى استعملت للتعبير عن الشيء نفسه مثل دول عدم الانحياز أو مجموعة 127 في الجمعية العامة، ثم سميت كذلك «الجنوب الشامل» في تعبير شهير للويس أندرسن، حيث يعني «ما تبقى» من دول العالم. قيل إن «البريكس» هو التعبير المؤسسي عن الجنوب الشامل. والحال هناك خلافات بين الهند والصين وروسيا. الصين تريد أن توسع الإطار والهند تريد أن تبقيه ضيقاً. ثم إن «البريكس» نشأ سنة 2009 وليس لديه حتى اليوم موقع إلكتروني يمكن أن تعتمد عليه، كما أنه يفتقر لأمانة عامة دائمة. كذلك ليس لـ«البريكس» برنامج ولا حد أدنى من التوافق، باستثناء نوع من الخيبة أو من الغضب على الغرب، وهو يفتقر لرابط كافٍ سياسياً ومؤسسياً.

الآن، هناك دول مصرة على فكرة «الجنوب الشامل»، لا سيما الهند، لأنها تعطيها دوراً رائداً، وهي تريد تحديده باستثناء الغرب منه واستثناء الدول الكبرى منه، لا سيما روسيا والصين لتبقى هي في موقع متميز داخل هذه المجموعة.

حرب أوكرانيا على طريق التجميد

* كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا هشاشة البنية الأمنية في أوروبا، وبينت مخاوف موسكو من جهة، وطموحاتها من جهة أخرى. بعد أقل من عامين قليلاً على اندلاعها، ما التحولات العميقة البنيوية التي ستفضي إليها؟ وما صورة الهندسة الأمنية المقبلة في القارة القديمة؟

- أعتقد أن الرئيس بوتين مصيب في حساباته، بمعنى أن الوقت يعمل لصالحه، لأن الإمدادات العسكرية متوافرة، ولأن إمكانية تعبئة عدد أكبر من الناس، على صعوبته في روسيا، أقل صعوبة مما هو في أوكرانيا. وميدانياً، تبدو استعادة كييف، الدونباس وشبه جزيرة القرم، في المرحلة الحالية، أمراً يصعب تصوره، وبالتالي ما سيحصل، على الأرجح، في هذه المناطق التي ضمت شكلاً إلى روسيا ولم يعترف بضمها أحد باستثناء بيلاروس وسوريا، هو التوجه نحو ما يسمى «تجميد النزاع».

حماسة الغربيين لدعم أوكرانيا بالسلاح والمال تراجعت، وهناك تيار قوي في الولايات المتحدة لا يريد استمرار الحرب، فضلاً عن احتمال انتخاب ترمب مجدداً للرئاسة. وبوتين يعلم تماماً أن من أولى أولوياته، عند وصوله، توقيف أي دعم لأوكرانيا. وربما يراهن بوتين على انتخاب بايدن، وقد يضع الحرب على نار هادئة حتى تاريخ نوفمبر (تشرين الثاني) 2024.

أما بالنسبة لأوروبا فقد رأينا، من جهة أولى، أن هذه الأزمة حملت الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى في تاريخه أن يوحد عملية شراء السلاح لإعطائه لأوكرانيا، رغم أن أمراً كهذا سيادي بامتياز. لذا، يمكن القول إن حرب أوكرانيا عززت وحدة الاتحاد الأوروبي. وثانياً، الحرب أنعشت الحلف الأطلسي بدخول فنلندا وبطلب انضمام السويد المتعثر حالياً بسبب رفض هنغاريا وتركيا لدخولها. وثالثاً أخرجت الحرب ألمانيا وعدداً من الدول الأخرى في أوروبا، لا سيما في أوروبا الشمالية من وهم نهاية التاريخ. وأعني بذلك أن هذه الدول كانت عملياً تنفق 1 في المائة من ناتجها القومي على الدفاع، وكانت تعد أن الحرب قد غادرت القارة العجوز نهائياً. لذا حرب أوكرانيا جعلتها تستفيق وتستعيد وعيها لتلمس أن نظرية «نهاية التاريخ» التي روج لها فوكوياما كانت مضللة.

هذا الوهم الأوروبي سقط. حرب أوكرانيا كانت هجوماً روسياً من دولة نووية تسعى في الأرجح؛ ليس فقط لزعزعة أوكرانيا، وإنما فكفكة الاتحاد الأوروبي من أساسه. الهجوم الروسي على أوكرانيا أخذ بعداً جيو استراتيجياً مباشراً، لأن دولة عظمى تسعى لاستعادة موضعها في النظام العالمي هاجمت بصورة واضحة دولة أوروبية.

* لكن ماذا بالنسبة للهندسة الأوروبية الأمنية المستقبلية؟ هل يمكن تصور شيء جديد في السنوات المقبلة؟

- هناك فكرة فرنسية قديمة تعود للجنرال ديغول؛ وهي فكرة «الاستقلال الاستراتيجي» التي تبناها ماكرون منذ اليوم الأول لوصوله إلى السلطة. لكن يجب علينا أن نعترف بأن فرنسا عجزت عن تسويقها في مختلف دول أوروبا، لأنه عند الحديث عن الأمن والاستراتيجية، هناك إقرار مسبق بضعف أوروبا بمواجهة روسيا أو بمواجهة الصين، وبالتالي تبرز الحاجة لاحتماء شبه تلقائي تحت المظلة الأميركية.

واضح الاختلاف في وجهات النظر الذي لم تنجح فرنسا في تجاوزه باستثناءات قليلة هنا وهناك. هناك أصداء قليلة في القارة العجوز تأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر فرنسا. لكن ما يثير انتباهي أن استطلاعات الرأي في فرنسا باتت تميل أيضاً إلى الاحتماء بحلف شمال الأطلسي، رغم أن لفرنسا قدرة ردع نووية، لكنها متواضعة (نحو 60 رأساً نووياً)، ولا توازي هول المخزون الأميركي والروسي أو حتى الصيني. الصين لديها حالياً برنامج طموح لزيادة رؤوسها النووية إلى الضعفين قبل عام 2030.

الطموحات الصينية

* بعد فترة من التوتر الشديد، عاد التواصل الدبلوماسي والاجتماعات الرسمية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. هل هذا يعني أن التنافس المنهجي بين الجانبين يمكن احتواؤه؟ أم أن الأمور بين هاتين القوتين ذاهبة إلى مزيد من التصعيد؛ إن بسبب تايوان أو لأسباب أخرى متعددة؟

- بدأ عام 2023 بـ«البالون الصيني» فوق أميركا وكندا، وزعمت بكين أنه لأغراض مناخية، بينما الجانب الأميركي كان متأكداً أنه بالون تجسس، وما زال عند هذا الرأي. وانتهى العام المذكور بلقاء في نوفمبر الماضي، على هامش قمة «أبيك»، باجتماع الرئيسين بايدن وتشي جينبينغ. المتفائلون يقولون بدأ بسوء تفاهم، وانتهى العام بقدر من التفاهم. لكن الأسس البنيوية للتنافس الحاد بين الولايات المتحدة والصين ما زالت هي هي.

أعداء الصين يتخوفون من الشعور القومي النافر لدى الرئيس الصيني وطموحاته النووية ومن تعزيز بحريته العسكرية التي تتفوق راهناً على البحرية الأميركية بالعدد، وليس من ناحية القدرات أو التقدم. أما بالنسبة لتايوان، فلا أعتقد أنها السبب الرئيسي للتوتر بين الجانبين، أو أنها جوهر الموضوع. قد تكون فتيلاً، لكن جوهر الموضوع يكمن في مكان آخر وعنوانه مسيرة العولمة.

الولايات المتحدة، كما قال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي والرجل القوي في البيت الأبيض، بصريح العبارة مراراً وتكراراً خلال العام الماضي، ما معناه، إننا توصلنا إلى قناعة بأن العولمة عملت ضد مصلحتنا لأنها قوت دولاً دون أن تؤدي إلى تبنيهم أنظمتنا السياسية الديمقراطية، وبالتالي أدت إلى متانة اقتصادية لدول تسلطية، وأدت أيضاً إلى شيء ثانٍ مهم؛ وهو معاقبة العامل أو الموظف في الدول المتقدمة، لأن العولمة أدخلته في تنافس غير شريف مع العامل أو الموظف في الدول النامية، فتراجع مدخوله وغضب على حكامه، وصوت لمن يسعى إلى سياسات حمائية وإلى إقفال الحدود وإلى معاقبة المهاجرين، وخصوصاً إلى وضع مكوس وضرائب على الواردات من الدول النامية.

الصين، في نظري، هي النموذج الأكبر لانتقال الأوزان في النظام العالمي من الغرب نحو آسيا، بسبب العولمة. ثم إن هناك أيضاً سنة انتخابية حاسمة في أميركا، حيث يعلم بايدن كما يعلم ترمب والمرشحون الآخرون أن الرأي العام الأميركي يؤيد تواصل التوتر واستمرار فرض الضرائب على البضائع الصينية، واستمرار تقليص رقع التعاون التكنولوجي والجامعي والبحثي بين البلدين، واستمرار اعتبار الصين المنافس الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة. إذن كان هناك أمر واحد يتفق عليه الحزبان الجمهوري والديمقراطي اليوم؛ هو موضوع الصين. ولأننا ندخل في عام انتخابي فلا أتوقع أن تتراجع خلال العام المقبل هذه العداوة للصين، لأن لديها صدى كبيراً لدى الناخب الأميركي، لا سيما لدى الموظف أو العامل في المؤسسات الاقتصادية الأميركية.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟


ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.


نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
TT

نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)

لم تشهد العلاقات الأميركية - الإسرائيلية اضطراباً كما هي الحال اليوم. ورغم دعم واشنطن الاستراتيجي، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، والاحتضان الكبير من الرئيس دونالد ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي بلغ درجة التدخل العلني الصريح في شؤون القضاء، ومطالبته عبر رسالة رسمية من البيت الأبيض بإلغاء قضايا فساد يُحاكم عليها نتنياهو، فإن هناك قلقاً يساور تل أبيب وتساؤلات كثيرة من دون إجابات.

ومن بين أبرز الأسئلة ما يتعلق بترمب، وما إذا كان في الدورة الأولى من حكمه، هو الرئيس الجديد نفسه؟ وهل تخلى عن مفاهيمه حول «إسرائيل دولة صغيرة تحتاج إلى توسيع؟».

في وثيقة نشرتها إدارة ترمب مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2025، وحددت فيها الأهداف الاستراتيجية لإدارته، جاء أن القضية الفلسطينية غير قابلة للحل قريباً. فهل هذا يعني أن بالإمكان تخطي خطة ترمب لوقف الحرب في غزة، وإقامة سلام شامل في الشرق الأوسط؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن أن يمارس ضغوطاً على إسرائيل لفرض التسوية؟ وما حدود الدعم لإسرائيل؟ وأي اتفاق مساعدة سيمنحه ترمب في عهده للسنوات العشر المقبلة؟

في محيط نتنياهو لا تبدو الأمور واضحة، رغم التصريحات التي تبث تفاؤلاً حول متانة العلاقات.

نعم، حتى نتنياهو الذي يعد نفسه «أكبر خبير إسرائيلي في الشؤون الأميركية»، يُمضي ساعات في دراسة شخصية «ترمب الجديد».

يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يشير بيده بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون الدولي خلال زيارته إسرائيل 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

نتنياهو الذي عاش في أميركا

يسجل التاريخ السياسي أن 8 من مجموع 13 رئيس وزراء حكموا إسرائيل حتى الآن، عاشوا في الولايات المتحدة لفترة زمنية ما تزيد على ستة شهور. أكثر رئيس حكومة عاش في أميركا، كانت غولدا مائير، 18 عاماً. يأتي بعدها بنيامين نتنياهو، الذي عاش فيها 16 عاماً. وكلاهما كان يتباهى بأنه أكثر من يعرف أميركا من الداخل، بفضل عيشهما الطويل فيها.

إلا أن المؤرخين الإسرائيليين يرون الأمر بشكل معاكس. ويقول الصحافي والمؤرخ، تاني غولدشتاين، إن هناك من يعد غولدا ونتنياهو أسوأ رئيسي حكومة في إسرائيل مع الولايات المتحدة، وسجل في تاريخهما أنهما تسببا بأكبر عدد من الأزمات في العلاقات بين البلدين.

غولدا، كانت وزيرة خارجية إسرائيل عام 1958، عندما تدخلت الولايات المتحدة في لبنان خلال أزمتها الدستورية، وبالاتفاق مع رئيس الوزراء بن غوريون، وضعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية في خدمة القوات الأميركية. وبذلك تم وضع قاعدة لأول تعاون أمني بين تل أبيب وواشنطن، وبعد ثلاث سنوات عقد أول لقاء رسمي بين رئيس حكومة إسرائيلية وبين الرئيس الأميركي، الذي كان يومها جون كيندي. لكن غولدا نفسها، عندما أصبحت رئيسة للحكومة الإسرائيلية، أثارت أول أزمة كبيرة في العلاقات.

في مطلع السبعينات، بدأ الأميركيون طرح مشروع سلام إسرائيلي عربي، عرف باسم وزير الخارجية، ويليام روجرز. وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حاول الرئيس أنور السادات إحياء هذه الجهود بقوة، وأبدى استعداداً واضحاً لهذا السلام. واعتقد الرئيس ريتشارد نيكسون أن غولدا ستتصرف معه بصفتها شريكة وحليفة استراتيجية ستتحمس لاتفاق السلام الذي سيجلبه إلى إسرائيل، وقد صدم عندما رفضت.

الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يصفق في حين يعانق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن الرئيس المصري أنور السادات بالبيت الأبيض سبتمبر 1978 (أ.ف.ب)

في حرب 1973، عندما دخلت إسرائيل في أزمة أمنية، وشعرت بأن الجيشين المصري والسوري يهددان وجودها، سامح نيكسون غولدا، وأرسل شحنات أسلحة ضخمة وطائرات مقاتلة دخلت الحرب ضد مصر وسوريا، يقودها طيارون من سلاح الجو الأميركي.

ويقول المؤرخ المتخصص في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، البروفسور إيلي لادرهندلر، إن غولدا أثبتت أن ادعاءاتها بأنها تعرف أميركا من الداخل انعكست على إسرائيل بشكل سلبي. وثبُت أنها كانت متبجحة، وتتمتع بقدر عال من الثقة الزائدة بالنفس، فأسهمت معرفتها بأميركا بشكل عكسي في المصلحة الإسرائيلية.

ويتمتع نتنياهو أيضاً بثقة زائدة بالنفس، في الشعور بأنه يعرف أميركا من الداخل. وقد تفوق على غولدا في عدد وعمق الأزمات التي تسبب بها في العلاقات بين البلدين، خلال معظم سنوات حكمه. فقد شنّ حرباً على الرئيس باراك أوباما، ليمنعه من توقيع الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015.

ودخل نتنياهو في أزمة مع الرئيس السابق جو بايدن، الذي هب لنجدة إسرائيل بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأفشل مبادراته لوقف النار في غزة. وفي الوقت الذي حاول فيه كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية إقامة علاقات متوازنة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الأميركي، لكي تحظى إسرائيل بدعم من كليهما، سمح نتنياهو لنفسه بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح مرشحي الحزب الجمهوري، ودخل في مشكلة مع الديمقراطيين.

ويقول خصوم نتنياهو في واشنطن إنه هو الذي أقنع الرئيس دونالد ترمب في دورته الأولى بإلغاء الاتفاق النووي. وصار يشار إليه بالبنان كمن يريد توريط الولايات المتحدة بحرب. وخلال السنة الماضية، ثبت هذا التقدير ودخلت الولايات المتحدة في حرب مع إيران، قصيرة وخاطفة ولكنها حرب. وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى إلى إقناع الرئيس الأميركي بجولة أخرى، لتكون حرباً أميركية أو حرباً مشتركة بينهما ضد إيران.

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

متانة العلاقة

ليس هناك شك في أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية ومتينة، وهي كذلك في زمن ترمب أيضاً. لكنّ شيئاً ما تغير يجب أن يقلق إسرائيل، وبدأ يقلقها بالفعل.

الحلف مع الولايات المتحدة متين، لأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقبل على نفسها أن تكون خط الدفاع والهجوم الأول للمصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في الشرق الأوسط. الجنرال ألكسندر هيغ، الذي كان قائداً لحلف شمال الأطلسي، وأصبح وزيراً للخارجية الأميركية، كان يقول إن إسرائيل هي «حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط التي تخوض حروبنا من دون مشاركة أي جندي أميركي». والمستشار الألماني الحالي، ميرتس، قال إن «إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة عنا».

لهذا تحظى إسرائيل بهذا الدعم الهائل. وعلى مدى العقود الماضية نما حجم المساعدات العسكرية الأميركية بشكل كبير، ففي عام 1998 كان المبلغ السنوي نحو 1.8 مليار دولار وبحلول 2028 سيصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً.

وتطلب إسرائيل زيادته للمرحلة المقبلة، وهذا لا يشمل ما قدمته الولايات المتحدة خلال الحرب على غزة، الذي بلغ أكثر من 22 مليار دولار. وحسب صحيفة «هآرتس»، في 18 ديسمبر 2025 أنفقت الولايات المتحدة بسبب الحرب، ما مجموعه نحو 32 مليار دولار أميركي مساعدات لإسرائيل خلال العامين الماضيين. ونقلت الصحيفة عن مركز أبحاث الكونغرس وجامعة براون في واشنطن، أنه «إلى جانب تكاليف المساعدات المباشرة، المتمثلة في العمليات العسكرية الأميركية في اليمن وإيران، حوّلت واشنطن 21.7 مليار دولار أميركي إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خلال العامين الماضيين. إضافةً إلى ذلك، وافق مجلس النواب في بداية 2025 على مساعدات عسكرية خاصة بقيمة 26 مليار دولار أميركي، خُصص منها نحو 4 مليارات دولار أميركي لصواريخ اعتراض ضمن برنامج الدفاع الصاروخي، و1.2 مليار دولار أميركي لنظام الليزر الجديد (أور إيتان)».

وكان التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي مبنياً على «قيم مشتركة» للبلدين ورسم مشترك للمصالح، لكن الحرب على غزة أحدثت هزة شديدة في هذه القواعد، التي كان تستند على دولة عظمى، إذ تحتضن «ابنها المدلل» في منطقة الشرق الأوسط.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس خلال اجتماع في أحد مقار الجيش (الحكومة الإسرائيلية)

ترمب «غير المتوقع»

يدرك نتنياهو قوة الخدمة التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة، واستغلها هو بطريقة شرسة، خصوصاً في ظل إدارتي أوباما وبايدن، لكن قدوم ترمب إلى البيت الأبيض أحدث تغييراً في المعادلة لدرجة أربكت نتنياهو وحكومته، وجعلته يخطو بحذر حتى يبتعد عن المتاهات. فالولايات المتحدة تتغير، والأمر تجلى بشكل كبير في السنة الأولى من إدارة ترمب.

يُنظر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنه شخصية غير تقليدية، تتسم قراراته بعدم القابلية للتنبؤ، ما يفرض على من يتعامل معه قدراً أكبر من الحذر مقارنة برؤساء سابقين. وتقول الصحافة الإسرائيلية إن هذا النهج يثير قلقاً حتى لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يُشار إلى أنه يخشى التعرض لانتقادات علنية على غرار ما واجهه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ورغم إدراك ترمب للأهمية الاستراتيجية لإسرائيل، فإن تقديرات تشير إلى أن حساباته لا تقتصر على هذا العامل وحده.

وترمب من نوع القادة الذين يؤمنون بأنهم يعرفون مصلحة إسرائيل أكثر منها ومن قادتها، ومثلما يراها «حاملة طائرات أميركية» يقدر عالياً «الحروب» التي تخوضها الدولة العبرية، وتدفع ثمنها بأرواح الإسرائيليين، ولا تكلف أميركا أي جندي.

لكنه في الوقت نفسه مقتنع بأنه يستطيع توفير سلام حقيقي وشامل لإسرائيل في هذا العصر، مع الدول العربية والإسلامية، وهو يقرأ استطلاعات رأي تنشر في تل أبيب، مثل الذي صدر عن معهد أبحاث الشعب اليهودي في 21 ديسمبر 2025، وجاء فيه أن 60 في المائة من الإسرائيليين يثقون في أن ترمب يعمل وفق رؤية تغلب مصالح إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة، ثمة تراجع في قوة ونفوذ المسيحيين الصهيونيين المناصرين لإسرائيل، وكذلك في قوة اللوبي اليهودي (أيباك)، مقابل القوة الصاعدة لحركة «ماغا» التي تضع مصلحة أميركا أولاً، إذ تسمع في صفوفها الأصوات التي تطالب بتقليص الدعم لإسرائيل وزيادة الرقابة على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد سوريا ولبنان.

كما أن هناك تراجعاً حاداً في التأييد الأميركي الشعبي لإسرائيل. وجاء في دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، أن «هناك أزمة خطيرة في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، لدرجة الحديث عن خطر تشكيل تهديد استراتيجي».

وجاء في الدراسة التي نشرت في مطلع ديسمبر 2025، وأجراها الباحثان إلداد شافيت وتيد ساسون، أن «مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة وقعت في أزمة غير مسبوقة. الدعم التقليدي تآكل بشكل ملموس في أوساط الديمقراطيين وحتى لدى جزء من الجمهوريين».

وتظهر استطلاعات أن الرأي العام تجاه إسرائيل يتأثر سلباً بشكل مباشر من سلوك إسرائيل في الحرب، ومن الوضع الإنساني في قطاع غزة. كما يلاحظ في الجالية اليهودية خصوصاً في الأوساط الليبرالية، تراجع الدعم، وازدياد الانتقادات لإسرائيل، التي قد تضر بحرية العمل سواء السياسي أو العسكري لإسرائيل، وتشكل تهديداً حقيقياً على أمنها.

ولا يستطيع ترمب إهمال هذه التغيرات إذا أراد أن يحافظ على جمهوره، وإذا وجد أن نتنياهو يضع عراقيل أمام مخططات إدارته. وهو نفسه كان قد أشار إلى أن إسرائيل في عهد نتنياهو باتت من دون أصدقاء سوى الولايات المتحدة، وأنه هو وحده الذي يساندها، وعليها أن تتصرف بما لا يمس مصالح وإرادة الولايات المتحدة.

وتشهد هذه المصالح تغييراً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل في اللغة الجديدة التي يستخدمها ترمب مع القادة العرب في المنطقة. ويستمع نتنياهو إلى هذه «الموسيقى» بإصغاء، محاولاً فهم حدودها.

الآن، وبعد عام في ظل الرئيس الأميركي، يقال في محيط نتنياهو إنه لا يزال يحاول دراسة «شخصية ترمب الجديدة»، ويجد أن ما تعلمه عن الولايات المتحدة يحتاج إلى نسخة محدثة من الفهم.