غسان سلامة لـ«الشرق الأوسط»: عناصر حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لم تكتمل بعد

اتفاق «الطائف» اللبناني ليس كتاباً مقدساً... و«موسيقى ناعمة» تسمع من بكين

TT

غسان سلامة لـ«الشرق الأوسط»: عناصر حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لم تكتمل بعد

غسان سلامة خلال الحوار مع "الشرق الأوسط"
غسان سلامة خلال الحوار مع "الشرق الأوسط"

كما في نهاية كل عام، ثمة وقفة يُطرح خلالها كثير من الأسئلة حول ما حملته أشهر العام الماضي من أحداث ستبقى في الأذهان، وسيكون لها أثرها على المقبل من الأيام. ولكن أيضاً حول ما حضرته للعام الجديد من مفاجآت وتحديات ومصائب. وللتوقف عند ما قضى، واستجلاء ما سيأتي، قصدنا الدكتور غسان سلامة، الوزير السابق والأستاذ الجامعي وصاحب المؤلفات الكثيرة في العلاقات الدولية، والذي عمل للأمم المتحدة في العراق وليبيا وميانمار.

والحوار مع الدكتور سلامة ليس عملاً مثرياً بذاته بالنظر لقدراته التحليلية المرتكزة إلى متابعة دقيقة واتصالات رفيعة المستوى، بل هو أيضاً متعة حقيقية بفضل وضوح الرؤية لديه ووضوح ودقة التعبير. وفي جلسة مطولة استضاف خلالها «الشرق الأوسط» بباريس، كانت جولة واسعة على شؤون العالم العربي وعلى حالة العالم اليوم وما ستكون عليه غداً: من حرب غزة إلى حرب أوكرانيا مروراً بأوجاع العالم العربي، وصولاً الى المنافسة البنيوية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين وتحول الثقل العالمي نحو الشرق وفشل مجلس الأمن الدولي في القيام بالمهمة المنوطة به منذ تأسيسه؛ وهي الحفاظ على السلم العالمي وأسباب تقاعسه، كلها ملفات طرحت مع الدكتور غسان سلامة الذي تناولها بعمق. وفيما يلي نص الحوار:

نظرة سريعة على عام 2023

* بعد أيام قليلة نودع عام 2023 ونستقبل عام 2024. سنغوص لاحقاً في التحديات التي يطرحها العام الجديد أكان بالنسبة للعالم العربي أو بشكل عام. ولكن قبل ذلك؛ سؤالي الأول يتناول المحطات اللافتة التي توقفت أو تتوقف عندها في العام المنتهي...

- في العام المنتهي يكاد يكون استمراراً لما سبقه أكثر مما هو انفتاح على ما هو لاحق. أولاً، من الناحية الاقتصادية نرى أن العام المذكور كان إجمالاً إيجابياً بعد سنة 2022 التي كانت سلبية للغاية بالنسبة للاقتصاد العالمي. فقد شهدنا عودة الصين إلى السوق العالمية، ورأينا نمواً ولو ضعيفاً في الدول الغربية بالتوازي مع محاربة كثيفة للتضخم في مختلف اقتصادات العالم. واللافت أن الدول النامية لم تتأثر كثيراً بحرب أوكرانيا، لأن موسم 2023 من الحبوب كان جيداً للغاية. لذلك فإن عدم تمكن روسيا، خصوصاً أوكرانيا من تصدير الحبوب بصورة كافية لم يؤثر كثيراً على أسعار الحبوب، لا سيما أسعار القمح. وبالطبع، هذا أمر مهم لأن عدم توافر القمح وارتفاع أسعاره يفضيان، في كثير من الدول، إلى انتفاضات وثورات واضطرابات بالشارع.

غسان سلامة خلال الحوار مع "الشرق الأوسط"

إذن أعتقد أن الحكومات نجحت في تجنب هذا الهم الكبير باعتبار أن موسم الحبوب في السنتين الماضيتين كان جيداً في كل أنحاء العالم. من ناحية أخرى، رأينا أن حرب أوكرانيا التي انطلقت في شهر فبراير (شباط) من عام 2022، وتواصلت في العام الذي يليه دون توقف، تميزت بأمر أساسي؛ وهو أن الهجوم المضاد الذي حاولت أوكرانيا أن تقوم به ضد القوات الروسية في الدونباس فشل، ولم تتمكن أوكرانيا إلا من استعادة مساحات قليلة، ما يعني أن وضع الرئيس الأوكراني الذي كان يراهن كثيراً على نجاح هذا الهجوم المضاد قد ضعف. هو اليوم في فوهة المدفع كما يقال. وشهدنا، من الناحية الأخرى، تمكن بوتين من القضاء على نوع من الانتفاضة التي قام بها مؤسس حركة «فاغنر»، التي فاجأت الجميع بحصولها وبسهولة انطلاقها من جنوب روسيا نحو موسكو دون أن يوقفها أحد. لكنه بعد شهرين من ذلك، توفي مؤسس «فاغنر» في حادث جوي.

من جانبه، استمر الرئيس بوتين باللعب على ورقة يعدّها رابحة، وهو الوقت الذي يرى أنه يعمل لصالحه، إذ إن لديه إمكانات صناعية ذاتية لتأمين جيشه، بينما لأوكرانيا إمكانات خارجية فقط، حيث إنها تعتمد على الدعم الخارجي في الأعتدة والسلاح.

عام 2023 شهد أيضاً أمراً مهماً في أفريقيا؛ وهو عودة الانقلابات العسكرية في 8 من دولها، ما يعني أن أفريقيا تتراجع في الديمقراطية لمصلحة الأنظمة التسلطية العسكرية. ومعظم هذه الأنظمة التي تم الانقلاب عليها عسكرياً في منطقة الساحل. والجزء الثاني من الصورة هناك هو، عملياً، طرد الوجود العسكري الفرنسي من دول مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وغيرها، وهو أمر له بعد تاريخي لأن عدداً من القواعد العسكرية الفرنسية التي أقفلت عمرها أكثر من 30 أو 40 عاماً. إذن هناك انحسار حقيقي للنفوذ الفرنسي في منطقة الساحل. وآخر تجلياته بالأمس انتهاء الانسحاب العسكري الفرنسي من النيجر وإغلاق السفارة.

من العناصر الأخرى المثيرة للانتباه طبعاً عودة الشعبوية بكثرة إلى أميركا اللاتينية، لا سيما في انتخابات الأرجنتين التي جاءت بشخص شعبوي بامتياز إلى رئاسة الجمهورية. لكن الحدث الأبرز بالنسبة لنا، عربياً، كان ولا شك حرب غزة التي سنتوقف لاحقاً ملياً عندها.

أما في أنحاء العالم الأخرى فالجميع يتهيأ للعام المقبل الذي سيكون بامتياز عام الانتخابات، إذ سيحصل أكثر من 60 انتخاباً وطنياً؛ في الولايات المتحدة، في الهند، في جنوب أفريقيا، وفي دول كثيرة بالعالم. أما في الاتحاد الأوروبي، فستحصل انتخابات البرلمان الأوروبي. إذن السنة المقبلة هي سنة الانتخابات الكبيرة، وبالتالي هي سنة تأثر السياسة الخارجية بالحسابات الانتخابية الداخلية، وهو ما لم نعرفه كثيراً في 2023.

أمراض البلدان العربية

* بالنظر لمنطقتنا من لبنان إلى سوريا إلى العراق وليبيا واليمن وتونس وحتى السودان، لوجدنا أزمات متعددة ومختلفة. هل هناك علة واحدة يمكن أن تبين أسباب هذه التمزقات أم هناك مجموعة من العلل؟ ما هي؟ وكيف الخروج منها؟

- حقيقة الأمر أن هناك جوانب متشابهة لعدد من الأزمات، ولكن أيضاً هناك جوانب خاصة بكل بلد. فيما خص الجوانب المتشابهة، علينا أن نشير أولاً إلى أننا ندفع ثمن الانفجار السكاني الذي حصل في القرن العشرين بمختلف هذه البلدان. هذا الانفجار تضاءل بعض الشيء في القرن الحادي والعشرين، لكن أنت تشعر بخطورته عندما تصل أجيال ذلك الانفجار إلى سن العشرين أو سن الثلاثين، وتجد صعوبة في العثور على عمل. لذا، نحن نشهد وندفع أولاً وأساساً كلفة الانفجار السكاني الذي حصل في العقود الأخيرة من القرن العشرين، والذي حمل إلى سوق العمل شباباً وشابات مؤهلين تلقوا تعليمهم في الجامعات والمعاهد... ولذلك فإن اشمئزازهم من عجزهم عن الحصول على العمل أكبر من اشمئزاز الذين لم يتعلموا ولم يتدربوا.

هذا أمر عام في أنحاء المنطقة من المغرب إلى العراق، مروراً بمصر وتونس وغيرها من البلدان. وهناك سبب ثانٍ مهم في نظري؛ وهو أن العقد السابق من القرن الحادي والعشرين شهد نوعاً من الأمل بالتغيير من خلال ما سمي «الربيع العربي» الذي رأينا تداعياته تقريباً في نصف الدول العربية بينها مصر وتونس والجزائر وسوريا واليمن وغيرها من البلدان. هذا الأمل تحطم. ربما كان أملاً كاذباً منذ اليوم الأول.

أنا لا أريد الدخول بالتفاصيل هنا، ولكن من دون أي شك كان هناك أمل خصوصاً بالنسبة للشباب. وهذا الأمل تحطم، وحل مكان الأنظمة التي كان يسعى هؤلاء الشبان إلى تغييرها؛ إما أنظمة أكثر تسلطية من الأنظمة التي سقطت في الربيع العربي، أو اندلعت حروب أهلية دامية في عدد من البلدان وما زال بعضها جارياً حتى الساعة، لا سيما في دول مثل سوريا واليمن وغيرهما. هذا هو العنصر الثاني الجامع أو لنسميه «العابر للحدود» العربية كلها. والعنصر الثالث هو الدور الصعب الذي لعبه الإسلام السياسي في عدد من هذه البلدان، بمعنى أن الإسلام السياسي تمكن من الوصول إلى عتبة السلطة بالانتخاب، كما انتخاب محمد مرسي في مصر مثلاً، أو فوز النهضة بالانتخابات في تونس، أو عبر وسائل وطرق أخرى. ولكن الإسلام السياسي بدا كأنه على الخواء نفسه الذي نجده عند الأحزاب الأخرى أو عند الأنظمة القائمة: الخواء في المشروعات الاقتصادية والإنمائية، الخواء في المشروعات الاجتماعية... لا يكفي أن تقول إن الإسلام هو الحل. يجب أن يعرض الحلول العملية التي يقدمها. ورأينا ذلك مثلاً في مصر أو في تونس. أما الأحزاب العلمانية أو غير الإسلامية فقد بدت لنا أنها خاوية أيضاً. هذه بنظري العناصر العابرة لمختلف الدول العربية.

بيد أنني أريد أن أسأل: هل الأزمات التي تلم بهذه البلدان أمر طبيعي أم غير طبيعي؟ أنا أعتقد أن الأمر طبيعي أكثر مما نعترف به. علينا أن نسأل: بمن نقارن هذه الدول لنقول إنها دول مأزومة؟ هل لم تكن مأزومة في السابق وأصبحت مأزومة الآن؟ جوابي بالنفي. لقد كانت ربما مستقرة وهادئة ولكنها مأزومة. ما حصل الآن أن هذه الأزمات ظهرت إلى السطح وأضحت مجال تناول وبحث وتمحيص.

لا شك أن لكل بلد هناك خصوصياته. ولكن ما يتعين التوقف عنده أن رد الأزمات إلى التدخلات الخارجية من أسهل الأمور لأنها قابلة للرصد بسهولة. ولكنني تعلمت من تجاربي في العراق ولبنان وليبيا، أمراً مهماً؛ وهو أن الديناميات الداخلية أصعب قراءة من التدخلات الخارجية. هي في معظم الأحيان أساسية وأكثر خطورة على تطور البلدان. هذا ما يحصل في قراءة الأحداث بالمنطقة العربية حيث نركز على التدخلات الخارجية، لأننا نتمكن بسهولة من رصدها فيما فهم الديناميات الداخلية أساسي، لأنها في معظم الأحيان جوهر الموضوع أكبر بكثير من التدخلات الخارجية، لا سيما أن القوى الداخلية في الدول المأزومة أو الدول التي تمر بحروب هي التي تستدعي التدخلات الخارجية، وتوفر لها التربة الخصبة وهي التي تضع حداً لها إذا شاءت، وبالتالي فإن التدخلات الخارجية لا تحصل من فراغ. لذلك على الإعلام، وأيضاً على المراقبين السياسيين والدبلوماسيين، أن يكسروا هذه الآلية السهلة.

مصير الصيغة اللبنانية

* سنترك القراءة العامة وسندخل في التفاصيل بدءاً بلبنان حيث الأزمات تتراكم: دستورية، ومؤسساتية، وسياسية، واجتماعية، ومالية... سؤالي جذري: هل يعني تتابع وتوالي واستمرار هذه الأزمات أن ما يسمى «الصيغة اللبنانية» لم تعد قابلة للحياة وما يمكن أن يكون البديل عنها؟

- سؤالك جذري، وجوابي لن يكون أقل جذرية. لقد شاءت الظروف أن يكون لي دور متواضع في بلورة اتفاق الطائف، حيث عملت إلى جانب اللجنة العربية التي كانت تبحث آنذاك في عام 1989 عن حل. وأود التأكيد بادئ ذي بدء أنه لم يخطر ببالنا أبداً، لا اللجنة العربية ولا موفدها السيد الأخضر الإبراهيمي ولا مستشارها غسان سلامة يوماً، أننا نعمل للتوصل إلى النموذج الدستوري المثالي والأفضل للبنان. كنا نسعى للخروج من الحرب، لوضع حد للقصف العنيف والقتل والدمار. باختصار، كنا نبحث عن صيغة انتقالية تسمح بوقف الحرب من خلال تهدئة الميليشيات المتقاتلة، وأيضاً الطرف السوري الذي كان منخرطاً فيها.

من هنا، أرى أن التمسك اللاهوتي باتفاق الطائف في غير مكانه. في الطائف، كنا نأمل، بعد وقف الحرب، أن يدخل لبنان في مرحلة سلم واستقرار وبحبوحة تسمح لأبنائه بأن يفكروا بما هو النظام الأمثل الذي يصبون إليه. هذا التصحيح ضروري، لأن هناك من حول اتفاق الطائف إلى كتاب مقدس. هو ليس كتاباً مقدساً، هو مفيد وكان مفيداً في حينه، وأنا فخور بأنني شاركت فيه.

ثانياً، إن بلداً يحتاج لسنة أو سنتين أو 3 ليختار رئيساً للجمهورية في كل مرة يشغر ذلك المنصب، ويحتاج لأشهر وأشهر لتأليف حكومته، ويحتاج لأشهر وأشهر للتفاهم على التمديد لقائد جيش، كما يحتاج لأشهر لتعيين موظف على رأس مصرفه المركزي، هذا البلد يعاني من نظام لا يناسبه. النظام الحالي في لبنان لا يناسب مصلحة اللبنانيين. هذا جوابي الجذري على سؤالك الجذري.

أما البديل، فالمشكلة ليست فيه، بل في إيجاد الوقت والظروف المناسبين لفتح هذا الملف. ثمة حاجة لتوافر ظروف من الاستقرار الداخلي ومن الاحتضان الخارجي ومن تغير الأفئدة والأفكار التي تسمح بالتوافق على نظام جديد. الآن، تسود في لبنان ظروف لم تعد مناسبة لفتح هذا الملف. لذلك أنا لا أعترض على حلول ترقيعية مثل انتخاب رئيس جمهورية بما تيسر، أو تأليف حكومة بما تيسر. لكن يتعين أن تكون مهمتهم الأولى، بعد إعادة تسيير المؤسسات، العمل على فتح الملف الدستوري من أساسه: هل نريد فعلاً نظاماً أكثر لامركزية أو نظاماً أكثر مركزية؟ يتضمن اتفاق الطائف دعوة للامركزية. لكن ثمة من يتخوف من تفتت الدولة ويتمسك بالمركزية.

ثم هناك سؤال آخر مهم خصوصاً في جو طائفي مشحون. صحيح، إن اتفاق الطائف يقول بإلغاء الطائفية السياسية وإن هذا يبدأ من مجلس النواب. ورأيي أن هذا خطأ، إذ أرى أن يبدأ إلغاء الطائفية أولاً من الإدارة العامة ومن الحكومة ثانياً ومن الرئاسات ثالثاً، وأخيراً من مجلس النواب. لماذا؟ لأن مجلس النواب هو السلطة الوحيدة المنتخبة وبالتالي، في مرحلة الانتقال من نظام طائفي إلى نظام لا طائفي، نحن بحاجة لهيئة دستورية يعترف بها الناس ويعدّون أنها من صنعهم لكي تحميهم في هذه المرحلة الانتقالية التي قد تثير القلق لدى كثير منهم.

هناك موضوع ثالث لا يقل أهمية؛ وهو أن الخلاف في لبنان على المواضيع الكبرى وليس على المواضيع الصغرى. لذلك من يدعو اليوم مثلاً لإلغاء إحدى الطبقات في الإدارة العامة (القضاء أو المحافظة لأن البلد صغير) ربما لا يجيب عن السؤال الأساسي الذي يتناول الثقافة السياسية في لبنان التي هي في حالة مزرية، لدرجة أنها غير قادرة على تقبل فكرة الدولة. ربما أن اللبنانيين تعودوا، أكثر من اللازم، على الحياة من دون دولة وعلى مجتمع من دون دولة.

* لكن اللبنانيين نزلوا بعشرات الآلاف إلى الشوارع والساحات احتجاجاً على غياب الدولة والفساد وأزمة المصارف...

- صحيح أن الآلاف من الأشخاص نزلوا إلى الشوارع والساحات لكنه ليس أمراً خاصاً بلبنان. ما نراه الآن في مختلف أنحاء العالم هو أن وسائل التواصل الاجتماعي تسهل جداً تعبئة الناس وإنزالهم إلى الشارع، لكنها أيضاً وسائل كاذبة. قد تتمكن من إنزال الملايين في بلد ما ولا تصل إلى نتيجة. لماذا؟ لأن التعبئة المجتمعية على أساس التواصل الاجتماعي تؤدي إلى نوع من التعبئة الأفقية، ولكنها لا تؤدي إلى ظهور قيادات ولا تؤدي إلى تبني برامج واضحة بديلة عن برامج السلطة القائمة، وبالتالي هي مثيرة للإعجاب بحجمها أو بقدرتها على تعبئة أكبر عدد ممكن من الناس، ولكنها تثير الخيبة والمرارة لأنها عاجزة عن أن تتوصل إلى برنامج حكم أو إلى إفراز قادة جدد.

وإجمالاً، التركيز على الجانب الأفقي وعلى التعاضد الأفقي يصبح نوعاً من المرض الواسع في وسط هذه المظاهرات. هم لا يريدون أن يظهر قادة يأخذون مكان القادة الموجودين. لكن لا مناص في أي تغيير سياسي من وجوه جديدة تحل محل من هم في السلطة، ولا مناص من وجود برنامج متفق عليه يختلف عن برنامج المتربعين في السلطة. التعبئة على أساس «السوشيال ميديا» تعبئة سهلة مثيرة للإعجاب، ولكنها في معظم الأحيان دون نتيجة.

حرب غزة وحل الدولتين

* لو جئنا إلى حرب غزة، لدي سؤال مثلث الأضلع: أولاً؛ كيف يمكن أن تنتهي هذه الحرب؟ ثانياً؛ هل عودة الحديث عن حل الدولتين أمر جدي أم بيع أوهام للفلسطينيين؟ ثالثاً؛ هل يمكن الرهان على وجود إرادة أميركية حقيقية للذهاب إلى حل سياسي معروفة محدداته؟

- بدوري أطرح تساؤلاً: هل الطرف الفلسطيني جاهز لكي يلعب هذا الدور التاريخي كحاضن لدولة فلسطينية ممكنة؟ جوابي هو لا. «حماس» غير مقبولة، والسلطة غير قادرة، وبالتالي نحن أمام خواء فلسطيني. ثمة حاجة لمخاطبة طرف فلسطيني جديد مقبول، لديه صدقية وليس فقط لديه شرعية السلطة الفلسطينية (وفقاً لاتفاقات أوسلو). لكن الواقعية تقضي بأن نقول إنه ليست لديها صدقية.

وفي الجانب المقابل، ثمة حاجة أيضاً لطرف إسرائيلي. والحال أنه غير موجود، إذ هناك حكومة متطرفة جداً تتبنى رفض فكرة الدولتين بصورة واضحة وصريحة، ليس فقط على لسان المتطرفين فيها مثل سموتريتش، ولكن على لسان رئيسها بنفسه. وهناك أيضاً مجلس حرب يتميز بالتشدد الكبير. وفي زيارته إلى إسرائيل في الأسبوع الأول من الحرب، فوجئ الرئيس بايدن بأن النظرية القديمة التي تقول إن جنرالات إسرائيل هم أقل تطرفاً من السياسيين ليست صحيحة في هذه الحرب، إذ إن الجنرالات الذين دخلوا إلى مجلس الحرب قد يكونون أكثر تطرفاً من نتنياهو نفسه في تحديد أهداف الحرب. لماذا؟ لأن هؤلاء مهووسون باستعادة قدرة الردع التي فقدها الجيش الإسرائيلي، وهو أمر قد لا يهم نتنياهو كثيراً.

ثالثاً، الحل بحاجة لوسيط لأمور الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. الوسيط الوحيد اليوم الذي لديه وسائل ضغط على الطرف الإسرائيلي هو الولايات المتحدة. نشرت حاملات طائرات لردع خصوم إسرائيل كما قررت أن تمدها، إلى جانب المليارات الأربع السنوية بـ14 مليار إضافية. وهي، ثالثاً، تمنع تكراراً مجلس الأمن من أن يصوت على مشروع قرار يقبله الأعضاء الـ14 بالنسبة وترفضه هي. إذن لدى واشنطن وسائل ضغط حقيقية ليست موجودة عند أي طرف آخر، لا الصين ولا أوروبا.

لكن المشكلة أن الوسيط (أي الأميركي) مفقود. لماذا؟ أولاً لأن بايدن تميز كسيناتور، خلال 40 عاماً من حياته، بالاصطفاف المطلق وراء مصالح إسرائيل، وهو لم يتغير كرئيس رغم البرنامج الذي أوصله إلى الحكم. بايدن شخص مؤيد لإسرائيل أكثر من كل معاونيه دون استثناء. وإني أتحدث في هذا المجال عن معرفة وليس عن تبصر. وبايدن مكبل اليدين لأنه دخل في السنة الأخيرة من ولايته الأولى وولج المعركة الانتخابية، حيث هناك أصوات شبابية تدعوه إلى أن يكون أقل تطرفاً في الصراع. ولكن، بالمقابل، هو بحاجة لتمويل قد يأتي أو سيأتي من مصادر تدعوه للاستمرار في هذا الموقف المتشدد إلى جانب إسرائيل.

البحث عن «أفق سياسي» للفلسطينيين بحاجة لـ3 أطراف، ليس هناك أي منها في حالة مناسبة لكي يلعب الدور المنوط به. لذلك أنا أميل للتشاؤم، كما أتخوف من توسع رقعة الحرب بحيث تستمر في غزة لأسابيع وأسابيع مقبلة، وأن تنتقل أيضاً إلى الضفة الغربية، حيث التوتر بلغ أوجه، لا سيما بعد قتل أكثر من 300 فلسطيني وطرد الفلسطينيين من عدد من القرى. وقد تنطلق الحرب أيضاً بجنوب لبنان، لأن في إسرائيل هناك من يقول اليوم إن الحالة ممتازة للقيام بحرب في لبنان: 80 ألف إسرائيلي أجلوا عن الجليل الأعلى، وعدد كبير من المدنيين غادروا منازلهم في جنوب لبنان، بحيث أصبحت الساحة خالية من المدنيين.

في إسرائيل أصوات ترتفع وتدعو للحرب في لبنان، ومنها وزير الدفاع يوآف غالانت. لكن الأميركيين، حتى الساعة رغم تأييدهم لإسرائيل واستمرارها في الحرب في غزة، ما زالوا يعارضون فتح جبهة الشمال. بايدن أبلغهم بذلك في الأسبوع الأول من الحرب وعندما عادت نغمتها مجدداً للتداول منذ نحو أسبوعين، كررت الإدارة الأميركية رسمياً أنها ما زالت عند موقفها المعارض لفتح جبهة لبنان. لكن الخطر يبقى قائماً أولاً، لأن إسرائيل لا تطيع أميركا في كل الحالات، وثانياً لأن المناوشات الجارية في لبنان يومياً قد تتجاوز رغبة الطرفين بإبقاء النار هادئة أو بإبقاء النار تحت السيطرة وقد يحصل سوء تفاهم أو سوء تفسير، ويتم تجاوز الخطوط الحمر لقواعد الاشتباك التي تم التوصل إليها.

إصلاح مجلس الأمن

* بعد ما يزيد على 70 يوماً على حرب غزة وسقوط ما يزيد على 20 ألف قتيل وآلاف الجرحى، وتدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، عجز مجلس الأمن عن وقف المجزرة من خلال إصدار قرار بوقف إطلاق النار ولو لأغراض إنسانية. والحال أن الأمم المتحدة أوجدت أساساً للحفاظ على السلم في العالم. فما فائدة هذه المنظمة الدولية اليوم؟

- هذا سؤال يطرح لدى اندلاع كل أزمة ويطرح اليوم في موضوع غزة بصورة أوضح، إذ حصلت محاولات للتوصل إلى وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، من قبل البرازيل ومن قبل روسيا ومن قبل دولة الإمارات، ولم تصل إلى نتيجة. الأمم المتحدة أرخبيل من المؤسسات التي لا تعمل بالضرورة بالتنسيق فيما بينها. أنا أنظر إلى غزة وأشيد بالدور الذي تقوم به منظمات الأمم المتحدة. كذلك أريد تحية أمينها العام أنطونيو غوتيريش الذي قامت الدنيا عليه ولم تقعد حتى الساعة بسبب جملة واحدة قالها، وهي أن هجوم «حماس» يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) «لم يحصل من فراغ».

منظمات الأمم المتحدة المختلفة تنشط في غزة، وهي جزء حقيقي من الأمم المتحدة. وفي الجمعية العامة تحظى فلسطين بأكثرية مؤيدة لها. لسوء الحظ، قرارات الجمعية العامة ليست تنفيذية، ولكنّ لديها قدراً من الوزن السياسي، وبالتالي فإن الارتقاء بهذه المؤسسة إلى شيء آخر أمر يبدو ضرورياً يوماً بعد يوم، لكي تكون منظمة الأمم المتحدة أكثر تمثيلاً للعالم، كما هو اليوم، وليس كما أريد له أن يكون عام 1945.

بقي مجلس الأمن وخطيئته الأصلية اسمها «الفيتو». هذا «الفيتو»، بمعنى من المعاني، جعل الدول الكبرى تهتم بمجلس الأمن وتريده أن يبقى قلب نظام الأمم المتحدة. لكننا دفعنا لهذه الدول ثمناً غالياً بمنحها حق «الفيتو». أزمة غزة وقبلها أزمة أوكرانيا زادتا من الشعور بضرورة تغيير تركيبة مجلس الأمن، إما بحصر حق «الفيتو» بحالات معينة أو بمنعه تماماً في حالات إنسانية صعبة، أو بإعطاء عدد محدود من إمكانات استعماله خلال السنة الواحدة لكل دولة أو بإعطاء حق «الفيتو» لدول جديدة لديها وزن في النظام العالمي مثل الهند أو البرازيل أو الاتحاد الأفريقي، جرت محاولات عديدة لإصلاح مجلس الأمن، لكنها فشلت لأن الدول الخمس صاحبة حق «الفيتو» عارضتها. كثيرة هي الدول التي ترى أن نظام مجلس الأمن غير تمثيلي وغير عادل، بل إنه يعمل بمبدأ التمايز بين الدول.

* لكن ضمن أي شروط وفي أي ظروف يمكن أن يحصل الإصلاح المطلوب، علماً بأن هناك العشرات من مشروعات الإصلاح طرحت من 30 أو 40 سنة حتى اليوم...

- هناك نوع من غضبة عالمية على المنظمات الدولية، وهذا لا ينحصر فقط بمجلس الأمن، ولكن يتناول صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهما أيضاً نشآ في عام 1945، وهما أيضاً قائمان على اللامساواة بين الدول في إداراتها، وهناك غضبة تحملها دول مثل الصين والبرازيل، وطبعاً الهند ودول أخرى مما يسمى «الجنوب الشامل». ولكن المشكلة الكبرى أن بين هذه الدول كم من الخلافات المتعددة: بين الصين والهند ثمة أكثر من 30 نقطة خلافية على حدودهما، وهناك تنافس على النفوذ بينهما في المحيطين الهندي والهادي. وهناك تشجيع هائل حالياً من الغرب للهند لكي تقف بوجه الصين. ولو جئنا لتمثيل الأفارقة فأنا أسأل: هل يمثلهم الاتحاد الأفريقي؟ الاتحاد الأفريقي فشل في حل كثير من المشاكل. هل تتمثل أفريقيا بدولة، وما هذه الدولة؟ جنوب أفريقيا، نيجيريا، إثيوبيا، مصر؟ ثم ننتقل إلى أوروبا ونسأل: هل يتعين ضم ألمانيا؟ وهل تقبل إيطاليا بذلك؟ ثم هناك 3 دول أوروبية دائمة العضوية (فرنسا وبريطانيا وروسيا التي هي دولة أوروبية أيضاً) فهل يتعين ضم دولة رابعة؟

ثمة مشاكل كبيرة بين الدول الراغبة في إحداث تغيير بالمجلس المذكور بشأن مواضيع قد تكون أكثر أهمية لهم مما يمنعهم من التفاهم على التوافق إزاء إصلاح المنظمات الدولية. لذلك بدأنا نسمع نوعاً من «الموسيقى الناعمة» في أنحاء العالم التي انطلقت من بكين، وهي أن كل هذه الأنظمة قد لا تكون قابلة للإصلاح، وبالتالي لماذا لا نقوم بإنشاء صندوق نقد خاص بالدول النامية وبنك دولي بديل عن البنك الدولي؟ ولماذا، في حالة أخرى لا ننشئ ربما مجلساً للأمن يوازي في تمثيله أو يتفوق على مجلس الأمن الراهن؟

تعريف «الجنوب الشامل» مرتبك

* يكثر الحديث منذ سنوات قليلة عن مفهوم «الجنوب الشامل». ما المقصود به؟ هل هو النموذج المناقض للنموذج الغربي الليبرالي؟ وما يمكن أن يؤدي إليه بشكل عملي؟

- تعريف مفهوم «الجنوب الشامل» ما زال مرتبكاً، إذ توضع فيه دول لا علاقة لها ببعضها. الصين أصبحت دولة عظمى. فهل هي جزء من الجنوب مثل زيمبابوي أو لبنان؟ هل روسيا جزء من الجنوب رغم أنها، ديموغرافياً، دولة بيضاء وجغرافياً أكثر من نصفها في أوروبا، فضلاً عن أنها تملك سلاحاً نووياً؟

في الحقيقة هناك صيغ أخرى استعملت للتعبير عن الشيء نفسه مثل دول عدم الانحياز أو مجموعة 127 في الجمعية العامة، ثم سميت كذلك «الجنوب الشامل» في تعبير شهير للويس أندرسن، حيث يعني «ما تبقى» من دول العالم. قيل إن «البريكس» هو التعبير المؤسسي عن الجنوب الشامل. والحال هناك خلافات بين الهند والصين وروسيا. الصين تريد أن توسع الإطار والهند تريد أن تبقيه ضيقاً. ثم إن «البريكس» نشأ سنة 2009 وليس لديه حتى اليوم موقع إلكتروني يمكن أن تعتمد عليه، كما أنه يفتقر لأمانة عامة دائمة. كذلك ليس لـ«البريكس» برنامج ولا حد أدنى من التوافق، باستثناء نوع من الخيبة أو من الغضب على الغرب، وهو يفتقر لرابط كافٍ سياسياً ومؤسسياً.

الآن، هناك دول مصرة على فكرة «الجنوب الشامل»، لا سيما الهند، لأنها تعطيها دوراً رائداً، وهي تريد تحديده باستثناء الغرب منه واستثناء الدول الكبرى منه، لا سيما روسيا والصين لتبقى هي في موقع متميز داخل هذه المجموعة.

حرب أوكرانيا على طريق التجميد

* كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا هشاشة البنية الأمنية في أوروبا، وبينت مخاوف موسكو من جهة، وطموحاتها من جهة أخرى. بعد أقل من عامين قليلاً على اندلاعها، ما التحولات العميقة البنيوية التي ستفضي إليها؟ وما صورة الهندسة الأمنية المقبلة في القارة القديمة؟

- أعتقد أن الرئيس بوتين مصيب في حساباته، بمعنى أن الوقت يعمل لصالحه، لأن الإمدادات العسكرية متوافرة، ولأن إمكانية تعبئة عدد أكبر من الناس، على صعوبته في روسيا، أقل صعوبة مما هو في أوكرانيا. وميدانياً، تبدو استعادة كييف، الدونباس وشبه جزيرة القرم، في المرحلة الحالية، أمراً يصعب تصوره، وبالتالي ما سيحصل، على الأرجح، في هذه المناطق التي ضمت شكلاً إلى روسيا ولم يعترف بضمها أحد باستثناء بيلاروس وسوريا، هو التوجه نحو ما يسمى «تجميد النزاع».

حماسة الغربيين لدعم أوكرانيا بالسلاح والمال تراجعت، وهناك تيار قوي في الولايات المتحدة لا يريد استمرار الحرب، فضلاً عن احتمال انتخاب ترمب مجدداً للرئاسة. وبوتين يعلم تماماً أن من أولى أولوياته، عند وصوله، توقيف أي دعم لأوكرانيا. وربما يراهن بوتين على انتخاب بايدن، وقد يضع الحرب على نار هادئة حتى تاريخ نوفمبر (تشرين الثاني) 2024.

أما بالنسبة لأوروبا فقد رأينا، من جهة أولى، أن هذه الأزمة حملت الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى في تاريخه أن يوحد عملية شراء السلاح لإعطائه لأوكرانيا، رغم أن أمراً كهذا سيادي بامتياز. لذا، يمكن القول إن حرب أوكرانيا عززت وحدة الاتحاد الأوروبي. وثانياً، الحرب أنعشت الحلف الأطلسي بدخول فنلندا وبطلب انضمام السويد المتعثر حالياً بسبب رفض هنغاريا وتركيا لدخولها. وثالثاً أخرجت الحرب ألمانيا وعدداً من الدول الأخرى في أوروبا، لا سيما في أوروبا الشمالية من وهم نهاية التاريخ. وأعني بذلك أن هذه الدول كانت عملياً تنفق 1 في المائة من ناتجها القومي على الدفاع، وكانت تعد أن الحرب قد غادرت القارة العجوز نهائياً. لذا حرب أوكرانيا جعلتها تستفيق وتستعيد وعيها لتلمس أن نظرية «نهاية التاريخ» التي روج لها فوكوياما كانت مضللة.

هذا الوهم الأوروبي سقط. حرب أوكرانيا كانت هجوماً روسياً من دولة نووية تسعى في الأرجح؛ ليس فقط لزعزعة أوكرانيا، وإنما فكفكة الاتحاد الأوروبي من أساسه. الهجوم الروسي على أوكرانيا أخذ بعداً جيو استراتيجياً مباشراً، لأن دولة عظمى تسعى لاستعادة موضعها في النظام العالمي هاجمت بصورة واضحة دولة أوروبية.

* لكن ماذا بالنسبة للهندسة الأوروبية الأمنية المستقبلية؟ هل يمكن تصور شيء جديد في السنوات المقبلة؟

- هناك فكرة فرنسية قديمة تعود للجنرال ديغول؛ وهي فكرة «الاستقلال الاستراتيجي» التي تبناها ماكرون منذ اليوم الأول لوصوله إلى السلطة. لكن يجب علينا أن نعترف بأن فرنسا عجزت عن تسويقها في مختلف دول أوروبا، لأنه عند الحديث عن الأمن والاستراتيجية، هناك إقرار مسبق بضعف أوروبا بمواجهة روسيا أو بمواجهة الصين، وبالتالي تبرز الحاجة لاحتماء شبه تلقائي تحت المظلة الأميركية.

واضح الاختلاف في وجهات النظر الذي لم تنجح فرنسا في تجاوزه باستثناءات قليلة هنا وهناك. هناك أصداء قليلة في القارة العجوز تأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر فرنسا. لكن ما يثير انتباهي أن استطلاعات الرأي في فرنسا باتت تميل أيضاً إلى الاحتماء بحلف شمال الأطلسي، رغم أن لفرنسا قدرة ردع نووية، لكنها متواضعة (نحو 60 رأساً نووياً)، ولا توازي هول المخزون الأميركي والروسي أو حتى الصيني. الصين لديها حالياً برنامج طموح لزيادة رؤوسها النووية إلى الضعفين قبل عام 2030.

الطموحات الصينية

* بعد فترة من التوتر الشديد، عاد التواصل الدبلوماسي والاجتماعات الرسمية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. هل هذا يعني أن التنافس المنهجي بين الجانبين يمكن احتواؤه؟ أم أن الأمور بين هاتين القوتين ذاهبة إلى مزيد من التصعيد؛ إن بسبب تايوان أو لأسباب أخرى متعددة؟

- بدأ عام 2023 بـ«البالون الصيني» فوق أميركا وكندا، وزعمت بكين أنه لأغراض مناخية، بينما الجانب الأميركي كان متأكداً أنه بالون تجسس، وما زال عند هذا الرأي. وانتهى العام المذكور بلقاء في نوفمبر الماضي، على هامش قمة «أبيك»، باجتماع الرئيسين بايدن وتشي جينبينغ. المتفائلون يقولون بدأ بسوء تفاهم، وانتهى العام بقدر من التفاهم. لكن الأسس البنيوية للتنافس الحاد بين الولايات المتحدة والصين ما زالت هي هي.

أعداء الصين يتخوفون من الشعور القومي النافر لدى الرئيس الصيني وطموحاته النووية ومن تعزيز بحريته العسكرية التي تتفوق راهناً على البحرية الأميركية بالعدد، وليس من ناحية القدرات أو التقدم. أما بالنسبة لتايوان، فلا أعتقد أنها السبب الرئيسي للتوتر بين الجانبين، أو أنها جوهر الموضوع. قد تكون فتيلاً، لكن جوهر الموضوع يكمن في مكان آخر وعنوانه مسيرة العولمة.

الولايات المتحدة، كما قال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي والرجل القوي في البيت الأبيض، بصريح العبارة مراراً وتكراراً خلال العام الماضي، ما معناه، إننا توصلنا إلى قناعة بأن العولمة عملت ضد مصلحتنا لأنها قوت دولاً دون أن تؤدي إلى تبنيهم أنظمتنا السياسية الديمقراطية، وبالتالي أدت إلى متانة اقتصادية لدول تسلطية، وأدت أيضاً إلى شيء ثانٍ مهم؛ وهو معاقبة العامل أو الموظف في الدول المتقدمة، لأن العولمة أدخلته في تنافس غير شريف مع العامل أو الموظف في الدول النامية، فتراجع مدخوله وغضب على حكامه، وصوت لمن يسعى إلى سياسات حمائية وإلى إقفال الحدود وإلى معاقبة المهاجرين، وخصوصاً إلى وضع مكوس وضرائب على الواردات من الدول النامية.

الصين، في نظري، هي النموذج الأكبر لانتقال الأوزان في النظام العالمي من الغرب نحو آسيا، بسبب العولمة. ثم إن هناك أيضاً سنة انتخابية حاسمة في أميركا، حيث يعلم بايدن كما يعلم ترمب والمرشحون الآخرون أن الرأي العام الأميركي يؤيد تواصل التوتر واستمرار فرض الضرائب على البضائع الصينية، واستمرار تقليص رقع التعاون التكنولوجي والجامعي والبحثي بين البلدين، واستمرار اعتبار الصين المنافس الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة. إذن كان هناك أمر واحد يتفق عليه الحزبان الجمهوري والديمقراطي اليوم؛ هو موضوع الصين. ولأننا ندخل في عام انتخابي فلا أتوقع أن تتراجع خلال العام المقبل هذه العداوة للصين، لأن لديها صدى كبيراً لدى الناخب الأميركي، لا سيما لدى الموظف أو العامل في المؤسسات الاقتصادية الأميركية.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».