الدبلوماسية السعودية تجاه فلسطين... تاريخ من الاعتدال

الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)
الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)
TT

الدبلوماسية السعودية تجاه فلسطين... تاريخ من الاعتدال

الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)
الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)

في حال حدوثه، فإن التطبيع مع السعودية سيكون بمنزلة نقطة تحولٍ رئيسية في تاريخ إسرائيل منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد عام 1979. حيث إن الاعتراف بإسرائيل كدولة ذات سيادة يُعد من المحرمات عند معظم الدول الإسلامية والعربية. لكن هذا لا يعني أن الدول الإسلامية جميعها تتبنى هذا الموقف. فعلى سبيل المثال، اعترفت تركيا بدولة إسرائيل في 28 مارس (آذار) 1949، وأرسلت بعثتها الدبلوماسية إلى تل أبيب في يناير (كانون الثاني) 1950. كما اعترفت إيران بدولة إسرائيل في 14 مارس 1950.

وكانت تركيا وإيران آنذاك أقوى الدول ذات الغالبية المسلمة. غير أن الدولة الصهيونية كانت تتطلع لاعتراف سياسي من دولة عربية كبرى، وتنظر لذلك الاعتراف باهتمام أكبر من بقية الدول المسلمة؛ وذلك ما حدث بالضبط في 26 مارس 1979، عندما وقّع كل من الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن على المعاهدة التي رعاها الرئيس جيمي كارتر.

وكما هو الحال عند اليهود والمسيحيين، فإن القدس المحتلة مدينة مقدسة عند المسلمين. على الرغم من ذلك، فإن قضية فلسطين كان يتم تداولها بوصفها قضية عربية أكثر من كونها قضية إسلامية. وثمة حقائق عدة تكمن خلف وضع الهوية الإثنية كأولوية تسبق الهوية الدينية للقضية. لقد أطلق العرب مصطلح «النكبة» لوصف قيام دولة إسرائيل عام 1948 الذي فرض أمراً واقعاً بوجود الدولة العبرية بين الدول العربية.

الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن يتعانقان في 17 سبتمبر 1978 بعد توقيع اتفاقية السلام في الغرفة الشرقية للبيت الأبيض تحت أنظار الرئيس الأميركي جيمي كارتر (أ.ف.ب)

وبعد سنوات قليلة من النكبة، برز الخطاب القومي العربي بقيادة جمال عبد الناصر الذي اتخذ من قضية فلسطين شعاراً رئيسياً لمشروع الوحدة العربية الذي كان ينادي به. لقد أضفى خطاب عبد الناصر البعدَ القوميَ (أي العربي) للقضية الفلسطينية. وبالتالي، فإن الصراع بين العرب واليهود هو صراع قوميات وليس صراعاً دينياً بين المسلمين واليهود. يفسّر هذا الموقف المصري ردّة الفعل العربية القاسية تجاه المعاهدة التي وقّعتها مصر مع إسرائيل، مقارنة بالموقف الذي أبدوه تجاه تركيا وإيران الملكية، حيث لم تقاطعها الدول العربية.

في الفترة المصاحبة لمعاهدة كامب ديفيد، تصاعدت الصحوة الإسلامية التي صاحبت الثورة الإيرانية عام 1979. وقتها، بدأ الثوريون الإسلاميون في استخدام شعارات تحرير فلسطين والمسجد الأقصى كأبرز شعرات التعبئة الجماهيرية لديهم. ولعل هذا ما يفسر التحولات في النخبة الفلسطينية، حيث كانت تسود القيادة اليسارية (منظمة التحرير) والتي تراجعت شعبيتها بين الفلسطينيين لصالح المقاومة الإسلامية، والتي أكدت على الهوية الإسلامية للقضية الفلسطينية. نستذكر في هذا الصدد كون غالبية الشخصيات الإسلامية ترفض وتستنكر اعتبار فلسطين قضية عربية خالصة، وتصرّ على إسلامية القضية ومحورية قدسية المسجد الأقصى.

بتسارع الأحداث نهاية القرن الماضي، طرأ تغيير كبير في المشهد عندما وقّع الفلسطينيون مع الإسرائيليين على اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر (أيلول) 1993. وتبع ذلك معاهدة السلام الإسرائيلية - الأردنية التي أُبرمت في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1994.

المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)

يمكن النظر للسعودية بوصفها رائدة في مجال الخطط العربية الشاملة للسلام مع إسرائيل؛ ففي 7 أغسطس (آب) 1981، أعلن الملك فهد بن عبد العزيز (كان وقتها ولياً للعهد) خطة للسلام في الشرق الأوسط. وتضمنت الخطة ثمانية مقترحات بعنوان «مبادئ السلام». ولخّصت هذه المقترحات قرار الأمم المتحدة رقم 242، والذي يتضمن: حل الدولتين (على أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية)، والتأكيد على حق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم مع منح تعويض لأولئك الذين يختارون طوعيّاً عدم العودة. رفضت إسرائيل بشدة هذه الخطة ووصفتها بأنها مخطط للإجهاز على إسرائيل في نهاية المطاف.

في وقت لاحق، أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز مبادرة أخرى في مؤتمر قمة جامعة الدول العربية الذي عُقد في بيروت يوم 28 مارس 2002. جاء الإعلان عن خطة سلام شامل قبل شهر من زيارة الأكاديمي والصحافي الأميركي توماس فريدمان للرياض ولقائه الملك عبد الله (كان وقتها ولياً للعهد) الذي نشر الخبر معه. طرح فريدمان فكرة السلام، فنظر إليه ولي العهد - حسب قوله - بدهشة ساخرة، وقال: «هل اقتحمتَ مكتبي؟»، غير أن المبادرة العربية قوبلت برفض إسرائيلي قاطع مرّده لكون المبادرة تستند إلى قرار الأمم المتحدة رقم 194 والذي يؤكّد على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم.

بعد رفض إسرائيل تلك المبادرات، ظهر جلياً أن فكرة طرح سلام شامل بين العرب وإسرائيل غير قابلة للتطبيق. إن الواضح كون إسرائيل تُفضل عقد اتفاقيات ثنائية منفصلة مع كل دولة عربية.

تعدّ وجهة النظر الإسرائيلية واضحة؛ فهي لا تريد أن يحصل اتفاق عربي - عبري؛ لأن من شأن ذلك أن يضع إسرائيل في موقف ضعيف كونها تقف منفردة أمام تكتل دول الجامعة العربية. يستند الموقف الإسرائيلي إلى كونهم يريدون التعامل مع الدول المجاورة بوصفها دولاً منفردة، وليس تكتلاً إقليمياً.

بالنظر إلى «اتفاقيات إبراهيم» الثنائية عام 2022 التي وقّعتها إسرائيل مع كلٍ من الإمارات، والبحرين، ثم السودان، وأخيراً مع المغرب، فإنها وُقّعت بشكل منفصل. هذه الاتفاقيات الثنائية لا تلزم إلا الأطراف التي وقّعت على كل اتفاق على حدة، من دون النظر للاتفاقيات الأخرى التي تشكّل إسرائيل القاسم المشترك الوحيد فيها.

مراسم توقيع «اتفاقيات إبراهيم» في حديقة البيت الأبيض في 15 سبتمبر 2020 (أ.ف.ب)

على الجانب السعودي، لا ترغب الرياض في أن تكون جزءاً من «اتفاقيات إبراهيم». يرجع ذلك إلى إدراك ولي العهد رئيس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، أهمية وثقل بلاده الذي يعني الكثير للإسرائيليين الذين يتوقون للتوصل إلى اتفاق مع دولة بحجم السعودية.

يُضاف إلى ذلك مجموعة من الحسابات المعقدة، والأكثر خطورة بالنسبة للجانب السعودي في حال تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي حسابات تفوق حسابات الإمارات والبحرين. ولهذا السبب؛ لم يتطرق الأمير محمد بن سلمان مطلقاً لعبارة ««اتفاقيات إبراهيم»» في مناقشاته التي جرت حول التطبيع مع إسرائيل. إنه يريد صياغة اتفاقه الخاص بعيداً عن الاتفاقيات مع دول أخرى مهما كانت قوة ارتباط السعودية بها.

وقبل التعمّق في مسألة إمكانية التطبيع السعودي مع إسرائيل، لا بد من أخذ لمحة عن السياق الذي بني عليه المبدأ السعودي في التعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي خلال النصف الأول من القرن العشرين؛ هذا السياق سيسهل على القارئ فهم الدور السعودي في ذلك الصراع.

لماذا السعودية؟

بالنظر إلى مكانتها الريادية في العالمين العربي والإسلامي، فإن المتوقع من السعودية أن توازن بين المحافظة على مصالحها الاستراتيجية المتمثلة في الشراكة مع الولايات المتحدة من ناحية، وأن تفي بالتزاماتها القيادية على المستويين العربي والإسلامي من ناحية أخرى.

لقد قلت يا أخي إنني مستعد للتضحية بنفسي وأبنائي من أجل فلسطين. وأقول مرة أخرى: النفط ليس أغلى من أبنائي. أنا مستعد لإلغاء الامتيازات النفطية إذا كان ذلك يخدم القضية.

الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن («نيويورك تايمز» 13 يوليو 1948)

جدير بالذكر، أنه قبل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، كانت وسائل الإعلام الغربية تصفُ موقف الحكومة السعودية بأنه يصرّ على «الحق العربي» في فلسطين. على سبيل المثال، ذكرت صحيفة «التايمز» الصادرة في 8 سبتمبر (أيلول) 1936 أن «مَلِكَ المملكة العربية السعودية عرض تسخير جهازه الحكومي في سبيل التنسيق مع الحكام العرب الآخرين، في حال كان من الممكن تأمين تعاونهم».

لم تمنع هذه اللغة الدبلوماسية المملكةَ من إدانة موضوع بناء المستوطنات اليهودية في فلسطين («التايمز»، 22 يونيو (حزيران) 1943). بل ذهب الموقف السعودي إلى أبعد من ذلك عندما تحدت السعودية قرار الأمم المتحدة بشأن الصراع الفلسطيني - اليهودي (من كتاب عبد الله فيصل آل ربح (2023) «المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو أميركية: تغطية المملكة خلال القرن العشرين». تايلور وفرنسيس. ص 89).

في هذا السياق، يتجدد دائماً السؤال الذي أُثيرَ في عام 1940 حول استخدام حظر النفط كوسيلة لدعم الفلسطينيين ضد المواقف البريطانية والأميركية الداعمة لليهود – الإسرائيليين. نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» تعليقاً بتاريخ 13 يوليو (تموز) 1948، قال فيه الملك عبد العزيز: «لقد قلت يا أخي إنني مستعد للتضحية بنفسي وأبنائي من أجل فلسطين. وأقول مرة أخرى: النفط ليس أغلى من أبنائي. أنا مستعد لإلغاء الامتيازات النفطية إذا كان ذلك يخدم القضية».

يمثل الموقف السعودي تجاه فلسطين جزءاً من سياستها الإقليمية الاستراتيجية الدائمة. وبالعودة إلى 14 فبراير (شباط) 1945، التقى الملك عبد العزيز، مؤسس المملكة العربية السعودية، الرئيس فرانكلين روزفلت على متن السفينة «يو إس إس كوينسي» في البحيرات المُرّة الكبرى قرب قناة السويس بمصر.

كان لدى روزفلت هدفان من لقاء الملك عبد العزيز: الأول، الدافع السياسي للوصول إلى حل قاطع للمشكلة الفلسطينية - اليهودية، الدافع الآخر اقتصادي يتمثل في التوصل إلى علاقة استراتيجية أميركية - سعودية تتناسب مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية، تضمن حصول الأمريكيين على النفط السعودي.

وعلى الرغم من السردية الإيجابية التي يتبنّاه كل من السعوديين والأميركيين حول هذا الاجتماع، فإن جوهر النقاش كان يهيمن عليه الاختلاف حول مستقبل فلسطين؛ ففي حين دافع روزفلت عن إقامة دولة يهودية، احتج الملك عبد العزيز على ذلك؛ معللاً موقفه بأنه يتوجب على اليهود أن يقيموا دولتهم في مكان آخر.

الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت (الشرق الأوسط)

بدأت الاتصالات المتعلقة بقضية فلسطين بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت قبل سنوات من الاجتماع الذي عُقد على متن «يو إس إس كوينسي» عام 1945. ونشرت وزارة الخارجية الأميركية رسائل عدة بعث بها الملك عبد العزيز إلى الرئيس روزفلت بين عامي 1938 و1943 يطالب فيها بحقوق الفلسطينيين في الاحتفاظ بأرضهم، وإدانة السياسة القائمة على توسيع المستوطنات اليهودية في فلسطين.

لقد مثّل هذا الاجتماع نقطة تحول في التواجد الأميركي في الشرق الأوسط؛ إذ شجع الاجتماع المملكة العربية السعودية على تحويل تحالفها الرئيسي من بريطانيا العظمى إلى الولايات المتحدة. لقد كان الهدف من لقاء الملك عبد العزيز مع الرئيس روزفلت يتمثّل في رسم أجندة التحالف السياسي والنفطي في العلاقة بين البلدين، والتي ما زالت قائمة حتى الآن. ومن الجدير بالذكر، أن اتفاقات ابن سعود – روزفلت دخلت حيّز المراجعة في المرحلة ما بعد عام 2016 في ظل التوتر الذي قادته إدارتا الرئيسان دونالد ترمب ثم جو بايدن. تضمنت مراجعات الجانبين الأجندة النفطية والعسكرية؛ إذ تسعى كل من واشنطن والرياض إلى تحقيق الحد الأعلى لمصلحة أجندتهما الوطنية. وفي كل الأحوال، بقيت القضية الفلسطينية موضوعاً تُعاد مراجعته بجدية بعد ما يقرب من سبعة عقود على لقاء عبد العزيز - روزفلت.

عند الحديث عن الصعوبة البالغة والتحديات التي تواجه السعودية فيما يتعلق بمسألة التوصل إلى تسوية شاملة مع دولة إسرائيل، ثمة واقع تاريخي للمملكة يُضاف إلى مكانتها الروحية كموطن للحرمين الشريفين. فالملك السعودي يُلقّب رسمياً بخادم الحرمين الشريفين، بينما الحرم الثالث هو المسجد الأقصى الذي يقع في القدس. ولعل هذا ما يفسر الإصرار السعودي على ضمان الحقوق الفلسطينية قبل توقيع الرياض على أي اتفاق سلام مع إسرائيل.

سياسة محمد بن سلمان تجاه الصراع

في 20 سبتمبر 2023، أجرى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مقابلة مع شبكة «فوكس نيوز»، ناقش فيها مواضيع مختلفة، بما في ذلك سياسته تجاه إسرائيل. وكانت إجابته المختصرة هي أن احتمالات تطبيع العلاقات بين البلدين «تقترب» كل يوم، ومع ذلك، ظلّت مسألة التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين قضية «مهمة جداً» يجب حلها بالنسبة للسعوديين. وهذا ما يدفعنا للقول إن الإصرار على ضمان حقوق الفلسطينيين كشرطٍ للتطبيع مع إسرائيل، ليس مجرد مطلب هامشي لمسألة خارج حدود السعودية. وكما ذكرنا من قبل، فإن محمد بن سلمان على دراية تامة بما تتمتع به بلاده من وزنٍ ثقيل، ولن يُعرّض مكانتها الدبلوماسية والروحية للخطر مقابل لا شيء.

 

خلال المحادثات الأخيرة التي دارت بين الزعيمين حول حرب غزة في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أبلغ الأمير محمد بن سلمان الرئيس بايدن بأنه «لا بديل عن العودة لمسار السلام من أجل ضمان حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة ومن أجل تحقيق السلام العادل والشامل». وبالإشارة إلى الصفقة المتوقعة، أصرّ الأمير محمد بن سلمان على تضمين الموضوع الفلسطيني كجزء من خطة السلام على أن تكون السلطة الفلسطينية في رام الله ممثلاً للشعب الفلسطيني.

مبدأياً، فإن السلطة الفلسطينية تتبنى موقفاً إيجابياً تجاه السلام مع إسرائيل مقابل الاعتراف المتبادل. وإذا نجح ولي العهد السعودي في الضغط على إسرائيل للاعتراف بفلسطين كدولة على أساس اتفاق أوسلو، فإنه سيحفر اسمه في التاريخ كونه قام بحل جزء كبير من الصراع العربي - الإسرائيلي. غير أن العائق الأكبر أمام ذلك هو الموقف الإسرائيلي المتعنت الذي لا يقبل حل الدولتين.

تكمن قوة الموقف الإسرائيلي في إصراره على أسلوب المفاوضات الثنائية مع الدول العربية بشكل منفصل. ويسعى الإسرائيليون إلى التوصل إلى اتفاق ثنائي مع السعودية تحت عنوان «مصلحة البلدين» من دون إشراك طرف ثالث في أي اتفاق محتمل (أي الفلسطينيين). وقد يُقدم الإسرائيليون بعض الوعود الشفهية وبلغةٍ مواربةٍ تحمي طموحاتهم. في المقابل، يرغب السعوديون في الحصول على التنسيق مع الفلسطينيين حول أي وعود الإسرائيلية في المفاوضات؛ حتى يضمنوا موقفهم في حال نشوب أي توتر  مستقبلي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

جانب من لقاء سابق بين الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفلسطيني محمود عباس (واس)

يسعى الأمير محمد بن سلمان للحصول على أعلى سقف من الممكن أن يصل إليه من الاتفاق مع الولايات المتحدة وليس إسرائيل التي ليس لديها الكثير لتطرحه على الطاولة. وعليه، يهدف ولي العهد السعودي إلى فرض شروطه على واشنطن - وليس على تل أبيب - للحصول على المزيد من الضمانات الأمنية التي تشمل الأسلحة المتقدمة والتكنولوجيا العسكرية الأميركية. في حال تمكّن من تحقيق تلك الأهداف؛ فإن السعودية ستحصل على صفقات عسكرية لم تحصل عليها في تاريخها كله.

ثمة حقيقة لا بد من التوقف عندها تتلخص في أن انخراط السعودية في مفاوضات مع إسرائيل لا يضمن التوصل إلى اتفاق نهائي. ومع ذلك، نجح الأمير محمد بن سلمان في توجيه إدارة بايدن إلى الاتجاه الذي يخدم أجندته. لقد عمل منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط بريت ماكغورك وسيطاً للاتفاقيات الاقتصادية والأمنية التي فكت الجمود في العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وفي هذا السياق، يعد شطب تعهد بايدن بجعل المملكة «منبوذة» خطوة أولى - وغير مشروطة - في هذه المفاوضات، وهذا مكسب سياسي يسجّل لإدارة محمد بن سلمان.

ثمة وقت محدود للغاية أمام الإدارة الديمقراطية للتوصل إلى الصفقة التي من شأنها أن تفوق «اتفاق إبراهيم» الذي حققته إدارة ترمب الجمهورية. وبذلك يُفهم أن بايدن سحب بعض شعاراته المعادية للسعودية التي استخدمها في حملته الانتخابية عام 2020. وإذا لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق سلام سعودي - إسرائيلي، فقد يؤثر ذلك على ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2024، الذي هو محل شك في الأصل. في هذه المرحلة، يرى بعض المراقبين أنه على الرغم من تعثر الاتفاق السعودي ـ الإسرائيلي، ربما يكون الأمير محمد بن سلمان قد حصل بالفعل على ما يريد من الانخراط في المفاوضات وإن لم يتم التوقيع.

حرب غزة 2023

لقد أربكت الحرب الأخيرة في غزة الأوضاع في الشرق الأوسط، وجعلت الأمور أكثر صعوبة. حيث أشارت معظم تقارير مراكز الأبحاث والمنصات الإعلامية إلى أن حركة «حماس» بدأت العمل العسكري بهدف تعطيل الاتفاق المحتمل بين السعودية وإسرائيل. فعلى سبيل المثال، كتب ماثيو ليفيت مقالاً في مجلة «فورين أفيرز» يتهم فيه «حماس» باستهداف إمكانية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، والذي وصل إلى مرحلة إجرائية أكثر جدية من أي وقت مضى.

ويرى ليفيت أن العامل الذي دفع قيادة «حماس» إلى تنفيذ الهجوم والتسبب في هذا التصعيد كان عرقلة الجهود الدبلوماسية مع السعودية في المقام الأول. ويضيف ليفيت، أن قيادة «حماس» تعتقد أن اتفاقاً كهذا من شأنه أن يُقوض موقف القضية الفلسطينية داخل منظومة الدول العربية والإسلامية. علاوة على ذلك، فإن التطبيع المتوقع يمكن أن يعزز التحالف الإقليمي الفعال ضد إيران وحلفائها، ومن ضمنهم «حماس» و«حزب الله». لذا؛ فقد ذهب التنظيمان إلى ما هو أبعد من تصعيد الخطاب السياسي والإعلامي لتشنّ «حماس» هجومها في هذا التوقيت الحرج.

يتصف الموقف السعودي تجاه الحرب بأنه غاية في التوازن. وبينما لا يؤيد السعوديون «حماس»، فإنهم يدينون بشكل قاطع وبشكل لا لبس فيه الهجومَ الإسرائيلي والحصار المفروض على قطاع غزة.

مع استمرار الحرب، يتخذ السعوديون موقفاً قوياً جداً ضد الغزو البري الإسرائيلي لقطاع غزة. ومن شأن مثل هذا الموقف أن يصعّب - إن لم يجهض - التوصل إلى اتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل؛ وهو الأمر الذي لن يكون في مصلحة بايدن والإدارة الديمقراطية.

ماذا بعد؟

لا يبدو أن لدى عرّاب «رؤية 2030» رغبة لاستمرار التوترات لبلاده مع أي من دول محيطها الإقليمي. وهو يتبنى سياسة تصفير المشاكل؛ لذلك نجده قد قبل بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وأعرب عن موقف إيجابي تجاه اتفاق سلام يُعقد مع إسرائيل. غير أنه يجب الأخذ في الحسبان أن إسرائيل ليست إيران، فالعلاقة مع إيران فيها قضايا ثنائية يمكن حلها بين الرياض وطهران. لكن حالة إسرائيل تتضمن كثيرا من القضايا العابرة للحدود الوطنية التي تتجاوز العلاقات الثنائية؛ والتي يجب حلّها قبل التوصل لأي اتفاق.

تعتبر القضية الفلسطينية موضوعا حاسما بالنسبة لدولة عربية إسلامية رائدة بمكانة السعودية، التي تتخذ سياسة متوازنة تحسب فيها تحركاتها استراتيجيا. ولا يزال السعوديون يتعاملون مع الولايات المتحدة باعتبارها المورد الرئيس للأسلحة والتقنيات العسكرية. وهذا يعني أن السعودية ستحافظ على موقفها من خلال تأجيل التطبيع مع إسرائيل حتى تُؤمّن ضمانات تُحقق مكاسب معقولة للفلسطينيين. وباعتبارها وسيطا في التوصل إلى اتفاق، يجب على واشنطن التعامل مع المطالب السعودية بالأسلحة والتقنيات إذا وافق حليفا الولايات المتحدة على الجلوس والتفاوض حول اتفاق سلام في المستقبل.


مقالات ذات صلة

غزة: محاولات أميركية لـ«هدنة»... ومجزرة في المواصي

المشرق العربي والد رضيع فلسطيني يعاين جثمان طفله الذي قُتل بقصف إسرائيلي الثلاثاء في غزة (رويترز) play-circle 00:44

غزة: محاولات أميركية لـ«هدنة»... ومجزرة في المواصي

في الوقت الذي قُتل فيه 40 شخصاً بقصف إسرائيلي لمنطقة «إنسانية» بجنوب غزة، قال البيت الأبيض إن أميركا ما زالت تحاول «التوصل إلى مقترح تقريبي لوقف إطلاق النار».

«الشرق الأوسط» (غزة - لندن)
تحليل إخباري فلسطيني نازح يتفقد منزله في دير البلح بقطاع غزة نهاية أغسطس الماضي (إ.ب.أ)

تحليل إخباري لماذا لم تُحسم حرب غزة حتى الآن؟

دمّرت إسرائيل وقتلت في غزة لكنها ليست قادرة على إحراز نصر استراتيجيّ، وضربت «حماس» الوضع الذي كان قائماً لكنها عاجزة عن ترجمة سياسيّة لـ«طوفان الأقصى».

المحلل العسكري
المشرق العربي الموقع الذي استهدفته الغارة الإسرائيلية في المواصي صباح اليوم (رويترز) play-circle 00:44

إدانات عربية ودولية لـ«مجزرة المواصي» في غزة

توالت ردود الفعل العربية والدولية المستنكرة للهجوم الإسرائيلي على المواصي في جنوب قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
الخليج اجتماع المجلس الوزاري لدول مجلس التعاون الخليجي على مستوى وزراء الخارجية في العاصمة السعودية الرياض (مجلس التعاون)

«الوزاري الخليجي» يدعو كافة الدول لاستكمال إجراءات الاعتراف بدولة فلسطين

دعت دول مجلس التعاون الخليجي، الاثنين، مجلس الأمن، لاتخاذ قرار مُلزم تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يضمن امتثال قوات الاحتلال للوقف الفوري للنار.

غازي الحارثي (الرياض)
المشرق العربي شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية تدخل قطاع غزة من الجانب المصري عبر معبر رفح الحدودي

الجيش الإسرائيلي يحتجز قافلة من مركبات الأمم المتحدة بشمال غزة

قال الجيش الإسرائيلي، اليوم (الاثنين)، إنه احتجز قافلة من مركبات الأمم المتحدة في شمال قطاع غزة بعد معلومات استخباراتية.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

معسكرات أفغانية تثير مخاوف من «عودة القاعدة»

مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
TT

معسكرات أفغانية تثير مخاوف من «عودة القاعدة»

مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)

يبدو تنظيم «القاعدة» منذ سنوات كأنَّ صدأً قد أصاب جسده النحيل المتآكل. فقد نجح الأميركيون، ومعهم تحالف دولي واسع، في قتل قادته الكبار، بمن فيهم أسامة بن لادن وخليفته أيمن الظواهري. اعتقلوا مئات آخرين من قادته وعناصره. فككوا خلاياه حول العالم. وإذا كان كل ذلك لا يكفي، فقد ظهر لـ«القاعدة» منافس شرس من وسطه هو تنظيم «داعش» الذي سرق «بريق الإرهاب» من غريمه بسلسلة عمليات في أنحاء المعمورة.

لكنَّ هذه الصورة قد تكون «خادعة» في واقع الأمر. صحيح أن «القاعدة» يبدو عاجزاً عن شن هجمات ضخمة بحجم هجماته ضد الولايات المتحدة في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وصحيح أنها تبدو أيضاً عاجزة حتى عن الإعلان عن هوية زعيمها الجديد خلفاً للظواهري، رغم مرور أكثر من سنتين على مقتله، إلا أن تقارير أممية حديثة تؤكد أن التنظيم يقوم حالياً بإعادة بناء صفوفه بعدما أقام سلسلة معسكرات تدريب ومدارس دينية في أفغانستان.

وإذا ما صحت هذا التقارير، فإن ذلك يمكن أن يثير مخاوف من أن يعيد التاريخ تكرار نفسه. فهجمات «القاعدة» في 11 سبتمبر تمت انطلاقاً من معسكراتها الأفغانية. وإذا أضفنا إلى ذلك خزّان الغضب الذي تغذيه الحرب الإسرائيلية على غزة، وفشل «طالبان» في توفير الحاجات الأساسية للأفغان، والأزمات الممتدة في عدد من دول الشرق الأوسط، ومتغيرات كصعود اليمين المتطرف في الغرب، تزداد احتمالات ظهور موجة جديدة من التطرف والإرهاب. فهل يمكن أن تتكرر تجربة «القاعدة» الآن في ظل حكم حركة «طالبان» بنسخته الثانية؟

تمر هذه الأيام ذكرى هجمات تنظيم «القاعدة» في نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001. مثّلت تلك الهجمات، بطائرات مدنية مخطوفة، أكبر هجوم إرهابي على الأرض الأميركية منذ الهجوم الياباني على بيرل هاربر بهاواي عام 1941 والذي أدى بالولايات المتحدة إلى دخول الحرب العالمية الثانية.

برجا مركز التجارة في نيويورك قبل سقوطهما (غيتي)

لم تَقُدْ هجمات 11 سبتمبر إلى حرب عالمية ثالثة، بالمفهوم التقليدي للحروب العالمية، لكنها أطلقت حرباً طويلة ضد الإرهاب امتدت عبر قارات العالم. بدأت تلك الحرب بغزو أفغانستان، في أواخر عام 2001، حين تمكن الأميركيون من إطاحة حكم حركة «طالبان» التي وفرت الحماية لمنفذي هجمات «القاعدة»، رافضة تسليمهم.

في صيف عام 2021، حزم الأميركيون حقائبهم وانسحبوا من أفغانستان لتعود مجدداً تحت حكم «طالبان»، بنسختها الثانية. شكّل الانسحاب هزيمة لمشروع أميركا في بناء نظام حليف لها في كابل. إذ سرعان ما انهارت حكومة الرئيس أشرف غني وجيشها الذي أُنفقت مليارات الدولارات على تسليحه، أمام قوات الحركة الإسلامية.

احتفلت «طالبان» أخيراً بمرور ثلاث سنوات على عودتها إلى السلطة. استعرضت جيشاً مزوداً بآليات وطائرات وأسلحة مختلفة تركها وراءهم الأميركيون المنسحبون أو تم الاستيلاء عليها من ثكنات الجيش الأفغاني المنهار.

لم تشكل عودة «طالبان» إلى الحكم، في الواقع، مشكلة لكثير من الدول الغربية. فرغم الملاحظات المرتبطة بتطبيقها المتشدد للشريعة الإسلامية، بما في ذلك منع تعليم الفتيات بعد بلوغهن سناً معينة، فإن هذه الحركة نجحت في الحقيقة في فرض درجة عالية من الأمن في البلاد. قلّصت إلى حد كبير مساحات الأراضي المزروعة بالأفيون، المخدر الذي كان يغزو الأسواق الغربية. حاربت خلايا تنظيم «داعش – خراسان» الذي كان يتمدد في شرق البلاد على وجه الخصوص، ويشكل تهديداً خارجياً أيضاً.

«محاسن» الحركة هذه قابلها، في الحقيقة، قلق متزايد في الغرب من أن تعود أفغانستان، في ظل حكمها الجديد، كما كانت في الماضي: مأوى لخليط من الجماعات الإرهابية أو المتشددة.

شكّل كشف الأميركيين عن وجود أيمن الظواهري في كابل، في صيف عام 2022، أحد المؤشرات العلنية على وجود قلق غربي من عودة «القاعدة» إلى أفغانستان. فخليفة أسامة بن لادن على رأس «القاعدة»، كان يعيش في حي شيربور الراقي بالعاصمة الأفغانية، تحت حماية عناصر من «طالبان». كان من الطبيعي أن تثار شكوك حول أن شخصاً بحجم الظواهري لا يمكن أن يعيش في كابل إلا بمعرفة زعيم «طالبان»، الملا هبة الله أخوندزادة، تماماً كما كان وضع أسامة بن لادن وقادة تنظيمه عندما عاشوا في ظل حكم الملا عمر، زعيم «طالبان» السابق.

لكن ليس هناك ما يؤكد، في الحقيقة، أن أخوندزادة أذن باستضافة الظواهري، بل هناك من يؤكد أنه لم يكن يعرف بذلك، رغم أن الذي قدّم المأوى له قياديون في «طالبان». وكما هو معروف، إيواء الظواهري كان يمكن أن يشكل مخالفة لتعهدات قدمتها «طالبان» للأميركيين، في اتفاق الدوحة (عام 2020)، بأنها لن تسمح لأي جهة بأن تستخدم أراضيها للتخطيط لمؤامرات إرهابية إذا انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان.

في أي حال، طويت قضية الظواهري سريعاً. ضربة واحدة من طائرة أميركية بلا طيار كانت كفيلة بالقضاء عليه على شرفة شقته بكابل، فجر 31 يوليو 2022. «طالبان» المحرجة لم تؤكد مقتل الظواهري. فتحت تحقيقاً لم تعلن نتائجه رسمياً حتى اليوم. أما «القاعدة» فقد اختارت الصمت، ربما لتجنب إحراج مضيفيها الأفغان، وربما بناءً على نصيحة منهم.

الظواهري ليس وحيداً

لم يكن الظواهري بالتأكيد القيادي الوحيد من «القاعدة» الذي يعيش في ظل حكم «طالبان»، بنسخته الجديدة. إذ تكشف تقارير عديدة لخبراء من الأمم المتحدة، مختصين بأفغانستان، عن أن هذا البلد عاد مركز جذب لجماعات متشددة، بينها «القاعدة»، رغم أن «طالبان» تسعى إلى إبعاد ضيوفها عن دائرة الضوء، في خطوة من الواضح أنها تهدف إلى تجنب الإحراج أمام أطراف خارجية قادرة على عرقلة مساعيها لنيل اعتراف دولي بحكمها.

دخان يتصاعد في كابل عقب الضربة الأميركية التي أدت إلى مقتل أيمن الظواهري في 31 يوليو 2022 (أ.ف.ب)

يكشف التقرير الأخير لفريق مراقبة العقوبات على أفغانستان التابع للأمم المتحدة، والصادر في يوليو (تموز) 2024، عن أن «طالبان» لجأت إلى فرض «قيود على حركة أفراد (القاعدة) وجماعات مرتبطة به، وأرغمتهم على التقليل من ظهورهم في أفغانستان» رغم أن «العلاقة تبقى وثيقة (بين الطرفين)». ويشير التقرير، في هذا الإطار، إلى معلومات تفيد بأن «(القاعدة) يقوم بجهود مستمرة لإعادة تنظيم صفوفه، وتجنيد (عناصر)، والتدريب في أفغانستان»، لافتاً إلى تسجيل «حركة انتقال خفيفة باتجاه أفغانستان» لأشخاص على علاقة بـ«القاعدة».

يضيف التقرير أن «النية من وراء هذه النشاطات غير واضحة، وليس واضحاً (أيضاً) تبعات ذلك على قدرات (التنظيم). لكنَّ هذه النشاطات هي سبب لقلق كبير. إن عدد الجماعات الإرهابية التي تنشط في أفغانستان لم يتراجع»، مشيراً إلى أن «القاعدة وجماعات مرتبطة بها تعد دولة (أفغانستان) أرضاً صديقة».

صبر استراتيجي

ويتضمن تقرير الخبراء الأمميين المؤلَّف من 26 صفحة، معلومات عن تعاملات «القاعدة» مع مستضيفيها الأفغان. يقول: «تبقى (القاعدة) صبورة استراتيجياً، وتتعاون مع جماعات إرهابية أخرى في أفغانستان، وتعطي الأولوية لعلاقتها المستمرة مع (طالبان). تواصل هذه الجماعة العمل سراً بهدف إظهار صورة أن (طالبان) تلتزم بنود اتفاق الدوحة بخصوص منع استخدام أراضي أفغانستان لأغراض إرهابية».

لكن التقرير يضيف: «رغم الظهور المنخفض، تنشر (القاعدة) دعاية هدفها زيادة التجنيد (في صفوفها) في وقت تعمل فيه على إعادة بناء قدراتها العملياتية. إن قدرة (القاعدة) على شن هجمات ضخمة تبقى محدودة، لكن نيّتها تبقى صلبة، تُعززها قدرات جماعات مرتبطة بها على تنفيذ عمليات خارجية. ليس هناك تغيير (منذ تقرير الفريق الأممي السابق) في وضعية ولا مكان وجود أمير (القاعدة)، كما لم يحصل تغيير في قدرات الجماعة في أفغانستان».

ومعلوم أن التقرير السابق أشار، كما هو معروف، إلى معلومات تفيد بأن «أمير (القاعدة) الفعلي، سيف العدل (المصري محمد صلاح الدين عبد الحليم زيدان)، موجود في إيران، في حين أن هناك قادة آخرين، بينهم عبد الرحمن الغامدي، موجودون في أفغانستان».

يقدم التقرير الجديد، في يوليو الماضي، معلومات عن أدوار تلعبها قيادات «القاعدة» الموجودة في أفغانستان. إذ يقول إن «شخصيات (القاعدة) في أفغانستان تتواصل مع أمراء حرب، مروجي دعايات، مجندين وممولين»، مضيفاً أن «مدربين ذوي خبرة سافروا إلى أفغانستان لتقوية أمن الخلايا المنتشرة هناك. تعطي (القاعدة) الأولويات للتواصل وعمليات التجنيد، خصوصاً في أوساط أولئك الذين عملوا سابقاً إلى جانبها، أو كانوا أعضاء عملانيين، قبل أغسطس (آب) 2021»، وهو تاريخ عودة «طالبان» إلى سدة الحكم في كابل.

ويورد أيضاً معلومات عن مسعى قامت به «القاعدة» لـ«إقامة تعاون مع الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية التي تُعرف أيضاً باسم الحزب الإسلامي التركستاني، ومع جماعة أنصار الله، بهدف تكثيف النشاطات وتقوية موقعها ضمن هيكلية (طالبان) العسكرية في الشمال، (تمهيداً) لتنفيذ عمليات مشتركة ونقل مركز النشاط الإرهابي إلى آسيا الوسطى». و«جماعة أنصار الله»، هنا، هي جماعة طاجيكية تُعرف أيضاً بـ«طالبان الطاجيكية»، وتتخذ من ولاية باداخشان بشمال أفغانستان مقراً لها.

ويتضمن التقرير الأممي أيضاً معلومات مفادها أن «خلايا (القاعدة) تعمل في ولايات أفغانية عدة، خصوصاً في جنوب شرقي البلاد»، مشيراً إلى أن المقرات التابعة لهذا التنظيم تتولى على وجه الخصوص «تدريب مقاتلين محليين إلى جانب ناشطين في حركة (طالبان) الباكستانية»، متحدثاً عن «رصد مواقع لقواعد تدريب جديدة وبيوت آمنة في ولايات أفغانية مختلفة، بما في ذلك معسكرات سابقة في جلال آباد، وقندهار، وفي كونار، ونورستان وطاخار».

«القاعدة»... العودة إلى أفغانستان (الشرق الأوسط)

هرمية «القاعدة»

وبالنسبة إلى هرمية «القاعدة» في أفغانستان، يقول التقرير: «تطورت كتيبة عمر الفاروق تحت قيادة أبو إخلاص المصري، مع مجيء دفعة جديدة تضم بعض المقاتلين العرب. أبو إخلاص المصري تم وقفه حمائياً (الاعتقال بهدف الحماية) من المديرية العامة للاستخبارات في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، الأمر الذي عكس قلق (طالبان) من أن أجهزة استخبارات أجنبية كانت تبحث عنه». ويتابع: «عملاء آخرون لـ(القاعدة)، بينهم مهندسا أسلحة، أُخذا أيضاً للاعتقال بهدف الحماية أو تم إخفاؤهما من السلطات الفعلية في كابل».

وحسب التقرير، رُصد «وصول عدد من أعضاء (القاعدة) العرب إلى كونار ونورستان بهدف التدريب وتسهيل الاتصال بين محمد صلاح الدين عبد الحليم زيدان (الملقب سيف العدل) وبين شخصيات (القاعدة) الأساسية، ومع فرع (القاعدة) في شبه الجزيرة الهندية، ومع عناصر محددة من (طالبان). كما سُجّل وجود عبد العظيم بن علي، وهو عضو ليبي في (القاعدة) ينتمي إلى مجلس شورى أبو سليم في درنة، ليخدم في وزارة الداخلية (الأفغانية)، دون أن تكون له وظيفة واضحة، وتم منحه جوازاً أفغانياً باسمَي (عبد العظيم) و(علي موسى بن علي الدرسي)».

ومعلوم أن التقرير السابق لفريق الأمم المتحدة، لشهر يناير (كانون الثاني) 2024، أشار إلى وصول ستة ناشطين جدد من أفراد «القاعدة» إلى شرق أفغانستان للالتحاق بـ«كتيبة عمر الفاروق» التي يقودها أبو إخلاص المصري، كاشفاً عن أن هذا التنظيم أقام ثمانية معسكرات تدريب جديدة في أفغانستان، بما في ذلك في غزني ولغمان وبروان وأوروزغان، بالإضافة إلى قاعدة لتخزين السلاح في وادي بانشير.

ويضيف التقرير أن حكيم المصري، ومركزه في ولاية كونار، مسؤول عن معسكرات التدريب بما في ذلك «تدريب الانتحاريين» لمصلحة جماعة «طالبان» الباكستانية. ويورد التقرير أيضاً أن لـ«القاعدة» خمس مدارس (دينية) في لغمان وكونار وننغرهار ونورستان وبروان.

تعليمات للمقاتلين العرب بتجنب كابل

وكما يبدو، يثير الكشف عن وجود كل هؤلاء القادة الأجانب في أفغانستان قلق سلطات «طالبان» التي بدأت مسعى لتنظيم وجودهم. إذ يكشف تقرير الأمم المتحدة، لشهر يوليو الماضي، أن المديرية 31 في الاستخبارات الأفغانية، وهي المديرية المسؤولة عن التنسيق مع المقاتلين الأجانب، «أبلغت كل المقاتلين العرب بتجنب كابل وإلا واجهوا الاعتقال». وأضاف أن «طالبان» طلبت، رغم تعليماتها هذه، من أعضاء «القاعدة» أن يأتوا إلى العاصمة كي يتم تسجيلهم وأخذ معلومات عنهم وفق تقنية (بيومتريك)، فإن «شخصيات رفيعة من (القاعدة)» لم تأتِ.

في أي حال، يبدو أن قضية انتقال أعضاء من «القاعدة» إلى أفغانستان لم تعد سراً، رغم جهود «طالبان» لإبقاء الأمر بعيداً عن أعين وسائل الإعلام. وكان لافتاً، في هذا الإطار، أن سيف العدل، الذي يوصف بأنه «الأمير الفعلي» للتنظيم منذ مقتل الظواهري، خرج بمقالة نشرتها «مؤسسة السحاب»، الذراع الإعلامية لـ«القاعدة»، داعياً مناصري التنظيم إلى الالتحاق بأفغانستان. حضَّ سيف العدل في مقالته التي تحمل عنوان «هذه غزة: حرب وجود وليست حرب حدود»، المسلمين الراغبين في «التغيير» أن يذهبوا إلى أفغانستان «كي يتعلموا من ظروفها ويستفيدوا من تجربة (طالبان)».

ليست دعوة بريئة بلا شك. فسيف العدل، المقيم في إيران منذ سنوات طويلة، يفكر بالتأكيد في طريقة تسمح لتنظيمه بإعادة بناء نفسه واستقطاب مزيد من المقاتلين، تماماً كما فعلت «القاعدة» في تسعينات القرن الماضي عندما استخدمت أفغانستان قاعدة خلفية للتجنيد والتدريب والتخفي.

وإذا كان تقرير الخبراء الأمميين يشير إلى أن «نية (القاعدة)» لم تتغير وهي التحضير لمزيد من الهجمات الإرهابية انطلاقاً من أفغانستان»، فإن المؤكد أن «طالبان»، في المقابل، ما زالت ملتزمة، حتى الآن، تعهدها بألا تسمح باستخدام أفغانستان منطلقاً لمؤامرات إرهابية في الخارج. لا بد من الإشارة هنا أن التحضير لهجمات «القاعدة» في 11 سبتمبر 2001 أثار جدلاً داخل التنظيم نفسه حول جواز ذلك شرعاً دون إذن حركة «طالبان». فهل يكرر التاريخ نفسه اليوم؟

«درون» مسلحة بصواريخ مشابهة للتي استُخدمت لقتل زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري في كابل (الجيش الأميركي - أ.ب)

تهديد «القاعدة» في «أدنى مستوياته»

رغم القلق من مخاطر عودة «القاعدة» إلى أفغانستان، تبدو الولايات المتحدة مطمئنة إلى أن هذا التنظيم هو الآن في أضعف مراحله منذ انتقاله من السودان إلى أفغانستان عام 1996.

وقالت ناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية رداً على أسئلة «الشرق الأوسط»: «نقيّم أن قدرة (القاعدة) على تهديد الولايات المتحدة من أفغانستان أو باكستان هي ربما عند المستوى الأدنى منذ انتقال الجماعة إلى أفغانستان من السودان عام 1996».

وأضافت أن «الاهتمام الدائم والأكثر أهمية للولايات المتحدة في أفغانستان يتعلق بضمان أن هذا البلد لا يمكن أن يكون مرة ثانية منصة انطلاق لهجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة».

وعن مؤشرات عودة «القاعدة» إلى أفغانستان، قالت: «نتعامل انطلاقاً من مقاربة تشمل كل الحكومة الأميركية، وبالتعاون مع الشركاء والحلفاء، من أجل منع عودة ظهور التهديدات الخارجية من أفغانستان»، مضيفةً: «نضغط باستمرار على (حركة) طالبان من أجل التزام تعهداتها في مجال التصدي للإرهاب».

وأرسلت «الشرق الأوسط» إلى وزارة خارجية حكومة «طالبان» أسئلة تتعلق بالمزاعم عن عودة «القاعدة» إلى أفغانستان، لكنها لم تتلقَّ رداً مع نشر هذا التقرير.