«الحدث» وفروق التوقيت بين الممكن والمستحيل!

الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
TT

«الحدث» وفروق التوقيت بين الممكن والمستحيل!

الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)

الجدل الراهن حول «الذكاء الصناعي» لا يتعلق بإمكاناته أو آثاره في المستقبل فحسب، ولكن في تعثر «ميلاد منطق جديد» للعقل الإنساني، يستطيع أن يتعامل مع تحديات واقعنا المعاصر وتعقيداته. بمعنى أن المشكلة الحقيقية ليست فقط في مخاطر الذكاء الصناعي، وإنما فشلنا - حتى الآن - في اكتشاف الأسس الفكرية لعالمنا الجديد (داخل أنفسنا).

(1)

في مارس (آذار) الماضي، وقّع كثير من الشخصيات البارزة، منهم إيلون ماسك، على الرسالة المفتوحة الصادرة عن معهد مستقبل الحياة التي تطالب بوقف احترازي لمدة 6 أشهر: تطوير أنظمة الذكاء الصناعي الأكثر قوة.

وفقاً للفيلسوف سلافوي جيجيك، فإن «الذكاء الصناعي، على عكس الابتكارات التكنولوجية السابقة، لا يتعلق بسيادة الإنسان على الطبيعة، بل بالتخلي عن السيطرة تماماً. ذلك أن الفكرة الفوقية القديمة المتمركزة حول الإنسان، التي دعمتها التكنولوجيا، قد تفسح المجال قريباً لانعدام الأهمية البشرية، بل وانعدام معنى الهيمنة ذاته».

الذكاء الصناعي - في تصوري - هو الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من «الأحداث» غير المسبوقة، شملت الطبيعة (المناخ) والإنسان (السياسة) والتكنولوجيا، تطورت بسرعة جعلت «الوعي» بآثارها يبدو كأنه يجيء متثاقلاً (متأخراً في توقيته)، ناهيك بالتنبؤ بالأبعاد اللاحقة.

نخبة قليلة من الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين في العالم، منهم الشاعر الاستثنائي أدونيس، تنبهت إلى هذه المعضلة مبكراً، وأصدرت بياناً تاريخياً عام 1994 بعنوان «العبر مناهجية»، لخص مضمونه وأهدافه فيلسوف العلم بسراب نيكولسكو بقوله: «أحد جوانب الأزمة الراهنة للمعرفة، أننا ما زلنا نقر ونعمل مفاهيم وقيم أنموذج (قديم) لم يعد صالحاً للتعامل مع قضايا وإشكالات عالمنا المعاصر الذي يتميز بالترابط والتعقيد والتشبيك. إننا نعيش أزمة تنطوي على (مفارقة): التباعد المزداد بين نضج العقلية الإنسانية التي تتعامل مع الواقع ومشكلاته، والكتلة المعرفية المتراكمة التي تطورت (بسرعة) مذهلة في الربع الأخير من القرن العشرين».

تمثل ذلك في مجموعة من الظواهر والأحداث في العقود الأخيرة، لم يستوعبها (أو يتوقع حدوثها أصلاً) منطق العقل التقليدي، حتى صار مفهوم «الحدث» ذاته، أحد أبرز المفاهيم الاستراتيجية، الأكثر تداولاً بين النخب الفكرية.

«الحدث» - حسب آلان باديو - هو «نقطة التحول في العلاقة بين الممكن والمستحيل، وهو كل (بداية خالصة) تحدث ثقباً في نسيج معارفنا الراسخة».

وحلل دانيال سيبوني مفهوم «الحدث» من المنظور النفسي، في 3 أجزاء من كتابه المعنون «أحداث»، بقوله: «الحدث هو الاصطدام الذي يحدث مع الواقع، أو هو هذا اللّقاء الصّادم مع الواقع، إنّ الأحداث التي لا نتعجّب من وقوعها وإنّما من عدم تنبّئنا بوقوعها، تخفي في حقيقة الأمر ميلنا إلى أن نتوقّع حدوث (كلّ شيء)، حتّى لا يحدث (شيء)، فلا يحدث لنا (أيّ شيء)».

(2)

«الحدث» الأبرز الذي كشف عن «فروق التوقيت» بين الإنسان والطبيعة، كان «بركان آيسلندا» في أبريل (نيسان) عام 2010، لأنه أعاد النظر في مجمل الأفكار التي قامت عليها الحداثة الغربية، لا سيما فكرة مركزية الإنسان وسيادته على الطبيعة، أو قل إنه: البركان الذي عمق الهوة بين المنطق التقليدي في التفكير والواقع الجديد في القرن الحادي والعشرين.

أضف إلى ذلك أنه نبه الناس إلى أمر أساسي، يتم تغافله أو تناسيه غالباً، لخصه وقتئذ راي سواريز، كبير مراسلي برنامج «نيوز أور» الإخباري بقوله: «في اللحظة الراهنة، فإن الطبيعة تذكّر البشر بأن الخطط والنظم والجداول ينبغي عليها في بعض الأحيان أن تفسح المجال لكوكب يسير حسب التوقيت الخاص به». سحابة رماد بركان آيسلندا وآثارها على الاقتصاد العالمي، أعادت للأذهان تداعيات الإرهاب في 11 سبتمبر (أيلول). فقد نجم عن إلغاء رحلات الطيران لمدة 5 أيام، خسائر في مجال الصناعة بلغت أكثر من مليار دولار، كما بدأ بعض رجال الصناعة يطالبون بتعويضات من الحكومات الأوروبية ومن الاتحاد الأوروبي، بما يشبه الطريقة التي تم بها تعويض الشركات التجارية بعد توقف حركة الطيران في الولايات المتحدة عام 2001. لكن استجابة الحكومات والمؤسسات وقتئذ لهذا «الحدث» الطبيعي، جاءت مخيبة للتوقعات، مما تسبب في ظهور طائفة من الإشكالات الجديدة لم يتوقف الجدل حولها حتى كتابة هذه السطور، كأن «الحدث» بالمعنى الفلسفي - كما وصفه جاك دريدا - هو ما يفتح الباب أمام أحداث أخرى مقبلة مستقبلاً لا يمكننا توقعها أو التنبؤ بها.

فقد رفضت معظم شركات التأمين على السفر، دفع ملايين الدولارات تعويضاً عن الخسائر، وبررت ذلك بأن هذا «الحدث» كان «قضاء وقدراً»، ويخرج عن السيطرة البشرية، أي أنها تحايلت في تأويل الأساس القانوني الذي يسمح بالمساءلة البشرية. لذا اعتبرت هذه السابقة أول محاولة معاصرة، للتمييز بين الأحداث التي يسببها البشر، وتلك التي لا يسببها البشر بالمعنى القانوني، أو قل: إن فكرة المسؤولية - من الآن فصاعداً - قد تكون موزعة بين البشر وغيرهم (من غير البشر أو الأشياء).

وهو ما أدى إلى مراجعة جذرية لمبدأ «المسؤولية» وعلاقته بمفهوم «العدالة»، كما صاغته الحداثة الغربية، وتعتمده المجتمعات الليبرالية الحديثة التي تقوم أساساً على مبدأ أن «الفرد - الإنسان» وحده يتحمل المسؤولية.

اللافت هنا، أن بعض المؤسسات والهيئات الدولية بدأت بالفعل تتحول شيئاً فشيئاً عن تحمل المسؤولية، وفي بعض الأحيان تتفنن في إنكار فكرة المسؤولية كلياً.

في المقابل، فإن تطبيق المبدأ الليبرالي في مساءلة الفرد، أوشك أن يكون أمراً نسبياً مختلفاً عليه اليوم، وفي بعض الأحيان قد يطبق أو لا يطبق، حسبما اتفق.

فقد تم تطبيق هذا المبدأ حرفياً في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020، بعد أن دار الجدل في الكواليس حول: من يتحمل مسؤولية الخسائر التي تسبب فيها فيروس «كورونا»، وعلى من نلقي اللوم في مجابهة آثاره وتداعياته الصحية والاقتصادية (والسياسية)، هل الرئيس السابق ترمب وحده؟ أم أنه يمكن أن يتقاسم المسؤولية مع منظمة الصحة العالمية أو الصين؟

(3)

إنجاز الاتفاق السعودي - الإيراني بوساطة صينية في فبراير (شباط) الماضي، «الحدث» الأهم بالمعنى السياسي - الاستراتيجي هذا العام، لأنه شكل «نقطة التحول في العلاقة بين الممكن والمستحيل» في «التوقيت المناسب» لمصالح ورؤى وأهداف الأطراف الثلاثة.

وفي حال استمرار نجاحه وتكريسه، قد يفتح الباب على «أحداث أخرى» مقبلة في المنطقة والعالم، ما يثبت أن السياسة في النهاية اختيارات، وأن هناك بدائل دائماً، غير الصراعات والحروب التي أنهكت الشرق الأوسط.

في كتابها «الحرب: كيف شكلنا الصراع» 2020، خلصت المؤرخة الكندية مارغريت ماكميلان، من تحليلها للحرب العالمية عام 1914 إلى أهم نصيحة لعصرنا، تقول: «إذا أردنا توجيه أصابع الاتهام منذ القرن الحادي والعشرين، فبوسعنا إلقاء اللوم على أولئك الذين أخذوا أوروبا إلى الحرب في أمرين. أولاً، فشل الخيال في عدم التنبؤ بمدى الدمار الذي سيُنتجه مثل هذا الصراع، وثانياً، افتقارهم إلى الشجاعة للوقوف في وجه أولئك الذين جادلوا بأنه لم يعد هناك خيار سوى خوض الحرب. هناك دائماً خيارات». الدهشة (أو الصدمة) التي أعقبت «حدث» الاتفاق السعودي - الإيراني، وانتابت البعض، لا تكشف فقط عن «فروق التوقيت»، أو أن «هناك» من لا يزال مسكوناً بنماذج «قديمة» في التفكير انتهت صلاحيتها في التعامل مع الصراعات، وإنما أثبتت أنه «هنا»، تحديداً في قلب هذه البقعة الساخنة من العالم تنبثق ملامح منطق جديد للعقل، أصبح على استعداد للقيام بأشياء مختلفة، أو التعامل مع النزاعات بشكل مختلف في الألفية الثالثة.

القصة الحقيقية لنجاح الصين في الوساطة بين السعودية وإيران، ليست أهم ما في الموضوع - كما قال أحد الاستراتيجيين الثقات في واشنطن - وإنما فشلنا نحن في الغرب في رؤية هذا النجاح وفهمه «في التوقيت المناسب»!

لعل هذا ما دفع مركز «أتلانتيك كونسيل» في سابقة تحسب له، إلى القول: على الغرب أن يتعلم الدرس الصعب في تعامله مع دول الخليج، خصوصاً السعودية. توصيات المركز لصانعي السياسات في الغرب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في العلاقة مع الخليج هي الأهم - في تصوري - لا سيما تأكيدها ودون مواربة على ضرورة التكيف بشكل عملي مع نفوذ الصين الإقليمي المزداد.

* باحث مصري


مقالات ذات صلة

إيران تكشف عن «باليستي» ومسيّرة انتحارية مع تصاعد التوترات الإقليمية

شؤون إقليمية قائد الوحدة الصاروخية أمير علي حاجي زاده يتحدث إلى بزشكيان خلال مرور شاحنة تحمل صاروخ «عماد» الباليستي خلال عرض عسكري في طهران (أ.ف.ب)

إيران تكشف عن «باليستي» ومسيّرة انتحارية مع تصاعد التوترات الإقليمية

قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، إن بلاده ستمضي قدماً في توسع «قوة الردع»، وذلك خلال عرض عسكري سنوي بطهران شمل طائرة انتحارية، وصاروخاً باليستياً جديدين.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
شؤون إقليمية صورة نشرها إعلام «الحرس الثوري» من جولة تنغسيري بجزيرة أبو موسى اليوم

«الحرس الثوري»: قواتنا في أفضل حالاتها العملياتية بمضيق هرمز

قال قائد «الوحدة البحرية» في «الحرس الثوري»، علي رضا تنغسيري، إن قواته بمضيق هرمز «في أفضل حالاتها العملياتية» في خضم تصاعد التوترات مع إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
شؤون إقليمية صورة نشرتها وسائل إعلام إيرانية لفرقاطة «سهند» الأحد الماضي قبل أن تغرق بالكامل قبالة ميناء بندر عباس

الفرقاطة الإيرانية «سهند» تغرق بالكامل رغم جهود إعادة توازنها

ذكرت وسائل إعلام إيرانية أن الفرقاطة «سهند» غرقت بالكامل في مياه ضحلة، اليوم الثلاثاء، قبالة مضيق هرمز، بميناء بندر عباس جنوب البلاد.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
الاقتصاد سفينة تحمل حاويات تمر عبر قناة السويس (الموقع الإلكتروني لقناة السويس المصرية)

الاضطرابات في الممرات البحرية تُلقي بظلالها على أمن الطاقة العالمي

بينما تتجه الأنظار إلى البحر الأحمر للوقوف على حركة التجارة بعد ازدياد الهجمات على السفن العابرة، حذَّر متخصصون من التحديات التي تحيط بالممرات المائية بالمنطقة.

صبري ناجح (القاهرة)
شؤون إقليمية قوارب سريعة تابعة لـ«الحرس الثوري» خلال مناورات في جزيرة أبو موسى أغسطس الماضي (تسنيم)

«الحرس الثوري» يعلن استعراضا لـ«الباسيج البحري في محور المقاومة»

أعلن قائد بحرية «الحرس الثوري» علي رضا تنغسيري عن استعراض لـ«الباسيج البحري» في «دول محور المقاومة» الجمعة المقبل، لافتاً إلى أن قواته ستشارك بـ3 آلاف سفينة.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)

11 سبتمبر... ماضٍ أدمى العراق وحاضر يهدد أفغانستان

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
TT

11 سبتمبر... ماضٍ أدمى العراق وحاضر يهدد أفغانستان

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

فقدت ذكرى هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة، أهميتها مع مرور السنين، لكن آثارها لا تزال حية في منطقة الشرق الأوسط وجوارها.

من دفاتر الماضي، تستعيد «الشرق الأوسط» قصة لقاء «فاشل» استخدمه الرئيس الأميركي جورج بوش في تبرير غزو العراق. اللقاء كان في الخرطوم بين أسامة بن لادن، زعيم تنظيم «القاعدة»، وفاروق حجازي، رئيس العمليات الخارجية في مخابرات الرئيس العراقي صدام حسين، وبوساطة من القيادي الإسلامي السوداني حسن الترابي.

قبله بشهور، دخل الجناح السوري لـ«الإخوان المسلمين» على خط وساطة مشابهة، انتهت إلى «تكفير» بن لادن نظام «البعث» العراقي. صحيح أن موقفه في اللقاء مع حجازي لم يكن بالحدة ذاتها، لكن محاوره استنتج صعوبة «إدارة» علاقة مع رجل بطباع بن لادن، ونقل ذلك إلى صدام في بغداد، لينتهي المسعى. غير أن ذلك لم يمنع انضمام اللقاء إلى قائمة ذرائع الغزو الأميركي.

ومن وقائع الحاضر، ترصد «الشرق الأوسط» نذر تكرار لتجربة «القاعدة» في جبال تورا بورا بأفغانستان، في ظل النسخة الثانية من حكم حركة «طالبان». صحيح أن التنظيم يبدو عاجزاً عن شن هجمات ضخمة بحجم «غزوتي نيويورك وواشنطن»، أو الإعلان عن هوية زعيمه الجديد خلفاً لأيمن الظواهري، رغم مرور أكثر من سنتين على مقتله، لكن تقارير أممية حديثة تؤكد أن التنظيم يقوم حالياً بإعادة بناء صفوفه بعدما أقام سلسلة معسكرات تدريب ومدارس دينية في أفغانستان، مما يشكل تهديداً جديداً للبلاد.