الولايات المتحدة تُطلق أكبر استراتيجية حكومية للذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي

قراءة في التحوّلات الجديدة وأبعادها على المنطقة العربية

 حين تصبح المستشفيات شبكة واحدة... يقودها عقلٌ رقميّ واحد
حين تصبح المستشفيات شبكة واحدة... يقودها عقلٌ رقميّ واحد
TT

الولايات المتحدة تُطلق أكبر استراتيجية حكومية للذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي

 حين تصبح المستشفيات شبكة واحدة... يقودها عقلٌ رقميّ واحد
حين تصبح المستشفيات شبكة واحدة... يقودها عقلٌ رقميّ واحد

في لحظةٍ لم يعد فيها الذكاءُ الاصطناعي ترفاً تقنياً ولا موجةً عابرة من وادي السيليكون، اتخذت واشنطن خطوة تُشبه انتقال الطب من عصر الورق إلى عصر ما بعد البيانات. ففي الرابع من ديسمبر (كانون الأول) 2025، كشفت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية (HHS) عن أول استراتيجية حكومية كبرى لدمج الذكاء الاصطناعي في جسد النظام الصحي الأميركي بالكامل - وثيقة من عشرين صفحة لا تُراجع أدوات التكنولوجيا فحسب، بل تعيد تعريف معنى الرعاية الطبية، وكيف تُدار، وكيف تُوزَّع، وكيف تُراقَب.

ولعل المفارقة أن هذا التحوّل الهائل، الذي قد يغيّر شكل الطب خلال العقد المقبل، مرّ بهدوءٍ شبه تام في الإعلام العربي، رغم أنه يحمل تحديات وفرصاً قد تمسّ المنطقة العربية قبل غيرها... من بنية المستشفيات إلى سيادة البيانات، ومن تدريب الأطباء إلى شكل العيادات في مدن المستقبل.

وكيل وزير الصحة الأميركي يعلن الاستراتيجية

من التجربة إلى البنية التحتية: ماذا تكشف الاستراتيجية الأميركية؟

لا تتعامل واشنطن مع الذكاء الاصطناعي بوصفه برنامجاً تجريبياً أو أداةً تُضاف إلى رفّ التقنيات الطبية؛ بل بوصفه طبقة تشغيلية جديدة ستستقر في قلب النظام الصحي، كما تستقر الكهرباء في الجدران والإنترنت في المستشفيات. لذلك جاءت الاستراتيجية بخمسة مسارات تشكّل — إذا اكتملت — ملامح الجيل الجديد من الطب الأميركي:

1. حوكمة صارمة تُعرّف المخاطر قبل وقوعها، عبر معايير واضحة للاستخدام الآمن والشفاف، تمنع الانحياز وتحدّ الأخطاء الخوارزمية.

2. بنية رقمية موحّدة تُعيد ترتيب الفوضى التاريخية للبيانات الصحية، وتخلق منظومة قابلة للتكامل بين المستشفيات، وشركات الدواء، والباحثين.

3. تمكين العاملين الصحيين عبر أدوات ذكية تُخفّف العبء المتراكم من السجلات، وتسرّع القرار الطبي، وتعيد للطبيب جزءاً من وقته المسروق.

4. تسريع البحث والتطوير الدوائي من خلال نماذج تنبؤية قادرة على محاكاة التجارب السريرية، واكتشاف مؤشرات المرض قبل ظهوره في الواقع.

5. تعزيز الصحة العامة بإنشاء رادارات رقمية قادرة على التقاط بوادر الأوبئة وتحليل أنماط الأمراض، قبل أن تتحوّل إلى موجات متأخرة يصعب احتواؤها.

هذه ليست مجرد خطة حكومية جديدة، ولا مبادرة تقنية تُضاف إلى أرشيف السياسات؛ إنها إعادة تنظيم جذرية قد تغيّر الطريقة التي تُصنع بها الأدوية، وتُتابَع بها الحالات، وتُدار بها المستشفيات، وتُفهم بها الصحة العامة في القرن الحادي والعشرين.

لماذا يُعدّ هذا التحوّل حدثاً عالمياً؟

لأن ما يحدث في واشنطن لا يبقى داخل حدودها؛ فالنظام الصحي الأميركي — بعمقه العلمي، وحجمه الاقتصادي، وقدرته على تشكيل معايير العالم — يشبه حجراً ضخماً يُلقى في بحيرة الطب العالمية، لتتداعى أمواجه إلى كل القارات. وحين تعلن مؤسسات بحجم المعاهد الوطنية للصحة (NIH) ومراكز مراقبة الأمراض (CDC) وإدارة الغذاء والدواء (FDA) أنها ستُدخل الذكاء الاصطناعي في عملها اليومي، فهذا يعني عملياً إعادة كتابة قواعد اللعبة الطبية:

الاكتشاف الدوائي قد يقفز سنوات إلى الأمام، مع خوارزميات قادرة على غربلة ملايين الجزيئات في أيام بدل سنوات.

التشخيص سيصبح أدق وأعمق بفضل نماذج تتعلّم من مخزون لا ينضب من السجلات الطبية والصور والإشارات الحيوية.

لمسة الإنسان... وبداية عصر الذكاء الاصطناعي الصحي

إن الأوبئة قد تُرصد قبل أن تتكاثر، من خلال تحليلات تنبؤية تراقب الأنماط الخفية التي لا تراها العين البشرية. كما أن هيئات الصحة العالمية نفسها قد تعيد ترتيب معاييرها، إذ درج العالم لعقود على تبنّي السياسات الأميركية في الأدوية والأجهزة والمعايير السريرية... وهذا التحوّل لن يكون استثناءً.

بهذا المعنى، فإن الاستراتيجية الأميركية ليست وثيقة داخلية، بل حدث نظامي عالمي سيُعيد تشكيل طبّ المستقبل، وربما يفرض على الدول — ومن ضمنها دول المنطقة العربية — التفكير بطريقة جديدة في البنية الصحية والسياسات والتنظيم.

تساؤلات داخلية: بين الحماسة والقلق

ورغم موجات الترحيب التي رافقت الإعلان، فإن الاستراتيجية الأميركية لا تأتي بلا ظلال. فهي تفتح — داخل الولايات المتحدة نفسها — باباً واسعاً أمام أسئلةٍ تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تقف على تخوم أخطر ما في الطب: الثقة.

من يحمي البيانات الصحية للمواطنين؟ وكيف يمكن ضمان ألا تتحوّل السجلات الطبية إلى مادة للاقتصاد الرقمي؟

هل يمكن للخوارزمية أن تخطئ؟ وإذا حدث الخطأ - كما حدث في تجارب سابقة - فمن يتحمّل المسؤولية: الشركة أم الطبيب أم النظام الصحي؟

ما حدود نفوذ شركات التقنية الكبرى؟ وهل ستصبح القرارات الصحية مرهونة بخوارزميات لا يعرف أحد كيف بُنيت؟

وكيف يمكن تفادي تحيّز النماذج الذكية؟ إذ أثبتت دراسات أميركية أن البيانات غير المتوازنة قد تُنتج قرارات تمييزية دون قصد.

إنها أسئلة لا يمكن تجاوزها، لأن مستقبل الطب — مهما تقدّم — لا يقوم على التكنولوجيا وحدها، بل على ثقة المريض وطمأنته بأن ما يرى الطبيب على الشاشة هو امتدادٌ لضميره، لا لاحتمالات خوارزمية غامضة.

ما الذي تعنيه هذه الخطوة للعالم العربي؟

في المنطقة العربية، تتقدّم دول مثل السعودية والإمارات بخطى لافتة نحو بناء منظومات «صحة ذكية»، لكن الإعلان الأميركي لا يمرّ عابراً؛ فهو يطرح سؤالاً أكبر من حدود التكنولوجيا: هل تحتاج المنطقة إلى استراتيجية وطنية، وربما إقليمية، موحّدة للذكاء الاصطناعي الصحي؟

فالعالم يدخل حقبة جديدة يُعاد فيها تعريف الطب من جذوره: طبٌّ يُبنى على البيانات لا الملفات الورقية، وعلى التنبؤ لا ردّ الفعل، وعلى الخوارزميات التي توسّع رؤية الطبيب لا التي تستبدل بها اجتهاده. وإذا كانت واشنطن تعيد اليوم صياغة مستقبلها الصحي، فإن منطقتنا — بخاصة دول الخليج — قد تجد نفسها أمام لحظة تقرير مشابهة، تفرض أربعة مسارات واضحة:

* بناء سجلات صحية موحّدة تُصبح الغذاء الأساسي للنماذج الذكية في المستشفيات والعيادات.

* تطوير أطر أخلاقية وقانونية تحمي خصوصية المريض وتمنع سوء استخدام البيانات.

* الاستثمار في نماذج لغوية وطبية عربية تفهم الجينات، واللغة، والسياقات الاجتماعية لشعوبنا، بدل الاعتماد على نماذج مستوردة لا تعي خصوصيتنا.

* رسم استراتيجية مشتركة تجمع الجامعات والهيئات الصحية وصنّاع القرار لتطوير أدوات تشخيصية ووقائية محلية، تُعيد للمنطقة دورها في الابتكار لا الاستهلاك.

إن مستقبل الذكاء الاصطناعي الصحي في العالم العربي لن يُبنى بقرارات تقنية فقط، بل برؤية تعدّ البيانات ثروة وطنية، والبنية الرقمية جزءاً من الأمن الصحي، والابتكار مسؤولية مشتركة بين الحكومات والمجتمع العلمي

الموجة الثانية لتقنية عملاقة - حكومية

إن ما فعلته واشنطن ليس مجرّد إعلان تقني، ولا خطوة بيروقراطية في أرشيف وزارة الصحة؛ إنه تأسيس لمرحلة جديدة من تاريخ الطب، مرحلة تلتقي فيها السياسة مع العلم، ويقف فيها الإنسان جنباً إلى جنب مع الخوارزمية، كلٌّ يختبر حدود الآخر. لقد انطلقت الموجة الأولى من الذكاء الاصطناعي من الشركات الناشئة، من مختبرات وادي السيليكون ومنصّات التقنية العملاقة؛ لكن الموجة الثانية — الأعمق والأخطر والأوسع تأثيراً — تنطلق الآن من الحكومات نفسها، من المؤسسات التي تنظّم العلاج، وتراقب الدواء، وتُحدّد ما يعنيه «الأمان» و«العدالة» و«المسؤولية» في الرعاية الصحية.

وفي هذا التحوّل، لا يعود السؤال المركزي: كيف سيبدو الطب بعد عشر سنوات؟ بل يصبح سؤالاً أكثر جرأة وقلقاً: هل ستكون أنظمتنا الصحية — في العالم العربي — جاهزة لاستقبال هذا المستقبل قبل أن يفرض نفسه؟ هل نملك البنية الرقمية، والمعايير الأخلاقية، والكوادر المؤهلة، والرؤية المشتركة التي تجعل الذكاء الاصطناعي أداة قوة لا مصدر تبعية؟

إن الذكاء الاصطناعي، مهما تعقّد، ليس مستقبلاً تقنياً فحسب؛ إنه اختبار حضاري. اختبار لقدرتنا على أن نجعل التكنولوجيا امتداداً لضمير الطبيب لا امتداداً لهيمنة الشركات، وأن نجعل الخوارزمية وسيلة لتحرير الوقت الإنساني لا لاستنزافه، وأن نبني طبّاً يقترب أكثر من الإنسان... لا يبتعد عنه. وكما قال الفيلسوف الدنماركي كيركغارد: «المستقبل لا يُكتشف، بل يُصنع». وما تفعله الولايات المتحدة اليوم هو صناعة مستقبلها الصحي. ويبقى السؤال المفتوح أمام منطقتنا: هل سنكون شركاء في صناعة هذا المستقبل... أو متلقّين له؟


مقالات ذات صلة

صادرات تايوان تحقق في نوفمبر أسرع نمو لها منذ 15 عاماً ونصف العام

الاقتصاد حاويات ومعدات بميناء كيلونغ في تايوان (رويترز)

صادرات تايوان تحقق في نوفمبر أسرع نمو لها منذ 15 عاماً ونصف العام

شهدت صادرات تايوان نمواً فاق التوقعات، مسجلة أسرع وتيرة نمو لها منذ 15 عاماً ونصف العام في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

«الشرق الأوسط» (تايبيه)
الاقتصاد شعار «غوغل» على هاتف ذكي أمام علم الاتحاد الأوروبي في بروكسل (أ.ف.ب)

الاتحاد الأوروبي يحقق مع «غوغل» بشأن استخدام المحتوى لتدريب الذكاء الاصطناعي

أعلنت المفوضية الأوروبية يوم الثلاثاء أن شركة «غوغل»، التابعة لشركة «ألفابت»، تواجه تحقيقاً من قِبل الاتحاد الأوروبي لمكافحة الاحتكار.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
الاقتصاد الرئيس التنفيذي لشركة «إنفيديا» إلى جانب ترمب بالبيت الأبيض في 30 أبريل (أ.ف.ب)

«إنفيديا» تربح معركة الصين... ترمب يفتح لها الباب لبيع رقائق الذكاء الاصطناعي

مهّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب الطريق لشركة «إنفيديا» لبيع رقائقها القوية للذكاء الاصطناعي إلى الصين، مما يُمثل انتصاراً للشركة ورئيسها.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
تحليل إخباري رموز لعملة «البتكوين» المشفرة (رويترز)

تحليل إخباري «البتكوين»... رحلة «الأفعوانية» في 2025 قد تنتهي بتسجيل أول تراجع سنوي منذ 2022

كان عام 2025 بمثابة رحلة «أفعوانية» لعملة البتكوين التي باتت مهددة بإنهاء العام بتسجيل أول تراجع سنوي لها منذ عام 2022.

«الشرق الأوسط» (لندن)
تكنولوجيا ثغرات أمنية قد تهدد ثقة المستخدمين بمتصفحات الذكاء الاصطناعي

عصر «المتصفح الوكيلي»: زيادة في الكفاءة على حساب المخاطر الأمنية؟

تتجاوز المتصفحات المدعومة بالذكاء الاصطناعي AI Browsers وظيفتها التقليدية كأدوات لعرض صفحات الإنترنت، لتصبح طبقة تنسيق ذكية تعتمد على نماذج اللغة الكبيرة.

خلدون غسان سعيد (جدة)

منهج جينومي جديد يُسرّع تشخيص الأمراض النادرة في بريطانيا

منهج جينومي جديد يُسرّع تشخيص الأمراض النادرة في بريطانيا
TT

منهج جينومي جديد يُسرّع تشخيص الأمراض النادرة في بريطانيا

منهج جينومي جديد يُسرّع تشخيص الأمراض النادرة في بريطانيا

يشهد علم الجينوم نقلة نوعية غير مسبوقة مع ظهور منهجين متكاملين أحدثا فرقاً ملموساً في حياة مئات العائلات التي تكافح لفهم الأسباب الحقيقية وراء حالات وراثية نادرة.

منهج جينومي

وفي حين أعلن علماء معهد ويلكوم سانغر وجينوميكس إنغلاند في المملكة المتحدة عن تطوير منهج جينومي قادر على كشف طفرات بنيوية معقّدة طالما استعصت على الفحوص التقليدية، أظهرت دراسة ثانية من مستشفى «غريت أورموند ستريت» في لندن أن إدخال تسلسل الجينوم الكامل ضمن خدمات هيئة الصحة البريطانية NHS ساعد الأطفال المصابين بالأمراض النادرة على الوصول إلى التشخيص والرعاية المناسبة بشكل أسرع من أي وقت مضى.

وترسم هذه التطورات المتزامنة ملامح مرحلة جديدة في فهم الجينوم البشري، قائمة على رؤية أوسع للطفرات الوراثية وقدرة أعلى على تفسير الحالات المعقدة التي كانت تُعدّ «لغزاً طبياً» لسنوات طويلة.

كشف الطفرات البنيوية وإعادة رسم حدود التشخيص

تركز الاختبارات الجينية التقليدية على الطفرات الصغيرة التي تصيب قاعدة واحدة في الحمض النووي لكنها غالباً ما تُخفق في كشف الطفرات البنيوية Structural Variants وهي تغيّرات واسعة تشمل حذفاً أو تكراراً أو إعادة ترتيب لمقاطع طويلة من الجينوم تزيد على 50 قاعدة.

وقد تكون هذه الطفرات السبب الأساسي لاضطرابات عصبية أو نمائية أو جسدية لكنها تظل «غير مرئية» عندما يُحلَّل الجينوم على شكل مقاطع صغيرة متفرقة.

وقد شبّه الباحثون الأمر مجازياً بمحاولة قراءة كتاب تمزقت جُمله إلى قصاصات صغيرة قد نفهم جزءاً من القصة لكن الصورة الكاملة تبقى ناقصة.

مشروع «مائة ألف جينوم»

من هنا جاء المنهج الجديد الذي اعتمد على تحليل بيانات 13 ألفاً و700 فرد من الآباء والأطفال ضمن مشروع مائة ألف جينوم. ومن خلال خوارزميات متقدمة تمكن الفريق من اكتشاف 1870 طفرة بنيوية، كثير منها لم يكن قابلاً للكشف سابقاً. كما اتضح أن واحدة من كل ثماني طفرات معقّدة ومتشابكة وهي الأصعب رصداً بالفحوص السريرية التقليدية.

وقاد هذا التحليل العميق إلى تحديث أو تقديم تشخيصات جديدة لـ145 طفلاً بينهم نحو 60 يحملون طفرات بنيوية معقدة لم يكن بالإمكان اكتشافها من قبل.

وقال الدكتور هيونتشول جونغ المؤلف الأول للدراسة من معهد ويلكوم سانغر في المملكه المتحده في الورقة البحثية المنشورة في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 عبر دورية Nature Communications إن هذا المنهج يتيح لنا رؤية بنية الجينوم بعمق غير مسبوق. ولم نعد نكتفي بمعرفة وجود حذف أو تكرار بل نفهم كيفية تفاعل هذه التغيّرات معاً وكيف تؤثر على بيولوجيا المريض.

وأضاف أن هذه الخطوة تفتح الباب أمام عصر جديد في تشخيص الأمراض الوراثية النادرة وتفسيرها. ونحن الآن نرى بنية الجينوم بطريقة لم تكن ممكنة سابقاً. ولم نعد نبحث فقط عمّا إذا كان هناك حذف أو تكرار بل نفهم كيف تتفاعل هذه التغيّرات معاً وتؤثر على وظيفة الجينات.

التشخيص المبكر... قوة تُعيد الأمل للعائلات

وفي موازاة هذا التقدّم العلمي اللافت كشفت دراسة حديثة أخرى من مستشفى غريت أورموند ستريت للأطفال في لندن ونُشرت في Genetics in Medicine في 2 ديسمبر (كانون الأول) 2025 عن نتائج تحمل بارقة أمل لآلاف العائلات. وقد بيّنت الدراسة أن اعتماد تسلسل الجينوم الكامل ضمن خدمات هيئة الصحة البريطانية لم يُسرّع فقط عملية التشخيص بل رفع دقته بشكل ملحوظ في حالات كانت تُعَدّ من أكثر الأمراض ندرة وتعقيداً.

وحلّل الباحثون بيانات 500 طفل خضعوا للفحص عبر خدمة الطب الجينومي وقارنوها ببيانات 2.000 طفل من مشروع «الجينومات المائة ألف». وكانت المفاجأة أن معدل التشخيص ارتفع من 22 في المائة إلى 29 في المائة، وأن الأطفال باتوا يحصلون على تشخيص واضح قبل عامين كاملين من العمر الذي كان يحدث فيه ذلك سابقاً وهي فترة حاسمة في حياة طفل يعاني من مرض وراثي غامض.

ووصفت الدكتورة إيما ويكلينغ استشارية الوراثة السريرية والمسؤولة عن الدراسة هذا التطور بأنه «تحوّل جذري في مسار الرعاية». وقالت إن الرؤى التي قدمها مشروع المائة ألف جينوم مكّنتنا من إعادة تشكيل خدماتنا، إذ إن التشخيص المبكر لا يمنح العائلات وضوحاً فحسب بل يمكّننا من التدخل في اللحظة المناسبة ومنح الأطفال أفضل فرصة ممكنة للرعاية والعلاج.

وأوضحت ويكلينغ أن قوة هذا الفحص لا تكمن فقط في نتائجه الأولية، بل أيضاً في إمكانية إعادة تحليل البيانات مستقبلاً كلما كشفت الأبحاث عن تغيّرات جينية جديدة. مضيفة أن هذا يعني أن العائلات التي لا تمتلك اليوم خيارات علاجية قد تحصل غداً على إجابات... وربما علاجات.

بهذا التقدم يبدو أن علم الجينوم لا يقدّم تشخيصاً مبكراً فحسب بل يفتح باباً واسعاً للأمل ولرحلة جديدة تقود إلى فهم أدقّ وعلاج أسرع للأطفال الأكثر هشاشة.

مستقبل الطب الجينومي

يجمع المنهجين: منهج كشف الطفرات البنيوية المعقدة، والتشخيص المبكر عبر تسلسل الجينوم الكامل، خيط واحد؛ هو الرغبة في بناء صورة أكثر شمولاً لجينوم الإنسان.

هذه الصورة الموسّعة ستسمح بفهم أفضل لمسار الأمراض النادرة وتوقع المضاعفات قبل حدوثها ثم تصميم علاجات شخصية ودقيقة، وأخيرا إعادة تحليل البيانات مستقبلاً مع اكتشاف طفرات جديدة.

وتؤكد البروفسورة دام سو هيل كبيرة المسؤولين العلميين في هيئة الصحة البريطانية أن الطب الجينومي يمنح العائلات بارقة أمل ويقدم للأطفال تشخيصاً أوضح وأسرع، وهو ما يفتح الباب لرعاية أكثر فاعلية.

ومع تطور أدوات تحليل الجينوم يصبح من الواضح أن النظر إلى ما هو أبعد من الطفرات الصغيرة وإلى الطفرات البنيوية الواسعة قد يكون المفتاح لفهم ما ظل لسنوات خارج نطاق التفسير العلمي.

ولكثير من العائلات، فإن مجرد الحصول على إجابة هو نقطة تغيير كبرى وبداية رحلة جديدة نحو فهم الواقع وتخفيف القلق ووضع خطوات واضحة للمستقبل.


الذكاء الاصطناعي يكشف هشاشة العظام قبل بدء الألم

ذكاء اصطناعي يشارك الأطباء قراءة فحوصات التصوير المقطعي المحوسب
ذكاء اصطناعي يشارك الأطباء قراءة فحوصات التصوير المقطعي المحوسب
TT

الذكاء الاصطناعي يكشف هشاشة العظام قبل بدء الألم

ذكاء اصطناعي يشارك الأطباء قراءة فحوصات التصوير المقطعي المحوسب
ذكاء اصطناعي يشارك الأطباء قراءة فحوصات التصوير المقطعي المحوسب

لم تكن الأشعة المقطعية التي تُعرف طبياً باسم «التصوير المقطعي المحوسب» (CT) يوماً مصمّمة للكشف عن هشاشة العظام؛ إذ كانت فحوصاً عابرة تُجرى للصدر أو البطن أو الكلى، ثم تُنسى في الأرشيف، كما تُنسى تفاصيل يوم مزدحم.

لكن جامعة نيويورك كشفت هذا الشتاء أن في هذه الصور أسراراً أخرى... أسراراً لم تُخلق عينٌ بشرية لرؤيتها، لكن الذكاء الاصطناعي يلتقطها بسهولة مدهشة.

صورة قديمة ترصد المرض

في الدراسة الرائدة التي أطلقها مركز لانغون هيلث بجامعة نيويورك NYU Langone Health في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي حلّل الباحثون 538946 فحصاً مقطعياً لعدد ضخم من المرضى بلغ 283499 شخصاً.

وباستخدام نموذج ذكاء اصطناعي مُدرَّب على قراءة الفقرات الصدرية والقطنية، استطاع الفريق اكتشاف علامات مبكرة لهشاشة العظام من صور لم تُلتقط أصلاً لهذا الغرض.

والفكرة بسيطة وصادمة: الفحص الذي أجريته قبل عامين... قد يحتوي إنذاراً لم يلتفت إليه أحد.

وما تقترحه الدراسة ليس تقنية جديدة فقط، بل طريقة جديدة لرؤية الإنسان؛ إذ إن الصورة الطبية لم تعد حدثاً لحظياً، بل أرشيفاً صحياً قابلاً للتحليل كلما تطور العلم.

وهذا التحوّل هو ما يجعل الذكاء الاصطناعي يتفوق في الرعاية الوقائية؛ إنه لا يعيد قراءة الصورة فقط، بل يعيد قراءة الماضي كله.

في غرفة الأشعة ذكاء اصطناعي يقرأ العمود الفقري

العظام تتكلم والخوارزمية تنصت

تكشف الدراسة أن عدداً كبيراً من المرضى الذين ظهرت هشاشة العظام لديهم لاحقاً، كانت لديهم دلائل واضحة للضعف في فحوص قديمة.

لم يرها أحد، لا لأن الأطباء قصّروا، ولكن لأن العين البشرية - مهما بلغت خبرتها - ليست آلة مسح للآلاف من الطبقات الصورية.

وهنا يأتي السؤال الذي يفتح باب المستقبل: كم من الأمراض ما زالت مختبئة في صورٍ لم تُقرأ بعد؟ وكم من الصحة يمكن إنقاذها لو أعدنا قراءة الماضي بعقل رقمي؟

تصريح حصري

وفي حديث خاص لـ«الشرق الأوسط»، يقول البروفسور مايكل ريخت (Michael P. Recht)، رئيس قسم الأشعة في مركز لانغون هيلث:

«ما نراه هنا يتجاوز هشاشة العظام... نحن نعيد قراءة التاريخ الصحي للمريض.

كل فحص قديم هو فرصة ذهبية للكشف المبكر، لو أُتيح للذكاء الاصطناعي أن يراجع الأرشيف». ويضيف: «خلال السنوات القادمة، سيكون لكل مريض أرشيفٌ يُعاد تحليله دورياً دون فحوص إضافية أو تكاليف جديدة... الذكاء الاصطناعي سيحوّل الماضي الطبي إلى مستقبل قابل للإنقاذ».

البروفيسور مايكل ريخت

لماذا يهم هذا الاكتشاف العالم العربي؟ لأن هشاشة العظام تُصيب واحدة من كل ثلاث نساء وواحداً من كل خمسة رجال فوق سن الخمسين في العالم العربي، ولأن معظم المرضى لا يُكتشف مرضهم إلا بعد الكسر الأول... حين يفوت الأوان.

تصوّر لو أن أنظمة الصحة لدينا تعيد تحليل فحوص المرضى تلقائياً وتبعث لهم رسالة مبكرة: «عظامك تضعف... تعالج الآن قبل الألم».

هذا هو الذكاء الاصطناعي الذي لا يزاحم الطبيب... بل ينقذ ما يضيع في الصمت.

وتفتح هذه الدراسة الباب أمام ثورة أوسع لتدقيق صور الأشعة السينية، الرنين المغناطيسي، التصوير المقطعي، السونار؛ إذ إنها كلها يمكن أن تتحوّل إلى «ذاكرة صحية» تعاد قراءتها سنوياً للكشف المبكر عن السرطان وأمراض القلب وهشاشة العظام والاضطرابات العصبية.

إنها فلسفة رعاية جديدة... رعاية تتذكّر ما ينساه الإنسان.

إن الذكاء الاصطناعي يوفر قدرة غير مسبوقة: سرعة بلا حدود، ذاكرة لا تُنسى، ودقة تتجاوز العين البشرية. لكن يبقى السؤال الأخلاقي حاضراً: هل نملك الشجاعة لاستخدام هذه القوة بحكمة؟

وهل تستطيع الأنظمة الصحية التقليدية أن تتسع لهذا المستقبل؟

فالصور القديمة لا تكشف هشاشة العظام فقط، بل تكشف أيضاً هشاشة النظام الذي يعتمد على ذاكرة بشرية محدودة.

وقد أعادت دراسة جامعة نيويورك صياغة العلاقة بين الطبيب والصورة الطبية؛ إذ لم تعد الصورة لحظة ولا وثيقة منسية، بل بيانات حيّة يُعاد تحليلها كلما تطور العلم. وهذه بداية عصر جديد يرى فيه الطبّ الماضي... لينقذ المستقبل.


مسار جديد لعلاج سرطان الكبد العدواني

سرطان القنوات الصفراوية
سرطان القنوات الصفراوية
TT

مسار جديد لعلاج سرطان الكبد العدواني

سرطان القنوات الصفراوية
سرطان القنوات الصفراوية

حدد فريق من العلماء الدوليين استراتيجية جديدة واعدة لعلاج سرطان القنوات الصفراوية، وهو شكلٌ نادرٌ من سرطان الكبد ولكنه عدواني، وخيارات علاجه محدودة جداً حالياً.

سرطان صامت ومقاوم

ويشتهر سرطان القنوات الصفراوية بتأخر تشخيصه وضعف استجابته للعلاجات المتاحة. وكذلك فإن أقل من ثلث المرضى مؤهلون للجراحة، وتبقى معدلات النجاة ضئيلة حتى بعد إزالة الأورام.

ودفع هذا الواقع القاسي الباحثين إلى دراسة طرق جديدة لمكافحة هذا المرض. ووجدوا أن حجب بروتين يسمى «سي إن إن إم 4» (CNNM4) بالاقتران مع طرق توصيل متقدمة تعتمد على الحمض النووي الريبي، يمكن أن يوفر علاجاً آمناً وموجهاً لهذا المرض المدمر.

وتأتي هذه النتائج من دراسة قادتها الدكتورة ماريا لوز مارتينيز شانتار، من مركز دراسة أمراض الكبد والجهاز الهضمي، بمعهد كارلوس الثالث الوطني للصحة، في مدريد بإسبانيا، ونُشرت في المجلة الطبية «Gut» في 17 سبتمبر (أيلول) 2025.

ومع قلة خيارات العلاج المتاحة لمرض سرطان القنوات الصفراوية «cholangiocarcinoma» -أو (CCA)- وبقاء معدلات النجاة منخفضة بشكل كبير، يُقدم هذا البحث أملاً جديداً للمرضى والأطباء على حد سواء.

وينشأ سرطان الأقنية الصفراوية في القنوات الصفراوية بالكبد، ومن المعروف أن من الصعب علاجه. ولأن الأعراض لا تظهر عادة إلا في المراحل المتأخرة، فعادة ما يتم تشخيص المرض في وقت متأخر جداً لإجراء عملية جراحية، وهو الخيار العلاجي الوحيد المحتمل. وحتى عندما تكون الجراحة ممكنة تكون معدلات الانتكاس مرتفعة. وغالباً ما يكون للعلاج الكيميائي تأثير محدود. ولا يتأهل سوى 20 إلى 30 في المائة فقط من المرضى للخضوع للجراحة، ولا يزال البقاء على قيد الحياة على المدى الطويل نادراً.

وقد دفعت هذه التوقعات القاتمة فريق البحث إلى استكشافxz مسارات بيولوجية جديدة يمكن استخدامها في العلاج.

استهداف بروتيني

4وكان بروتين «سي إن إن إم 4» (CNNM4) هدفاً جديداً؛ إذ حددت الدراسة هذا البروتين مسؤولاً عن نقل المغنيسيوم داخل الخلايا وخارجها، كمحرك رئيسي في تطور سرطان القنوات الصفراوية. ففي المرضى الذين يعانون سرطان القنوات الصفراوية، وُجد أن هناك زيادة مفرطة ومستمرة في إنتاج هذا البروتين.

وتمكَّن الباحثون من إبطاء نمو الورم من خلال منع البروتين، وبذلك قللوا أيضاً من مقاومة العلاج الكيميائي، ومنعوا الخلايا السرطانية من الانتشار. كما أن استعادة التوازن المناسب للمغنيسيوم أدى إلى تحفيز عملية التسمم الحديدي (ferroptosis) (هو نوع من الموت المبرمج للخلايا يعتمد على الحديد، ويتميز بتراكم البيروكسيدات الدهنية) وهي آلية طبيعية تدمر الخلايا السرطانية بشكل انتقائي، ما يجعل الأورام أكثر حساسية للعلاجات التقليدية.

وتشرح الدكتورة ناروا غويكوتكسيا من جمعية مركز البحوث التعاونية في العلوم البيولوجية الإسبانية، والمؤلفة الأولى للدراسة، قائلة إن هذه النتائج تسلط الضوء على كيفية استهداف نقطة ضعف التمثيل الغذائي للخلايا السرطانية التي يمكن أن تصبح استراتيجية علاجية قوية.

مسار علاجي واعد

وبالإضافة إلى تحديد الحمض النووي الريبي الدقيق هدفاً، اختبر الباحثون نظام توصيل مبتكر يقوم على الحمض النووي الريبي، ويعرف باسم تقنية «GalNAc siRNA» وهو نظام ذكي لتوصيل الدواء.

ويوصل النظام جزيء سكر صغيراً (GalNAc) إلى الحمض النووي الريبي المتداخل الصغير «Small interfering RNA» -أو (siRNA)- (هو فئة من جزيئات الحمض النووي الريبي غير المشفرة ذات السلسلة المزدوجة) بحيث يتم توجيه العلاج مباشرة إلى خلايا الكبد، وكأنه مثل «الرمز البريدي» للدواء. وهذا يجعل العلاجات أكثر دقة وفعالية، وبآثار جانبية أقل.

وبناء على قول الدكتورة مارتينيز-تشانتار، فإن عمل الفريق لا يكشف عن مسار علاجي واعد فحسب؛ بل يوضح أيضاً إمكانية الجمع بين البيولوجيا الجزيئية وتقنيات توصيل الأدوية المتطورة، للاقتراب من الطب الشخصي.

وتضمن المشروع تعاوناً وثيقاً بين كثير من المؤسسات الدولية. كما أنه يشكل جزءاً من شبكة العمل الأوروبي التي تعزز التعاون في مكافحة سرطانات القنوات الصفراوية.

ومن خلال الجمع بين الخبرة في بيولوجيا الأورام والتمثيل الغذائي الخلوي والتقنيات العلاجية المتقدمة، تمثل الدراسة تقدماً كبيراً في معالجة أحد أكثر أشكال سرطان الكبد فتكاً.

وتشير النتائج إلى مسار واضح لتطوير علاجات مستهدفة لسرطان الخلايا السرطانية في الكبد، رغم وجود حاجة إلى إجراء مزيد من البحوث والتجارب السريرية. ويمكن أن يؤدي الجمع بين حجب بروتين «سي إن إن إم 4» واستخدام أنظمة توصيل الحمض النووي الريبي الدقيقة، إلى منح المرضى علاجات أكثر أماناً وفاعلية، مصممة خصيصاً لبيولوجيتهم.

وبالنسبة لسرطان تكون فيه الخيارات محدودة، ونتائج النجاة منه ضعيفة، يقدم هذا الاكتشاف الجديد خطوة حيوية إلى الأمام. والأمل مع استمرار مثل هذا التعاون الدولي، هو أن السرطانات النادرة والعدوانية -مثل سرطان القنوات الصفراوية- لن تبقى بعيدة عن متناول الطب الفعال.