حملات عالمية لـ«محو أمية» الذكاء الاصطناعي

قوانين أميركية وأوروبية لتطوير مهارات التفكير النقدي وتقييم استخدامه المناسب

حملات عالمية لـ«محو أمية» الذكاء الاصطناعي
TT
20

حملات عالمية لـ«محو أمية» الذكاء الاصطناعي

حملات عالمية لـ«محو أمية» الذكاء الاصطناعي

مع ازدياد توظيف التكنولوجيا في الحياة اليومية، يواجه الباحثون والمعلمون عقبتين متميزتين: تعليم الناس كيفية استخدام هذه الأدوات بمسؤولية بدلاً من الاعتماد عليها بشكل مفرط، مع إقناع المتشككين في الذكاء الاصطناعي بتعلم ما يكفي عن التكنولوجيا ليكونوا مواطنين مطلعين، حتى لو اختاروا عدم استخدامها، كما كتبت جاكي سنو(*).

هدف نشر الذكاء الاصطناعي

الهدف لا يتعلق بمجرد محاولة «إصلاح» نماذج الذكاء الاصطناعي من هفواتها وهلوساتها، التي تقول عنها ماريا دي أرتيغا، الأستاذة المساعدة في كلية ماكومبس لإدارة الأعمال بجامعة تكساس في أوستن: «إن النماذج لا تفشل. نحن الذين نستخدم النماذج لأشياء لا تصلح للغرض المقصود منها».

بل إن الهدف هو التعرف على أوجه القصور في الذكاء الاصطناعي وتطوير المهارات اللازمة لاستخدامه بحكمة. وهذا يُذكِّرنا بكيفية اضطرار مستخدمي الإنترنت الأوائل إلى تعلم كيفية التنقل عبر المعلومات عبر الإنترنت، إذ إنهم فهموا في النهاية أنه في حين قد تكون «ويكيبيديا» نقطة انطلاق جيدة للبحث، فلا ينبغي الاستشهاد بها كمصدر أساسي. وكما أصبحت معرفة القراءة والكتابة الرقمية ضرورية للمشاركة في الحياة الحديثة، فإن معرفة القراءة والكتابة في مجال الذكاء الاصطناعي أصبحت أساسية لفهم وتشكيل مستقبلنا.

هلوسة الذكاء الاصطناعي

في قلب هذه الحوادث المؤسفة للذكاء الاصطناعي، تقبع الهلوسة والتشوهات التي تدفع نماذج الذكاء الاصطناعي إلى توليد معلومات كاذبة بثقة ظاهرية. وهذه المشكلة منتشرة على نطاق واسع: في إحدى الدراسات التي أجريت عام 2024، أخطأت برامج المحادثة الآلية في الاستشهادات الأكاديمية الأساسية بنسبة تتراوح بين 30 في المائة و90 في المائة من الوقت، مما أدى إلى تشويه عناوين الأوراق البحثية وأسماء المؤلفين وتواريخ النشر.

بينما تَعِد شركات التكنولوجيا بإمكانية ترويض هذه الهلوسة من خلال هندسة أفضل، تقول دي أرتيغا إن الباحثين يجدون أنها قد تكون أساسية لكيفية عمل التكنولوجيا. وتشير إلى ورقة بحثية من OpenAI -شركة «أوبن إيه آي» التي خلصت إلى أن نماذج اللغة «المعايرة جيداً» يجب أن تهلوس كجزء من عمليتها الإبداعية. وإذا جرى تقييدها لإنتاج معلومات واقعية فقط، فإنها ستتوقف عن العمل بشكل فعال. وتضيف دي أرتيغا: «من وجهة نظر رياضية وفنية، هذا هو ما صُممت النماذج للقيام به».

قوانين تعليمية لمحو «أمية الذكاء الاصطناعي»

مع اعتراف الباحثين بأن هلوسات الذكاء الاصطناعي أمر لا مفر منه وأن البشر يميلون بطبيعة الحال إلى وضع كثير من الثقة في الآلات، يتدخل المعلمون وأصحاب العمل لتعليم الناس كيفية استخدام هذه الأدوات بشكل مسؤول.

وقد أقرَّت ولاية كاليفورنيا أخيراً قانوناً يتطلب دمج التعرف وتعليم الذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية من الروضة حتى الصف الثاني عشر بدءاً من هذا الخريف. كما يتطلب قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي، الذي دخل حيز التنفيذ في 5 فبراير (شباط) الحالي، من المنظمات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في منتجاتها تنفيذ برامج معرفة الذكاء الاصطناعي.

يقول فيكتور لي، الأستاذ المشارك في كلية الدراسات العليا للتربية بجامعة ستانفورد: «معرفة الذكاء الاصطناعي مهمة للغاية الآن، خصوصاً أننا نحاول معرفة السياسات، وما الحدود، وما الذي نريد قبوله بوصفه الوضع الطبيعي الجديد. في الوقت الحالي، يتحدث الأشخاص الذين يعرفون أكثر بثقة كبيرة، وهم قادرون على توجيه الأمور، وهناك حاجة إلى مزيد من الإجماع المجتمعي».

ويرى لي أوجه تشابه مع كيفية تكيف المجتمع مع التقنيات السابقة: «فكر في الآلات الحاسبة - حتى يومنا هذا، لا تزال هناك انقسامات حول متى تستخدم الآلة الحاسبة في الروضة حتى الصف الثاني عشر، وما يجب أن تعرفه مقابل ما يجب أن تكون الآلة الحاسبة مصدراً للأشياء»، كما يقول. ويضيف: «مع الذكاء الاصطناعي، نجري نفس المحادثة غالباً مع الكتابة كمثال».

تدريب على المهارات وفهم أعمق للتكنولوجيا

وبموجب القانون الجديد في كاليفورنيا، يتعين على تعليم معرفة الذكاء الاصطناعي أن يشمل فهم كيفية تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي وتدريبها، وتأثيراتها المحتملة على الخصوصية والأمن، والآثار الاجتماعية والأخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي. ويذهب الاتحاد الأوروبي إلى أبعد من ذلك، حيث يطلب من الشركات التي تنتج منتجات الذكاء الاصطناعي تدريب الموظفين المناسبين على «المهارات والمعرفة والفهم التي تسمح للمزودين والموزعين والأشخاص المتضررين... بنشر أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل مستنير، فضلاً عن اكتساب الوعي بالفرص والمخاطر التي يفرضها الذكاء الاصطناعي والأضرار المحتملة التي يمكن أن يسببها».

ويؤكد الإطاران أن معرفة الذكاء الاصطناعي ليست مجرد معرفة تقنية بل تتعلق بتطوير مهارات التفكير النقدي لتقييم الاستخدام المناسب للذكاء الاصطناعي في مجالات وسياقات مختلفة.

تسويق «سحري»

وفي خضمّ هجوم تسويقي من شركات التكنولوجيا الكبرى، فإن التحدي الذي يواجه المعلمين معقَّد. وتُظهِر الأبحاث الحديثة المنشورة في «مجلة التسويق» Journal of Marketing، أن الأشخاص الذين لديهم فهم أقل للذكاء الاصطناعي هم في الواقع أكثر عرضة لاحتضان التكنولوجيا، واعتبارها سحرية تقريباً. ويقول الباحثون إن هذا الرابط بين «انخفاض معرفة القراءة والكتابة والاستقبال الأعلى» للتكنولوجيا يشير إلى «أن الشركات قد تستفيد من تحويل جهودها التسويقية وتطوير المنتجات نحو المستهلكين الذين لديهم معرفة أقل بالذكاء الاصطناعي».

ويقول المعلمون إن الهدف ليس إضعاف الانفتاح على التكنولوجيا الجديدة، بل الجمع بينها وبين مهارات التفكير النقدي التي تساعد الناس على فهم إمكانات الذكاء الاصطناعي وحدوده. وهذا مهم بشكل خاص للأشخاص الذين يفتقرون إلى القدرة على الوصول إلى التكنولوجيا، أو الذين يشككون ببساطة في الذكاء الاصطناعي أو يخشونه.

بالنسبة إلى الباحث لي، فإن النجاح في محو أمية الذكاء الاصطناعي يتطلب رؤية السحر فيه. يقول: «يغذّي القلق وعدم اليقين الكثير من الشكوك أو عدم الرغبة في تجربة الذكاء الاصطناعي. إن رؤية أن الذكاء الاصطناعي هو في الواقع مجموعة من الأشياء المختلفة، وليس جهاز كمبيوتر حساساً يتحدث، وأنه ليس حتى يتحدث حقاً، بل مجرد يلفظ الأنماط المناسبة، هو جزء مما قد يساعد على محو أمية الذكاء الاصطناعي في غرسه».

تطوير مناهج تدريس الذكاء الاصطناعي

في جامعة مدينة نيويورك يقود لوك والتزر، مدير مركز التدريس والتعلم في مركز الدراسات العليا بالمدرسة، مشروعاً لمساعدة أعضاء هيئة التدريس في تطوير مناهج لتدريس محو أمية الذكاء الاصطناعي ضمن تخصصاتهم.

يقول والتزر إن الطلاب يحتاجون إلى فهم أن هذه الأدوات لها أساس مادي - فهي مصنوعة من رجال ونساء، ولها آثار في العمل، ولها تأثير بيئي».

ويعمل المشروع «CUNY»، المدعوم بمنحة قدرها مليون دولار من «غوغل» مع 75 أستاذاً على مدار ثلاث سنوات لتطوير أساليب التدريس التي تدرس آثار الذكاء الاصطناعي عبر مجالات مختلفة. وسيتم توزيع المواد والأدوات التي تم تطويرها من خلال المشروع علناً حتى يتمكن المعلمون الآخرون من الاستفادة من عمله. يقول والتزر: « ثلاث سنوات تسمح للأمور بالاستقرار. سنكون قادرين على رؤية المستقبل بوضوح أكبر».

مناهج جامعية

تنتشر مثل هذه المبادرات بسرعة عبر التعليم العالي. إذ تهدف جامعة فلوريدا إلى دمج الذكاء الاصطناعي في كل تخصص جامعي وبرنامج دراسات عليا. وابتكرت كلية بارنارد نهجاً «هرمياً» يبني تدريجياً معرفة الطلاب بالذكاء الاصطناعي من الفهم الأساسي إلى التطبيقات المتقدمة. وفي كلية كولبي، وهي كلية خاصة للفنون الليبرالية في ولاية ماين، يعزز الطلاب معرفتهم بالقراءة والكتابة باستخدام بوابة مخصصة تتيح لهم اختبار ومقارنة روبوتات الدردشة المختلفة.

ووفقاً لبحث أجراه مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة، فقد أطلقت نحو 100 جامعة وكلية مجتمعية شهادات الذكاء الاصطناعي، مع زيادة منح الدرجات العلمية في المجالات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي بنسبة 120 في المائة منذ عام 2011.

فصل مزاعم التسويق عن الحقائق

بالنسبة إلى معظم الناس، فإن تعلم كيفية التنقل في الذكاء الاصطناعي، يعني فرز ادعاءات التسويق للشركات مع القليل من التوجيه. على عكس الطلاب الذين سيحصلون قريباً على تعليم رسمي في مجال الذكاء الاصطناعي، يجب على البالغين أن يكتشفوا بأنفسهم متى يثقون في هذه الأدوات المنتشرة بشكل متزايد - ومتى يتم بيعها بشكل مفرط من الشركات الحريصة على استرداد استثمارات الذكاء الاصطناعي الضخمة.

يحدث هذا التعلم الذاتي بسرعة، فقد وجدت «لينكد إن» أن العاملين يضيفون مهارات معرفة الذكاء الاصطناعي مثل الهندسة السريعة والكفاءات مع أدوات مثل «تشات جي بي تي» بمعدل خمسة أضعاف تقريباً من المهارات المهنية الأخرى.

دورات لشركات التكنولوجيا

مع محاولة الجامعات والمشرعين مواكبة ذلك، تقدم شركات التكنولوجيا فصولها وشهاداتها الخاصة. فقد أعلنت «نفيديا» أخيراً عن شراكة مع كاليفورنيا لتدريب 100000 طالب ومعلم وعامل في مجال الذكاء الاصطناعي، بينما تقدم شركات مثل «غوغل» و«أمازون Services» برامج شهادة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها.

وتهدف شركة «إنتل» إلى تدريب 30 مليون شخص على مهارات الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، بالإضافة إلى دورات مهارات الذكاء الاصطناعي المجانية عبر الإنترنت التي تقدمها مؤسسات مثل جامعة هارفارد وجامعة بنسلفانيا، يمكن للأشخاص أيضاً تعلم أساسيات الذكاء الاصطناعي من شركات مثل «آي بي إم» و«مايكروسوفت» و«غوغل».

وتقول دي أرتيغا: «إن معرفة الذكاء الاصطناعي تشبه معرفة القراءة والكتابة الرقمية -إنها شيء حقيقي. ولكن من الذي ينبغي أن يعلمك ذلك؟ ستحب شركتا (ميتا) و(غوغل) أن تعلماك وجهتي نظريهما حول الذكاء الاصطناعي».

بدلاً من الاعتماد على الشركات ذات المصلحة في بيعك فائدة الذكاء الاصطناعي، يقترح الخبراء البدء بأدوات الذكاء الاصطناعي في المجالات التي تتمتع فيها بالخبرة، حتى تتمكن من التعرف على فائدتها وحدودها. قد يستخدم المبرمج الذكاء الاصطناعي للمساعدة في كتابة التعليمات البرمجية بكفاءة أكبر مع القدرة على اكتشاف الأخطاء وقضايا الأمان التي قد يغفلها المبتدئ.

يكمن المفتاح في الجمع بين الخبرة العملية والتوجيه من أطراف ثالثة موثوقة يمكنها تقديم معلومات غير متحيزة حول قدرات الذكاء الاصطناعي، خصوصاً في المجالات ذات المخاطر العالية مثل الرعاية الصحية والتمويل والدفاع.

إن معرفة الذكاء الاصطناعي لا تتعلق فقط بكيفية عمل النموذج أو كيفية إنشاء مجموعة بيانات، فالأمر يتعلق بفهم مكانة الذكاء الاصطناعي في المجتمع. الجميع -من الأطفال إلى المتقاعدين- لديهم مصلحة في هذه المحادثة، ونحن بحاجة إلى التقاط كل هذه وجهات النظر.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».

حقائق

بين 30 و90 %

من الوقت أخطأت برامج المحادثة الآلية في الاستشهادات الأكاديمية الأساسية مما أدى إلى تشويه عناوين الأوراق البحثية وأسماء المؤلفين وتواريخ النشر وفق إحدى الدراسات التي أُجريت عام 2024

حقائق

100

جامعة وكلية مجتمعية أميركية تقريباً تُصدر شهادات الذكاء الاصطناعي


مقالات ذات صلة

جهاز ذكي يكشف عن مؤشرات الخرف مبكراً

يوميات الشرق الجهاز يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل حركات الجسم أثناء أداء مهام إدراكية وحركية (جامعة ميسوري)

جهاز ذكي يكشف عن مؤشرات الخرف مبكراً

طوّر باحثون من جامعة ميسوري الأميركية جهازاً محمولاً يعمل بالذكاء الاصطناعي للمساعدة في الكشف المبكر عن الاختلال المعرفي المعتدل.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
تكنولوجيا أشخاص يمرون أمام شعار «بايدو» خارج مقر الشركة في بكين (أ.ف.ب)

«بايدو» تُطلق نموذجَي ذكاء اصطناعي مجانيين لمنافسة «ديب سيك»

أطلقت شركة الإنترنت الصينية العملاقة «بايدو»، اليوم (الأحد)، نموذجَين جديدَين مجانيَّين للذكاء الاصطناعي التوليدي، مدمجين في روبوت المحادثة الخاص بها «إرني بوت.

«الشرق الأوسط» (بكين)
يوميات الشرق يحلل النموذج الجديد 22 نوعاً رئيسياً من مسارات أيض الهرمونات (جامعة أوساكا)

الذكاء الاصطناعي يكشف عن عمرك الحقيقي بـ5 قطرات دم

كشفت دراسة جديدة أجراها باحثون من جامعة أوساكا اليابانية، عن نموذج للذكاء الاصطناعي يمكنه تقدير العمر البيولوجي الحقيقي للشخص من خلال خمس قطرات فقط من الدم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
الاقتصاد شعار «أوبن إيه آي» أمام صورة إيلون ماسك في رسم توضيحي (رويترز)

«أوبن إيه آي» وماسك يتفقان على تسريع محاكمة بشأن تحول الشركة إلى الربح

اتفقت «أوبن إيه آي» وإيلون ماسك على تسريع محاكمة بشأن تحول الشركة للربح، وهو أحدث تطور في خلاف بين أغنى رجل بالعالم وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لـ«أوبن إيه آي».

«الشرق الأوسط» (أوكلاند (كاليفورنيا))
تكنولوجيا عبارة الذكاء الاصطناعي تظهر إلى جانب لوحة مفاتيح وروبوت في صورة مركبة (رويترز)

الذكاء الاصطناعي لا يزال غير قادر على معرفة الوقت وفهم التقويم

وجد باحثون أن الذكاء الاصطناعي لا يزال عاجزاً عن أداء «المهام الأساسية» مثل معرفة الوقت أو فهم التقويم.

«الشرق الأوسط» (لندن)

ثورة في جراحة العظام: كيف تحسّن «الغرسات المطبوعة» زراعة المفاصل؟

تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد حققت قفزات متوالية في مجال جراحة العظام (جامعة برنو للتكنولوجيا)
تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد حققت قفزات متوالية في مجال جراحة العظام (جامعة برنو للتكنولوجيا)
TT
20

ثورة في جراحة العظام: كيف تحسّن «الغرسات المطبوعة» زراعة المفاصل؟

تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد حققت قفزات متوالية في مجال جراحة العظام (جامعة برنو للتكنولوجيا)
تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد حققت قفزات متوالية في مجال جراحة العظام (جامعة برنو للتكنولوجيا)

مع التطور السريع في تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، شهد قطاع الرعاية الصحية تحولاً جذرياً في تصنيع الغرسات الطبية، لا سيما في جراحة العظام واستبدال المفاصل.

وتتيح هذه التقنية إنتاج غرسات مخصصة تتناسب مع البنية التشريحية لكل مريض، مما يعزّز الراحة ويُسرّع عملية الشفاء. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات تتعلّق بمتانة المواد المستخدمة وتجانس خصائصها الميكانيكية، وهذا قد يؤثر في كفاءة وأمان هذه الغرسات على المدى الطويل.

تطوير صيني

في هذا السياق، توصل فريق بحثي من مختبر مواد «سونغشان ليك» في الصين إلى تطوير أول ركبة اصطناعية في العالم مصنوعة بالكامل بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بالليزر التي حصلت رسمياً على موافقة إدارة المنتجات الطبية الوطنية في الصين بصفتها جهازاً طبياً مبتكراً. وركز الفريق في دراسته على تحسين قوة وثبات سبائك «الكوبالت-الكروم-الموليبدينوم» (CoCrMo) المستخدمة في زراعة المفاصل، التي تُصنَّع باستخدام تقنية الانصهار بالليزر، وهي إحدى طرق الطباعة ثلاثية الأبعاد التي تتيح تصنيع هياكل دقيقة ومخصصة للمرضى.

غير أن هذه التقنية تُنتج مواد ذات بنية متباينة الخصائص الميكانيكية، حيث أظهرت الاختبارات الأولية أن الغرسات كانت أكثر مرونة في اتجاه معين مقارنة بآخر، مما يؤدي إلى تفاوت في القوة الهيكلية ويؤثر في أدائها الطبي.

لمعالجة هذه المشكلة، طبّق الفريق عملية معالجة حرارية من خطوتَيْن، الأولى تضمّنت تسخين المادة إلى 1150 درجة مئوية لمدة ساعة واحدة، ثم تبريدها سريعاً بالماء؛ مما أدى إلى إعادة تبلور الحبيبات المعدنية وتحسين انتظام بنيتها، أما الأخرى فشملت إعادة تسخين المادة إلى 450 درجة مئوية لمدة 30 دقيقة؛ مما عزّز توازن الخصائص الميكانيكية، وقضى على التباين بين الاتجاهات المختلفة في المادة.

وبعد تطبيق هذه المعالجة الحرارية، أظهرت الاختبارات تحسّناً ملحوظاً في قوة الغرسات ومرونتها، حيث تساوت تقريباً قيم الاستطالة القصوى في جميع الاتجاهات. كما ساعدت هذه العملية في التخلص من العيوب البنيوية وتكوين حبيبات متجانسة، وهذا ما عزّز مقاومة الغرسات للتآكل والإجهاد الميكانيكي. ونُشرت النتائج في عدد 4 مارس (آذار) 2025 من دورية «Materials Futures».

تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد ساهمت في تحسين نتائج جراحات العظام (مستشفى تامبا العام بالولايات المتحدة)
تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد ساهمت في تحسين نتائج جراحات العظام (مستشفى تامبا العام بالولايات المتحدة)

غرسات مخصصة

يقول الباحث الرئيسي للدراسة من مختبر مواد «سونغشان ليك» في الصين، الدكتور تشانغوي سونغ، إن الطباعة ثلاثية الأبعاد تتيح تصنيع غرسات طبية مخصصة وفقاً للقياسات التشريحية الدقيقة لكل مريض، مما يعزّز التوافق مع العظام ويقلّل المضاعفات.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن تقنية الانصهار بالليزر تتيح التحكم الدقيق في البنية المجهرية، ما يسمح بتكوين هياكل معقّدة يصعب تحقيقها بطرق التصنيع التقليدية مثل الصب أو التشكيل. كما توفّر كفاءة إنتاجية أعلى من خلال تسريع عمليات التصنيع وتقليل الفاقد من المواد، مقارنة بالأساليب التقليدية.

ونوه بأن الغرسات الجديدة تتمتع بمتانة وموثوقية أعلى، مما يقلّل من مخاطر الكسر أو الفشل في أثناء الاستخدام المطوّل. كما أن تحسين بنية المعدن يُسهم في توزيع الإجهادات بالتساوي، ما يجعل الغرسة أكثر قدرة على تحمّل الضغوط المختلفة بكفاءة أكبر، وهذا يقلّل الحاجة إلى عمليات استبدال متكررة. كما يساعد التصميم المخصص والهيكل المحسّن على تقليل الالتهابات والرفض المناعي، مما يسرّع تعافي المرضى بعد الجراحة.

وتوقّع سونغ أن تُحدث الطباعة ثلاثية الأبعاد تحولاً كبيراً في تصنيع الغرسات العظمية، إذ تتيح إنتاج غرسات مخصصة بدقة تتناسب مع البنية العظمية لكل مريض. ومستقبلاً، قد يؤدي دمج المواد الحيوية مع الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى تطوير غرسات تتكامل مع أنسجة الجسم بشكل طبيعي.

قفزات تقنية

وحقّقت الطباعة ثلاثية الأبعاد قفزات متوالية في مجال جراحة العظام. ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2024، طوّر باحثون من جامعة تكساس في دالاس تقنية طباعة ثلاثية الأبعاد منخفضة التكلفة، لإنشاء نماذج واقعية لعظم الفخذ لدى البشر، يمكن أن تساعد الأطباء في التحضير للعمليات الجراحية لإصلاح العظام وتطوير علاجات لأورام العظام.

وتهدف هذه التقنية إلى توفير بديل أقل تكلفة وأسرع للاختبارات البيوميكانيكية، مقارنة بالعظام الاصطناعية التقليدية أو العظام المتبرع بها. وتتكوّن النسخة المطبوعة من حمض «البولي لاكتيك»، وهو بوليمر حيوي منخفض التكلفة وقابل للتحلل، يتميز بخصائص بيوميكانيكية مماثلة للعظام البشرية، حيث تبلغ تكلفة كل نسخة نحو 7 دولارات فقط. كما أشار الباحثون إلى إمكانية استخدام هذه العظام المطبوعة في إصلاح العظام أو اختبار علاجات الأورام، بل ربما في زراعة أنسجة عظمية بشرية مستقبلاً.

كما طوّر فريق بحثي من جامعة واترلو الكندية في أغسطس (آب) 2024، مادة جديدة تحاكي خصائص أنسجة العظام، مما يفتح المجال لاستخدامها في الطباعة ثلاثية الأبعاد لإنتاج رقع عظمية مخصصة للمرضى الذين يحتاجون إلى ترميم أو جراحة إعادة بناء العظام.

وتوفّر هذه التقنية بديلاً مبتكراً للغرسات المعدنية والعظام المتبرع بها التي قد لا تتناسب تماماً مع تشريح المريض أو قد يرفضها الجسم. وتتكون المادة الجديدة من مركب نانوي حيوي يتمتع بقوة ميكانيكية عالية وقابلة للطباعة، مع إمكانية تحوله لاحقاً إلى نسيج عظمي طبيعي داخل الجسم؛ مما قد يقلّل من الحاجة إلى عمليات جراحية متكررة.

وكان فريق من جامعة نيو ساوث ويلز في سيدني بأستراليا، نجح في يناير (كانون الثاني) 2021، في تطوير حبر حيوي يمكن استخدامه في الطباعة ثلاثية الأبعاد للعظام مباشرة داخل جسم المريض، دون الحاجة إلى درجات حرارة عالية أو مواد كيميائية قاسية. يعتمد هذا الابتكار، المسمى «COBICS»، على طباعة مادة فوسفات الكالسيوم الحيوية التي تتحول إلى مصفوفة نانوية مسامية تحاكي بنية العظام الطبيعية عند وضعها في حمام هلامي بدرجة حرارة الجسم. وقد أظهر الحبر توافقاً حيوياً عالياً، حيث استطاعت الخلايا الالتصاق به والتكاثر بنسبة نجاح بلغت 95 في المائة بعد الطباعة.

ووفق الباحثين، يمثّل هذا النهج تقدماً كبيراً في إصلاح العظام التالفة بسبب الإصابات أو السرطان. ويُجري الفريق حالياً اختبارات لتقييم قدرة الطباعة على إصلاح الجروح العظمية الكبيرة، ويخطط للتعاون مع الجراحين وأطباء الأسنان لاستكشاف التطبيقات الطبية لهذه التقنية.