الفن روح لا تموت

الفن روح لا تموت
TT
20

الفن روح لا تموت

الفن روح لا تموت

كتب ليوناردو دافنشي عبقري الفنون الكلاسيكية ذات مرة: «الجسد الجميل يفنى، لكن العمل الفني الجميل لا يموت». عندما تذهب إلى المتحف وتنظر إلى قطعة فنية وتسلم روحك لها، فقد تشعر وكأنك في عالم آخر. لا تعرف كيف، ولا أين، لكنك قد يلفت نظرك أن التحف الفنية ليست جزءاً من هذا العالم المادي. إنها جمال يتجاوز عوالمنا الحسية، ويتجاوز عالم التكنولوجيا الذي أصبحنا مستعبدين له، شعرنا بذلك أو لم نشعر. مؤخراً تصالحت التكنولوجيا مع الفن من خلال الفن الرقمي، غير أن هذا لا يبدو كافياً. إننا نعلم أن عالم التكنولوجيا سيزول معنا حين نزول، وسيزول معنا عالمنا المليء بالضجيج. لسنا هنا لنعيش إلى الأبد. البشر وآلاتهم سوف يموتون. لكن لا موت في الفن، ولا موت لروحه الخالدة.

عندما يتحدث الناس عن الفن، فإنهم يقفزون إلى التفاصيل، فيسألون عن أول من أنجز عملاً فنياً مميزاً، ومن هم المبدعون في كل فن، وكيف أتتهم هذه الموهبة، وهل يمكن تعلمها. إنها أسئلة صادرة عن طريق «التفكير الحسابي» على حد وصف هايدغر. هذا النوع من الأسئلة لا يفيد كثيراً؛ لأنها تبدو كنقاش يدور في عقل تكنولوجي. عالم يسعى إلى تحديد وتعريف وترسيم كل شيء، كأنما هو في درس جغرافيا، يرسم التخوم. والتكنولوجيا غير مفيدة هنا، بل تكرس أسرنا للعالم الاستهلاكي، عالم العمل واللذة الحسية سريعة الانقضاء، ثم ما يتلو ذلك من شعور بالبؤس والنقص، في حين ينشغل الفن بوصف مظهر من مظاهر الوجود الإنساني، ويقدم حالة وجودية لا فكراً تعقلياً.

الفن هو العكس تماماً. الفن لا حدود له، ومن دونه لن تكون صورة العالم كما هي اليوم. إنه التعبير الأقوى عن الروح غير المادية. لدينا ثلاث وسائل للمعرفة: عالم العقل الذي يبدو متناقضاً، وسرعان ما ينقلب على نفسه، وعالم الحواسّ التي قال فيها أفلاطون ما قال، وعالم الحدس، وهو ما نشعر به في قلوبنا، ومن هنا نصل إلى الفن والتصوف.

الفن هو الأهم؛ لأنه يدوم لفترة أطول من كل القشور التي تحيط بنا، ومن كل نقاشاتنا البالية، وهو شيء حقيقي. في الفن نرى الموضوعات والأفكار تتكرر على مدار العديد من الأعمار. هذه الأفكار لا تنتمي إلى شخص واحد، ومع تطورها واختفائها وظهورها مرة أخرى، فإنها تذكرنا أنه بغض النظر عما يحدث في هذه اللحظة، فإن حياتنا على هذه الأرض ستكون دائماً جزءاً من شيء أكبر، شيء خالد. ما انكشف لنا قليل، ويمكن لأي عالم فلك أن يخبرك أن ما نعرفه عن الكون يُعتبر جزءاً ضئيلاً مما لم يُكتشف بعدُ. لذلك نجد الفن وهو يحاول أن يلهمنا الرغبة في الخروج، والعثور على شيء جديد، ويسلط الضوء على ما لا نعرفه.

الموسيقى بعيدة بعض الشيء عن هذا. لكن هناك قاعدة تقول إنه لا وجود لموسيقى «أصيلة». كل الموسيقيين يستعيرون أشياء ممن كانوا قبلهم. يعلم المهتمون بتاريخ الفن أن بيتهوفن استعار أفكاراً من موزارت. وحتى بعد وفاته، ظل تأثير موزارت واضحاً في أعمال بيتهوفن، وقد نسخ بيتهوفن مقطعاً من سيمفونية موزارت الأربعين في دفتر الرسم الذي كان يستخدمه عند تأليف سيمفونيته الخامسة؛ إذ تبدأ حركته الثالثة بلحن مشابه للحن موزارت. وموزارت بدوره - بحسب بعض خبراء الموسيقى - استعار، وكذا باخ.

مع ترددٍ في إطلاق ذات الحكم على الجاز، فالجاز موسيقى تفسيرية عظيمة، وفيها لا يستعير الموسيقي بوعي كما يفعل الموسيقيون الآخرون. إنها تقوم بصورة جوهرية على الارتجال. ويكمن جمال الارتجال في أنه يتيح للفنان أن يقوم بأي شيء. لا يعرف ماذا سيعزف، وهنا يأتي دور الحدس، ويترك له الدور للقيام بالعمل، في حالة استسلام ليست كاملة. يمكن أن يقال إن العمل يصبح مشتركاً بين الإنسان والآلة، والإنسان لا يفكّر بتاتاً فيما سيصنع في اللحظة المقبلة. فِعل ولا فِعل في نفس الوقت. تماماً مثل من يُمسك بالقوس ويشدّ الوتر ويترك السهم يخرج في لحظة من غياب الإرادة الإنسانية الواعية، فيصيب الهدف.

عندما يعزف الفنان على المسرح، فإنه يرغب في أن يترك عقله حراً تماماً. الإبداع الجديد للفنان أعظم من كل المهارات التقنية والنوتات والمواضيع. هذا لا يعني أن النوتة أو الأغنية ليست مهمة، فهو يحتفظ بها في مؤخرة ذهنه حيث تُخزّن أشياء أخرى كثيرة. النوتة مفيدة للعمل، لكنها مجرد عنصر آخر يمكن استدعاؤه أثناء العزف.

هكذا تتجلى روح الفن في الأداء عندما يتوقف العازف عن التفكير فيصبح مجرد أداة أخرى، عندما يترك الموسيقى تعزف نفسها بنفسها. ليست مجرد الأغنية التي حفظها، بل كل الأغاني والتجارب التي خاضها في حياته وتخطر بباله. وهكذا عندما تأتي الأشياء من دون تخطيط، يفاجئ الفنان كل الحضور، بل يفاجئ نفسه، فلا يكاد يصدّق أن هذا الإبداع قد خرج منه.

ليس في الأمر سرقة، بل ثمة تناسخ بين الفنانين؛ أي إن عازف الموسيقى يحمل في ذهنه الكثير مما سمعه سابقاً. يجمعها معاً، فتظهر في أسلوبه. أي تجارب مرّ بها، أو أشياء عزفها، يأخذها ويعجنها في ذاته، فتصبح شيئاً جديداً. وأساليب الفنانين في النهاية تتكون من حيوات متعددة، وهذه المادة المجموعة منها متاحة لجميع الموسيقيين والفنانين، إنها تراكم الحكمة. إنه السياق الذي يمنحنا إياه الفن، والذي يضع الحياة في منظورها الملائم.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

أماندا نغوين نجت من رعب الاغتصاب... ثم ارتحلت إلى الفضاء

ثقافة وفنون أماندا نغوين

أماندا نغوين نجت من رعب الاغتصاب... ثم ارتحلت إلى الفضاء

هناك عبارة تتكرر في مواضع رئيسية في جميع أنحاء مذكرات أماندا نغوين القوية والمؤثرة عن النشاط والتعافي بعنوان «إنقاذ خمسة».

سيلفيا براونريغ
ثقافة وفنون 5 قطع ثعبانية من موقع سلّوت الأثري في سلطنة عُمان

أفاعي سلّوت في ولاية بهلا بسلطنة عُمان

بدأ استكشاف تاريخ سلطنة عُمان الأثري في النصف الثاني من القرن الماضي، وأدّى إلى العثور على سلسلة من المواقع الأثرية تعود إلى أزمنة سحيقة

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «صيف سويسري»... معالجة أوهام الذاكرة بالاعتراف

«صيف سويسري»... معالجة أوهام الذاكرة بالاعتراف

أربعة أمور أساسية كانت وراء المشهد المختلف لعالم رواية «صيف سويسري» لإنعام كجه جي - منشورات تكوين/ الرافدين 2024 - يتَّصل الأول بالذاكرة السردية لمشروع الكاتبة

حمزة عليوي
ثقافة وفنون أمل دنقل... «أمير شعراء الرفض» من منظور نقدي

أمل دنقل... «أمير شعراء الرفض» من منظور نقدي

يرصد الكتاب الضخم «سِفر أمل دنقل»، الذي يقع في 680 صفحة، عدداً من أهم الدراسات النقدية والرؤى الإنسانية التي كُتبت عن الشاعر المصري البارز أمل دنقل (1940 - 1983

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون الدبلوماسية الثقافية للمغرب من خلال تجربة متحف

الدبلوماسية الثقافية للمغرب من خلال تجربة متحف

انطلاقاً من الدور البارز الذي تضطلع به المتاحف في سبيل تجسيد الإشعاع الحضاري، والازدهار الثقافي والفني والسياسي للأمم والشعوب،

«الشرق الأوسط» (الرباط)

البحرين تنعى الفنان التشكيلي عبد الكريم العريّض

الراحل عبد الكريم العريّض من الرواد الذين أسسوا الحركة التشكيلية في البحرين (هيئة الثقافة)
الراحل عبد الكريم العريّض من الرواد الذين أسسوا الحركة التشكيلية في البحرين (هيئة الثقافة)
TT
20

البحرين تنعى الفنان التشكيلي عبد الكريم العريّض

الراحل عبد الكريم العريّض من الرواد الذين أسسوا الحركة التشكيلية في البحرين (هيئة الثقافة)
الراحل عبد الكريم العريّض من الرواد الذين أسسوا الحركة التشكيلية في البحرين (هيئة الثقافة)

نعت هيئة البحرين للثقافة والآثار، مساء الثلاثاء، الفنان التشكيلي عبد الكريم العريّض، مشيدةً بإسهاماته البارزة في إثراء الحركة التشكيلية في البلاد، وإبداعاته التي وصلت إلى آفاق الوطن العربي والعالم.

وأكّدت الهيئة، في بيان، أن «الساحة الفنية البحرينية فقدت قامةً بارزةً ورائداً من رواد الفن التشكيلي، الذي ساهم بإبداعاته في تشكيل الهوية الفنية للمملكة».

الراحل عبد الكريم العريّض وُلِد عام 1934 في المنامة، التي أحبّها وجسّدها كثيراً في أعماله الفنية. وكان من الرواد الذين أسّسوا الحركة التشكيلية في البحرين، إذ افتتح أول معرض فني خاص به في العاصمة عام 1960، الذي شكّل نقطة انطلاق حقيقية للفن التشكيلي في البلاد.

وتنوّعت إبداعات الراحل بين الرسم التعبيري والتجريدي، وتوثيق الحياة الاجتماعية والتراث الشعبي البحريني، كما عكست أعماله انفتاحه على الفن الأوروبي الحديث. وتميَّز بقدرته الفريدة على التعبير عن موضوعات وقضايا محلية وعالمية، بأسلوب بسيط ومبتكر في آنٍ معاً.

وساهم العريّض في تأسيس جمعيات وتجمعات فنية، من بينها «أسرة هواة الفن»، و«جمعية البحرين للفن المعاصر». ومثّل البحرين في عدة فعاليات ومؤتمرات فنية كبرى محلياً ودولياً. وعُرِضت أعماله في معارض دولية وعربية عديدة. بينها السعودية، والأردن، ومصر، والمغرب، والجزائر، وسنغافورة.

وأصدر الراحل عدة مؤلفات توثق تجربته الفنية وتسلط الضوء على تاريخ وتراث البحرين، أبرزها كتاب «نافذة على التاريخ»، و«حصاد الفن»، و«المنامة خلال 5 قرون». كما حصل على جوائز وتكريمات عديدة عكست مكانته ومسيرته الحافلة بالإنجازات.