«صيف سويسري»... معالجة أوهام الذاكرة بالاعتراف

إنعام كجه جي تكتب عن مرض لا شفاء منه اسمه العراق

«صيف سويسري»... معالجة أوهام الذاكرة بالاعتراف
TT
20

«صيف سويسري»... معالجة أوهام الذاكرة بالاعتراف

«صيف سويسري»... معالجة أوهام الذاكرة بالاعتراف

أربعة أمور أساسية كانت وراء المشهد المختلف لعالم رواية «صيف سويسري» لإنعام كجه جي - منشورات تكوين/ الرافدين 2024 - يتَّصل الأول بالذاكرة السردية لمشروع الكاتبة كله. والثاني خاص بمنطق الأمثولة المفارق، حد الصدام، في هذه الرواية. والثالث كامن في الصياغة الكلية لعظة المكان الغريب. والرابع حاضر بصيغ الاعتراف المهيمنة في النص كله. فماذا عن بنيات الإخفاق الأصيلة؟ إنها، كما نفترض، بعض صيغ المجاز الكلي للرواية برمتها. لماذا لا نقول إنها بعض صيغ الذاكرة السردية؛ ربما، سوى أن عنوان الرواية «صيف سويسري» يهيئنا، ابتداءً، لتلقي عوالم سردية جديدة، في طليعتها ألا ننتظر حكايات كبرى، لا آمال كبيرة؛ نحن ذاهبون إلى «صيف سويسري» فحسب. في الأقل هذا ما نفهمه من عنوان متقشف بلا مزاعم مسبقة!

الذاكرة السردية المقترحة

أربع شخصيات عراقية يجري انتقاؤهم بعناية فائقة من قبل ممثلي شركات الأدوية السويسرية ليذهبوا إلى «سكن جامعي: لنقل إنه دار إيواء أو مصح» بطرف مدينة «بازل» في سويسرا؛ في رحلة علاج صيفية مجانية، أواخر الألفية، من مرض مستعص اسمه الذاكرة العراقية وأوهامها، لا سيَّما الإدمان العقائدي. ويبدو تحديد الزمن ذا وظيفة تأويلية ذات أهمية بالغة؛ فالرحلة قبل احتلال البلاد بأعوام قليلة. وهؤلاء هم حسب ظهورهم وأهميتهم في الرواية: حاتم الحاتمي، بعثي قومي هارب من بلاده. بشيرة حسون صاج آل محمود، سجينة شيوعية تعرضت للاغتصاب في المعتقل، فكانت ابنتها سندس نتيجة للسجن والخديعة. وغزوان البابلي، المتدين الشيعي والمعتقل السابق في سجون دولة البعث أيضاً. ودلاله شمعون الآشورية المبشِّرة الدينية ليهوه، الإله المختلف عن دين طائفتها، ويُكلف الدكتور بلاسم بعلاجهم في دار الإيواء الخاصة هناك. نحن، هنا، إزاء قسمة عادلة إلى حد ما؛ رجلان وامرأتان. هؤلاء الأربعة سيقدِّمون أربع صيغ مختلفة، وربما متعارضة، من الذاكرة السردية العراقية في رواية «صيف سويسري». لكن أقدار هؤلاء تختلف في الرواية؛ إذ ستحتل حكاية الحاتمي، وهو ضابط أمن بعثي ذو أصول جنوبية ريفية، مكانة كبرى في الرواية؛ فهو الشخصية المركزية في الرواية، والوحيد في الرواية الذي يصلنا السرد عبر ضميره المتكلم، فلا شخصية أخرى تمتلك هذا الامتياز السردي سواه. وهذا أمر ذو دلالة بالغة في فهم النص كله. وعلى مستوى المساحة الكلية للرواية فقد تألفت من ست وعشرين فقرة. شغلت قصة «الحاتمي» منها خمس عشرة فقرة. وجاءت بعدها قصة الدكتور المعالج «د. بلاسم» بأربع فقرات، ثم قصة بشيرة بفقرتين، ثم قصص «البابلي» و«دلاله» بفقرة واحدة لكل منهما. وهناك فقرتان للمقهى «الوفاق» ثم «الشقاق»، وفقرة أخيرة تحمل اسم سندس بعد السقوط. ولكن بماذا تُفيدنا هيمنة منظور «الحاتمي» على الرواية في سياق الحفر في موضوع الذاكرة السردية؟

زمن الرواية

لنعد إلى زمن الذاكرة، أقصد زمن الرواية؛ ما دام الزمن هو منطق السرد الأول. ثمة إشارتان زمنيتان تحددان السياق الزمني للرواية، ومن ثمَّ للذاكرة السردية وحكاياتها كلها. الأولى أن زمن الحكاية الأصلية يبدأ من لحظة صعود «القاتل» وتحكمه بـ«الحزب» والحياة، وهي ذاتها لحظة الفتك الجماعية بالرفاق المغضوب عليهم، وبحلفاء الأمس الذين انتهى دورهم. «لماذا لا نقول إنها لحظة قاعة الخلد عام 1979؟». الثانية أن زمن رحلة العلاج المشكِّلة لخطاب الرواية كان أواخر الألفية. وقد يعني التحديد الأخير أن الذاكرة السردية محدَّدة سلفاً، وهي ذات مقاصد مخصوصة تتعلَّق بما يمكن تسميته بأمثولة الضحية ذات الروافد المتآلفة، مع بعض، فيما يمكن أن نصطلح عليه بالسردية الأصيلة والنسق المكرَّر الغالب عليها؛ فقصص المظلوم الضحية تتكرَّر من حالة «بشيرة» إلى «غزوان» فـ«دلاله»، لكن الضحية تتلبس بقناع الوهم الآيديولوجي مؤلفة «أمثولة» زائفة تبدأ بالذات المفردة، ولا تنتهي بمزاعم الجماعات المظلومة الضحية. وليس صعباً على القارئ، بعدها، أن يرى في عذابات «بشيرة» صيغة كلية عن فتك «البعث» بالشيوعيين واغتصابهم. وفي «غزوان البابلي» صيغة مبكرة عن السرديات الصاخبة للشيعة المظلومين في عراق البعث - صدام. لكن «دلاله» نموذج سردي فاضح لأمثولة الضحية؛ فهي آشورية مسيحية، وهي «مُبشِّرة» بإله «جديد» عن ملتها. حالة «دلاله» تعيد رسم حدود الواقع عن «الوهم»، ووضعها في سياق أمثولة الضحية المتداولة بالنسبة للشيوعيين والمتدينين الشيعة المعارضين لنظام البعث، إنما يعري مزاعم مظلومية «الضحية» وأوهامها.

سرديات القاتل

لكن «صيف سويسري» هي رواية «القاتل» الهارب إلى لحظة الاعتراف بجرمه. وليس القاتل هنا سوى الحائز على القسم الأعظم من الرواية. إنه «حاتم الحاتمي». هل ثمة مبالغة في استعمل صفة «القاتل» ووسمه به؟ لا أظن؛ فالشخصية تنبني على أساسين متعارضين. الأول، قتل المعارضين للحزب والقيادة. والقتل ذاته يقود الحاتمي إلى لحظة الحب الأصيلة المفضية إلى طلب الغفران؛ بإنقاذ «بشيرة» من فتك «قتلة» آخرين، هم رفاق القاتل. لا تنشغل الرواية بتفاصيل القتل ذاته، فهي تميل للتقشف والتلميح في سرد وقائع القتل. إنها تكتفي، مثلاً، بالترميز المقصود، مثل أن تقاطع الزوجة زوجها وترفض معاشرته، أو بالعنونة أحياناً؛ كأن تسمي الفقرة «حفلة إعدام». يقابل هذا التقشف بذخ لا تنكره الرواية بالتفاصيل الخاصة بحياة الحاتمي، لا سيَّما ما يتعلَّق منها بصلته بالسلطة، وبحب عمره «بشيرة» أيضاً. فهل تنتهي قصة القاتل عند هذا الحدّ؟ لا أظن؛ فهذه القصة تتصل بمنطق السرد كله ومشروعيته القائمة على جدوى اعتماد قصة القاتل في استعادة ودعم أمثولة الضحية؟ لا إجابات، فالحاتمي، شأن راويه الملتزم بمراقبة صاحبه، كأنه ظله، ملتزم بدوره بصفته القاتل طالب المغفرة باسم الحب، وملتزم كذلك بصفته وموقعه المحيط بكل رفاق رحلة العلاج. وفي هذه النقطة ثمة مفارقة أساسية لا ينبغي علينا تفويتها، تتعلَّق بالحدود المفترضة لهيمنة قصة الحاتمي على القصص الأخرى؛ إذ لا حدود تنتهي عندها «سلطة» الحاتمي وقصته؛ فهي مسيطرة حتى على المساحة النصية للقصص الأخرى، فنجد وظيفة الحاتمي تتداخل مع دور الراوي، ويأخذ عنه وظيفته الأساسية بنقل الأخبار والحكايات عن الشخصيات الأخرى، لا سيَّما ما يتصل بقصة البابلي. فهل صرنا أمام تسويغ مقنع لأهمية قصة الحاتمي وتغليبها على القصص الأخرى في الرواية؟

أقنعة المعترف

ثمة «تلذذ» يصل، ربما، إلى حالة متقدِّمة من «تشهَّي» الاعتراف؛ ففي دار العلاج في بازل يتساوى الجميع؛ القاتل وضحاياه، فهم مستدعون كي يعالجوا من أوهام الذاكرة العراقية بالاعتراف. فالاعتراف هو الموضوع المركزي في الرواية. وقد نقول إنه لا موضوع آخر يفوقه، أو حتى يقترب منه. لكن «الاعتراف» لا تتحقق مقاصده من دون شروطه «الموضوعية». وهي كما تقدِّمها الرواية، المكان الغريب بعظته المختلفة عن هوس الذاكرة المحتدمة. وهو الغريب المنضبط حد الملل. ويظل الاعتراف، حتى هناك، بلا موضوع حقيقي ما لم نسمع الصوت السردي للمتكلِّم المعترف. وهذا شأن اعتراف حاتم الحاتمي، الذي تركه الراوي المراقب، غالباً، يتحدَّث لنفسه، لنا، ويروي ما حصل. والاعتراف بمنطق المتكلم امتياز لم توفِّره الراوية سوى للحاتمي، فمن أصل خمس عشرة فقرة خاصة بقصة الحاتمي، كان هناك تسع فقرات وصلتنا أحداثها عن طريق الراوي المتكلم. وهذا ما لم يحصل مع أي شخصية أخرى، سوى «سندس» التي تولَّت، في فقرة أخيرة، وعبر صوتها الخاص، إخبارنا عن المصائر الأخيرة للشخصيات.

قد لخصت لنا قصة ارتباط «زواج» الحاتمي بأمها، مثلما أخبرتنا عن زواجها وولادتها لابنها جاد، وهي كذلك من عادت بنا إلى بغداد، بعد احتلالها، وقدمت لنا موعظتها الأخيرة المختلفة، جذرياً، عن موعظة العائدين إلى أوهامهم «غزوان البابلي ودلاله وأضرابهما الكثيرون»، عن المعنى الأخير لبلادها الأولى التي من الممكن أن تعود إليها، صحبة ابنها وزوجها؛ فهو مكان مُسَّلٍ يصلح لقضاء العطل والمناسبات تحت الشمس وبعيداً عن ثلوج أوروبا. نحن، هنا، أمام استخدام مختلف للراوي المتكلم؛ فـ«سوسن» ليس لديها ما تعترف به؛ فلا أوهام ولا ذاكرة عراقية متورِّمة، ومن ثمَّ، لا توهم آيديولوجي. وهذا كافٍ لتسويغ الاختلاف عن «تكلُّم» الحاتمي. موقع الحاتمي يختلف، بتعمُّد، حتى عن «بشيرة حسون»، الشيوعية المغتصبة؛ وأكثر الشخصيات تمثيلاً لأمثولة الضحية، إذ لم يُترك لها حق الكلام بمنطق المتكلِّم؛ وتكفَّل الراوي المراقب بالأمر كله. وقد نقول إن حرمانها من «التكلُّم» الذاتي أعطاها حق قبول «الاعتراف» من رفضه؛ فهي الضحية، وهذا موقع أبعدها كثيراً عن لحظة الاعتراف، سوى أنها رفضت، شأن الآخرين، فكرة الذاكرة البديلة؛ فللضحية قصتها الأصيلة وذاكرتها المتورِّمة. وفي المحصلة، فإن سردية الاعتراف تؤدي وظائف أساسية في الرواية، بل إن «صيف سويسري» رواية اعتراف بامتياز متفرد. وهذا أمر يندر أن يحصل بعيداً عن الحاضنة الثقافية الدينية للاعتراف، أن يتخلص السرد من فخ «التقية» المتأصلة في كلامنا وسردنا وثقافتنا، وهو ما نجحت به رواية «كجه جي» المتفرِّدة حقاً.

* ناقد عراقي


مقالات ذات صلة

كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

ثقافة وفنون عبد العزيز المانع

كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

وأنا أكتب عن كرسي الدكتور عبد العزيز المانع في جامعة الملك سعود، وما أضافه هذا الكرسيُّ من إنجازات لهذه الجامعة العريقة، وبالتالي إلى لغتِنا العربية

عبد الجليل الساعدي
ثقافة وفنون «أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

تصدر قريباً عن «دار نوفل - هاشيت أنطوان» رواية «أغالب مجرى النهر» للكاتب الجزائري سعيد خطيبي. وفيها يصوّر الكاتب أناساً انتهتْ بهم الحياة أسرى أقدارهم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون أماندا نغوين

أماندا نغوين نجت من رعب الاغتصاب... ثم ارتحلت إلى الفضاء

هناك عبارة تتكرر في مواضع رئيسية في جميع أنحاء مذكرات أماندا نغوين القوية والمؤثرة عن النشاط والتعافي بعنوان «إنقاذ خمسة».

سيلفيا براونريغ
ثقافة وفنون 5 قطع ثعبانية من موقع سلّوت الأثري في سلطنة عُمان

أفاعي سلّوت في ولاية بهلا بسلطنة عُمان

بدأ استكشاف تاريخ سلطنة عُمان الأثري في النصف الثاني من القرن الماضي، وأدّى إلى العثور على سلسلة من المواقع الأثرية تعود إلى أزمنة سحيقة

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون أمل دنقل... «أمير شعراء الرفض» من منظور نقدي

أمل دنقل... «أمير شعراء الرفض» من منظور نقدي

يرصد الكتاب الضخم «سِفر أمل دنقل»، الذي يقع في 680 صفحة، عدداً من أهم الدراسات النقدية والرؤى الإنسانية التي كُتبت عن الشاعر المصري البارز أمل دنقل (1940 - 1983

رشا أحمد (القاهرة)

كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

عبد العزيز المانع
عبد العزيز المانع
TT
20

كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

عبد العزيز المانع
عبد العزيز المانع

وأنا أكتب عن كرسي الدكتور عبد العزيز المانع في جامعة الملك سعود، وما أضافه هذا الكرسيُّ من إنجازات لهذه الجامعة العريقة، وبالتالي إلى لغتِنا العربية، يجدر التعرَّض إلى كتابه القيّم الذي استقصَى فيه رحلةَ الفرارِ الكبرى للمتنبي ونجاحه في التَّخفي حتى بلغَ مأمنَه.

إنَّه سِفرٌ ثمين يجعل القلبَ يزدادُ نبضاً مع كلّ موضعٍ يحطّ فيه ركبُ الدكتور المانع لتتبّع خطَى هذا الشاعرِ العملاق والفريدِ وأثره.

أقول: لو لم يكن للدكتور المانع إلا سفرُه «على خطى المتنبي» لكفاه فضلاً وشرفاً، لأنَّنا لأول مرةٍ نعرف فيها بالدقة خطة هروبِ المتنبي الكبير والأمكنة التي سار فيها، ونجاح المتنبي في التخفّي عن عيونِ كافور المتربصين به.

هذا الكتاب القيّم، وهذا التَّتبع البديعُ يأخذانك وكأنَّك كنت تسير مع المتنبي في ركبِه وتشعر بشعوره، وتبدو لك مراحلُ الرحلة وكأنَّها دفعاتٌ من الخوف والمتعةِ معاً، لكأنَّك تشاهد فيلماً كاملَ الأركان عن هروبِ هذا الشَّاعرِ العظيم.

أعادَ هذا الكتابُ القيّم ضبطَ الأسماءِ والأماكنِ وتبيان الأخطاء التي وقع فيها القدامى، وحدَّد المواقعَ والطرقات التي سارَ فيها الشاعر.

لقد صبرَ الدكتور المانع صبراً جميلاً لتحقيق هذه الغاية، وهذا بالتأكيد ينمُّ عن شيئين: الأول حبّ البحثِ والاستقصاء. والثَّاني إعجاب الباحثِ بالشاعر.

وبالنَّظر إلى كلّ هذا نرى أنَّ الدكتور عبد العزيز كانَ أهلاً لكل ذلك، والمتتبع لمسيرته سيعلم أنَّه كان يشارك في ندوات قسم اللغة العربية في الجامعة منذ 30 عاماً رغم المناصب الكثيرة التي تولَّاها، وهذا دليلٌ قاطع على أنَّ روح العطاء والاستزادة والحرص على اللغة العربية كانت هاجسَه. وما منْحُه جائزة الملك فيصل في اللغة العربية والأدب لعام 2009، في «تحقيق المؤلفات الأدبية الشعرية والنثرية المصنّفة»، إلا دليلٌ آخرُ على ذلك.

وكان أنْ خُصّص له كرسي في جامعة الملك سعود العريقة.

ونالَ الكرسيُّ جائزةَ الكتاب العربي لعام 2025، التي شارك فيها عددٌ كبير بلغ 1261 مشاركاً تقدَّموا من 35 دولة، وهذا لعمري إنجازٌ كبيرٌ لا يتسنَّى لأحد نيلُه إلا بالمواظبة والتخطيطِ والقدرة العلمية وتنظيم الوقت.

في هذا السياق، كان لنا لقاء مع الدكتور عبد العزيز المانع ليلقي مزيداً من الضوء على هذه السنين التي واكب فيها الكرسي وساهم في إنجازاته.

> مرّت أعوامٌ على إنشاء كرسي المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها؛ أين تضعون الكرسي في قائمة المراكز العلمية ذات المجال نفسه؟

- نعم، مرّ الآن ما يزيد على 15 عاماً على تشريفي بالإشراف على كرسي دراسات اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود، ولا بد لي أن أوضح أن من يجتاز جائزة مثل جائزة الملك فيصل بمكانتها ومقامها يحتاج إلى أن يستمر في العطاء، إن لم يكن في حجمها فليكن قريباً منها. لقد هيّأ الله لي مجالاً واسعاً للاستمرار في النهج العلمي نفسه حين تفضل رئيس الجامعة آنذاك الدكتور عبد الله العثمان بإنشاء هذا الكرسي، فكان لصاحبه ما تمنّى، إذ قرَّر الكرسي بهيئته الموقّرة أن يتوسّع في مجال أنشطته لتشمل المحاضرات والندواتِ والنشـرَ العلمي، وفي مجال النشر العلمي رأى أن يفتح البابَ لكل عمل علمي جاد في العالم العربي، فكان أن نشر الكرسي لباحثين من المغرب وتونس والجزائر ومصر وسوريا والأردن وفلسطين والعراق والبوسنة، إضافة إلى باحثين من المملكة العربية السعودية، وقد تجاوزت عناوين الكتب التي نُشـرت ما يزيد على 60 كتاباً، ما بين تأليف وتحقيق وترجمة، ويعدّ هذا إنتاجاً علميّاً مرضياً لكرسيٍّ محدود الإمكانات، ودون ريب فإنَّ النفسَ تطمح إلى المزيد.

> من المعلوم أن من بين الكتب التي نشـرها الكرسي كتاب «على خطى المتنبي»، وهو كتاب له طعم خاص، إذ يهتم برحلة هروب شاعر العربية أبي الطيب المتنبي، فهل فكرتم في تحويل هذا الكتاب المميز إلى فيلم سينمائي؟

- الكرسي، وربما الجامعة، ليس لديهما التوجّه إلى القيام بعمل ضخم كهذا، وهناك جهة من خارج الجامعة بدأت التفكير الجاد بتحويل الكتاب إلى فيلم عربيّ، والدراسات قائمة الآن، ونسأل الله التوفيق.

وبالمناسبة، هذا الكتاب يُترجَم الآن إلى اللغة الصينية من قبل مكتبة الملك عبد العزيز العامة.

> كيف يجرى اختيار الكتب التي نشرها الكرسي؟ هل ثمة لجنة تطّلع على العناوين وترشّح ما يستحق النشر أم أن الاختيار يكون بشكل فردي من المشرف؟

- نظام النشر في الكرسي يعتمد نظام المجلس العلمي في الجامعة، وهو نظام المجامع والمراكز العلمية المعروفة:

1. يتقدم من لديه كتاب علمي أو تحقيق بكتابه إلى الكرسي طالباً نشره.

2. تُعرض العناوين المقدّمة على هيئة الكرسي المكوّنة من المشرف وعضوية مستشار الكرسي ورئيس قسم اللغة العربية وعضو من أساتذة القسم، على أن يكون بدرجة أستاذ.

3. يستبعد من بين المتقدمين من لا يدخل كتابه في التخصص، أو الكتب التي لا ترقى إلى المستوى العلمي المطلوب.

4. تختار الهيئة العناوين المناسبة للنشـر، وترشّح محكمين اثنين لكل كتاب يكونان من أهل التخصص ولهم مؤلفات أو أبحاث في نفس مجال الكتاب.

5. ترسل الكتب إلى المحكمين للحكم على صلاحيتها للنشر وإعداد تقرير بذلك خلال مدّة لا تتجاوز شهراً من تاريخ التسلّم.

6. بعد وصول تقارير المحكمين، تُرسل التقارير لأصحاب الكتب التي أوصى المحكمون بنشرها ليطلعوا عليها ويعدّلوا ما يلزم، ثم يوقّع معهم عقد لنشر الكتاب.

> كيف ترون دور الكرسي في هذا الوقت بعد النقلة النوعية في مستقبل التأليف، وبعد تصدّر برامج الذكاء الاصطناعي؟

- هذا البرنامج الجديد حسب تقدير العلماء له سلبياته وإيجابياته، وليست العربية هي المتخوّف الوحيد من هذا القادم الجديد فحسب، بل الثقافة العالمية لها الموقف المتخوف نفسه، لكن العربيّة محميّة بكتاب الله - عزّ وجلّ - الذي تعهّد بحفظه، ونحن تحت لوائه محفوظون، بحول الله وقوّته.

نالَ الكرسيُّ جائزةَ الكتاب العربي لعام 2025 التي شارك فيها عددٌ كبير بلغ 1261 مشاركاً تقدَّموا من 35 دولة

> هل أنتم مع فكرة تفرّغ الأساتذة الجامعيين للبحث والتأليف بعد قضائهم مدة طويلة في التدريس؟

ـ ليس هناك ما يمنع أستاذ الجامعة من الجمع بين البحث والتأليف ومهنة التدريس، بل هو مطالب - نظاماً - بذلك لكي يرقى درجات سلم الترقيات العلمية فترة بقائه في الجامعة.

> هل هناك تنافس بين الأساتذة الأكاديميين؟ وهل شعرتم شخصيّاً بذلك؟

ـ مجال البحث العلمي فسيح، ويسع جميع الباحثين، كلٌّ في مجاله وتخصصه، فمن هذا المنظور طبيعيٌّ ألّا يكون هناك تنافس، إذ المكان يتّسع للجميع، بل إنَّ مجال البحث العلمي والتأليف مفتوح على مصراعيه لكل باحث، ونظام الجامعة البحثي إيجابي ومرن وداعم للجميع، ونظام الكراسي خير دليل.

> هل من نصيحة تراها للأكاديميين الجدد؟

- عندما أنهيت برنامج الدكتوراه في بريطانيا، طلب مني الممتحن الخارجي، الدكتور جونستون رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة لندن، أن ألقاه في مكتبه عندما أمرّ بلندن في طريقي إلى الرياض، وقد تم ذلك ورافقته إلى منزله وعرّفني على أسرته وأطلعني على مكتبته، وبعد تناول الشاي قال لي ما يلي:

«عندما تصل الرياض وتستقرّ أسريّاً، توجّه إلى مكتبة الجامعة وابدأ بكتابة بحث في الموضوع الذي تراه، وانشره بكل ثقة ودون تخوّف من كماله العلمي. إذا فعلت ذلك تكون قد وطّنت نفسك ووضعت قدمك على بداية موفّقة في طريق البحث العلمي والاستمرار فيه، وإن تأخرت فسوف يموت عندك الاهتمام بالبحث العلمي تدريجيّاً».

هذه كانت نصيحة ذهبية أخذت بها، أقدمها لكل عضو هيئة تدريس في أول مشواره العلمي.

> السؤال الأخير: ما آخر إصداراتكم العلمية؟

ـ آخر الإصدارات هو كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء»، وهو كتاب مشترك بيني وبين الدكتور خوسيه ميغيل، أستاذ الدراسات العربية بجامعة غرناطة. ويهتم الكتاب بتحقيق الشعر المنقوش على جدران قصور الحمراء ونوافذها وقاعاتها ونوافيرها، وقد صدر هذا الكتاب العام الماضي خارج برنامج الكرسي، بدعم كلي من أمانة جائزة الملك فيصل، ولعلها مناسبة طيّبة أن أتقدّم لأمانة الجائزة، ولرئيسها الدكتور عبد العزيز السبيل، بالشكر الجزيل على جهوده في سبيل خروج هذا الكتاب ونشره.