ميخائيل نعيمة في عيده الـ135 لم ترحمه الحرب

ناسك الشخروب لا يزال حاضراً في الوجدان

الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً
الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً
TT

ميخائيل نعيمة في عيده الـ135 لم ترحمه الحرب

الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً
الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً

كانت الاستعدادات قد استُكملت، والدعوة قد وُزّعت، للاحتفال بالعيد الـ135 لولادة الأديب الكبير ميخائيل نعيمة، وحلول اليوبيل الذهبي لصدور كتابَيه «نجوى الغروب» و«من وحي المسيح»، اللذَين أبصرا النور لأول مرة وهو في الرابعة والثمانين، لكن الحرب الإسرائيلية على لبنان نسفت في طريقها ذاك النهار الطويل الذي كان يفترض أن يخصّص نقاشاً لفكر نعيمة، وغناءً لقصائده ونصوصه، وشهادات في مساره.

سهى نعيمة التي تربّت وترعرعت في كنف الأديب، تؤكد لنا أن الاحتفالية ستُقام ولو بعد حين، «فنحن في أشدّ الحاجة إلى تسامُحه، ورؤيته أن الدين واحد، والاختلاف بيننا هو في الطريقة، لا في الهدف»، فكتابات نعيمة وجبران خليل جبران، في رأيها، لها خصوصية، في هذا الوقت بالذات؛ لأنها «تأخذنا إلى اللب، إلى الجوهر، وتكشف لنا كم أن يومياتنا مجرد قشور، وأن كلّ مَن يتمسّك بذاته المتحولة غير قابل للوصول إلى النورانية الكامنة فيه، وكلنا فينا هذا الفيض وهذه النورانية».

بأمسّ الحاجة إليه

سهى حدّاد نعيمة، القيّمة اليوم على إرث الأديب، هي ابنة ابنة أخيه مي، شاءت الظروف أن تتربى سهى في كنف الجد ميخائيل بعد انفصال والدَيها، وتبقى معه حتى اللحظة الأخيرة، وهي تسكن حالياً في المنزل/ المتحف الذي يحوي كل حاجيات نعيمة، ويقصده عُشّاقه للتعرف إليه عن قُرب.

تتحدث سهى لـ«الشرق الأوسط» بحزن عن الاحتفال الذي تأجّل ولم يُلغَ أبداً، «فنحن في أمسّ الحاجة للتعمق في كتبه وأفكاره، فقد علّمنا أن ننظر بطريقة مختلفة إلى الزمن، وأن نفكر بالمسافة الطويلة الفاصلة بين الأزليات والبدايات، وأن الحياة تعبّر عن ذاتها بالحركة، ولولا الحركة لما شعرنا بشيء اسمه حياة، والجماد ليس جامداً، وإنما جزيئاته وذرّاته دائمة الحركة، وإلا لما بقي».

في سيرة ميخائيل نعيمة شيء من الغرابة، وكثير من الحظ والكدّ والمثابرة، هو نفسه يقول إن ما أنجزه جاء أبعَد من متناول خياله.

حياة أبعد من خيال صاحبها

وُلد في بسكنتا عام 1889، في قرية صغيرة يسكنها فلاحون، لا يربطها ببيروت سوى طريق تصلح لسير البغال، وليس في الضيعة مدرسة، فكان يتعلّم عند خوري هو نفسه لا يجيد القراءة، وشاءت الصدف أن تفتح «الجمعية الإمبراطورية الروسية» مدرسةً في هذا المكان لتعليم الأورثوذكس، وبما أنه مبرّز أرسلوه في بعثة إلى دار المعلمين الروسية في الناصرة بفلسطين، ثم تمّ اختياره ليتابع دروسه في روسيا، وكان قد اطلع قبلها على الشعر الروسي وأحبّه، وتمنّى لو يكتب كما هؤلاء العباقرة، وتمكّن باجتهاده أن يتعلّم الروسية، لا بل أن يَنْظِم فيها قصيدته «النهر المتجدّد» عام 1910، وكاد أن يتزوج من روسية، لولا أنه عاد عام 1911 إلى لبنان.

وكان يودّ أن يُكمل دراسته في فرنسا، لكن القدَر يتدخل مرة جديدة، ويسوقه إلى مكان آخر، حيث يأتي شقيقه أديب من أميركا إلى لبنان، ويُقنعه أن يذهب معه إلى واشنطن، وهناك يدرس الحقوق والآداب، ويحصل على شهادة في كل من الاختصاصين، ويتعرّف إلى نسيم عريضة الذي كان يُصدر مجلة «الفنون»، ويبدأ ينشر مقالاته فيها، وعلى عبد المسيح حداد الذي كان يُصدر جريدة «السائح»، وجبران خليل جبران وأمين الريحاني، اللذَين سيشارك معهما في تأسيس «الرابطة القلمية».

شارك في الحرب الأولى بلا رصاص

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى طُلب إلى نعيمة الانخراط في الخدمة العسكرية الأميركية عام 1914، فشعر بغرابة المهمة التي أُوكِلت إليه، فما علاقته هو بالقتل والحروب والأسلحة؟ وأُرسل لسوء حظه إلى أصعب جبهة وقتها؛ على النورماندي في فرنسا، ومع ذلك قرّر ألّا يُطلِق ولو طلقة واحدة، وهكذا كان، وعاد من حرب كبرى دون أن يستخدم سلاحه، لكنه في المقابل أكمل كتابة مؤلَّفه الشهير «مذكرات الأرقش» الذي ظهرت نصوصه تباعاً من 1913 إلى 1917.

وحين مرض صديقه جبران خليل جبران عام 1931 شاءت الظروف أن يكون إلى جانبه، وأن يشهد نزعه الأخير طوال 6 ساعات، ويلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه.

وبرغم أنه عاش في أميركا 20 سنة، فإن قلبه بقي معلقاً دائماً بلبنان، والشخروب، وجبل صنين ببهائه وصفاء هوائه، هذا الجبل المهاب الذي تسلّقه سيراً على الأقدام ما لا يقل عن 3 مرات، فقد كان عاشقاً للمشي والتسلق، حنينه إلى الطبيعة غلب كل إغراء. أحبّ الأرض؛ لأن دروسها لا تُحصى، هاجر واستفاد علمياً، لكن جمال جبال لبنان بقي يناديه كي يعود، بل كان يتساءل عما يربطه بهؤلاء الناس الذين يعيش بينهم، فقد كان اتفاقه مع جبران، حسبما روى، أن يعودا معاً إلى الوطن، لكن عاد صديقه في نعش ليرتاح جسده في بلدته بشري، ورجع هو بمفرده ليُكمل حياته بين بسكنتا والشخروب.

«ناسك الشخروب» بحقّ

الطبيعة في نظره كانت «كتاباً هائلاً وعظيماً، لا يمكنك أن تفهمها بعينيك أو يديك، بل بروحك، إذا أبصرت صخراً تجد له كياناً، هو يؤثر ويتأثر بما حوله وفوقه وتحته، الصخر كائن حي، ولو لم يكن كذلك لما أثّر بشيء ولما تأثّر بشيء»، وكان يقول وهو ابن الجبل: «هذه الصخور تعني عندي أكثر من صخور، عندما أُبصر الصخر وأُبصر نبتةً بجانبه، أشعر أن هناك بينهما صلة الابن بأبيه وأمه، الصخور تحدّثني، تحدّثني عن أن الزمان وهمٌ؛ لأنها لا تُحسّ الزمان كما نُحسّه، وتحدّثني أنني سخيف جداً عندما أقيس الزمان بالساعات».

عاد إلى عائلته وبيته في بسكنتا، إلى الصخر الذي أحبّ، والشجر الذي عشق، في الشخروب، المنطقة التي تعلو 1800 متر عن سطح البحر، حيث كان مصيف العائلة، عثر على مغارة سمّاها «الفلك»، صار يأتيها في الصباح حاملاً أغراضه، ويجلس في زاوية المغارة يتأمل ويكتب، هناك سطّر كتابه عن جبران، وأغلب مقالات «زاد المعاد»، ومؤلّفه الشهير «مرداد».

عندما تتحدّث الصقور

كان يسرّح ناظره وهو يجلس في «الفلك»، فيرى الطبيعة حوله، وكأن عناصرها تتحوّل كائنات لها وجوه وحضور وكيان، وبالتالي شكّلت تلك البيئة الجبلية مصدر وحي لا ينضب، لكاتب عَشِق الغوص فيما هو أبعد من المادي المحسوس.

انصرف كلياً إلى القراءة والكتابة، مستبعِداً كل عمل يُعرَض عليه، مهما يمكن أن يدرَّ من مال، في سبيل أن يتفرّغ لما نذر نفسه له. عانى من ضيق ذات اليد ولم يعبأ، لم تكن المداخيل القليلة التي تأتيه من كتبه ومنشوراته مما يجعله يتبرّم، وكان كريماً مِعطاءً، ليس فقط مع عائلته، بل مع المحتاجين حوله أيضاً.

فهو منذ البدء عَدّ الأدب تعبيراً عن الإنسان، ومرآةً له؛ لذا فقد كتب ما آمَن به عميقاً، وكأن نصوصه صدى لنفسه، مشتكياً من أن الكلمات تقصر أحياناً عن الإتيان بتصوير دقيق لما يدور في البال، «فنحن لا نستطيع أن نعبّر عن كل خلجة في قلوبنا، أو خاطرة تمرّ في بالنا».

اليوبيل الذهبي لكتابَين

«وَشل من بحر» هو عنوان احتفالية نعيمة المؤجّلة، عبارة مستلّة من آخر فصل في كتاب «من وحي المسيح» الذي بلغ يوبيلَه الذهبي، حيث يقول: «ما كُنته ليس سوى وشلٍ من بحر»، الكتاب الذي نرى فيه لمرة جديدة محنة الإنسان عند نعيمة، ممزَّقاً بين الحياة السُّفلية بكل مآربها الصغيرة، والتوق إلى العلوي الإلهي الشفيف، أما الكتاب الثاني الذي بلغ الخمسين من عمره فهو «نجوى الغروب»، وهو أشبه بصلاة يتوجّه فيها إلى الله، وكأنما يعتصر خلاصة فكره، وتجربته، وروحانيته، وفي مناجاته يقول: «طفلك أنا يا ربّي، وهذه الأرض البديعة، الكريمة، الحنون، التي وضعتَني في حضنها، ليست سوى المهد أدرج منه إليك... عجائبك يا رب تكتنفني، منذ أن خرجت من بطن أمي، وحتى شارفَت شمسي على الغروب، وأصغرها أكبر من أن يحيط به أي عقل، أو أن يستوعبه أي خيال، أو أن ترسمه ريشة، ويصفه قلم، أو أن تتلفّظ به شفتان ولسان، وأنا وسط هذه العجائب أقف».

آلته الكاتبة موجودة أيضاً

نعيمة والجيل الجديد

ومع أن ما كتبه في هذين الكتابين يُشعِران القارئ بأنه يداعب دنوّ الأجل، فإن نعيمة عاش بعد صدورهما 15 عاماً، وتوفي عام 1988، وقد بلغ ما يقارب القرن وقد فَقَدَ خلاله أصدقاءه وكثيراً من الأحبة، ولم يتبقّ له في سنواته الأخيرة غير القراءة والسيجارة، وعائلته، وذلك الهدوء الوقّاد.

سهى نعيمة التي رافقته في تلك الفترة حتى توفّي وهي في العشرين من عمرها، تتحدث طويلاً عن العلاقة الثلاثية التي ربطتها وأمها مع جدّها ميشا، كما تسمّيه، «هكذا كنت أناديه، واختصرنا أسماءنا بكلمة (ميماسونا)»، وهو الاسم الذي تحمله جمعيته اليوم، ومع أن الجيل الجديد بأمسّ الحاجة إلى فكر ميخائيل نعيمة، وحكمته، وروحانيته، وعلاقته التناغمية مع الطبيعة، فإن تلامذة المدارس، على عكس الأجيال السابقة، ما عادوا يعرفون ميخائيل نعيمة، وقد يُنهُون تعليمهم دون دراسة نص له، «هذا ما ألاحظه» -تقول سهى- «من اختلاطي بالتلامذة الذين يأتون لزيارة البيت بدافع من فضول يزرعه أساتذتهم في نفوسهم، وليس لأن نعيمة جزءاً من المعرفة الوطنية التي تحرص عليها المناهج».


مقالات ذات صلة

سردية ما بعد الثورات

كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون 3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

أسفرت عمليات التنقيب المتواصلة في موقع مليحة الأثري التابع لإمارة الشارقة عن العثور على مجموعات كبيرة من اللقى المتعدّدة الأشكال والأساليب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

«الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

صدر أخيراً العدد الـ«99»؛ يناير (كانون الثاني) 2025، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمن مجموعة من الموضوعات والمقالات والحوارات، في الأدب والفن والفكر

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون باقر جاسم محمد

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد»

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)
مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)
TT

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)
مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

في نهاية ربيع الأول من عام 1341 للهجرة، كتب الملك عبد العزيز رسالة جاء فيها «إلى حضرة الوطني الغيور والمصلح الكبير أمين أفندي الريحاني المحترم، دامت أفضاله، آمين. سلاماً وشوقاً وبعد، فبأشرف طالع وردني كتابكم الكريم المنبئ بوصولكم إلى البحرين، وإنكم مزمعون التوجه إلى طرفنا. أهلاً وسهلاً على الرحب والسعة. بالله لقد سررت جدّاً بذلك؛ فطالما كنت مشتاقاً للقياكم، وقد حققت الأيام شوقي والحمد لله».

وردت هذه الرسالة التي تعكس الرابط الوثيق بين الملك المؤسس عبد العزيز مع الأديب والمثقف اللبناني أمين الريحاني، في مطبوع وزعته دارة الملك عبد العزيز خلال الحفل الذي أقيم (الأربعاء) في مدينة الرياض، بمناسبة مرور مائة عام على صدور كتابه «ملوك العرب»، الذي أودع فيه الريحاني خلاصة رحلته إلى الجزيرة العربية بين عامي 1922 و1924، وقدّمها في عمل استثنائي وثّق معالم الجزيرة العربية وشخصياتها.

شارك في الندوة نخبة من الأكاديميين والمفكرين من مختلف التخصصات، لمناقشة الأبعاد المتعددة التي تضمنها كتاب «ملوك العرب».

واستعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات، وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها، من خلال استعراض تجربة المفكر الريحاني التي عكست وعي الملك عبد العزيز المبكر بأهمية كتابة التاريخ، وتوفير كل الوسائل المتاحة لتمكين المؤرخ من عمله.

الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن (الشرق الأوسط)

محطة لتأمل العلاقة بين الريحاني والجزيرة العربية

قال الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين رئيس مجلس إدارة الدارة، إن الاحتفاء بالكتاب هو بمثابة محطة لتأمل العلاقة الفريدة التي جمعت بين هذا المفكر الكبير والجزيرة العربية، مضيفاً أن الريحاني جاء مشحوناً بتصورات ضبابية، ومخاوف زُرعت في أذهان الكثيرين ممن لم تتسن لهم فرصة التعرف على جزيرة العرب من قرب.

وأشار الأمير فيصل، في كلمته خلال افتتاح الندوة، إلى أن «الجزيرة العربية كانت تتوجس من الآخر، وتنظر له نظرة شك، إلا أن الملك عبد العزيز بحكمته، تبنّى نهجاً منفتحاً ومرحباً بالجميع، إيماناً منه بأن معايشة القيم الإسلامية والعربية الأصيلة من شأنها تغيير المفاهيم وكسر الحواجز وعبور المسافات».

وأبان أن الريحاني «لم ينبهر بشخصية الملك عبد العزيز، حين أُسر بحنكته ورحابة صدره فحسب، بل سحرته أرض الجزيرة العربية، وأحب جبالها الشامخة ووديانها الغنية وصحراءها الفسيحة»، مضيفاً: «من أهم ما لفت نظر الريحاني هو اهتمام الملك عبد العزيز بالتاريخ والصحافة وتجارب الأمم الأخرى».

وتابع الأمير فيصل: «كما لم تفت الريحاني الإشارة إلى تفاصيل متعددة تعكس النهم لدى الملك المؤسس حول السياسات العالمية والدول الكبرى والفوارق بينها، وإدراكه كيف يسخر ذلك لمصلحة بلاده الفتية وللأمة العربية والإسلامية».

‏⁧وواصل: «من تجربة شخصية في الواقع، لا أكاد أعرف شخصاً كان عنده تصورات سلبية مسبقة عن هذه الدولة إلا وتشكلت عنده نظرة إيجابية بعد زيارتها والتعرُّف على شعبها الكريم».

من جهته، شارك الأكاديمي والباحث الدكتور أمين ألبرت الريحاني، رئيس مؤسسة الريحاني وابن شقيق المحتفى به، بكلمة مصورة، حكى فيها عن مسيرة الراحل البحثية، والأثر الذي تركته مؤلفاته على المستويين العربي والدولي.

الأمير فيصل بن سلمان خلال كلمته في افتتاح الندوة (دارة الملك عبد العزيز)

وقال أمين ألبرت إن الريحاني فوجئ عندما خاطبه الملك عبد العزيز بقوله: «لك الحرية يا أستاذ أن تتكلم معي بكل حرية، ولا أقبل منك غير ذلك، وأنا أتكلم معك بكل حرية، ولا تتوقع مني غير ذلك».

وأضاف: «القارئ يستوقفه ما كتبه الريحاني في مذكراته من اليوم الأول واللقاء الأول مع الملك عبد العزيز، حيث قال: لقد قابلت أمراء العرب كلهم، فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل، لست مجازفاً أو مبالغاً فيما أقول، فهو حقاً كبير، في مصافحته، وفي ابتسامته، وفي كلامه، وفي نظراته».

واستشهد ألبرت بآراء عدد من كبار المفكرين العرب والغربيين الذين أشادوا بكتاب «ملوك العرب» الذي نقل قصة الشرق إلى الغرب، وذلك بلغة علمية دقيقة وراقية، وكان كتابه إضافة أدبية في أدب السياسة، وفي أدب الرحلات الصحراوية.

ثم انطلقت الجلسات العلمية للندوة التي تناولت جوانب أدبية وتاريخية عن الكتاب والمؤلف، وشارك في الندوة نخبة من الأكاديميين والمفكرين من مختلف التخصصات، لمناقشة الأبعاد العميقة والمتعددة التي تضمنها كتاب «ملوك العرب».

واستعرضت الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات، حيث كتب في مجالات الأدب، والفلسفة، والسياسة، والاجتماع، وأدب الرحلات، وهو ما أكسبه مكانةً خاصةً، وجعل رؤاه تتجاوز الزمان والمكان.

من ندوة الاحتفاء بمئوية كتاب ملوك العرب (دارة الملك عبد العزيز)

وقال الدكتور عبد اللطيف الحميد، الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، إن أبناء الملك عبد العزيز ورثوا مكانة الريحاني لدى والدهم المؤسس، ومن ذلك اهتمام الملك سلمان بمؤرخي التاريخ السعودي، وفي مقدمتهم أمين الريحاني.

وأضاف الحميد في ورقته «السعودية كما رآها الريحاني» أن «السعودية أعادت طباعة كتابة ملوك العرب، في طبعته الخامسة قبل خمسة وأربعين عاماً، في استمرار للاهتمام بإرث الريحاني قبل أن تحين لحظة الاحتفاء السعودي العربي المئوي المهيبة هذه، بأمين الريحاني وبمؤلفه الرصين».

من جهتها، قالت الدكتورة زهيدة درويش أستاذة الأدب الفرنسي بالجامعة اللبنانية، إن المناسبة تجديد للجسور بين السعودية ولبنان، وإن الطريقة التي وصف بها الريحاني لقاءه بالملك عبد العزيز تعكس هذه العلاقة الممتدة منذ أكثر من مائة عام.

وأضافت درويش: «هذا الاحتفاء يأتي في لحظة مهمة للسعودية، التي تشهد تحولاً كبيراً في كل المجالات، والتنوع الثقافي والجغرافي لديها وما تتميز به من ازدهار ورخاء، يعكسان اعتزاز المجتمع السعودي بهويته».

وتابعت: «استوقفتني في الكتاب مقدمته، وما ورد فيه عن إشكالية الهوية والعلاقة بالآخر، وأزعم أن سؤال الهوية هذا، شكّل أحد الدوافع الرئيسية لزيارة أمين الريحاني إلى شبه الجزيرة العربية، التي وفرت له مادة غنية بوضع هذا المؤلف المرجع».

وواصلت: «يبوح لنا الريحاني، بأن وعيه تكوّن وهو طفل على صورة مغلوطة للعربي، تكشف عن أحكام نمطية وصور مسبقة طالما أطبقت على وعينا الثقافي، إلا لدى من حثّه فضوله المعرفي، إلى طرح السؤال، وبدء مغامرة البحث عن حقيقة يتبناها بقناعة».

واستعرض فيلم قصير جزءاً من سيرة أمين الريحاني، والكتاب الذي عدّ أحد أبرز الأعمال الأدبية التي وثّقت الحياة في المنطقة العربية وتاريخها في مطلع القرن العشرين، لتسليط الضوء على أثر هذا الكتاب المميز في توثيق الثقافة العربية ورؤى الريحاني في مستقبل المجتمعات العربية، من خلال استعراض محاور ثقافية وفكرية متنوعة.

وسعت «دارة الملك عبد العزيز» من خلال هذه الندوة إلى إحياء التراث الثقافي العربي، وتعزيز الوعي بأهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.