لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس وجهها الدولي

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.



شعراء سوريون... ابتداع «لغة ثالثة»

نزار قباني
نزار قباني
TT

شعراء سوريون... ابتداع «لغة ثالثة»

نزار قباني
نزار قباني

منحت سوريا الأدب العربي عبر السنين قامتين من أعلى القامات الشعرية في اللغة العربية: المعري قديماً، وأدونيس حديثاً. على أن هذين الاثنين –وإن احتلّا منزلةً رفيعةً لدي مؤرخي الأدب والمتضلعين في اللغة العربية وآدابها وأنصار الحداثة من شعراء ونقاد وقراء- لم يكونا قط شاعرين «جماهيريين» ولا جزءاً من وعي الرجل العادي أو رجل الشارع، إن كان هذا الأخير يقرأ الشعر أساساً.

فوعورة لغة رهين المحبسين ولزومه ما لا يلزم، وحداثة شاعر التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار وحفول لغته بالإشارات الأسطورية والتاريخية والشخصية، إلى جانب ما اتسم به عمل الرجلين من عمق فلسفي وتأمل ميتافيزيقي كانت كلها بمثابة حائط صلب يَحول بين المتلقي وبين ولوج عالمهما، ويجعلهما شاعرين للنخبة المثقفة او الصفوة القليلة من أصحاب الذائقة الرفيعة والمعرفة الواسعة.

ولأن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويضاده في الاتجاه، كما يقول علماء الطبيعة، فقد كان من المتوقع أن يولِّد هذا اللون من الشعر بعيد التناول رد فعل عكسياً، وأن يحدو بشعراء آخرين إلى استخدام لغة قريبة من لغة الحياة اليومية، والحكي العادي، وتطعيم الفصحى بالعامية، واجتناب مفردات القواميس وكتب الأدب القديمة.

بندرعبد الحميد

رد الفعل هذا موضوع كتاب صدر في هذه الأيام عنوانه «شعراء سوريون والحداثة الشفوية أو المحكية»، Syrian Poets and Vernacular Modernity، من تأليف دانيل بيهار Daniel Behar الأستاذ المساعد للأدب العربي الحديث في قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة العبرية في القدس.

والكتاب هو أحدث إصدارات سلسلة «دراسات إدنبره في الأدب العربي الحديث» التي تصدر في اسكوتلندا، ويشرف عليها الدكتور رشيد العناني.

وبصدور كتابها الجديد هذا تكون قائمة إصدارات السلسلة قد ضمت ثلاثين كتاباً عن مختلف الأجناس الأدبية؛ شعراً وقصاً ومسرحاً ونقداً ومقالاً منذ مطلع القرن التاسع عشر حتي يومنا هذا.

أهم معالم الطريق التي يتوقف عندها الكتاب ثلاثة: نزار قباني (1923 - 1998)، ومحمد الماغوط (1934 - 2006)، وشعراء قصيدة النثر مثل منذر المصري، ورياض الصالح الحسين، وبندر عبد الحميد،، وعادل محمود، وصالح دياب.

فنزار قباني هو الشاعر واسع الانتشار (خصوصاً وقد ترنَّم بشعره عبد الحليم حافظ وكاظم الساهر ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي) الذي لمس وترين حساسين في نفوس القراء: الوتر الأول هو الإيروسية والحوار بين الجنسين وتحليل عاطفة الحب والحديث من منظور المرأة (كما في قصيدة «شؤون صغيرة»)، والآخر هو مخاطبة الروح القومية والعاطفة الوطنية واستجاشة الهمم كما في قصائده عن المقاومة الفلسطينية والفدائيين وهوامشه على دفتر نكسة يونيو (حزيران) 1967. وإلى هذين الوترين أضاف وتراً ثالثاً هو النقد الجريء لجوانب من المجتمع العربي كما في قصيدة «خبز وحشيش وقمر».

محمد الماغوط

رمى نزار إلى نحت لغة جديدة وحدد منهجه بقوله: «بعد أن كانت اللغة الشعرية إقطاعية وطبقية ومتجبرة ومتكبرة وغليظة وثقيلة الدم علَّمتُها فن العلاقات العامة، وطريقة الحوار الديمقراطي، وأجبرتُها على النزول إلى المقاهي والمطاعم الشعبية والشوارع الخلفية والاختلاط بالبروليتاريا».

ويتمثل إنجاز نزار في إقامته جسراً بين الشفوي والكتابي، الموروث والحديث، الشرق والغرب، ومحاولته القضاء على الازدواجية اللغوية، ورفعه التكلفة بين الشعر والشعب، فهو يمثل مرحلة انتقالية بين الشفوية والفن العالي.

أما محمد الماغوط فقد أسس الشفوية في سبعينات القرن الماضي، متأرجحاً بين الحداثة والواقعية الاشتراكية، على نحو يذكِّرنا بالشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي. كان شعره محاولة جريئة للجمع بين الشفوية وحدة الانفعال النفسي، والانبثاق العضوي التلقائي، والتمرد الفردي. وهو في قصائده يفيد من تقنيات الفن السينمائي، ومن معطفه خرجت ما يسميها عباس بيضون «السلالة الماغوطية».

وشعراء قصيدة النثر بتمردهم على العروض الخليلي وإمعانهم في استخدام مفردات الحياة اليومية يمضون خطوة أبعد في الربط بين الفن والحياة وكتابة شعر واقعي يعكس هموم المواطن العادي ومعاناته ومسراته المتواضعة. إنه شعر - ضد، وكتابة «تحت سقف واطئ» تبتعد عن سبحات الخيال العالية.

رفض هؤلاء الشعراء النظرة الرومانسية إلى الشاعر على أنه بطل خارق للعادة، أو بتعبير علي محمود طه: كائن هبط الأرض كالشعاع السنيّ بعصا ساحر وقلب نبي. فالشاعر إنسان عادي يجول في الأسواق، ويعاني مشكلات الحياة اليومية مثل أبسط مواطن.

ولا يفوت المؤلف أن يشير إلى الصلة بين استخدام هؤلاء الشعراء السوريين اللغة المحكية ومحاولة الكاتب المسرحي المصري توفيق الحكيم في خمسينات القرن الماضي ابتداع «لغة ثالثة» تقوم في منزلة وسط بين الفصحى والعامية.

وكتاب بيهار قائم على أطروحة دكتوراه أُجيزت من جامعة هارفارد الأميركية في 2019، ومن ثم فهو عمل محكم يستوفي شرائط البحث العلمي من دقة وإحاطة ورجوع إلى الأصول. ومؤلفه واسع العلم باللغات يترجم إلى الإنجليزية من العربية والعبرية والألمانية والفرنسية والإسبانية. وكتابه إضافة قيمة إلى سلسلة جليلة ستظل لآماد كثيرة مقبلة مرجعاً لا غنى عنه لكل دارس جاد للأدب العربي الحديث.