غازي القصيبي... صيغة مركبة

شكل استثناءً في الكم والنوع

غازي القصيبي
غازي القصيبي
TT

غازي القصيبي... صيغة مركبة

غازي القصيبي
غازي القصيبي

حين سمعت به وتعرفت إليه، كانت المنطقة العربية تصطخب بغبار الصراعات السياسية، واختلاف التجارب الإبداعية في كتابة الشعر والقصة، وقد انعكست عليها آثار هزيمة 1967 المدوية... هذه التي عبَّر عنها الشاعر غازي القصيبي في ديوانه المدوي -هو الآخر- «معركة بلا راية» الذي شكل، بمعركته المبكرة ضد المحافظة التعبيرية والسائد الاجتماعي، بداية احتكاك مواهبه الأدبية والأكاديمية والإدارية بالمجتمع السعودي، وهو يخرج من عزلته التاريخية بقيام الدولة الثالثة، وسط مبادرات اجتماعية وثقافية، حاولت التعبير عن قسمات المجتمع الجديد، المتشكل بين الحربين العالميتين.

غير أن مبادرة غازي القصيبي امتازت بين تلك المبادرات عن غيرها بما أسميه «الإبداع المركب»، فهل بسبب كونه شاعراً، اصطبغت محاضراته في التدريس الجامعي أستاذاً في العلاقات الدولية والعلوم السياسية بجامعة الملك سعود بحيوية الدرس وانبهار الطلاب... وتجربته الإدارية وزيراً للصناعة والكهرباء، عبر إنشائه شركة «سابك»، ومأسسة شركة الكهرباء، وكهربة الريف... فوزيراً للصحة ثائراً على تخلف الخدمات وفساد الذمم، ثم وزيراً للمياه وأخيراً وزيراً للعمل مصراً على السعودة، ومحارباً بطالة العمالة الوطنية، وتجارة الفيز... بشجاعة غير مسبوقة في الانتصار لحق المواطن.

نعم، هل بسبب كونه شاعراً صافي المشاعر، نبيل المعاني، عميق التدين، وطني المنبت، قومي الانتماء، إنساني الرؤية اصطبغت تجربته بالبعد المضاف؟ فلم يكن أسير تنظيراته الأكاديمية المجردة في قضايا التنمية، وقضايا الحراك الاجتماعي والثقافي، وإنما كسر بمواهبه العديدة وجرأته الأدبية، وقبل ذلك بوطنيته الفذة، جمود النمطية وبلادة البيروقراطية، فإذا بغازي القصيبي الشاعر الرومانسي القومي، يبدو وزيراً ناجحاً، ومفكراً تفاعلياً، وروائياً طليعياً.

فروايته «شقة الحرية» وكذلك «العصفورية» شكلتا منعطفاً مفصلياً في تاريخ الأدب الروائي السعودي، وهو ما شجع قوافل كتاب القصة وكاتباتها نحو الانطلاق، بعد ملامسته المسكوت عنه في نفسية جيله المنفتح في عقد الستينات، على التجارب السياسية والأفكار الآيديولوجية، قبل أن يعود ورفاقه من القاهرة وبيروت والولايات المتحدة الأميركية؛ لمواصلة مسار التنظيم في مؤسسات الدولة والمجتمع، والتحديث في حركة الثقافة والتعليم الجامعي في المملكة.

هنا أتوقف عند تجربة غازي الروائية التي ابتدأها برواية «شقة الحرية»، وقد أخضع مجمل قضايا المجتمع المتغيرة في المملكة والخليج للنقد التحليلي، بأسلوب روائي، زاوج فيه كاتبها بين أشكال التعبير المختلفة، مزاوجته للتناقضات التي عاشها جيله في الخمسينات والستينات، باحثاً عن قيمة الحرية على مفترق طرق آيديولوجية متباينة، بل قل متصارعة، هي ما جعلت ذلك الجيل يعيش الحرية تارة في الانغماس الوجودي بلذائذ الشهوة الأبيقورية، وتارة مقتحماً الثالوث المحرّم، بحثاً عن الحرية في مظاهرة قومية، أو موقف آيديولوجي، تأكيداً لتحرر ذات مثقلة بتركات الماضي.

«شقة الحرية» و«العصفورية»

لقد شكلت «شقة الحرية» بانفتاحها غير المسبوق على المسكوت عنه في حياتنا نقطة انطلاق لمحاولات روائية أخرى، تجرأت على ملامسة تجارب المجتمع، وتفاعل الأجيال بما يجري حولنا. صحيح أن الدكتور تركي الحمد، وهو تلميذ للقصيبي بالمصطلح التعليمي والمعنى الأدبي، افتقر إلى المهارة الفنية في صياغة قصصه، إلا أنه وضع يده على جروح عدة، ما كان له أن يقوم بذلك، لو لم يجد أمامه معلماً ملهماً ونموذجاً طازجاً بالقضايا، ومفعماً بالتعبير الحر المؤثر.

لم يكتف غازي بهذه التجربة، فقد كثفها في رواية «العصفورية» بأداء نوعي فائق، مفجراً طاقته السردية، عبر «وحش النوع الأدبي» حسب وصف الناقد الأميركي روبرت همفري، بسخرية مرّة عبرت عن اغتراب المثقف العربي، وقد أصيب بصدمة الاحتكاك مع الآخر، وبين الجنون والعقل. هذه المرة الثنائية تأتي من الداخل، يستخدم غازي عبر روايته حيلاً فنية بارعة في بناء شخصياته، مستفيداً من نظرية فرويد في التحليل النفسي، مازجاً بين معاناة أخيه الراحل المتفلسف نبيل، ومعاناة الأديبة اللبنانية مي زيادة، التي انتهت بها ظروف الحجر النفسي والاجتماعي والسياسي إلى مستشفى «العصفورية» في محاولة يائسة للعلاج من هذه الأمراض، المستحكمة بالنفسية العربية.

غازي القصيبي صيغة مركبة من محتوياته

هذا، وقد استفاد غازي من تجربة جويس الآيرلندي في تيار الوعي، عبر روايته الشهيرة «يولسيس» في التداعي الحر الذي اكتشفه عالم النفس الأميركي وليم جيمس، بوصف أن الذكريات والأفكار والمشاعر توجد خارج الوعي الظاهر، إذ تظهر الإنسان، لا على أنها سلسلة منتظمة، بل على أنها تيار... فيضان يتدفق على الوعي الداخلي.. غير أن غازي في رائعته «العصفوية» التيارية المتدفقة لم يتخلص من شاعريته، بل سيطرت عليه في قصه هذا، حتى إنني وجدت شباباً يافعاً يستظهر مقاطع طويلة من «العصفورية»، أتذكر حينما أنهيت قراءتها، هاتفت مؤلفها في لندن، وقد بلغ بي الافتتان حداً طالباً منه استكمال الجزء الثالث، وبذكائه المعهود قال لي: أراك تشبهني بنجيب محفوظ، وكأن كل روائي عيال عليه؟ هل تريد أن تسحب البساط من تحتي؟

أجبته: «إن ثلاثية محفوظ هي رواية أجيال... بينما (شقة الحرية) و(العصفورية) هما روايتا قضايا، فإذا كانت الأولى تدور أحداثها حول بحث جيلك عن الحرية، فإن الثانية تتمحور حول قيمة الذات العربية المهشمة، وهي تعيش مصادمة حضارة القرن العشرين، وحروب أممه وصراعاته الآيدولوجية، والمطلوب الآن أن تكتب شيئاً عن عودة الطيور المهاجرة إلى أوطانها. لِمَ لا تكتب يا غازي عن قضية التحول الاجتماعي بعد عودتك وزملائك في السبعينات، إذ قدتم التغيير من مدرجات الجامعة، إلى أعمدة الصحف، وبين أروقة الوزارة». فوجئت وهو يجيبني: «إن المشروع جاهز في رأسي، لكنه ليس على شكل رواية، وإنما سرد لتجربتي الإدارية».

بعد ذلك بقليل قرأ السعوديون والعرب أجمعين نادرته العجيبة «حياة في الإدارة». لم تكن قصة بالمعنى الفني، لكنها لم تخل من هيكلها الأساسي (السرد)، وإلا ما الذي يجعلك ويجعلني، نقدم على التهام أوراق هذا الكتاب البيروقراطي في موضوعه بلذة جمالية، لو لم يكن السرد مستغرقاً في أسلوبه ومسيطراً على مبناه. إذ «حياة في الإدارة» نص واحد متدفق كتيار، من ألف الكتاب إلى يائه، من بدايته إلى منتهاه، بلا توقف ولا فواصل.

أخلص من هذه الإلمامة العجلى على تجربة غازي الواسعة، المتعددة والمثيرة، إلى أنه شكل بـ«إبداعه المركب» استثناءً في الكم والنوع كما وصفته بحق صحيفة «الجزيرة» في كتابها التكريمي، حتى اخترق مقاسه حدود المحلية الوطنية إلى آفاق أخرى، فإذا هو وزير مصلح ومفكر إصلاحي، شاعر متمرد على النسق وتقاليد العائلة... وروائي أشد تمرداً على الأوضاع والأشكال. هكذا يشار إلى اسم غازي القصيبي اليوم في العالم العربي وخارجه.

وهكذا تقرأ تجربته الفريدة التي اختزلت تجارب أجيال بلده الاجتماعية والثقافية، مثلما اختزل تجارب العرب ماضياً وحاضراً في الشعر والأدب والثقافة، وكذلك الرؤى العالمية في قضايا التحليل السياسي وأدبيات التنمية. كل هذه العوامل تقف وراء جملة النجاحات -أدبية وإدارية- التي تحققت لغازي، يدفعه نحوها حبه العميق لوطنه وأمته، المنزه من نوازع الإقليمية والقبلية والمذهبية. يا ترى، هل كان لمولده في الأحساء من أب نجدي وأم حجازية، وتربيته في مجتمع البحرين المختلط المكونات، دور رئيس وراء هذا التميز والنجاح في تجربة غازي؟

هذا ما ينبغي أن يكون مثار اهتمام الدارسين لظاهرة غازي القصيبي، وقد أصبح ملء السمع والبصر. مالئ الدنيا وشاغل الناس، كعمه أو أبيه أبي الطيب المتنبي صيغة مركبة من الطموح والزهد، السلطة والحرية، الحنين والاغتراب، الإبداع والتجاوز ويا لها من صيغة، يا أبا يارا.


مقالات ذات صلة

غزيون في سباق مع الزمن لحماية تراثهم الثقافي بعد دمار الحرب

المشرق العربي خلال أعمال ترميم داخل المسجد العمري الكبير الذي تضرر جراء القصف الإسرائيلي خلال الحرب في مدينة غزة يوم 17 نوفمبر 2025 (رويترز)

غزيون في سباق مع الزمن لحماية تراثهم الثقافي بعد دمار الحرب

يحاول سكان غزة جاهدين في سباق مع الزمن للحفاظ على تراثهم الثقافي بعد الدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزة جراء الحرب.

«الشرق الأوسط»
يوميات الشرق شهدت «أيام الثقافة الباكستانية» مشاركة نخبة من المطربين الباكستانيين بحضور آلاف الزوار (واس)

«انسجام عالمي2» تُطلق «أيام الثقافة الإندونيسية» في الرياض

تواصل العاصمة السعودية احتضان ثقافات العالم، حيث تنطلق، الثلاثاء، فعاليات «أيام الثقافة الإندونيسية» ضمن مبادرة «انسجام عالمي2»، في حديقة السويدي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق يبرز المعرض إسهامات الفنانين الرواد في صياغة الهويات البصرية الوطنية (مسك)

رحلة بصرية لـ78 فناناً رائداً تستكشف تطوّر الفن في الخليج

لوحات فنية ومنحوتات وأعمال تركيبية مفاهيمية أنجزها 78 فناناً من دول الخليج خلال العقود السابقة توثق رحلة فنية تعكس اللغات البصرية المتنوعة التي برزت في المنطقة.

عمر البدوي (الرياض)
أوروبا أفراد من الشرطة الفرنسية يقفون بجوار مصعد استخدمه اللصوص لدخول متحف اللوفر على رصيف فرنسوا ميتران في باريس... 19 أكتوبر 2025 (أ.ف.ب)

الادعاء الفرنسي يوقف 4 أشخاص على صلة بسرقة متحف اللوفر

أوقفت السلطات الفرنسية، الثلاثاء، 4 أشخاص آخرين، على خلفية التحقيق بشأن سرقة مجوهرات من التاج الملكي الفرنسي من متحف اللوفر الشهر الماضي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق يحتفي «متحف البحر الأحمر» بقرونٍ من التبادل الثقافي والتواصل الإنساني (المتحف)

افتتاح «متحف البحر الأحمر» في «جدة التاريخية» 6 ديسمبر

يفتح «متحف البحر الأحمر» في «جدة التاريخية» أبوابه يوم 6 ديسمبر، ليكون صرحاً ثقافياً ومعرفياً ووجهة عالمية تُجسّد رؤية السعودية في صون الإرث الثقافي والطبيعي.

«الشرق الأوسط» (جدة)

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.