تمثالان نحاسيان من معبد باربار في البحرين

يعكسان تلاقح الأساليب وتداخل الطرق الفنية في إقليم دلمون

تمثالان منمنمان من محفوظات متحف البحرين الوطني
تمثالان منمنمان من محفوظات متحف البحرين الوطني
TT

تمثالان نحاسيان من معبد باربار في البحرين

تمثالان منمنمان من محفوظات متحف البحرين الوطني
تمثالان منمنمان من محفوظات متحف البحرين الوطني

أشهر المجسمات الأثرية التي عُثر عليها في جزيرة البحرين مجسّم نحاسي يمثل رأس ثور ذا قرنين هلاليين ضخمين، ويُعرف بثور باربار، نسبة إلى اسم المعبد الأثري الذي خرج منه. يُعرض هذا الثور الذائع الصيت في واجهة خاصة به في متحف البحرين الوطني، وسط مجسّمين صغيرين خرجا كذلك من الموقع الأثري نفسه، يمثّل أحدهما طيراً ذا عنق طويل، ويمثّل الآخر شاباً حليق الرأس، يقف منتصباً، رافعاً يديه المتشابكتين فوق محيط صدره.

يحمل معبد باربار اسم القرية التي تجاوره في شمال غرب مملكة البحرين، وتتبع المحافظة الشمالية، وهو موقع أثري موغل في القدم، كشفت معالمه الأولى في عام 1954 بعثة دنماركية من متحف ما قبل التاريخ في آرهوس، خلال أعمال المسح والتنقيب التي قامت بها بغية البحث عن أولى المستوطنات في أراضي البحرين. تواصلت أعمال المسح في السنوات التالية، وتبيّن أنّ هذا المعبد هو في الواقع مجمع يحتضن ثلاثة معابد متعاقبة، بُنيت في مراحل مختلفة فوق تل منخفض يقع جنوب قرية باربار، بين منتصف الألف الثالث ومطلع الألف الثاني قبل الميلاد، يوم كانت جزيرة البحرين حاضنة رئيسية من حواضن إقليم دلمون الذي امتدّ على ساحل شبه الجزيرة العربية، وانفتح على أقاليم عدة من بلاد الشرق الأوسط ووادي السند.

عُثر على مجسّم رأس الثور في ركن مركزي من معبد باربار الثاني، وهو الموقع الذي يوصف بقدس الأقداس، وعُثر على مجسّمي الطير والشاب المنتصب في ركن يقع في الناحية الشمالية من هذا المعبد، يبدو أشبه بحفرة خُصّصت لحفظ القطع النذرية المتعدّدة الأنواع والأشكال. صُنعت هذه القطع الأثرية من النحاس، غير أنها تحوي نسبة من القصدير، وتبدو في ظاهرها كأنّها مصنوعة من البرونز. يبلغ طول الطير كما عرضه نحو 13 سنتمتراً، وهو مكوّن من قطعة واحدة يغلب عليها طابع التجريد والاختزال. الرأس صغير للغاية، ويتمثّل بكتلة بيضاوية مجرّدة، والعنق طويل ونحيل، وهو أشبه بعنق الطاووس. على العكس، يبدو البدن ضخماً، ويتمثّل كذلك بكتلة بيضاوية تخلو من أي ملامح تحدّد الصدر والبطن والخاصرة والظهر. الجناحان ذائبان كلياً في هذه الكتلة المتراصة، والذيل على شكل مثلث بسيط. مثل الجناحين، تبدو القائمتان ذائبتين في كتلة مستطيلة، ويوحي شكل هذه الكتلة بأنها بمثابة حلقة تصل بين هذا الطير وأداة يصعب تحديد هوّيتها ووظيفتها.

يبدو هذا الطير في تكوينه المختزل من طيور الفنون البدائية، ولا نجد ما يماثله في ميدان الأختام الدلمونية التي تزخر بصور الطيور. من جهة أخرى، ربط بعض البحاثة بينه وبين طيور معاصرة له خرجت من وادي السند، في المناطق الشمالية الغربية من جنوب آسيا. ظهرت ملامح هذا التشابه في قطعة مصدرها موقع لوتهار الأثري في ولاية غوجارات، شمال غرب الهند، في الجزء الغربي من خليج كامبي، غير أن المقارنة بين الطيرين تُظهر أنّ هذا التشابه يبقى محدوداً، ولا يصل قطعاً إلى التماثل.

يختلف مجسّم الشاب المتعبّد بشكل كبير، بالرغم من حضوره في كتلة واحدة غلب عليها طابع السكون والجمود. يبلغ طول هذا المجسمّ المنمنم 11 سنتمتراً، وعرضه 2.5 سنتمتر، ويتميّز بملامحه التصويرية. يقف هذا الشاب بثبات، وتبدو ساقاه مستقيمتين وملتصقتين الواحدة بالأخرى، كما تبدو ذراعاه ملتصقتين بصدره، ويداه مضمومتين ومتشابكتين. الكتفان صغيرتان وضيقتان، العنق عريض، ويشكل قاعدة لرأس دائري يبدو حليق الشعر، وسمات وجه هذا الرأس لا تزال ظاهرة رغم تآكلها. ينتصب هذا المتعبّد بوقار، قابضاً بكفّه اليمنى على كفّه اليسرى، وفقاً لوضعية ثابتة عُرفت في بلاد النهرين بشكل واسع على مدى قرون من الزمن، منذ مطلع الألفية الثالثة قبل الميلاد.

يتبنّى متعبّد باربار نسقاً فنياً نشأ في بلاد ما بين النهرين وشاع فيها كما تشهد حركة كفّي يديه المضمومتين

يحضر هذا المجسّم فوق كتلة مقوّسة تحمل في طرفيها ثقبين دائريين، وتوحي هذه الكتلة بأن المتعبّد الذي يقف فوقها يزيّن في الواقع مقبضاً لأداة ما. أثارت هذه القطعة سجالاً لا يزال مفتوحاً منذ اكتشافها في عام 1954، وقيل في عام 1970 إنها في الواقع مقبض لمرآة نحاسية ضاعت صفحتها الدائرية المصقولة، تُماثل في تكوينها مرآة من هذا النسق خرجت من موقع ميهي الأثري في جنوب إقليم بلوشستان الباكستاني. هكذا تمّ الربط بين مرآة باربار ومرآة ميهي التي تنتمي إلى فرع من فروع حضارة وادي السند، وسادت هذه القراءة حتى عام 1983، حيث قورنت مرآة باربار بمرايا أخرى مشابهة خرجت من مواقع أثرية تقع جنوب آسيا الوسطى، تحديداً في أوزبكستان. توسّع هذا السجال المفتوح، وفي عام 2008، خرجت قراءة جديدة تربط هذا النسق من المرايا بمواقع في محافظة لُرستان الإيرانية، غرب جبال زاكروس.

في الواقع، تتكوّن هذه المرايا في الغالب من صفحة دائرية مصقولة ومقبض على شكل مجسّم آدمي. يأخذ هذا المجسم طابعاً أنثوياً مجرّداً من التفاصيل، يغيب رأسه كلياً في صفحة المرآة الدائرية المتصلة مباشرة بعنقه. على العكس، تتألّف مرآة باربار في تكوينها الأصلي من صفحة دائرية ثُبّتت تحت قدمي الشاب المتعبد الذي يزيّن مقبضها، لا فوق رأسه، ويتميّز هذا الشاب بظهور ملامحه التصويرية الناتئة بشكل جلي، بخلاف المقابض الأنثوية التي يطغى عليها طابع يجمع بين التحوير والتجريد الهندسي.

في الخلاصة، يتبنّى متعبّد باربار نسقاً فنياً نشأ في بلاد ما بين النهرين وشاع فيها، كما تشهد حركة كفّي يديه المضمومتين، ويحلّ هنا في معصم مرآة نحاسية تعود إلى عصر سبق ظهور هذا النوع من المرايا في مصر القديمة. يبدو هذا المجسّم المنمنم فريداً من نوعه في هذا الميدان، ويعكس بشكل ساطع تلاقح الأساليب وتداخل الطرق الفنية المعتمدة وسط إقليم دلمون الذي شكل في زمنه طريقاً للتجارة العالمية ربطت بين أقاليم متباعدة من الشرق القديم.


مقالات ذات صلة

السينما السعودية للاستفادة من الأدب المحلي

يوميات الشرق مشاهدة الأفلام المأخوذة عن روايات ودراستها جزآن أساسيان بالورشة (الشرق الأوسط)

السينما السعودية للاستفادة من الأدب المحلي

بدأ برنامج «صناع الأفلام» التابع لهيئة الأفلام السعودية برئاسة المخرج عبد الله آل عياف، تنفيذ «خطة طموح» للاستفادة من الأدب المحلي عبر ورشة «الاقتباس»

انتصار دردير (القاهرة )
ثقافة وفنون جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)

جمال بيروت الفريد هو مصدر ثرائها وشقائها الأبديين

قليلة هي المدن التي كانت مسرحاً للنزاعات وصراعات القوى المتناحرة، كما هي حال بيروت ذات الجمال الآسر والتاريخ الحافل بالمفارقات.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون هدى عمران

هدى عمران: أتسلى بمصير شخصياتي عبر لعبة ذكية مع القارئ

تُولي الشاعرة والكاتبة المصرية هدى عمران شغفاً لافتاً بالمغامرة الفنية، والانفتاح على التجريب كلعبة تُعيد بها تشكيل الحكاية، واستكشاف عالمها الشعوري

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون 100 عام من القصة التشيلية

100 عام من القصة التشيلية

بصدور أنطولوجيا القصة التشيلية المعاصرة، الموسومة بـ«لو لمست أوتار قلبي» - دار خطوط وظلال، عمّان - 2024، يكون المترجمان المغربيان.....

باسم المرعبي
ثقافة وفنون جاك أتالي

لماذا انقلبت حفلة افتتاح الألعاب الأولمبية إلى هجوم ضد اليسار «الووكي»؟

لا يزال الخلاف الذي يقسّم النخبة الثقافية والسياسية بخصوص «الووكية» في فرنسا تترصّده وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

هدى عمران: أتسلى بمصير شخصياتي عبر لعبة ذكية مع القارئ

هدى عمران
هدى عمران
TT

هدى عمران: أتسلى بمصير شخصياتي عبر لعبة ذكية مع القارئ

هدى عمران
هدى عمران

تُولي الشاعرة والكاتبة المصرية هدى عمران شغفاً لافتاً بالمغامرة الفنية، والانفتاح على التجريب كلعبة تُعيد بها تشكيل الحكاية، واستكشاف عالمها الشعوري، وأسئلتها حول الذات.

صدر لها أخيراً مجموعتها القصصية «حُب عنيف» عن «الكتب خان للنشر» بالقاهرة، كما صدرت لها رواية «حشيش سمك برتقال» التي حصلت على منحة «آفاق»، ولها عدة دواوين شعرية منها «ساذج وسنتمنتالي»، و«القاهرة»، و«كأنها مغفرة».

هنا حوار معها حول روايتها الجديدة وتنوع الكتابة ما بين الشعر والسرد.

* في مجموعتك «حب عنيف» تمرُّد على الحدود بين القصص؛ حيث تبدو بطلاتها وكأنهن يتعثرن في حيوات بعضهن، فتتقاطع أحلامهن، ويركبن «المركب» نفسه. حدثينا عن لعبة البناء في تلك المجموعة.

- لم يكن دافعي التمرد، بقدر اللعب، واهتمامي المهووس بفكرة بناء «كتاب»، والسعي خلف فكرة الكُلية، حتى في الكتب التي أقرأها. كقارئة انتقائية ومُقلّة، لا أحتفظ بأي كتاب «حلو» في مكتبتي، لا يكفي أن تكون الرواية أو المجموعة القصصية أو الديوان الشِّعري جيداً، لكنني أبحث عن الشمولية، عن عالم متكامل ومعنى عميق ومجاز متعدد وفهم متجاوز للحياة؛ لذلك حين أفكر وأنا في مرحلة التحرير الأولى من أي نصٍ سأنشره في عملية البناء، كيف أنتقل بنصي - سواء كان شِعراً أو سرداً - من كونه مجرد «مجموعة» إلى كونه كتاباً، فمثلاً كلمة «الحب» في حد ذاتها «لا تعني لي شيئاً بعينه، أو قد تحمل دلالات سطحية»، لكنها تكتسب بُعداً آخر داخل كتاب متداخل، فتمتزج بمعانٍ أخرى مثل الأبوة والإيمان والتطهر والعنف والموت والحياة، وهنا يتشكل الحب فلا يصير كأي حب، بل يصبح حُبي الخاص وعنفي المتفرد.

لكن تصعب الأمور أكثر في «مجموعة قصصية» محكومة باستقلالية نصوصها، فلم أرد لـ«حب عنيف» أن تصير متتالية، ولم أرد لها أن تصير مجرد قصص منفصلة لا تشملها فقط وحدة الزمن، لكن أردت لها أن تحتمل شيئاً أكبر شاعرياً وممتعاً، عن سؤال: «ماذا لو نقلنا فلانة في حياة فلان، ماذا لو كانت للمرء حيوات متعددة؟» قد تصبح لعبة المرايا التي هي شاغل أساسي في تاريخ الأدب، ولو أني أعتبرها لعبة أنثوية بالأساس. وهكذا أردت أن ألعب لعبة ذكية مع القارئ، على أمل أن أجعله يبحث أكثر داخل هذا العالم. أن أجعله يعود إليه مرة وربما مرات أخرى، وكل مرة يعود يكتشف شيئاً جديداً كان مخفياً عنه.

* يبدو المتن السردي في المجموعة وكأنه هارب من متن فني موازٍ (لوحة، صورة فوتوغرافية... إلخ) ففي إحدى القصص بدا الأبطال وكأنهم يتعرفون على وجودهم في لوحة غوغان، وبطلة أخرى تستعيد إيميلي برونتي، كيف تُطورين تأثرك بالفنون بصورة متواشجة داخل كتابتك؟

- ككاتبة، أتسلى بمصير شخصياتي، فأنا أيضاً مؤمنة بوجودي كشخصية خيالية داخل تلك الفنون التي أحبها. حين تلمسني وتؤثر فيّ، فتعينني على فهم نفسي، وتجعلني أتواضع أمام جمال الفن وتعدده، ومحدودية قدرتي لخلق كل هذه الفنون، لكن أنا وغيري من الفنانين ما نحن سوى صنيعة هذا الإرث الإنساني من الأدب والحكايات والموسيقى والشِّعر. لي فنانيّ المفضلون، أحب أن أصحبهم معي في رحلاتي. لكن دائماً يُنصَح الكاتب بألا يذكر أسماء كتّاب وفنانين مشاهير حتى لا يبدو «مستعرضاً»، وليظهر كإنسان طبيعي. كأن بذلك تُكتسب المصداقية. لكني في لحظة ما وجدت هؤلاء الأصدقاء يأتون بطرقهم التلقائية الطبيعية داخل القصص، دون تدخل كبير مني.

لا أنفصل عن ذاتي حين أكتب، فالكتابة كلها منبعها أسئلتي الذاتية، وأدواتي المعرفية، وميولي وانحيازاتي الفكرية والإنسانية. لكنها لا تأخذني إلى مدارات شخصية إلا نادراً، فلا أكتب عن مواقف حياتية واقعية، فأفرق جيداً بين الذاتي والشخصي؛ لأنني لست منغلقة على نفسي، وذاتي هي وسيلتي الوحيدة التي أمتلكها لأنفتح على العالم وعلى الآخر، للبحث عن المعرفة، والبحث عن معنى الحياة؛ لذلك طبيعي جداً أن أرى إيميلي برونتي أو غوغان وغيرهم يصاحبون الشخصيات التي أنسجها في قصصي.

* في المجموعة احتفاء بنبرة الحكاية، فالأم تجمعها بابنها آصرة خاصة عبر الحكايات، وهناك تناص مع «ألف ليلة» بغرابة حكاياتها وتحولاتها كما في قصة «صداقات خطيرة» مثلاً. ماذا تحمل تلك اللمحات من علاقتكِ بالحكايات التراثية؟

- الحكايات مُكوّن أساسي في شخصيتي، ليست فقط «الليالي العربية»، بقدر تربيتي في عائلة تجلّ الحكايات والسِّيَر الشعبية وتتغنى بها. وهذا ليس شيئاً استشراقياً كما يبدو لبعض المثقفين، الذين كبروا في أحضان الطبقة الوسطى، لكنه شيء بديهي وفطري في بيئة صعيدية أو في أجواء الدلتا على ما أظن. وكان تحدياً كبيراً بالنسبة لي أن أكسر القواعد والنصائح المتعارف عليها في عالم الأدب؛ لا تكتب حكاية داخل النص، لا تكتب حلماً داخل النص، لا تكتب أسامي المشاهير، لا لا لا... وغيرها.

هذه النصائح لها وجاهتها، وكسرها مغامرة، قد تنقل النص الجيد لمنطقة الرديء. لكن المثل يقول: «من غير المخاطرة مفيش متعة». وهكذا بروحٍ عنيدة، رُحت أكسر كل تلك المحظورات، لكن في الوقت نفسه بأرق المسؤولية ألا أقع في فخ الاستسهال أو الرداءة.

* وُصِفت روايتك «حشيش سمك برتقال» بأنها قصيدة نثر طويلة، ونلتقي في ديوانكِ «كأنها مغفرة» بشكل «القصة القصيدة»، هل تجدين في التحرر من النوع الأدبي وتصنيفاته لمحة من هُويتكِ الأدبية؟

- أظن أن هذا الوصف عن رواية «حشيش سمك برتقال» هو أكثر وصف أسعدني، رغم ما قد يعنيه من متلفظه باعتباره نقداً سلبياً، لكنني أنحو تجاه رأي كبير يقول إن السرد الطموح يتلمس الشّعر. وهذا التلمس لا يكون بنحت اللغة، لكن بفهم أعمق لجوهر الشِّعر باعتباره مجازاً كُلياً، وتكثيفاً شعورياً لسؤال النص، فإن أردت أن أطرح سؤالاً عن الوحدة، كما في الرواية، فليس من الشطارة إغلاق اللغة على نفسها لتصير قطعة أدبية منفصلة، لكن بشحذ هذه اللغة، ناحية الشعور والمعنى والبناء، لتؤدي جميعها إلى مجاز شامل عن الوحدة. قد يختار كاتب غيري كتابة الحكاية بأخذ مسافة محسوبة عن النص. لا عيب في أيٍّ من الأسلوبين. الفيصل عندي هو الأصالة.

هذا يحيلنا لسؤال عن أسلوب الفنان، وأنا شاعرة - بالمعنى الذي أسلفته - في رؤيتي وفهمي للعالم. ولا أتخلى عنه لصالح ذائقة بعينها، تتوجس من الشعراء الذين يكتبون الروايات! وهكذا فإني أرى الشِّعر في كل نص وبكل طريقة. وأسمح لنفسي أن أكتب أي شكلٍ، سواء كانت سطوراً أو كُتَلاً سردية، وبهذه الطريقة أدخل إلى نصوصي. الشِّعر عندي هو الجوهر، وكل نص يؤدي إليه.

* «العنف» ثيمة تلتقطها كتابتكِ بمزيج من الهشاشة والتعقيد؛ حيث «غضب يخبئ الضعف، وعنف يخبئ العنف، وعنف يخبئ الحب»، كيف تستكشف أعمالكِ العنف؟

- العنف سؤال أساسي في أعمالي. وقد أتوسع فيه داخل رسالة الماجستير التي أحضرها حالياً. يمكن بنظرة أنثوية على العنف، باعتباره شيئاً أكبر من حضوره المادي، لكن بمعناه الرمزي، كما يعرفه المفكر الفرنسي بيير بيرديو، حول علاقات الهيمنة والسلطة، وفرض رؤية للعالم. وأحب أن أشرحه بعقل شاعر وفنان، فأجسده في قصصي باعتباره طريقة للتواصل والهزيمة والعاطفية والمتعة. لا من منطقة الرثاء على الذات أو الرثاء على المرأة.

* رغم انتمائك واعتزازك بأصولك الصعيدية، فإن العاصمة القاهرة تبدو مركزية في أعمالِك، هل تجدينها مُعادلاً لمشاعِر الوحدة والتهميش؟

- لا أعتبر القاهرة معادلاً للوحدة والتهميش، بل أراها ملعباً كبيراً، نلهو ونحيا فيه، تحتمل كل معنى وكل شعور، بداية من الوحدة، مروراً بالأُلفة والعنف والفن إلى المعاني الأكبر كجدوى الوجود ذاته؛ لذلك أنا أدخل لعالم القاهرة بقلب دَخيل ومندهش ومغامر دائماً.

* بدأتِ ديوان «كأنها مغفرة» بالحديث عن المحو والنسيان، وصولاً لنقطة «كل ما أريده هو استعادة الزمن، امتلاكه من جديد كأن كذلك تكون المغفرة»... حدثينا عن مجاز الحياة والمغفرة بين المحو والاستعادة هنا.

- تشغلني دائماً فكرة «المغفرة» كمعنى أساسي لوجودي. وكنت سابقاً أفكر في أن النسيان هو وسيلتي؛ لذلك أنحو إلى المحو وتضييع الأشياء والموجودات. لكن رحلتي داخل الديوان جعلتني أستكشف دوراني حول الزمن، في محاولة لاستعادة لحظات الشقاء والحزن واستبدالها بالشِّعر والفن. ولتمام صِدقي، فهمت أن عليَّ المغفرة من منطقة التسليم بضآلة وجودنا في الحياة، وبحقيقة فنائنا، ومحاولة السير مع الزمن لا باستدعاء الماضي. شعور غير مستدرك، قد يُضيِّع الشِّعر نفسه؛ لأن هذه الحقيقة تدعو إلى التخلي. لكن يمكنها أيضاً أن تضعنا في منطقة أكثر تواضعاً وعزاءً.

* تعملين محررة أدبية، كيف تنظرين إلى الجدل حول أهمية دور المحرر الأدبي الذي لا يزال يُثار في عالمنا العربي إلى اليوم؟

- أتمنى أن تُعطى أهمية كبرى لدور المحرر الأدبي في الوطن العربي، فالمُحرر لا يعيد كتابة النص للكاتب، كما يتخيّل البعض، لكنه عينٌ مُخلِصة تنظر للنص مع الكاتب. وفي أحيان كثيرة حين أقرأ نصوصاً أحس بأنها كان ينقصها تلك العين.

* بعين طائر، كيف تتأملين صوتك ومفاوضاتك مع الكتابة، مع بداياتك في «ساذج وسنتمنتالي» وصولاً إلى «حب عنيف»؟

- سؤال صعب جداً، لكني أحب دائماً تأمل كل تجربة بعد الانتهاء منها، رؤية عيوبها قبل محاسنها. ومن الممكن أن أكون قد أدركت أن لي صوتاً مزعجاً، غير مُستأنس، يثير المتاعب؛ لأنه يريد الوصول لحقيقة وجوهر الأشياء، لكن الحقيقة ليست لكل البشر.