100 عام من القصة التشيلية

أنطولوجيا متعددة الأجيال ضمت أحد عشر كاتباً وكاتبة

100 عام من القصة التشيلية
TT

100 عام من القصة التشيلية

100 عام من القصة التشيلية

بصدور أنطولوجيا القصة التشيلية المعاصرة، الموسومة بـ«لو لمست أوتار قلبي» - دار خطوط وظلال، عمّان - 2024، يكون المترجمان المغربيان سعيد بنعبد الواحد وحسن بوتكى قد أضافا إلى المكتبة العربية كتاباً جديراً بالتنويه والاهتمام. وهو يجيء ضمن سلسلة إنجازاتهما ومبادراتهما المتميزة، بشكل فردي أو مشترك، في مجال ترجمة الأدب المكتوب بالإسبانية أو البرتغالية إلى العربية. تكمن أهمية هذه الأنطولوجيا، بالدرجة الأساس من الحاجة إليها، لمجهولية فن القصة التشيلية، للقارئ العربي عموماً، على الرغم من أهمية المنجز القصصي التشيلي وتميزه، حتى بالنسبة إلى واقع القصة في بقية دول أميركا اللاتينية، وكما تؤكد مقدمة الأنطولوجيا، فإن «القليل هم من يعرفون إسهام الأدب التشيلي في تطوير جنس القصة القصيرة في أميركا اللاتينية»، أي ما يعطي لهذا الأدب دور الريادة. من هنا يكتسب عمل مثل هذا أهمية مضاعفة، ففضلاً عن مهمة التعريف بهذا الجانب الحيوي من الأدب التشيلي، وتقديم نماذج قصصية مهمة في ذاتها، فإنها مثّلت في الآن نفسه، فترة زمنية شاسعة زادت على القرن. وإذا ما بدا عدد الكتاب المختارين محدوداً، وهم أحد عشر كاتباً وكاتبة، بواقع قصة لكل كاتب، فإن ذلك لم يحُل دون تمكين القارئ من إطلالة بانورامية على المشهد القصصي التشيلي المترامي زمنياً، حتى مع الإقرار بوجود بعض النقص، مثال ذلك غياب كاتب مهم وأساسي في المشهد الأدبي التشيلي هو الروائي والقاص «مانويل روخاس» الذي تعرّف عليه القارئ العربي من قبل عبر روايته المهمة «ابن لص». لكن تبقى لكل مختارات ظروفها وأسبابها في حضور كاتب وغياب آخر.

استُهلّت الأنطولوجيا بالكاتب «بالدوميرو ليو»، وهو أحد رواد القصة التشيلية، إذ صدر له منذ عام 1904 أربع مجموعات قصصية، وهو يُحسب، نقدياً، على المذهب الطبيعي، واهتمّ في نصوصه بـ«مواضيع اجتماعية، مثل الظلم، واستغلال العمال في المناجم، والحياة القروية القاسية»، وسوى ذلك، كما جاء في الصفحة التعريفية الموجزة بالكاتب التي سبقت قصته، والتي ذكرت أيضاً، بأنه يصف الواقع بدقة بُغية فضحه. وهو ما كان في قصته المختارة هنا من مجموعته الأولى «تحت الأرض»، والمعنونة بـ«البوابة رقم 12»؛ إذ تتعرّض القصة إلى عالم عمال المناجم القاتم، بالمعنى الحرفي، فالظلام العميق أبعد من أن يُبدّد بمصابيح هي على وشك الانطفاء، بتعبير القصة، والسخام الذي يحيط بالعمال هو من صلب الأجواء الخانقة التي نجح الكاتب في تصويرها بحرفية وعمق كبيرين، وهو يعالج موضوعاته الرئيسية والمتعلقة بعمل الأطفال في المناجم، من خلال شخصية الطفل «بابلو» ذي الثماني سنوات، وما يعنيه ذلك. وينجح الكاتب، فضلاً عن وصف المكان وأجوائه، في وصف المشاعر الإنسانية المتضاربة لكل من «باولو»، وما ينتابه من خوف وأفكار حيال المكان، وما يبعثه فيه من رهبة، ومن ثمّ الأب ومسؤول العمل، وترددهما في تشغيل الطفل من عدمه، كاشفاً عن مقدرة عالية في سبر نفوس أبطاله، وما يعتمل فيها من هواجس والتعبير عن كل ذلك ببراعة.

رهافة وحرفية

امتازت القصص الإحدى عشرة التي شكّلت مادة الكتاب، برهافة الصنعة القصصية وحرفية كتابها العالية، وهو الانطباع الأهم الذي يراود القارئ ما إن يفرغ من قراءة كل قصة من القصص. وإذا كان هناك من تفاوت في الموضوعات، بطبيعة الحال، فلم يكن من تفاوت على صعيد التقنية القصصية المُحكمَة. حتى في حال عدم الاتفاق مع الثيمة الأساس لقصة ما أو الشعور ببطء السرد فيها، كما في قصة الكاتب «خورخي إدواردز»، المعنوَنة «النظام العائلي»، وهي أطول قصة في الكتاب، فقد احتلّت 30 صفحة منه، لكن لم تكن لتخرج، بدورها، عن دائرة الإبداع والإحكام التقني، والضرورة أيضاً تقتضي هنا الإشارة إلى أن هذه هي القصة الوحيدة التي يمكن تسجيل الملاحظة الآنفة عليها. عدا عن ذلك لا يمكن إلا وصف بقية القصص بالتفوّق وبقوة تأثير الموضوعات المتناولة فيها، التي لا يمكن لقارئها نسيانها لما حملته من شحنات إنسانية ولما اتشحت به من إهاب جمالي. وكما تشير المقدمة بما معناه، أن الكتّاب المختارين هنا لم يُولوا اللعب السردي المجاني اهتمامهم، قدر اهتمامهم بما هو إنساني، وكأنهم بذلك «أكثر جدية وأكثر انشغالاً بهموم الإنسان»، من بقية كتاب القصة في مختلف أنحاء القارة اللاتينية.

في هذا الشأن يمكن استحضار عنوان أكثر من قصة، وقد تكون في مقدمة ذلك قصة إيزابيل الليندي، التي منحت عنوانها الشاعري للأنطولوجيا «لو لمست أوتار قلبي»، التي يمكن أن تكون شاهداً متقدماً على شعرية القص، من الناحية الفنية، ومثالاً على توحّد الكاتبة هنا، أو الكاتب عموماً، مع قضايا المجتمع، لناحية المحتوى. لقد قدمت الليندي من خلال نموذج «أورتينسيا» صورة مروّعة لما يمكن أن يؤدي إليه الاستبداد والفساد من مظالم، و«أورتينسيا» هذه يمكن أن تصلح رمزاً لواقع أميركا اللاتينية، عموماً، حيث تُختطف وهي في سن الخامسة عشرة، وتُحتجز لما يقارب نصف قرن في قبو من قبل «أماديو بيرالتا»، الذي يمثّل صورة عن الانحلال الأخلاقي بوصفه فرداً ومثالاً للسلطة المتعسفة، لاحقاً. إذ لفتت انتباهه للمرة الأولى من خلال عزفها، وهو ما قلب حياتها رأساً على عقب. إن السنوات المديدة التي عاشتها «أورتينسيا» في قبو محرومة من ضوء الشمس ومن الهواء النظيف، بل بالأحرى من كل مستلزمات الحياة، حوّلتها إلى نوع من مسخ كما برعت الكاتبة في تصويرها، فقد تحطّم جسدها بالكامل سوى يديها اللتين سلِمتا بسبب مواصلتهما العزف، وما في ذلك من رمزية، وهو شبيه بالإشارة البليغة للكاتبة، لحظة العثور على «أورتينسيا» وتحريرها بأنّ ما كان يؤكد أصلها الآدمي فقط هو آلة القانون التي تحضنها.

تكمن أهمية الأنطولوجيا بالدرجة الأساس من الحاجة إليها لمجهولية فن القصة التشيلية للقارئ العربي عموماً

أجيال متعددة

لقد سبقت الإشارة بأنه لا يمكن لقارئ هذه القصص نسيانها، لطبيعة موضوعاتها أولاً، وللإطار الفني الاحترافي الذي وضعها فيه كتابها وكاتباتها. من بين هذه القصص قصة «سيدة» للكاتب خوسي دونوسو، الذي يتم التعريف به بصفته «أكبر روائي تشيلي في القرن العشرين». بدءاً يمكن القول عن القصة إنها مشوّقة، ذات طابع شعري، وليس المعني بذلك اللغة، فمسألة اللغة قابلة للجدل، لكن المقصود هنا بالشعري هو بنية القصة ذاتها، والروح المبثوثة في القص والتفاصيل الحية التي جعلت حتى من هواجس البطل الداخلية وأحلامه شيئاً مجسداً، مرئياً. تتحدث القصة ذات البعد الفلسفي عن شعور البطل الذي هو الراوي نفسه، بأن المشهد الماثل الذي يعيشه ويصفه للقارئ قد عاشه من قبل أو حلم به. هذه الفكرة الرئيسية التي قامت عليها القصة أو انطلقت منها هي فكرة فلسفية بالأساس، وقد تعرّض لها سبينوزا من قبل، مسمياً هذا الشعور «ذكرى الحاضر». يستثمر الكاتب طاقة هذا الشعور الخفي لينشئ نصاً من أجمل نصوص السرد القصصي، لا سيما العلاقة الغامضة والحلمية بين البطل والسيدة المجهولة التي يصادفها في عربة «الترام»، رغم أنه ليس من علاقة تنشأ بين الاثنين، ولم يتبادلا حتى مجرد كلمة، لتغدو القصة بكاملها مساحة للتعقب والترقّب من قبل البطل، ويتدفق السرد هادئاً حتى النهاية، نهاية السيدة عندما تخيّلَ البطل موتها حين قرأ في الجريدة نعياً لسيدة تُدعى «إستر أرانثيبيا»، رغم أنه لا فكرة لديه مطلقاً عن اسمها، وهذا أغرب موقف في القصة، لينتهي إلى القول إنه يُخيّل إليه أنه قد عاش حدثاً شبيهاً بهذا من قبل، كأن الكاتب أراد الإشارة إلى دورة الوجود الغامضة الملتبسة وحُلمية ما يحيط بالبشر. ومن القصص التي يجدر التنويه بها قصة الأعمى للكاتب «إرنستو لانخير مورينو»، وهو إضافة إلى كونه قاصاً وروائياً فهو شاعر أيضاً، وله عديد من الدواوين الشعرية. في قصته «الأعمى» التي يفيق بطلها ذات صباح ليجد نفسه وقد استردّ بصره، ليكتشف نفسه ويتعرّف على ملامحه ومن ثم العالم، بخروجه إلى الشارع لأول مرة من دون عصاه؛ ليُصدم بالضجيج ولوحات الإعلانات، في إشارة نقد واستهجان، غير أن ذلك لم يفسد سعادته بولادته من جديد، مبصراً. إن الفكرة في ذاتها تنطوي على طاقة شعرية، تجعل القارئ يتذوّق العالم، من خلال العينين المستردّتين لأعمى سابق! وهو يصف ما يرى بمزيج من الحرمان والشغف. وبعد أن أدّى الكاتب هذه المهمة، أي اكتشاف العالم، بمفارقاته، يعيد بطله كفيفاً من جديد، إذ إنّ واقعة استرداده البصر لم تكن سوى حلم، مع الإيحاء بأنه كان أكثر سلاماً في حالته الأولى!

من القصص المميزة الأُخرى التي تشكّل علامة في الأنطولوجيا قصة الكاتب «أنطونيو سكارميتا» صاحب العديد من الروايات المعروفة، وعلى رأسها روايته الشهيرة «ساعي بريد نيرودا»، بالإضافة إلى روايتي «عرس الشاعر» و«أب سينمائي» وسوى ذلك. في هذه الأنطولوجيا اُختيرت له قصة بعنوان «هاتف نقال»، وهي قصة يمكن القول إنها فريدة في موضوعها أو في الأقل في فكرتها الأساس؛ إذ تنبني القصة وأحداثها الأساس على حيازة البطل هاتف شخصٍ آخر، بعد أن نسيه الأخير في محل عام. وبتلقيه بعد ذلك مكالمة من امرأة على علاقة بصاحب الهاتف الأصلي، فيجيبها كما لو أنه هو المقصود، لتترتب على ذلك سائر المواقف والنهاية الفاجعة في القصة. ويحضر الهاتف أيضاً، الذي سيكون له دوره في قصة الكاتب «روبيرتو بولانيو»، القائمة على «المكالمات الهاتفية»، وهذا هو اسمها. والقصة بمجملها ذات طابع بوليسي، وهي تحمل البصمة الأسلوبية الخاصة بكاتبها، الغني عن التعريف. ثمة أيضاً قصة الأب لـ«أليغاريو لاثو باييثا»، وهي قصة عن جحود الأبناء، وأميَل إلى أن تكون تقليدية المضمون، غير أن معالجتها كانت متقدمة. وهي شبيهة بقصة «السيدة» لـ«فيدريكو غانا» التي تتحدّث عن الوفاء عبر سرد ممتع. وتتناول الكاتبة «بيا باروس» في قصتها «طبيعة الأمور» موضوعاً في منتهى الحساسية على الصعيد الأُسري والاجتماعي، وبشيء من الحس البوليسي، مقدِّمةً قصة، تنم عن خبرة ومراس. وللكاتبة روايتان وسبع مجموعات قصصية.

وإذا ما كانت الأنطولوجيا قد افتتحت بكاتب مجهول لدى القارئ العربي، فإن خاتمتها كانت على العكس من ذلك مع الكاتب «لويس سبولبيدا»، وقصته «مصباح علاء الدين». «سبولبيدا» الذي عرفه القارئ العربي من قبل وأحبّه، عبر أعمال عديدة له، أشهرها «العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية»، و«قصة النورس والقط الذي علّمه الطيران».

وهكذا فإن هذه الأنطولوجيا متعددة الأجيال كانت فرصة لاستعادة أجواء كتّاب عرفهم القارئ من قبل، إلى جانب كتّاب يتعرّف إليهم للمرة الأولى وهم جديرون بالانضمام إلى ذاكرة أدبية لا تؤْثِر إلّا الجديد والمميز وتحتفي به.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!