جمال بيروت الفريد هو مصدر ثرائها وشقائها الأبديين

ننُّوس اليوناني في قصيدته الرؤيوية «ملحمة بيروت الميمونة»

جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)
جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)
TT

جمال بيروت الفريد هو مصدر ثرائها وشقائها الأبديين

جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)
جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)

قليلة هي المدن التي كانت مسرحاً للنزاعات وصراعات القوى المتناحرة، كما هي حال بيروت ذات الجمال الآسر والتاريخ الحافل بالمفارقات. فقد قُدّر لهذه المدينة العريقة، التي اشتقت أسماؤها المختلفة، بيريتوس وبئروت وبيرويه، من لفظة البئر، وفق بعض المؤرخين، أن تدفع غالياً ثمن موقعها ودورها المميزين، وأن تهبط إلى بئر عذاباتها السحيقة كلما وصل مجدها إلى ذراه. والأرجح أن الجغرافيا الملتبسة التي وهبت بيروت نعمة الجمال، هي نفسها التي جعلتها ضحية فالقين زلزاليين، أحدهما جيولوجي يكافئ قياماتها المتجددة بالدمار الكلي أو الجزئي، والآخر حضاري ثقافي، يحول تاريخها الطويل إلى محل للتنازع الدائم بين الداخل والخارج، أو بين جماعاتها الأهلية المتنابذة.

كأن بيروت بهذا المعنى أشبه بالوعد الذي يصعب تحققه، أو بمدينة مؤجلة تظل أبداً قيد الإنجاز، أو هي قصيدة مموهة بهيئة مدينة. ولأنها كذلك، فقد حظيت عبر العصور المتعاقبة باهتمام الكثير من الشعراء الذين رأوا فيها صورة عن الشعر نفسه، سواء في بحثه اللانهائي عن يقين ما، لا يكف عن الهروب، أو في احتفاء اللغة بحريتها المجترحة خارج سجون المعاجم.

وإذا كانت بيروت قد شكّلت محوراً أساسياً للمئات من قصائد الشعراء ومقطوعاتهم ونصوصهم، فإن القصيدة الطويلة التي كتبها ننّوس اليوناني في القرن الرابع الميلادي، تحت عنوان «ملحمة بيروت الميمونة»، هي واحدة من أهم النصوص التي كُتبت في حب بيروت وحولها، عبر العصور المختلفة. لكن ما يبعث على الحيرة والاستغراب هو كون الشاعر الذي قدم هذا الإنجاز المتميز قد ظل مغموراً وغامض الهوية إلى حد بعيد، إضافة إلى أن عمله المدهش لم يلفت انتباه أحد من النقاد والدارسين العرب، قبل أن يتولى المؤرخ والكاتب اللبناني يوسف الحوراني نقله إلى العربية في العام الأخير من القرن العشرين.

الملاحظ أن كل ما ذكره المؤرخون ودارسو الأدب عن ننوس، هو أنه ولد في الإسكندرية أواخر القرن الرابع الميلادي، ثم جاء بعد ذلك إلى بيروت ليستقر فيها، وهي التي كانت في الآونة التي سبقت زلزالها الشهير مدينة الشرائع وعاصمة الثقافة التعددية، التي يقصدها الآلاف من كل صوب، لجنْي المعرفة والمتعة على حد سواء. وقد قُيض للشاعر اليوناني المأخوذ بدور بيروت الحضاري أن تتفتح موهبته في كنف التوترات المقلقة التي شهدتها الإمبراطورية الرومانية في تلك الحقبة؛ حيث لم يجد الرومان ما يردون به على دعوة المسيحية إلى قيام «مملكة السلام»، والمحبة بين البشر، سوى خوض الحروب المتكررة والمدمرة، قبل أن يأخذهم ملكهم قسطنطين إلى مصير آخر.

وحيث كانت عبادة ديونيزيوس، إله الكرمة والزرع والخمرة، شائعة في ذلك العصر، فقد جهد ننوس، الذي لُقّب بالديونيسي لشدة تعلقه بالحياة، في أن يُبعد إلهه الأثير عن صورته العنيفة، ليحوله إلى مرشد ثقافي وجمالي، وداعية للوحدة الإنسانية، حيث لا خيار أمام قطبي العالم المتصارعين سوى التكاتف والتآزر لهزيمة البربرية. وإذ اعتنق الشاعر في الوقت ذاته العقيدة الأورفية المنسوبة إلى أورفيوس، التي ترى في الفن والحب هديتي الحياة المثلى، فقد أبدى إعجاباً منقطع النظير بلبنان وأهله، فامتدح قدموس الذي خرج من صور بحثاً عن أخته أوروبا التي اختطفها زيوس، والتي أهدت اسمها إلى القارة الأوروبية، فيما أهداها من جهته حروف الأبجدية. كما أبدى في الوقت ذاته إعجاباً بأدونيس الذي قتله الخنزير البري على ضفة النهر الذي ما لبث أن حمل اسمه، وأظهر اعتزازه بالشاب الإلهي الفاتن الذي فطر مصرعه قلب أفروديت.

أما الملحمة نفسها فتروي بلغة مترعة بالاستعارات وطافحة بالحماس العاطفي قصة المدينة - الأنثى ذات الجاذبية القصوى، التي باتت مع الزمن مدينة العالم وحاضنة الحياة الهانئة، والمحصنة بسور منيع من الشرائع والقوانين. وإذ أرادت أمها أفروديت أن تبحث لها عن زوج مناسب، فقد طلبت من ابنها إيروس أن يوتّر قوسه الذهبي ويضرب بسهم واحد قلب بوسايدون إله البحر، وديونيسيوس إله الزرع والخمر. وبوثبة رشيقة وجناحين يخفقان في الخواء، أنجز إله الحب الصغير فعلته الماكرة، مخترقاً بسهمه المسنون قلب الإلهين معاً، فأقبل الأول من جهات صور ليقدم لمدينته المشتهاة ولاءه وحبه وعناقيد عنبه السوداء، بينما راح مزلزل الأرض بوسايدون يدور حول المكان، مسلحاً بأمواجه الهوج ودوامات قلبه الفائرة.

وبعد أن جعله الخجل فريسة للحذر والتردد، وعقد لسانه جمال المدينة، قرر ديونيزيوس وقد استشعر خطورة خصمه المتربص، الانتصار على هواجسه السوداء، فتقدم نحو معشوقته الفاتنة داعياً إياها إلى القبول به زوجاً بقوله:

إنني فلاح من لبنان الذي يخصُّك

وإذا كان ذلك يرضيك

فسأسقي لك أرضك وأعتني بقمحك

خذيني كبستاني كي أغرس شجرة الحياة

فأنا أعرف كيف ينضج التفاح

وأجعل الزعفران اللطيف ينمو إلى جانب اللبلاب

إلا أن قصائد الإله البري ومناشداته اللهفى لم تنجح في استمالة المدينة الفتية التي أعطت لتوسلاته أذناً صماء. وإذ كان بوسايدون يتابع حرقة غريمه وصدود معشوقته بفرح بالغ، خرج من بين الأمواج ليقدم هو الآخر أوراق اعتماده للمدينة التي خلبت لبه، فخاطبها بالقول:

اتركي الأرض أيتها الصبية

فأمكِ أفروديت لم تكن من الأرض

بل هي ابنة المياه المالحة

إنني أقدّم لك بحري المترامي كهدية عرس

لن أقدّم لكِ البصّارات بعيونهنّ الزائغة

بل سأقدم لك الأنهار كهدية زواج

وستكون جميعها وصيفاتٍ لك

حظيت عبر العصور المتعاقبة باهتمام الكثير من الشعراء الذين رأوا فيها صورة عن الشعر نفسه

وعندما ظهر لأفروديت أن الطرفين متساويان في حبهما لابنتها الفاتنة، أعلنت أن عليهما أن يتقاتلا من أجل العروس، التي ستكون مكافأة المنتصر على شجاعته. وإذ وافق الإلهان العاشقان على الاقتراح، لم يترك كل منهما سلاحاً يملكه إلا واستخدمه في المعركة، فاقتلع ديونيسيوس كروم لبنان من جذورها وبدأ يجلد بها عرين خصمه اللدود. وانتضى بوسايدون شوكة البحر المثلثة، وأجهز بها على الكثير من كائنات البر، قبل أن تشتبك الأسماك مع السحالي، وزهور اللوز مع رغوة الزبد، والأمواج مع جذوع الزيتون. ورغم شعور المدينة الخفي بأن قلبها بدأ يميل إلى فتى الكروم الوسيم، فإن زيوس كان له رأي آخر فزلزل بصواعقه العاتية كيان ديونيسيوس المذهول، تاركاً لغريمه البحري أن يكسب الحرب، ويصبح عريس المدينة بلا منازع.

ومع ذلك فإن بوسايدون أدرك بحدسه الثاقب أن ألق بيروت الفعلي لن تحققه سوى التسويات العادلة بين المتنازعين حولها، فقرر بعد الانتهاء من مراسم الزفاف، أن يتصالح مع اللبنانيين، وأن تكون مساعدتهم في خوض غمار البحر بمثابة الهدية الثمينة لمصاهرته لهم. أما ديونيسيوس المثقل بألم الحب ووطأة الهزيمة، فقد أقنعه أخوه إيروس أن يترك جبال لبنان ومياه أدونيس ليلتحق ببلاد اليونان؛ حيث تنتظره نساء فاتنات ليعوضنه عن خسارته.

والحقيقة أن قراءة متأنية لملحمة ننوس، لا بد أن تُشعرنا بالذهول إزاء ذلك الثراء التخييلي والأسلوبي المدهش الذي يمتلكه المؤلف، كما إزاء وقوفه العميق على معنى بيروت ودورها التنويري، فضلاً عن رؤيته الاستشرافية لمآلات المدينة التي ظلت عبر التاريخ محلاً لتنازع البشر والآلهة، وصراع الداخل والخارج، وحصّالة للمآسي التي لم يكن انفجار مرفئها المروع قبل سنوات أربع سوى حلقة من حلقات مكابداتها المتواصلة. ولعل أفضل ما أختم به هذه المقالة هو استعادة ما كتبه سباستيان كراموازيه في القرن السابع عشر، الذي وصف ننوس بالقول «إنه يساوي جلال هوميروس وسمو بندار وتماسك سوفوكليس وبساطة هزيود وملوحة أريستوفان. إنه الشاعر الذي كان يبحث عنه أفلاطون دون أن يعثر عليه».


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».