جمال بيروت الفريد هو مصدر ثرائها وشقائها الأبديين

ننُّوس اليوناني في قصيدته الرؤيوية «ملحمة بيروت الميمونة»

جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)
جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)
TT
20

جمال بيروت الفريد هو مصدر ثرائها وشقائها الأبديين

جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)
جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)

قليلة هي المدن التي كانت مسرحاً للنزاعات وصراعات القوى المتناحرة، كما هي حال بيروت ذات الجمال الآسر والتاريخ الحافل بالمفارقات. فقد قُدّر لهذه المدينة العريقة، التي اشتقت أسماؤها المختلفة، بيريتوس وبئروت وبيرويه، من لفظة البئر، وفق بعض المؤرخين، أن تدفع غالياً ثمن موقعها ودورها المميزين، وأن تهبط إلى بئر عذاباتها السحيقة كلما وصل مجدها إلى ذراه. والأرجح أن الجغرافيا الملتبسة التي وهبت بيروت نعمة الجمال، هي نفسها التي جعلتها ضحية فالقين زلزاليين، أحدهما جيولوجي يكافئ قياماتها المتجددة بالدمار الكلي أو الجزئي، والآخر حضاري ثقافي، يحول تاريخها الطويل إلى محل للتنازع الدائم بين الداخل والخارج، أو بين جماعاتها الأهلية المتنابذة.

كأن بيروت بهذا المعنى أشبه بالوعد الذي يصعب تحققه، أو بمدينة مؤجلة تظل أبداً قيد الإنجاز، أو هي قصيدة مموهة بهيئة مدينة. ولأنها كذلك، فقد حظيت عبر العصور المتعاقبة باهتمام الكثير من الشعراء الذين رأوا فيها صورة عن الشعر نفسه، سواء في بحثه اللانهائي عن يقين ما، لا يكف عن الهروب، أو في احتفاء اللغة بحريتها المجترحة خارج سجون المعاجم.

وإذا كانت بيروت قد شكّلت محوراً أساسياً للمئات من قصائد الشعراء ومقطوعاتهم ونصوصهم، فإن القصيدة الطويلة التي كتبها ننّوس اليوناني في القرن الرابع الميلادي، تحت عنوان «ملحمة بيروت الميمونة»، هي واحدة من أهم النصوص التي كُتبت في حب بيروت وحولها، عبر العصور المختلفة. لكن ما يبعث على الحيرة والاستغراب هو كون الشاعر الذي قدم هذا الإنجاز المتميز قد ظل مغموراً وغامض الهوية إلى حد بعيد، إضافة إلى أن عمله المدهش لم يلفت انتباه أحد من النقاد والدارسين العرب، قبل أن يتولى المؤرخ والكاتب اللبناني يوسف الحوراني نقله إلى العربية في العام الأخير من القرن العشرين.

الملاحظ أن كل ما ذكره المؤرخون ودارسو الأدب عن ننوس، هو أنه ولد في الإسكندرية أواخر القرن الرابع الميلادي، ثم جاء بعد ذلك إلى بيروت ليستقر فيها، وهي التي كانت في الآونة التي سبقت زلزالها الشهير مدينة الشرائع وعاصمة الثقافة التعددية، التي يقصدها الآلاف من كل صوب، لجنْي المعرفة والمتعة على حد سواء. وقد قُيض للشاعر اليوناني المأخوذ بدور بيروت الحضاري أن تتفتح موهبته في كنف التوترات المقلقة التي شهدتها الإمبراطورية الرومانية في تلك الحقبة؛ حيث لم يجد الرومان ما يردون به على دعوة المسيحية إلى قيام «مملكة السلام»، والمحبة بين البشر، سوى خوض الحروب المتكررة والمدمرة، قبل أن يأخذهم ملكهم قسطنطين إلى مصير آخر.

وحيث كانت عبادة ديونيزيوس، إله الكرمة والزرع والخمرة، شائعة في ذلك العصر، فقد جهد ننوس، الذي لُقّب بالديونيسي لشدة تعلقه بالحياة، في أن يُبعد إلهه الأثير عن صورته العنيفة، ليحوله إلى مرشد ثقافي وجمالي، وداعية للوحدة الإنسانية، حيث لا خيار أمام قطبي العالم المتصارعين سوى التكاتف والتآزر لهزيمة البربرية. وإذ اعتنق الشاعر في الوقت ذاته العقيدة الأورفية المنسوبة إلى أورفيوس، التي ترى في الفن والحب هديتي الحياة المثلى، فقد أبدى إعجاباً منقطع النظير بلبنان وأهله، فامتدح قدموس الذي خرج من صور بحثاً عن أخته أوروبا التي اختطفها زيوس، والتي أهدت اسمها إلى القارة الأوروبية، فيما أهداها من جهته حروف الأبجدية. كما أبدى في الوقت ذاته إعجاباً بأدونيس الذي قتله الخنزير البري على ضفة النهر الذي ما لبث أن حمل اسمه، وأظهر اعتزازه بالشاب الإلهي الفاتن الذي فطر مصرعه قلب أفروديت.

أما الملحمة نفسها فتروي بلغة مترعة بالاستعارات وطافحة بالحماس العاطفي قصة المدينة - الأنثى ذات الجاذبية القصوى، التي باتت مع الزمن مدينة العالم وحاضنة الحياة الهانئة، والمحصنة بسور منيع من الشرائع والقوانين. وإذ أرادت أمها أفروديت أن تبحث لها عن زوج مناسب، فقد طلبت من ابنها إيروس أن يوتّر قوسه الذهبي ويضرب بسهم واحد قلب بوسايدون إله البحر، وديونيسيوس إله الزرع والخمر. وبوثبة رشيقة وجناحين يخفقان في الخواء، أنجز إله الحب الصغير فعلته الماكرة، مخترقاً بسهمه المسنون قلب الإلهين معاً، فأقبل الأول من جهات صور ليقدم لمدينته المشتهاة ولاءه وحبه وعناقيد عنبه السوداء، بينما راح مزلزل الأرض بوسايدون يدور حول المكان، مسلحاً بأمواجه الهوج ودوامات قلبه الفائرة.

وبعد أن جعله الخجل فريسة للحذر والتردد، وعقد لسانه جمال المدينة، قرر ديونيزيوس وقد استشعر خطورة خصمه المتربص، الانتصار على هواجسه السوداء، فتقدم نحو معشوقته الفاتنة داعياً إياها إلى القبول به زوجاً بقوله:

إنني فلاح من لبنان الذي يخصُّك

وإذا كان ذلك يرضيك

فسأسقي لك أرضك وأعتني بقمحك

خذيني كبستاني كي أغرس شجرة الحياة

فأنا أعرف كيف ينضج التفاح

وأجعل الزعفران اللطيف ينمو إلى جانب اللبلاب

إلا أن قصائد الإله البري ومناشداته اللهفى لم تنجح في استمالة المدينة الفتية التي أعطت لتوسلاته أذناً صماء. وإذ كان بوسايدون يتابع حرقة غريمه وصدود معشوقته بفرح بالغ، خرج من بين الأمواج ليقدم هو الآخر أوراق اعتماده للمدينة التي خلبت لبه، فخاطبها بالقول:

اتركي الأرض أيتها الصبية

فأمكِ أفروديت لم تكن من الأرض

بل هي ابنة المياه المالحة

إنني أقدّم لك بحري المترامي كهدية عرس

لن أقدّم لكِ البصّارات بعيونهنّ الزائغة

بل سأقدم لك الأنهار كهدية زواج

وستكون جميعها وصيفاتٍ لك

حظيت عبر العصور المتعاقبة باهتمام الكثير من الشعراء الذين رأوا فيها صورة عن الشعر نفسه

وعندما ظهر لأفروديت أن الطرفين متساويان في حبهما لابنتها الفاتنة، أعلنت أن عليهما أن يتقاتلا من أجل العروس، التي ستكون مكافأة المنتصر على شجاعته. وإذ وافق الإلهان العاشقان على الاقتراح، لم يترك كل منهما سلاحاً يملكه إلا واستخدمه في المعركة، فاقتلع ديونيسيوس كروم لبنان من جذورها وبدأ يجلد بها عرين خصمه اللدود. وانتضى بوسايدون شوكة البحر المثلثة، وأجهز بها على الكثير من كائنات البر، قبل أن تشتبك الأسماك مع السحالي، وزهور اللوز مع رغوة الزبد، والأمواج مع جذوع الزيتون. ورغم شعور المدينة الخفي بأن قلبها بدأ يميل إلى فتى الكروم الوسيم، فإن زيوس كان له رأي آخر فزلزل بصواعقه العاتية كيان ديونيسيوس المذهول، تاركاً لغريمه البحري أن يكسب الحرب، ويصبح عريس المدينة بلا منازع.

ومع ذلك فإن بوسايدون أدرك بحدسه الثاقب أن ألق بيروت الفعلي لن تحققه سوى التسويات العادلة بين المتنازعين حولها، فقرر بعد الانتهاء من مراسم الزفاف، أن يتصالح مع اللبنانيين، وأن تكون مساعدتهم في خوض غمار البحر بمثابة الهدية الثمينة لمصاهرته لهم. أما ديونيسيوس المثقل بألم الحب ووطأة الهزيمة، فقد أقنعه أخوه إيروس أن يترك جبال لبنان ومياه أدونيس ليلتحق ببلاد اليونان؛ حيث تنتظره نساء فاتنات ليعوضنه عن خسارته.

والحقيقة أن قراءة متأنية لملحمة ننوس، لا بد أن تُشعرنا بالذهول إزاء ذلك الثراء التخييلي والأسلوبي المدهش الذي يمتلكه المؤلف، كما إزاء وقوفه العميق على معنى بيروت ودورها التنويري، فضلاً عن رؤيته الاستشرافية لمآلات المدينة التي ظلت عبر التاريخ محلاً لتنازع البشر والآلهة، وصراع الداخل والخارج، وحصّالة للمآسي التي لم يكن انفجار مرفئها المروع قبل سنوات أربع سوى حلقة من حلقات مكابداتها المتواصلة. ولعل أفضل ما أختم به هذه المقالة هو استعادة ما كتبه سباستيان كراموازيه في القرن السابع عشر، الذي وصف ننوس بالقول «إنه يساوي جلال هوميروس وسمو بندار وتماسك سوفوكليس وبساطة هزيود وملوحة أريستوفان. إنه الشاعر الذي كان يبحث عنه أفلاطون دون أن يعثر عليه».


مقالات ذات صلة

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

كتب مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

حين يقرر أحد رجال المال والأعمال العرب أن يكتب مذكراته، عادةً ينطلق من هدف مُعلن مفاده نقل خبراته وتجاربه للأجيال الأحدث، ما يظهر جلياً في مذكرات شخصيات مصرية

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب تجليات حضور الورود... فنياً وأدبياً

تجليات حضور الورود... فنياً وأدبياً

تطوف الكاتبة الصحافية الزميلة منى أبو النصر في كتابها «الحالة السردية للوردة المسحورة» بين فنون شتى، فهي لا تتوقف عند حدود الأنواع الأدبية المعروفة من شعر

عمر شهريار (القاهرة)
ثقافة وفنون التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الا

شوقي بزيع
ثقافة وفنون مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي

الأفعى والجمل قطعتان أثريتان من موقع «مسافي» بإمارة الفجيرة

تحضر الأفعى بأشكال متعدّدة في مجموعة هائلة من القطع الفخارية التي خرجت من مناطق أثرية متفرّقة في الركن الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون ماريو فارغاس يوسا (أرشيفية)

رحيل يوسا يسدل الستار عن الجيل الذهبي الأدبي

توفي الكاتب البيروفي العالمي ماريو فارغاس يوسا، الحائز جائزة نوبل للآداب، في العاصمة البيروفية ليما.

«الشرق الأوسط» ( ليما ــ مدريد)

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.