مسلّات جنائزية من مقابر البحرين الأثرية

اتخذت في البدء طابعاً تجريدياً صرفاً

خمس مسلات جنائزية من البحرين
خمس مسلات جنائزية من البحرين
TT

مسلّات جنائزية من مقابر البحرين الأثرية

خمس مسلات جنائزية من البحرين
خمس مسلات جنائزية من البحرين

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية كشفت أعمال التنقيب المستمرة فيها عن مجموعة استثنائية من الأنصاب الحجرية الجنائزية. تعود هذه الأنصاب إلى الحقبة الهلنستية التي عُرفت بها الجزيرة باسم تايلوس، وتشهد لتقليد فني مميّز اتخذ في البدء طابعاً تجريدياً صرفاً. ساد هذا التقليد بين القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، ثم تحوّل تدريجياً، وجنح نحو أسلوب تصويري خاص ظهرت معالمه الأولى في تلك الحقبة. اختمر هذا الأسلوب التصويري في مرحلة لاحقة، ومع اختماره ظهر تقليد فني مغاير تمثّل في بروز طراز محلي في النقش والنحت الناتئ.

عُثر على هذه الأنصاب في مقابر عدة، منها تلك التي تقع شمال غربي قرية الشاخورة، على بعد نحو 700 متر جنوب «شارع البديع»، شمال العاصمة المنامة. تُعدّ هذه المقبرة من بين أكثر المدافن الأثرية ثراء ووفرة في البحرين، ومنها خرج مخزون ثري من اللقى الجنائزية المتعددة الأنواع، شمل أواني خزفية، وأوعية حجرية وخشبية، ومجسمات طينية، وقطعاً من العقود والحلى، إضافة إلى مجموعة من شواهد القبور، تختزل في تعدّد طرزها تطوّر هذا النتاج بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني للميلاد. يتبنّى الطراز الأقدم نسقاً تجريدياً صافياً، ويأتي على شكل نصب عمودي يتكون من مساحة مستطيلة تمثل البدن الآدمي، تعلوها مساحة دائرية تمثل رأس هذا البدن. يُعرف هذا الطراز باسم «نفيش»، وهو تعبير آرامي، يوازيه في العربية تعبير «نفس»؛ أي النفس الآدمية، ويتمثّل في شاهد يُغرز في الأرض، ووظيفته كما يبدو تحديد موقع القبر، وتخليد ذكرى المتوفى.

من مقبرة «الشاخورة»، خرجت شواهد عدة تتبع هذا النسق، عُثر عليها خلال حملة تنقيب محلية جرت في مطلع تسعينات القرن الماضي. تماثل هذه القطع في تأليفها قطعاً خرجت من مقابر تقع في قرى مجاورة وتحمل اسمها، أبرزها مقبرة الحجر، ومقبرة أبو صيبع، في المحافظة الشمالية. في المقابل، نقع على قطع مماثلة خرجت من جزيرة تاروت التي تتبع إدارياً محافظة القطيف في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وتُعدّ رابع أكبر جزيرة في الخليج العربي. تعود هذه القطع إلى الحقبة نفسها، وتشهد لشيوع هذا الطراز في مواقع عدة من ساحل الخليج العربي.

بالتزامن مع شيوع هذا الطراز، ظهرت اتجاهات جديدة في النقش تشير إلى خروج محدود من هذا النسق التجريدي، وأشهر الأمثلة نصب من الشاخورة عُرض في باريس سنة 1999 ضمن معرض خصّص لآثار البحرين في «معهد العالم العربي»، وهو اليوم معروض في متحف «اللوفر» منذ 2022، وذلك ضمن مجموعة من تحف استعارها المتحف الفرنسي العريق من المتاحف البحرينية، حيث تـعرض لمدة خمس سنوات في معرض تعريفي يحمل عنوان «من دلمون إلى تايلوس». يبلغ طول هذه المسلة 47 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً، وتتميّز بظهور هالة حول دائرة الرأس، وبروز خجول للطرف الأعلى من الذراع اليمنى، إضافة إلى بروز طفيف للحية مروّسة في أسفل الوجه المجرّد. تشير هذه السمات إلى بداية ظهور اتجاه تصويري، تتجلّى ملامحه في قطعة من الحجم الصغير، تحضر اليوم إلى جانب هذه المسلة في متحف «اللوفر». وفقاً للتقليد المتّبع، تحلّ كتلة الرأس البيضاوية فوق كتلة الصدر المستطيلة في قالب مختزل. وتظهر السمات التصويرية في نتوء الصدر الأنثوي، وبروز ملامح الأنف بشكل طفيف في وسط الوجه، وحضور الذراعين الملتفتين بشكل واضح حول محيط الصدر.

تتجلّى ملامح هذا الاتجاه التصويري في قطعة أخرى عُرضت كذلك ضمن المعرض الذي أقيم في «معهد العالم العربي» منذ سنوات. تأتي هذه المسلة على شكل تمثال نصفي يمثّل الرأس والجزء الأعلى من البدن، ويبلغ طولها 35 سنتيمتراً، وعرضها 21 سنتيمتراً. يحل الرأس على شكل كتلة نصف بيضاوية، يتوسّطها أنف طويل مستطيل بارز، تحدّ طرفه الأعلى عينان مستطيلتان مجرّدتان غاب عنهما أي أثر للبؤبؤ. تحت هذا الأنف الضخم، يحضر الفم، ويتمثّل في شفتين صغيرتين مطبقتين يفصل بينهما خط غائر. أعلى الرأس مسطّح وأملس وعار تماماً، وأسفله مقوّس، ويوحي طول ذقنه بحضور لحية مروّسة خفيّة. يستقرّ هذا الوجه فوق رقبة عريضة تتوسّطها مساحة عمودية ناتئة، ويظهر الصدر على شكل كتلة مسطّحة تشكّل قاعدة لهذه العنق الطويلة.

من مقبرة «الشاخورة» خرجت شواهد عدة تتبع هذا النسق عُثر عليها خلال حملة تنقيب محلية جرت في مطلع تسعينات القرن الماضي

في معرض «معهد العالم العربي، ظهر هذا النصب المميز إلى جانب نصب آخر يتبع هذا النسق التصويري الآدمي المختزل، مصدره مقبرة تُعرف باسم «المقشع»، وهو اسم قرية تقع غرب المنامة، وتبعد عنها بنحو 5 كيلومترات تقريباً، وتطل على شمال «شارع البديع». يبلغ طول هذا النصب 28 سنتيمتراً، وعرضه 13 سنتيمتراً، ويتميّز بعينين لوزيتين ضخمتين مجرّدتين، يحيط بكلّ منهما إطار موازٍ عريض وناتئ. يستقر الأنف وسط هاتين اللوزتين، وهو على شكل مساحة مستطيلة فقدت الجزء الأسفل منها. تغيب شفتا الفم خلف شاربين مقوّسين يعلوان لحية مثلثة مستطيلة على شكل نصف دائرة. وتحضر الأذنان على شكل دائرتين مجرّدتين تحدّان طرفي وسط كتلة الرأس البيضاوية. تحجب هذه اللحية المختزلة العنق، وتشكل قاعدة للرأس الذي يعلو كتلة الصدر المستطيلة. كما جرت العادة، يخلو هذا الصدر الأملس من أي مساحات ناتئة، ويبدو كأنه خالٍ من أي أضلع.

تشكل هذه القطع الثلاث كما يبدو بداية لانطلاق اتجاه تصويري جديد في النحت والنقش، تتضح ملامحه بشكل كامل في القرنين الأولين، من خلال مجموعة كبيرة من المسلات، عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في عدد من المقابر الأثرية، أبرزها مقبرة «الشاخورة» ومقبرة «المقشع» وقلعة البحرين. تتبع هذه المسلات طرزاً عدة يجمع بينها الطابع التصويري الآدمي الجنائزي، وتشهد لنشوء فن خليجي محلي يشابه في تكويناته نتاج الحواضر الشرقية التي جمعت بين التقاليد اليونانية والفارسية في قوالب خاصة بها، كما في تدمر السورية، والحضر العراقية، والبتراء الأردنية.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
TT

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)

كشف المستشار تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية، الأربعاء، عن أعضاء لجنة «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، والتي تهدف إلى إثراء صناعة السينما بالمنطقة، ودعم المواهب الإبداعية في كتابة الرواية من جميع الجنسيات والأعمار.
وتَشكَّلت لجنة الجائزة من أعضاء يملكون خبرات واسعة في مجالات الأدب، والكتابة السينمائية، والإنتاج والإخراج السينمائي، حيث جاءت برئاسة الأديب والروائي السعودي الدكتور سعد البازعي، والروائي والمترجم والسيناريست السعودي عبد الله بن بخيت نائباً له.

وتضم اللجنة في عضويتها كلاً من الكاتب والروائي السعودي عبده خال، والروائي الكويتي سعود السنعوسي، والروائي المصري أحمد مراد، والروائية السعودية الدكتورة بدرية البشر، والكاتب والسيناريست السعودي مفرج المجفل، والكاتب والسيناريست المصري صلاح الجهيني، والناقد السينمائي المصري طارق الشناوي، والسيناريست المصري شريف نجيب، والخبير عدنان كيال مستشار مجلس إدارة هيئة الترفيه، وكاتبة السيناريو المصرية مريم نعوم، والمخرج المصري محمد خضير، والمنتج السينمائي المصري أحمد بدوي، والمخرج المصري خيري بشارة، والمنتج اللبناني صادق الصباح، والمخرج السينمائي المصري مروان حامد، والمخرج والمنتج السينمائي السعودي عبد الإله القرشي، والكاتب والسيناريست المسرحي السعودي ياسر مدخلي، والكاتب والروائي المصري تامر إبراهيم.

وتركز الجائزة على الروايات الأكثر جماهيرية وقابلية لتحويلها إلى أعمال سينمائية، مقسمة على مجموعة مسارات؛ أبرزها مسار «الجوائز الكبرى»، حيث ستُحوَّل الروايتان الفائزتان بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين، ويُمْنح صاحب المركز الأول مبلغ 100 ألف دولار، والثاني 50 ألف دولار، والثالث 30 ألف دولار.

ويشمل مسار «الرواية» فئات عدة، هي أفضل روايات «تشويق وإثارة» و«كوميدية» و«غموض وجريمة»، و«فانتازيا» و«رعب» و«تاريخية»، و«رومانسية» و«واقعية»، حيث يحصل المركز الأول على مبلغ 25 ألف دولار عن كل فئة بإجمالي 200 ألف دولار لكل الفئات.
وسيحوّل مسار «أفضل سيناريو مقدم من عمل أدبي» العملين الفائزين بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين سينمائيين مع مبلغ 100 ألف دولار للأول، و50 ألف دولار للثاني، و30 ألف دولار للثالث.
وتتضمن المسابقة جوائز إضافية أخرى، حيث سيحصل أفضل عمل روائي مترجم على جائزة قدرها 100 ألف دولار، وأفضل ناشر عربي 50 ألف دولار، بينما يُمنح الفائز «جائزة الجمهور» مبلغ 30 ألف دولار، وذلك بالتصويت عبر المنصة الإلكترونية المخصصة.