هدى عمران: أتسلى بمصير شخصياتي عبر لعبة ذكية مع القارئ

الكاتبة المصرية تقول إن الشعر هو الجوهر وكل نص طموح يؤدي إليه

هدى عمران
هدى عمران
TT

هدى عمران: أتسلى بمصير شخصياتي عبر لعبة ذكية مع القارئ

هدى عمران
هدى عمران

تُولي الشاعرة والكاتبة المصرية هدى عمران شغفاً لافتاً بالمغامرة الفنية، والانفتاح على التجريب كلعبة تُعيد بها تشكيل الحكاية، واستكشاف عالمها الشعوري، وأسئلتها حول الذات.

صدر لها أخيراً مجموعتها القصصية «حُب عنيف» عن «الكتب خان للنشر» بالقاهرة، كما صدرت لها رواية «حشيش سمك برتقال» التي حصلت على منحة «آفاق»، ولها عدة دواوين شعرية منها «ساذج وسنتمنتالي»، و«القاهرة»، و«كأنها مغفرة».

هنا حوار معها حول روايتها الجديدة وتنوع الكتابة ما بين الشعر والسرد.

* في مجموعتك «حب عنيف» تمرُّد على الحدود بين القصص؛ حيث تبدو بطلاتها وكأنهن يتعثرن في حيوات بعضهن، فتتقاطع أحلامهن، ويركبن «المركب» نفسه. حدثينا عن لعبة البناء في تلك المجموعة.

- لم يكن دافعي التمرد، بقدر اللعب، واهتمامي المهووس بفكرة بناء «كتاب»، والسعي خلف فكرة الكُلية، حتى في الكتب التي أقرأها. كقارئة انتقائية ومُقلّة، لا أحتفظ بأي كتاب «حلو» في مكتبتي، لا يكفي أن تكون الرواية أو المجموعة القصصية أو الديوان الشِّعري جيداً، لكنني أبحث عن الشمولية، عن عالم متكامل ومعنى عميق ومجاز متعدد وفهم متجاوز للحياة؛ لذلك حين أفكر وأنا في مرحلة التحرير الأولى من أي نصٍ سأنشره في عملية البناء، كيف أنتقل بنصي - سواء كان شِعراً أو سرداً - من كونه مجرد «مجموعة» إلى كونه كتاباً، فمثلاً كلمة «الحب» في حد ذاتها «لا تعني لي شيئاً بعينه، أو قد تحمل دلالات سطحية»، لكنها تكتسب بُعداً آخر داخل كتاب متداخل، فتمتزج بمعانٍ أخرى مثل الأبوة والإيمان والتطهر والعنف والموت والحياة، وهنا يتشكل الحب فلا يصير كأي حب، بل يصبح حُبي الخاص وعنفي المتفرد.

لكن تصعب الأمور أكثر في «مجموعة قصصية» محكومة باستقلالية نصوصها، فلم أرد لـ«حب عنيف» أن تصير متتالية، ولم أرد لها أن تصير مجرد قصص منفصلة لا تشملها فقط وحدة الزمن، لكن أردت لها أن تحتمل شيئاً أكبر شاعرياً وممتعاً، عن سؤال: «ماذا لو نقلنا فلانة في حياة فلان، ماذا لو كانت للمرء حيوات متعددة؟» قد تصبح لعبة المرايا التي هي شاغل أساسي في تاريخ الأدب، ولو أني أعتبرها لعبة أنثوية بالأساس. وهكذا أردت أن ألعب لعبة ذكية مع القارئ، على أمل أن أجعله يبحث أكثر داخل هذا العالم. أن أجعله يعود إليه مرة وربما مرات أخرى، وكل مرة يعود يكتشف شيئاً جديداً كان مخفياً عنه.

* يبدو المتن السردي في المجموعة وكأنه هارب من متن فني موازٍ (لوحة، صورة فوتوغرافية... إلخ) ففي إحدى القصص بدا الأبطال وكأنهم يتعرفون على وجودهم في لوحة غوغان، وبطلة أخرى تستعيد إيميلي برونتي، كيف تُطورين تأثرك بالفنون بصورة متواشجة داخل كتابتك؟

- ككاتبة، أتسلى بمصير شخصياتي، فأنا أيضاً مؤمنة بوجودي كشخصية خيالية داخل تلك الفنون التي أحبها. حين تلمسني وتؤثر فيّ، فتعينني على فهم نفسي، وتجعلني أتواضع أمام جمال الفن وتعدده، ومحدودية قدرتي لخلق كل هذه الفنون، لكن أنا وغيري من الفنانين ما نحن سوى صنيعة هذا الإرث الإنساني من الأدب والحكايات والموسيقى والشِّعر. لي فنانيّ المفضلون، أحب أن أصحبهم معي في رحلاتي. لكن دائماً يُنصَح الكاتب بألا يذكر أسماء كتّاب وفنانين مشاهير حتى لا يبدو «مستعرضاً»، وليظهر كإنسان طبيعي. كأن بذلك تُكتسب المصداقية. لكني في لحظة ما وجدت هؤلاء الأصدقاء يأتون بطرقهم التلقائية الطبيعية داخل القصص، دون تدخل كبير مني.

لا أنفصل عن ذاتي حين أكتب، فالكتابة كلها منبعها أسئلتي الذاتية، وأدواتي المعرفية، وميولي وانحيازاتي الفكرية والإنسانية. لكنها لا تأخذني إلى مدارات شخصية إلا نادراً، فلا أكتب عن مواقف حياتية واقعية، فأفرق جيداً بين الذاتي والشخصي؛ لأنني لست منغلقة على نفسي، وذاتي هي وسيلتي الوحيدة التي أمتلكها لأنفتح على العالم وعلى الآخر، للبحث عن المعرفة، والبحث عن معنى الحياة؛ لذلك طبيعي جداً أن أرى إيميلي برونتي أو غوغان وغيرهم يصاحبون الشخصيات التي أنسجها في قصصي.

* في المجموعة احتفاء بنبرة الحكاية، فالأم تجمعها بابنها آصرة خاصة عبر الحكايات، وهناك تناص مع «ألف ليلة» بغرابة حكاياتها وتحولاتها كما في قصة «صداقات خطيرة» مثلاً. ماذا تحمل تلك اللمحات من علاقتكِ بالحكايات التراثية؟

- الحكايات مُكوّن أساسي في شخصيتي، ليست فقط «الليالي العربية»، بقدر تربيتي في عائلة تجلّ الحكايات والسِّيَر الشعبية وتتغنى بها. وهذا ليس شيئاً استشراقياً كما يبدو لبعض المثقفين، الذين كبروا في أحضان الطبقة الوسطى، لكنه شيء بديهي وفطري في بيئة صعيدية أو في أجواء الدلتا على ما أظن. وكان تحدياً كبيراً بالنسبة لي أن أكسر القواعد والنصائح المتعارف عليها في عالم الأدب؛ لا تكتب حكاية داخل النص، لا تكتب حلماً داخل النص، لا تكتب أسامي المشاهير، لا لا لا... وغيرها.

هذه النصائح لها وجاهتها، وكسرها مغامرة، قد تنقل النص الجيد لمنطقة الرديء. لكن المثل يقول: «من غير المخاطرة مفيش متعة». وهكذا بروحٍ عنيدة، رُحت أكسر كل تلك المحظورات، لكن في الوقت نفسه بأرق المسؤولية ألا أقع في فخ الاستسهال أو الرداءة.

* وُصِفت روايتك «حشيش سمك برتقال» بأنها قصيدة نثر طويلة، ونلتقي في ديوانكِ «كأنها مغفرة» بشكل «القصة القصيدة»، هل تجدين في التحرر من النوع الأدبي وتصنيفاته لمحة من هُويتكِ الأدبية؟

- أظن أن هذا الوصف عن رواية «حشيش سمك برتقال» هو أكثر وصف أسعدني، رغم ما قد يعنيه من متلفظه باعتباره نقداً سلبياً، لكنني أنحو تجاه رأي كبير يقول إن السرد الطموح يتلمس الشّعر. وهذا التلمس لا يكون بنحت اللغة، لكن بفهم أعمق لجوهر الشِّعر باعتباره مجازاً كُلياً، وتكثيفاً شعورياً لسؤال النص، فإن أردت أن أطرح سؤالاً عن الوحدة، كما في الرواية، فليس من الشطارة إغلاق اللغة على نفسها لتصير قطعة أدبية منفصلة، لكن بشحذ هذه اللغة، ناحية الشعور والمعنى والبناء، لتؤدي جميعها إلى مجاز شامل عن الوحدة. قد يختار كاتب غيري كتابة الحكاية بأخذ مسافة محسوبة عن النص. لا عيب في أيٍّ من الأسلوبين. الفيصل عندي هو الأصالة.

هذا يحيلنا لسؤال عن أسلوب الفنان، وأنا شاعرة - بالمعنى الذي أسلفته - في رؤيتي وفهمي للعالم. ولا أتخلى عنه لصالح ذائقة بعينها، تتوجس من الشعراء الذين يكتبون الروايات! وهكذا فإني أرى الشِّعر في كل نص وبكل طريقة. وأسمح لنفسي أن أكتب أي شكلٍ، سواء كانت سطوراً أو كُتَلاً سردية، وبهذه الطريقة أدخل إلى نصوصي. الشِّعر عندي هو الجوهر، وكل نص يؤدي إليه.

* «العنف» ثيمة تلتقطها كتابتكِ بمزيج من الهشاشة والتعقيد؛ حيث «غضب يخبئ الضعف، وعنف يخبئ العنف، وعنف يخبئ الحب»، كيف تستكشف أعمالكِ العنف؟

- العنف سؤال أساسي في أعمالي. وقد أتوسع فيه داخل رسالة الماجستير التي أحضرها حالياً. يمكن بنظرة أنثوية على العنف، باعتباره شيئاً أكبر من حضوره المادي، لكن بمعناه الرمزي، كما يعرفه المفكر الفرنسي بيير بيرديو، حول علاقات الهيمنة والسلطة، وفرض رؤية للعالم. وأحب أن أشرحه بعقل شاعر وفنان، فأجسده في قصصي باعتباره طريقة للتواصل والهزيمة والعاطفية والمتعة. لا من منطقة الرثاء على الذات أو الرثاء على المرأة.

* رغم انتمائك واعتزازك بأصولك الصعيدية، فإن العاصمة القاهرة تبدو مركزية في أعمالِك، هل تجدينها مُعادلاً لمشاعِر الوحدة والتهميش؟

- لا أعتبر القاهرة معادلاً للوحدة والتهميش، بل أراها ملعباً كبيراً، نلهو ونحيا فيه، تحتمل كل معنى وكل شعور، بداية من الوحدة، مروراً بالأُلفة والعنف والفن إلى المعاني الأكبر كجدوى الوجود ذاته؛ لذلك أنا أدخل لعالم القاهرة بقلب دَخيل ومندهش ومغامر دائماً.

* بدأتِ ديوان «كأنها مغفرة» بالحديث عن المحو والنسيان، وصولاً لنقطة «كل ما أريده هو استعادة الزمن، امتلاكه من جديد كأن كذلك تكون المغفرة»... حدثينا عن مجاز الحياة والمغفرة بين المحو والاستعادة هنا.

- تشغلني دائماً فكرة «المغفرة» كمعنى أساسي لوجودي. وكنت سابقاً أفكر في أن النسيان هو وسيلتي؛ لذلك أنحو إلى المحو وتضييع الأشياء والموجودات. لكن رحلتي داخل الديوان جعلتني أستكشف دوراني حول الزمن، في محاولة لاستعادة لحظات الشقاء والحزن واستبدالها بالشِّعر والفن. ولتمام صِدقي، فهمت أن عليَّ المغفرة من منطقة التسليم بضآلة وجودنا في الحياة، وبحقيقة فنائنا، ومحاولة السير مع الزمن لا باستدعاء الماضي. شعور غير مستدرك، قد يُضيِّع الشِّعر نفسه؛ لأن هذه الحقيقة تدعو إلى التخلي. لكن يمكنها أيضاً أن تضعنا في منطقة أكثر تواضعاً وعزاءً.

* تعملين محررة أدبية، كيف تنظرين إلى الجدل حول أهمية دور المحرر الأدبي الذي لا يزال يُثار في عالمنا العربي إلى اليوم؟

- أتمنى أن تُعطى أهمية كبرى لدور المحرر الأدبي في الوطن العربي، فالمُحرر لا يعيد كتابة النص للكاتب، كما يتخيّل البعض، لكنه عينٌ مُخلِصة تنظر للنص مع الكاتب. وفي أحيان كثيرة حين أقرأ نصوصاً أحس بأنها كان ينقصها تلك العين.

* بعين طائر، كيف تتأملين صوتك ومفاوضاتك مع الكتابة، مع بداياتك في «ساذج وسنتمنتالي» وصولاً إلى «حب عنيف»؟

- سؤال صعب جداً، لكني أحب دائماً تأمل كل تجربة بعد الانتهاء منها، رؤية عيوبها قبل محاسنها. ومن الممكن أن أكون قد أدركت أن لي صوتاً مزعجاً، غير مُستأنس، يثير المتاعب؛ لأنه يريد الوصول لحقيقة وجوهر الأشياء، لكن الحقيقة ليست لكل البشر.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!