شعرية الحياة ونثرها

إدغار موران نموذجاً

إدغار موران
إدغار موران
TT
20

شعرية الحياة ونثرها

إدغار موران
إدغار موران

إدغار موران، الفيلسوف الفرنسي المئوي (ولد عام 1921...)، يتمثل شكل الحياة ونمط العيش في شكل استعارات أدبية من خلال ما يطلق عليه «الثنائية القطبية القصوى». فتتخذ الحياة هيئة النثر عندما تكبلنا الالتزامات ومشاغل المعيشة لتصرفنا عن الجانب المثير فيها: «إن البلايا، والجهود المبذولة ابتغاء البقاء، والعمل المضني العاري من الاهتمام، والهوس بالمكاسب، وفتور الحساب والعقلانية المجردة، كل ذلك يساهم في هيمنة النثر في الحياة اليومية». وفي مقابل ذلك، يصبح الوجود عبارة عن انفعال شعري عند «متعة العيش»؛ بتلك الحالة الانفعالية «التي تنتابنا أمام ما يبدو لنا جميلاً أو محبوباً، لا في حقل الفن فحسب، ولكن في العالم وفي تجارب حيواتنا، وفي لقاءاتنا أيضاً». فهذا الانفعال الشعري يفتحنا، يمددنا ويسحرنا، إنها «نشوة الغيبة التي يمكن أن تكون لطيفة للغاية، خلال تبادل بسمات أو تأمل وجه أو منظر، وحادة جداً خلال الضحك، وسابغة للغاية خلال أوقات المسرة، وبالغة الشدة في الاحتفال والوفاق الجماعي والرقص والموسيقى»، يضيف مورغان. وبالإضافة إلى ذلك، يوجد أيضاً «ثمة شِعرُ الشعرِ الذي غالباً ما يحضرني لأتلوه، ثم شعرُ الروايات والأفلام التي تجتاح الروح وتغرقنا في الذهول».

وهذا المعنى عن شعرية الحياة، نجد أن الشاعر الإسباني غوستابو أدولفو بيكر (1836 - 1870)، الذي يُعد أول شاعر محدث في الأدب الإسباني المعاصر، قد قاله، وبإصابة كبيرة، في شعره:

«ما دامت موجات النور في القبلة/ تنبض ملتهبة/ وما دامت الشمس تكسو الغيوم الممزقة/ بالنار والذهب/ وما دامت الرياح تحمل في أحضانها/ العطور والأنغام/ وما دام يوجد في العالم ربيع... فسيوجد الشعر».

ثم يستمر بيكر في الإضافة والتنويع على المواقف الشعرية في الحياة، وأبرزها حالة الحب:

«وما دام بإمكان روحين أن يشعرا/ بأنهما اندمجا في قبلة/ وما دامت توجد على الأرض امرأة جميلة/ فسيوجد الشعر».

في مسألة الحب هذه، يتضح التوافق الكبير بين بيكر، وموران الذي يؤيد، هو الآخر، كون الحب مانحاً للوجود شاعرية مضافة بقوله: «إن أسمى شعر هو شعر الحب. إنه يطل من الوجوه والنظرات والبسمات. إنه ينبع من المحبوب، وحين يكف الآخر عن إلهام الشعر، ينتهي الحب».

عند نقاط الالتقاء السالفة، بين الشاعر والفيلسوف عن شاعرية الحياة، يكون التوافق واضحاً، لكن عندما تتشظى الحياة، ويكفهرّ وجه الوجود تنحرف لغة الفيلسوف قليلاً، ويثبت الشاعر في مهمته. فإدغار موران يرى أن كل حياة «ملاحة» في بحر من عدم اليقين، وتتخللها بضع جزر أو أرخبيلات من الأمور اليقينية التي منها نتزود بالمؤن. ثم يستدرك موران ويعود إلى رأيه السابق عن نثر الحياة وشعرها؛ حين يجب على المرء أن «يعيش حياته بحظوظها السعيدة ومخاطرها المحتملة، وبما فيها من إمكانات التمتع والمعاناة، وصنوف السراء والضراء. إن البقاء لازم للحياة، لكن الحياة المقتصرة على البقاء ليست حياة. وأن يعيش المرء معناه أن يكون قادراً على التمتع بالإمكانات التي توفرها الحياة». ثم يحيلنا موران إلى مقولة الحائزة على جائزة نوبل في الطب «ريتا ليفي»: «اِمنح الحياة لأيامك بدلاً من منح أيامٍ لحياتك».

الشاعر بيكر يعبر شعرياً عن حالة «عدم اليقين» في قول موران، ويرى أن تلك مهمة الشعر إلى حين حل لغز الحياة:

«وما دام العلم يبحث، دون أن يتوصل/ لاكتشاف ينابيع الحياة/ وما دام يوجد غور في البحر أو في السماء/ يقاوم التقدير/ وما دامت الإنسانية تتقدم دوماً/ دون أن تعرف إلى أين تسير/ وما دام يوجد سر للإنسان/ فسيوجد الشعر».

أن يعيش المرء معناه أن يكون قادراً على التمتع بالإمكانات التي توفرها الحياة

في نهاية هذه المقارنة والتناص بين قوليهما، يقر إدغار موران بحدوث بعض الانفلاتات الشعرية عند من يكابدون الشقاء من المساجين والبائسين؛ حيث إنهم محكوم عليهم بالنثر، حتى لو كانوا يعيشون أحياناً لحظات شعرية عابرة. أما الشاعر غوستابو أدولفو بيكر فيرى أن الشاعرية لا تغيب عند كل الظروف:

«لا تقل إن القيثارة قد صمتت/ بعد أن جفت كنوزها/ لأنها لم تعد تجد/ نغمة تعزفها/ قد لا يوجد شعراء. ولكن الشعر/ سيوجد دائماً».

بهذا اليقين من بيكر عن وجود شعرية متغلغلة في أوجه الحياة، يستعيد موران جدية الفيلسوف، ويوضح وجهة نظره النهائية بحسب تجاربه، ويوصينا بالتوازن الذي قد يمنحنا جزءاً من السعادة التي تقودنا إلى شعرية الوجود؛ حيث يجدر بنا «ألا نكون واقعيين بالمعنى المبتذل (التكيف مع المباشر)، أو غير واقعيين بالمعنى المبتذل أيضاً (التملص من قيود الواقع)، وإنما يجدر بنا أن نكون واقعيين بالمعنى المعقد؛ أعني أن ندرك عدم اليقين الذي يكتنف الواقع، وأن نعلم أنه لا يزال ثمة ممكن غير مرئي». والدرس الكبير الذي استخلصه موران خلال عمره الممتد هو: «أن كل هوى يجب ألا يخلو من نور العقل المستعد للهداية، وأن كل عقل يجب ألا يخلو من الهوى وقوداً له وطاقة اشتعال».

* كاتب وناقد سعودي


مقالات ذات صلة

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

ثقافة وفنون تدمير المسجد العمري

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

قبل أن تشرح السيدة إلودي بوفار، المشرفة على معرض «كنوز غزة التي أنقذت، 5000 سنة من التاريخ»، أهمية هذا الحدث الثقافي الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون وفود من المدارس المغربية تزور المعرض

«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر

شهد معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب هذه السنة إقبالاً واسعاً من الزوار الذين توزعوا على أروقته طيلة هذا الأسبوع. قُرّاء من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتم

عمر الراجي (الرباط)
ثقافة وفنون «إنهم حقاً رجال شرفاء»... الشيخوخة من منظور نسائي

«إنهم حقاً رجال شرفاء»... الشيخوخة من منظور نسائي

تتناول رواية «إنهم حقاً رجال شرفاء» الصادرة أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة للكاتبة ابتسام شوقي قصة سيدة عجوز تعيش وحيدة معزولة عن الآخرين،

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
ثقافة وفنون البابا في العراق (أ.ب)

أنوار البابا الطيب

لماذا ننعته بـ«الطيب»؟ لأنه جعل من الانفتاح على الإسلام والمسلمين أحد المحاور الأساسية لعهدته البابوية. وقد لقيتْ مبادراته أصداء واسعة

هاشم صالح
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي

«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر

وفود من المدارس المغربية تزور المعرض
وفود من المدارس المغربية تزور المعرض
TT
20

«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر

وفود من المدارس المغربية تزور المعرض
وفود من المدارس المغربية تزور المعرض

شهد معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب هذه السنة إقبالاً واسعاً من الزوار الذين توزعوا على أروقته طيلة هذا الأسبوع. قُرّاء من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، ومن مختلف مدن المغرب قدموا إلى الرباط وتمركزوا في ساحة «أو إل إم» بالسويسي يقودهم شغف البحث، ويسترعي اهتمامهم برنامج متنوع ضم أكثر من 240 فعالية ثقافية من ندوات وتقديم كتب وحوارات مفتوحة ومسابقات وجلسات تكريم، وبمشاركة كبيرة من مئات الناشرين المغاربة والأجانب الذين توافدوا من 48 بلداً. الدورة الحالية بدأت بافتتاح رسمي حضره الأمير مولاي رشيد والشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، احتفاءً بحضور إمارة الشارقة ضيفَ شرفٍ للنسخة الثلاثين من معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب.

هذه المناسبة شكَّلت فرصة لتسليط الضوء على العلاقات الثقافية التاريخية بين دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية؛ حيث خصَّص فضاء العرض عدداً من الأجنحة لألبومات الصور والوثائق الرسمية التي تؤرخ لبدايات التواصل الثقافي والمراحل المختلفة من هذه العلاقة العريقة بين بلدين عربيين متباعدين جغرافيّاً، لكن بقواسم ثقافية مشتركة. وباعتبارها ضيف شرف الدورة، كان برنامج الشارقة الأكثر تنوعاً بين جميع الضيوف، إذ تضمن أكثر من 50 فعالية مزجت بين أماسي الشعر والجلسات الفكرية واللقاءات التواصلية بين المبدعين والناشرين، إضافة إلى خلوات مطالعة وورشات كتابة خُصصت لصقل مهارات اليافعين من طلاب المدارس والقراء الشباب.

الإقبال على الكتب المعرفية التي لها علاقة مباشرة بالتحصيل المدرسي والبحوث الأكاديمية كان كبيراً، حسب ما أفاد به العارضون المرتبطون بالمؤسسات التعليمية والمكتبية المشاركة، مؤكدين الحضور القوي لكتب الجامعة داخل بنية العرض المقدَّم في أنشطة النشر لهذا العام. يُضاف إلى ذلك طلب كبير سُجل على كتب التنمية الذاتية، وكتب السرد من روايات وقصص قصيرة، وأجناس أخرى من التأليف. وكان من اللافت أن مساهمة الفئات الناشئة من الأطفال والشباب في نسبة الشراء كانت كبيرة، وهو ما له علاقة على ما يبدو بحجم التسويق الإعلامي الذي حظي به المعرض هذه السنة، إضافة إلى الدور الذي لعبته الشراكات المبرمة مع المؤسسات التعليمية ونسيج المجتمع المدني المرتبط بقضايا الطفولة والشباب في جذب أعداد كبيرة من قراء الجيل الجديد. ويفسر ذلك أيضاً ما لُوحِظ من تنافس تسويقي كبير بين دور النشر المشاركة، التي عززت من جماليات فضاء العرض بألوان وتصاميم مميزة للكتب، واشتغال كبير على العناوين، وكذا اختيار أجناس محددة من المؤلفات ذات الطابع التشويقي من روايات عالمية مترجمة وأخرى عربية وكتب فلسفية تضع على صفحتها الأولى أسئلة كبرى مكتوبة بخط عريض، ودواوين شعر لأسماء معروفة وغير ذلك من أساليب إغراء القراء العامين الذين يشكلون في الغالب معظم الزوار المعنيين باقتناء ما يُعرض.

حفلات التوقيع كانت صاخبة هذه السنة، وتوزعت أشكالها بين جلسات محورية لتقديم بعض الكتب المنتقاة ومناقشة محتواها؛ حيث اعتمدها المعرض ضمن برنامجه الرسمي. وانتهت بتوقيع النسخ وإهدائها للحضور، وأخرى نظّمتها دور النشر لفائدة كُتابهم الذين نجحوا في استقطاب زبائن لكتبهم المطبوعة حديثاً، فوجدوا ضالتهم في قراء تجمعهم بهم في الغالب علاقة الأستاذية، من قبيل طلبة الجامعات والباحثين الشباب الذين حضروا كي يحظوا بنسخ موقعة من كتب أستاذتهم. وفي الجانب المقابل، كانت هنالك حفلات توقيع أخرى نخبوية ونوعية، وقّع فيها شعراء وروائيون كتبهم لأصدقاء معدودين تجمعهم بهم تجربة الكتابة ممن جاءوا تكريماً للصداقة وللمنجز الإبداعي المشترك.

اللقاءات الفكرية في فضاء الندوات حظيت بين جميع الأنشطة التفاعلية بالنصيب الأكبر من متابعة الزوار، فبين قاعة «حوار» «وتواصل» و«أفق» نوقشت قضايا كثيرة محلية وعربية وعالمية، وأجريت حوارات مع كتاب وفنانين من أسماء بارزة في عالم الأدب والفلسفة والتاريخ وغيرها من حقول المعرفة الإنسانية. وفي هذا الاتجاه، كانت القضايا الراهنة في طليعة ما ركزت عليه فضاءات النقاش؛ حيث أعادت الأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية الجدل حول العدالة ومسألة المعايير الغربية المزدوجة في التعاطي مع الأحداث. حول هذا الموضوع، أعادت فعالية «ملتقى الكتاب» التي شارك فيها كل من الكاتب والناقد السوري صبحي حديدي والأكاديمي المغربي أنور المرتجي الذي طرح سؤال «الحاجة إلى فكر إدوارد سعيد»، في ظل المتغيرات في الرأي العام الغربي والتسويق الإعلامي المنحاز اتجاه قضايا المنطقة، لا سيما بعد أحداث غزة الأخيرة.

في الاتجاه ذاته، أُقيمت ندوة حملت عنوان «الإبداع الفلسطيني في مواجهة سياسة المحو»، وأثث نقاشها كل من الشاعر والناقد محمد بنيس والمفكر عبد الإله بلقزيز، اللذان حاورهما الإعلامي والشاعر ياسين عدنان حول دور الإبداع الأدبي والفني الفلسطيني في بناء الشخصية الفلسطينية التي احتفظت بكيانها الخاص وقاومت بقوتها الفنية المحتل ومحاولاته للتجاوز الهوياتي والمحو الثقافي.

وفي جلسة حوار أخرى اختار منظموها عنوان «الجماليات ومأزق العالم»، استعرض المغني والعازف اللبناني مارسيل خليفة جانباً من مشاغله الفنية على الصعيدين الفكري والوجداني؛ حيث بدأ بالتأكيد على أهمية القلق في التكوين النفسي للمبدع، ثم انتقل من الخاص للعام، حين شدد على أهمية أن تضطلع الموسيقى بمهمة المواجهة والسعي المستمر للتغيير.

على هذا النحو أيضاً ساهمت مؤسسات أخرى محلية ودولية من قبيل «إيسيسكو» والمجلس الوطني لحقوق الإنسان بعدد معتبَر من الأنشطة الحوارية التي زادت فضاء النقاش تنوعاً وثراء، فقدمت الأولى في ندوة رئيسية لها مفهوم الدبلوماسية الحضارية، واستعرضت الثانية الحق في المدينة وتحولات العمران.

وفي ظل توطد العلاقة بين المغرب وفرنسا ثقافياً ودبلوماسياً، وما صاحب ذلك من اتفاقيات الشراكة والزيارات المتبادلة بين وزيري الثقافة في البلدين، خصوصاً بعد حضور المغرب ضيف شرف لمعرض باريس للكتاب قبل أسابيع، ارتفع أداء الأروقة المخصصة للمكتبات الفرنكوفونية من حيث المشاركة والعدد، كما تعزز حضور الفعاليات الثقافية والحوارية وجلسات تقديم الكتب باللغة الفرنسية بشكل لافت، لعل توقيع اتفاقية أرشيفية بين مؤسسة «أرشيف المغرب» والمدرسة الوطنية للمواثيق بفرنسا داخل فضاء المعرض كان علامة من علامات تنامي التعاون الثقافي بين فرنسا والمغرب.