بثينة وجميل بن معمر... الحب نار مشتعلة وقودها الغياب

كان قلبه مع بني عُذرة وعيناه على عمر بن أبي ربيعة

فرقة كركلا اللبنانية في عروض سابقة في السعودية لقصة "جميل وبثنية"
فرقة كركلا اللبنانية في عروض سابقة في السعودية لقصة "جميل وبثنية"
TT

بثينة وجميل بن معمر... الحب نار مشتعلة وقودها الغياب

فرقة كركلا اللبنانية في عروض سابقة في السعودية لقصة "جميل وبثنية"
فرقة كركلا اللبنانية في عروض سابقة في السعودية لقصة "جميل وبثنية"

لا تختلف قصة الحب التي جمعت بين بثينة بنت حيان وجميل بن معمر كثيراً عن القصص المماثلة، التي نسبها الرواة إلى شعراء بني عذرة، سواء من حيث القرابة العائلية بين العاشقين، أو من حيث صغر السن الذي تكون فيه المشاعر في ذروة تأججها، أو من حيث الحُمى المباغتة التي تضرب الطرفين من النظرة الأولى أو اللقاء الأول. ومع ذلك فإن العلاقة بينهما قد بدأت أول الأمر بالعراك وسوء التفاهم. وقد ورد في أغلب المصادر التراثية أن جميلاً التقى بثينة حين أنزل إبله في وادٍ اسمه «بغيض»، كان ينزل أهل بثينة بالقرب منه، وحين جاءت الأخيرة لسقاية إبلها، تسببت في إجفال إبل جميل، فبادرها بالسباب، وردّت عليه بمثله، قبل أن تنقلب الخصومة بينهما إلى حب جارف. وحول هذه الحادثة يقول الشاعر:

وأوّل ما قاد المودةَ بيننا بوادي بغيضٍ يا بُثينُ سبابُ

وقلنا لها قولاً فجاءت بمثلهِ لكل كلامٍ يا بُثين جوابُ

ويروي الأصفهاني في كتاب «الأغاني» أن جميلاً خرج في يوم عيد، حيث النساء يتزينّ ويبدين أنفسهن للرجال، وأنه وقف على بثينة وأختها أم الحسين، فرأى منهن منظراً أعجبه، وعشق بثينة. وإذ عرف القوم حبه لها من نظراته نحوها، وحالوا بينه وبينها إلى حين، نظم في ذلك كثيراً من أبيات النسيب، التي كان لها أبلغ الأثر في نفس الفتاة، فاتخذت قرارها بملاقاته، والاختلاء به «عند غفلات الرجال». على أن الأمور لم تجرِ على الدوام وفق هوى الفتى العاشق. وإذ حدث أن نجح أهل بثينة وعشيرتها في تشديد الرقابة على فتاتهم، ومنعها من لقائه، كان أهل جميل بالمقابل يشدون من أزره، ويحثونه على هجرها ومبادلتها الصد بالصد. لكن مكابرته لم تكن لتدوم طويلاً، فنظم من الشعر ما يصل إلى تخوم اللوعة، والشعور الممض بالذنب، كقوله لها:

لا تحسبي أني هجرتك طائعاً حدثٌ لعمرك رائعٌ أن تُهجري

يهواكِ ما عشتُ الفؤادُ فإن أمتْ يتبعْ صداي صداك بين الأقبرِ

ما أنتِ والوعد الذي تعدينه إلا كبرق سحابةٍ لم تمطرِ

ومن يتتبع سيرة جميل في عشقه لبثينة، فلا بد أن يلاحظ حرص الطرفين على إلباس علاقتهما لبوس الطهر، وإبعادها عن جموح الغريزة وشهوات الجسد. وقد جاء في بعض الروايات أن أبا بثينة وأخاها قررا التلصص على إحدى خلواتها مع جميل، وقد امتشقا سيفيهما استعداداً لقتلهما معاً في حال قيامهما بما ينافي الحشمة، وحين تسللا خفية إلى مكان اللقاء، سمعا جميلاً يطلب من بثينة أن تجزيه على ما تُسببه له من آلام، كما يحدث عادة بين المتحابين، حتى إذا احتجت بثينة على طلبه ارتاح لذلك الاحتجاج قائلاً لها إنها لو رضيت بارتكاب الإثم لهجرها إلى الأبد، مذكراً إياها بأبياته:

وإني لأرضى من بثينة بالذي لو ابصره الواشي لقرّت بلابلُه

بلا وبألّا أستطيع وبالمنى وبالأمل المرجوّ قد خاب آملُه

وبالنظرة العجلى وبالحوْل تنقضي أواخرُهُ لا نلتقي وأوائلُه

ويضيف الرواة أن أبا بثينة، وقد وقف على ما حدث بين ابنته وشاعرها العاشق، لم يتوانَ عن مخاطبة ابنه بالقول: «قم بنا، فما علينا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها»، فانصرفا وتركاهما. ومع ذلك فإن الرواة قد نسبوا مثل هذه الحادثة وأشباهها إلى غير واحد من عشاق بني عذرة، وهو الأمر الذي خلط الأوراق بين سِيَرهم، ودفع ناقداً كبيراً كطه حسين إلى القول إن في قصة جميل وبثينة «سخفاً وإحالات كثيرة»، مشككاً في صحة الوقائع المنسوبة إلى العذريين، وصولاً إلى التشكيك في وجود بعضهم في الأصل.

غير أن في شخصية جميل وأشعاره ما يدفعنا إلى وضعه في خانة ملتبسة؛ بين أهل التعفف وأهل الإباحة والحب الجسدي، أو بين قيس بن الملوح وعمر بن أبي ربيعة. فالشواهد الكثيرة على عفته وعذاباته وانقطاعه لحبيبته، شأن قيس، تقابلها شواهد أخرى على اختلائه المتكرر ببثينة بعد زواجها، ومن ثم تعلقه بالنساء على نحو عام، إضافة إلى تباهيه بوسامته وشجاعته وجنوحه إلى المغامرة، حتى لو قاده ذلك إلى النفي أو أودى بحياته. فقد رُوي أن جميلاً انتحل في إحدى زياراته لبثينة صفة مسكين جائع، وأنها أحرقت ثيابها عامدة لتستحث قومها على مساعدتها، حتى إذا قاموا بالمهمة وعادوا إلى مضاربهم، أرسلت جاريتها في طلب جميل، فلما حضر «حبسته عندها ثلاث ليال».

وفي حادثة أخرى مماثلة، لا تتوانى بثينة في غياب زوجها عن أن تُضجِع جميلاً إلى جوارها طيلة الليل، حتى إذا نقل أحد عبيدها الخبر إلى زوجها وذويها، وهرعوا إلى المكان شاهرين سيوفهم، أصر جميل على مواجهتهم جميعاً، لولا أن بثينة دعته إلى التواري عن الأنظار؛ درءاً للفضيحة، طالبةً من أختها «أم الحسين» الاضطجاع في سريرها؛ للخروج من المأزق. ومع اقتحام جميل المتكرر لمنزل بثينة الزوجي، فإن من الصعب على المرء، ومهما بلغ به حسن الظن، أن يصدق اكتفاء الطرفين باستلقاء أحدهما البريء إلى جانب الآخر، خصوصاً أن كليهما كان يعيش آنذاك اندفاعة الصبا واحتداماته المؤرقة.

من يتتبع سيرة جميل في عشقه بثينة، فلا بد أن يلاحظ حرص الطرفين على إلباس علاقتهما لَبوس الطهر وإبعادها عن جموح الغريزة وشهوات الجسد

وإذ لا يتردد الأصفهاني (ومن بعده طه حسين وصادق جلال العظم) في إبداء شكوكه حول الطبيعة العفيفة للعلاقة بين الطرفين، ينقل عن والد جميل قوله له: «يا بني، حتى متى أنت عمِهٌ في ضلالك، لا تأنف من التعلق بذات بعل يخلو بها ثم تقوم من بعده إليك، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة؟!». ومع أن جميلاً لا ينفي أو يؤكد المرامي الضمنية التي يشير إليها أبوه، غير أن ما ينفيه هو قدرته على الابتعاد عن بثينة، التي اعتبر حبه لها «بلاءً ابتُلي به» ولا يملك له دفعاً.

ويتضح من سيرة جميل أنه كان معجباً أيما إعجاب بشعر عمر بن أبي ربيعة وشخصيته، وهو الذي كان يشاركه الوسامة، وطول القامة، والرغبة في إغواء النساء. وكانت «أم الحسين» إحدى الفتيات اللواتي استهوينه وشبَّب بهن قبل تُعرفه إلى أختها بثينة. كما يتشاطر جميل مع عمر شجاعته الفائقة إلى حد التهور، وهو الذي لم يتوانَ عن انتضاء سيفه في وجه أبيها وأخيها، حين داهماهما ذات لقاء، مما اضطرهما إلى الفرار والانكفاء عن مواجهته طلباً للنجاة. ومع أن اسمي عمر وجميل قد ارتبطا عبر الزمن بشكلين متعارضين من أشكال الحب، فقد بدا الأول وكأنه الضمير المستتر للثاني، الذي كان يشاركه في قرارته بالانتماء إلى المجرى الموحد للأنوثة الكونية، كما يظهر في قوله:

يقولون جاهد يا جميل بغزوةٍ وأيَّ جهادٍ غيرهنّ أريدُ

لكل حديثٍ بينهن بشاشةٌ وكلُّ قتيلٍ دونهنّ شهيدُ

وإذ يعُد عمر نفسه معنياً بالجمال الأنثوي أينما كان، وهو القائل: «إني امرؤ موكَلٌ بالحسن أتبعه»، يكرر جميل المعنى نفسه عبر قوله:

يقولون صبٌّ بالغواني موكّلٌ وهل ذاك من فعل الرجال بديعُ

وقالوا رعيتَ اللهوَ والمالُ ضائعٌ فكالناس فيهم صالحٌ ومضيعُ

كما يرى جميل أن العلاقة بين العاشق والمعشوق لا بد أن تتعرض للضمور والتلف، ما لم يعمد الطرفان إلى تجديدها، وتوثيق أواصرها، عبر إدارة التناوب المستمر بين الوصال والنأي، أو بين الحضور والغياب. ولعله الوحيد بين شعراء بني عذرة الذي امتلك الجرأة على الاعتراف بأن النأي المتقطع بين المحبين هو الشرط الأهم لبقاء الحب في حالة اشتعال. وعن ذلك يقول قاصداً بثينة:

يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ويحيا إذا فارقتها فيعودُ

لكن من موجبات الإنصاف الإقرار بأن صراع الخيارات المتعارضة، الذي كان قلب جميل وعقله مسرحاً له، لم يستطع أن يخفف من تعلقه المرَضي ببثينة، بدليل أن الأثمان التي دفعها كانت من الفداحة بحيث أهدر السلطان دمه غير مرة، فبات طريدها الأبدي، وعمد إلى الهرب تارة إلى اليمن، وطوراً إلى الشام، وطوراً ثالثاً إلى مصر، حيث قضى نحبه هناك. ويروي الأصمعي أن جميلاً حين أحس بدنو الأجل، استدعى رجلاً من معارفه، وقدم له كل ما يملك مقابل أن ينقل إلى بثينة أبياتاً يرثي بها نفسه قائلاً:

صدُع النعيُّ وما كنى بجميلِ وثوى بمصرَ ثواءَ غيرِ قَفولِ

ولقد أجرّ الذيلَ في وادي القرى نشوانَ بين مَزارعٍ ونخيلِ

قومي بثينةُ واندبي بعويلِ وابكي خليلكِ دون كلّ خليلِ

وقد وقع الخبر على بثينة وقوع الصاعقة، وبخاصة بعد أن تيقنت من صحته، وأخرج الرسول القادم من مصر حلة جميل، والرقعة التي تحمل أبياته، فبكت وأبكت معها نساء الحي، ثم وقعت مغشياً عليها، حتى إذا استيقظت نهضت وهي تردد هذين البيتين اللذين لم ينقل الرواة عنها سواهما أبداً:

وإنّ سُلُوّي عن جميلٍ لساعةٌ من الدهر ما حانت ولا حان حينُها

سواء علينا يا جميل بن معْمَرٍ إذا متَّ بأساءُ الحياة ولينُها


مقالات ذات صلة

«مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

ثقافة وفنون «مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

«مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

يعبر ديوان «مزرعة السلاحف» للشاعر المصري عيد عبد الحليم، الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر فصحى في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، عن حالة شعورية واحدة

عمر شهريار
يوميات الشرق الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

من جماليات حفل تكريم الشاعر الفذّ طلال حيدر على «مسرح كركلا»، برعاية وزير الإعلام اللبناني زياد المكاري، وحضوره، التحلق اللافت لجمع من الشعراء وأهل الفكر والثقافة.

سوسن الأبطح (بيروت)
الوتر السادس أبناء منصور الرحباني يطلقون فعاليات مئوية والدهم (الشرق الأوسط)

أبناء منصور الرحباني يُطلقون مئويته ووزارة التربية تتعاون لترسيخ إرثه في المدارس

بحضور حشدٍ من الشخصيات الثقافية والفنية والإعلامية، أطلق أبناء منصور الرحباني برنامج مئويته من بيروت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق جانب من احتفال المجلس الأعلى للثقافة باليوم العالمي للغة العربية (وزارة الثقافة المصرية)

مصر تحتفي بـ«اليوم العالمي للغة العربية» بندوات وأمسيات شعرية

احتفت مصر باليوم العالمي للغة العربية الذي يحل في 18 ديسمبر (كانون الأول) بتنظيم ندوات وأمسيات شعرية.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية
TT

الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

لو وُجِد دوستويفسكي أو تولستوي أو ملفيل أو ستاندال أو جين أوستن في عصرنا هذا فهل كانوا سيكتبون روائعهم الروائية بالطريقة ذاتها التي جعلت منها كلاسيكيات عظيمة؟

ربما تكون جائزة البوكر العالمية للرواية هي الجائزة الأعلى مقاماً بين الجوائز الروائية التي نعرف، ولعلَّ من فضائلها أنَّها الوسيلة غير المصرَّح بها لتعريف القارئ العالمي بما يُفتّرّضُ فيه أن يكون نتاجاً روائياً يتوفَّرُ على الجدة والأصالة. ستكون معايير اللجنة المانحة للجائزة موضع جدالات ساخنة بالتأكيد، وهو ما يحصل كلّ عام؛ لكنْ ليس في استطاعة القارئ العام أو المتخصّص غضُّ الطرف عن إعلانات هذه الجائزة وبخاصة أنّه يعيشُ حالة تفجّر في النشر الروائي تجعل منه عاجزاً عن متابعة ما يُنشرُ في كل أنحاء عالمنا. المرء ليس أخطبوطاً بألف عقل وعين لكي يتابع حتى البعض اليسير مما يُنشرُ في الرواية وفي غير حقل الرواية.

وطّنتُ نفسي كلَّ سنة منذ عقود عدّة، وبدفعٍ من الأطروحة التسويغية السابقة، على قراءة - أو محاولة قراءة - العمل الروائي الفائز بجائزة البوكر العالمية السنوية. أعترفُ منذ البدء أنّ خيبة كبرى باتت تملأ نفسي بعد كلّ قراءة، وما انفكّت هذه الخيبة تتعاظم مثل كرة ثلجية عاماً بعد عام. أظنُّ أنّ (مارغريت آتوود) هي آخر روائية بوكرية استأنسْتُ قراءتها بشغف حقيقي.

عندما شرعتُ في قراءة الرواية البوكرية الفائزة لعام 2024. وهي رواية عنوانها «مداري Orbital» - لعلَّ عبارة «في المدار» ستكون الترجمة الأكثر أناقة - للروائية سامانثا هارفي Samantha Harvey، وهي غير مترجمة إلى العربية بعدُ كما أعرف، لم أتعاطف كثيراً مع أجواء الرواية أو تفاصيلها التقنية أو سياقها السردي. التجربة الغريبة والمثيرة التي حصلت معي أنَّ قراءتي للرواية البوكرية تزامنت مع قراءتي - أو إعادة قراءتي بالأصحّ - لرواية «الإخوة كارامازوف» التي هي بعضُ روائع كلاسيكيّات دوستويفسكي. دفعني هذا الأمر للتفكّر الحثيث في هذا الأمر: لماذا نجدُ شغفاً أعظم عند قراءة الكلاسيكيات الروائية بالمقارنة مع الأعمال الروائية المعاصرة أو الحداثية أو ما بعد الحداثية؟ سبق لكّتّابٍ عديدين تناولُ أمر أهمية الكلاسيكيات الروائية، ومن هؤلاء مثلاً إيتالو كالفينو، الذي كتب كتاباً كاملاً عنوانُهُ «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟»، وهو مترجمٌ إلى العربية وسبق لي كتابة عرض له.

لدي أطروحة شخصية في هذا الشأن. قبل عرض تفاصيل هذه الأطروحة لا بدَّ من توضيح موضوعات إشكالية محدّدة. أوّلُ هذه الإشكاليات هي معضلة التعميم: سيجادلُ بعضُ القرّاء كيف لنا أن نتوثّق من أنّ هناك توقاً عولمياً لقراءة الكلاسيكيات الروائية؟ الجواب يكمنُ في إعادة طبعاتها بعشرات وربما مئات الطبعات، وكونها تحتلُ عناوين شاخصة في المعتمدات الأدبية العالمية. ثمّ هناك الاستشهادات الكثيرة بها في الصحافة الثقافية العالمية بما يشي باستمرارية تأثيرها وكونها عموداً أساسياً في تشكيل الذائقة الروائية العالمية بعيداً عن مؤثرات الزمان والمكان والجغرافيات المحلية. الإشكالية الثانية نفسية الطابع ومفادُها أنّ الكلاسيكيات الروائية، وربَّما لأسباب مدرسية أو بسبب تقاليد القراءة المنزلية سابقاً، شكّلت جزءاً من قراءاتنا المقترنة بالطفولة، وهذا ما يدفعها إلى أن تصبح ميراثاً أدبياً راسخاً في عقولنا، وغالباً عندما نسترجع هذا الميراث فلن يخلو الأمر من عنصر نوستالجي يدفعنا للتحيّز النفسي لتلك الكلاسيكيات، فضلاً عن أنّه يصوّرُ لنا الأمر بالفائقية المحسومة لهذه الروايات على ما سواها. أظنّني أمتلكُ قدراً من الخبرة والحصانة النفسية تجاه مفاعيل النوستالجيا الطفولية والشبابية إلى حدّ أعرفُ معه أنّنا إزاء ظاهرة أدبية حقيقية عالمية الأبعاد وليست بعض ما ترسمه لنا تصوّراتنا المحلية أو تحيزاتنا العقلية.

قبل أن أبدأ في تفاصيل الأطروحة أجدُ من المناسب والضروري تشخيص أي الأعمال هي المقصودة بأنها «كلاسيكية». كلاسيكيات الرواية هنا ليست إشارة تصنيفية إلى المدرسة الكلاسيكية في الرواية، كما أنّها بعيدة عن المفهوم التقني الذي يصنّفُ عملاً مهمَّاً وشائعاً بأنّه من كلاسيكيات المبحث المعرفي الذي يتناوله. مثالُ هذا كتاب «مختصر تاريخ الزمان»، الذي كتبه ستيفن هوكنغ الذي صار من كلاسيكيات الفيزياء، أو كتاب «الجين الأناني»، الذي ألّفه ريتشارد دوكنز الذي صار من كلاسيكيات فلسفة العلم والبيولوجيا التطوّرية. الكلاسيكيات الروائية التي أعنيها بالتحديد هي تلك التي كُتِبَتْ قبل مطلع القرن العشرين على وجه التقريب وحيث لم تكن مفاهيم الحداثة الروائية قد شاعت بعدُ.

أهمّ أسباب توقنا الممض لقراءة الكلاسيكيات الروائية ذات الجانب الوجودي الذي يختصُّ بحجم وتعدّدية المصادر الضوضائية التي نعيشُ في خضمّها. لو تابعنا الخطّ التطوّري للإنسان لرأيناه في كلّ قفزة تطورية يصطنعُ مصادر جديدة للمعرفة تتفوّقُ نوعياً على تلك التي سادت قبلها، ومن الطبيعي أن نشعر بالامتنان لهذا التطوّر المعرفي؛ لكنّ هذا التفجّر المعلوماتي هو بمثابة عناصر تشويش تشاغلُ أدمغتنا. لو حسبنا أدمغتنا وسائل معالجة معلوماتية فكلّ قفزة تطوّرية ستأتي بكمّ جديد من البيانات والمعلومات والمعرفة الجديدة، وهذا ما يشكّلُ عبئاً على الدماغ البشري ويدفعه إلى إسقاط - أو التخفيف - من عبء هذا الدفق المتفجّر، وإلّا فإنّه سينتهي إلى حالة من العطالة غير المنتجة أو التبلّد الكامل. يبدو هذا اللون من التفكير غريباً بعض الشيء. أعرف هذا؛ لكن دعوني أوظّفه في مثال تطبيقي. المرء يتعلّم بالأمثلة التطبيقية جيّدة التشخيص أكثر مما يفعل من الإنشاءات النظرية. دعونا نتساءل: لو وُجِد دوستويفسكي أو تولستوي أو ملفيل أو ستاندال أو جين أوستن في عصرنا هذا فهل كانوا سيكتبون روائعهم الروائية بالطريقة ذاتها التي جعلت منها كلاسيكيات عظيمة؟ الجواب: لا؛ لأنّ عقولهم المعاصرة لن تعمل كما عملت عقولهم عندما كتبوا تلك الكلاسيكيات. كانت لهم حينها أزمانٌ ممتدّة وقدرة على التأمّل المديد غير المنقطع في معضلات الوجود البشري. حينذاك كانت الإصابة بالتايفويد أو السل - مثلاً - حكماً نهائياً بالموت. كيف لنا أن نتصوّر هذا الحال مع عصر صار فيه السلّ أو التايفويد من ذكريات الماضي البعيد؛ لكنّ جوانب مستجدة من التهديد الوجودي انبثقت فيه. مثالٌ آخر: كان نقص السعرات الحرارية التي يتناولها المرء قبل قرن من اليوم حالة طبيعية رغم أنّ عدد سكّان الأرض حينها لم يتجاوز سُدْس عددهم اليوم؛ لذا كان الجوع والتقاتل على الطعام ثيمة روائية سائدة. لم تكن الثيمات الروائية الكلاسيكية كلها أحزاناً وتذكيراً بنقص الإمكانات وقلّة حيلة البشر؛ بل قدّمت لنا أيضاً أمثلة نقية غير ملوّثة عن الحبّ والتعاطف والروابط الإنسانية بين البشر باعتبارها قيماً عالمية. هذا أمرٌ نادرٌ اليوم ولم يعُدْ يشكّلُ عنصراً جاذباً في الرواية. صارت الخصائص البشرية النبيلة تُصنعُ في سياقات روائية معقّدة بعيدة عن أجواء النقاء الخالص.

لو شئتُ مقارنة رواية دوستويفسكي الكلاسيكية «الإخوة كارامازوف» مع الرواية البوكرية الفائزة «مداري» لسامانثا هارفي لوجدنا أنّ رواية دوستويفسكي تعدُّ من المطوّلات الروائية، وتحكي عن جوانب محدّدة من السلوك البشري الجمعي غير المحدّد بضوابط الزمان والمكان والبيئة، ويفترضُ الكاتبُ أنّ القارئ سيتطوّرُ لديه مع استمرارية القراءة نمطٌ من التماهي مع شخوص الرواية؛ فهُمْ في النهاية كائنات بشرية يمكن أن نجدها بين عوائلنا أو أصدقائنا. أمّا هارفي وسائر كّتّاب الرواية المعاصرة، فصاروا مسكونين بهاجس أدب الاستنزاف Exhaustion Literature والخوف المَرَضي من أنّ كلّ الحقائق الوجودية المهمّة قد قيلت وكُتِبَتْ ولم يعُدْ مناسباً تكرارُها؛ لذا صاروا يتصارعون في محاولة تخليق بيئات فنتازية أو مواقف غرائبية شاذة أو نادرة أو مستبعدة في المعيش اليومي. نحن عندما نقرأ رواية هارفي فإنّما نقرأ عن بيئة تتسمُ بأعلى أشكال المحدودية الوجودية والاستعصاء على إمكانية تعميم الخبرة البشرية: ستّة أشخاص يعيشون في محطّة الفضاء الدولية التي تبعدُ أربعمائة كيلومتر عن الأرض!!. أراني في هذا الموضع مدفوعة للقول إنّ التمظهرات انتهازية أو الغرائبية أو النادرة ليست مثلبة؛ بل القدرة الروائية منوطة بكيفية توظيفها بما يجعلها قريبة من الانشغالات الوجودية البشرية. في رواية «مكتبة منتصف الليل» للكاتب مات هيغ Matt Haig مثلاً إشارة إلى العوالم المتعدّدة؛ لكنّ الروائي جعل العلاقات البشرية في سياق وجودي حقيقي هي الخصيصة المميزة للرواية ولم يكن مسكوناً بحمّى أدب الاستنزاف ومحاولة تخليق عوالم تخييلية غير مفيدة بأي ثمن كان. الأمر ذاته ينسحب على رواية «موبي دك» لهرمان ملفل.

إهمالُ قراءة الكلاسيكيات الروائية خسارة لمنجم هائل من الخبرات العظيمة، ويبدو لي أنّ المقاربة الفضلى في قراءة الأعمال الروائية هي عدمُ إهمال الكلاسيكيات أو الروايات المعاصرة وما بينهما من أعمال حداثية أو ما بعد حداثية. المعضلة تتحدّدُ في أنّ الكلاسيكيات الروائية العظيمة مشخّصة وقليلة العدد بالمقارنة النسبية مع سواها؛ في حين أنّ الأعمال الروائية المعاصرة وروايات الحداثة وما بعد الحداثة كبيرة الكمّ وغير متّفق على فرادتها وتميّزها، وهذه المعضلة ستتفاقم كلّما عبرنا من حقبة زمنية نحو أخرى.

المحزن في الأمر أنّ الجائزة البوكرية العالمية لن تكون معيناً لنا في هذا الشأن. الأمر كله منوطٌ بالقارئ أن يقرأ ويكتشف بين الأعمال الروائية الكثيرة ما يتوافق مع ذائقته وخبراته وترسيماته الذهنية والنفسية، وهذا جهد ملحمي ليس يسيراً أبداً إلَّا لمن أوقف حياته على الرواية وحدها.

أظنّ أنّ قراءة واحدة من الكلاسيكيات الروائية كلّ عام ستكون تجربة رائعة، وهذا ما اختبرته بنفسي وتلمّستُ ثماره العظيمة في شعور الغبطة والانشراح وانفتاح الزمان والمكان ولجم الضوضاء التي تحاصرنا أنّى ذهبنا.