بثينة وجميل بن معمر... الحب نار مشتعلة وقودها الغياب

كان قلبه مع بني عُذرة وعيناه على عمر بن أبي ربيعة

فرقة كركلا اللبنانية في عروض سابقة في السعودية لقصة "جميل وبثنية"
فرقة كركلا اللبنانية في عروض سابقة في السعودية لقصة "جميل وبثنية"
TT

بثينة وجميل بن معمر... الحب نار مشتعلة وقودها الغياب

فرقة كركلا اللبنانية في عروض سابقة في السعودية لقصة "جميل وبثنية"
فرقة كركلا اللبنانية في عروض سابقة في السعودية لقصة "جميل وبثنية"

لا تختلف قصة الحب التي جمعت بين بثينة بنت حيان وجميل بن معمر كثيراً عن القصص المماثلة، التي نسبها الرواة إلى شعراء بني عذرة، سواء من حيث القرابة العائلية بين العاشقين، أو من حيث صغر السن الذي تكون فيه المشاعر في ذروة تأججها، أو من حيث الحُمى المباغتة التي تضرب الطرفين من النظرة الأولى أو اللقاء الأول. ومع ذلك فإن العلاقة بينهما قد بدأت أول الأمر بالعراك وسوء التفاهم. وقد ورد في أغلب المصادر التراثية أن جميلاً التقى بثينة حين أنزل إبله في وادٍ اسمه «بغيض»، كان ينزل أهل بثينة بالقرب منه، وحين جاءت الأخيرة لسقاية إبلها، تسببت في إجفال إبل جميل، فبادرها بالسباب، وردّت عليه بمثله، قبل أن تنقلب الخصومة بينهما إلى حب جارف. وحول هذه الحادثة يقول الشاعر:

وأوّل ما قاد المودةَ بيننا بوادي بغيضٍ يا بُثينُ سبابُ

وقلنا لها قولاً فجاءت بمثلهِ لكل كلامٍ يا بُثين جوابُ

ويروي الأصفهاني في كتاب «الأغاني» أن جميلاً خرج في يوم عيد، حيث النساء يتزينّ ويبدين أنفسهن للرجال، وأنه وقف على بثينة وأختها أم الحسين، فرأى منهن منظراً أعجبه، وعشق بثينة. وإذ عرف القوم حبه لها من نظراته نحوها، وحالوا بينه وبينها إلى حين، نظم في ذلك كثيراً من أبيات النسيب، التي كان لها أبلغ الأثر في نفس الفتاة، فاتخذت قرارها بملاقاته، والاختلاء به «عند غفلات الرجال». على أن الأمور لم تجرِ على الدوام وفق هوى الفتى العاشق. وإذ حدث أن نجح أهل بثينة وعشيرتها في تشديد الرقابة على فتاتهم، ومنعها من لقائه، كان أهل جميل بالمقابل يشدون من أزره، ويحثونه على هجرها ومبادلتها الصد بالصد. لكن مكابرته لم تكن لتدوم طويلاً، فنظم من الشعر ما يصل إلى تخوم اللوعة، والشعور الممض بالذنب، كقوله لها:

لا تحسبي أني هجرتك طائعاً حدثٌ لعمرك رائعٌ أن تُهجري

يهواكِ ما عشتُ الفؤادُ فإن أمتْ يتبعْ صداي صداك بين الأقبرِ

ما أنتِ والوعد الذي تعدينه إلا كبرق سحابةٍ لم تمطرِ

ومن يتتبع سيرة جميل في عشقه لبثينة، فلا بد أن يلاحظ حرص الطرفين على إلباس علاقتهما لبوس الطهر، وإبعادها عن جموح الغريزة وشهوات الجسد. وقد جاء في بعض الروايات أن أبا بثينة وأخاها قررا التلصص على إحدى خلواتها مع جميل، وقد امتشقا سيفيهما استعداداً لقتلهما معاً في حال قيامهما بما ينافي الحشمة، وحين تسللا خفية إلى مكان اللقاء، سمعا جميلاً يطلب من بثينة أن تجزيه على ما تُسببه له من آلام، كما يحدث عادة بين المتحابين، حتى إذا احتجت بثينة على طلبه ارتاح لذلك الاحتجاج قائلاً لها إنها لو رضيت بارتكاب الإثم لهجرها إلى الأبد، مذكراً إياها بأبياته:

وإني لأرضى من بثينة بالذي لو ابصره الواشي لقرّت بلابلُه

بلا وبألّا أستطيع وبالمنى وبالأمل المرجوّ قد خاب آملُه

وبالنظرة العجلى وبالحوْل تنقضي أواخرُهُ لا نلتقي وأوائلُه

ويضيف الرواة أن أبا بثينة، وقد وقف على ما حدث بين ابنته وشاعرها العاشق، لم يتوانَ عن مخاطبة ابنه بالقول: «قم بنا، فما علينا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها»، فانصرفا وتركاهما. ومع ذلك فإن الرواة قد نسبوا مثل هذه الحادثة وأشباهها إلى غير واحد من عشاق بني عذرة، وهو الأمر الذي خلط الأوراق بين سِيَرهم، ودفع ناقداً كبيراً كطه حسين إلى القول إن في قصة جميل وبثينة «سخفاً وإحالات كثيرة»، مشككاً في صحة الوقائع المنسوبة إلى العذريين، وصولاً إلى التشكيك في وجود بعضهم في الأصل.

غير أن في شخصية جميل وأشعاره ما يدفعنا إلى وضعه في خانة ملتبسة؛ بين أهل التعفف وأهل الإباحة والحب الجسدي، أو بين قيس بن الملوح وعمر بن أبي ربيعة. فالشواهد الكثيرة على عفته وعذاباته وانقطاعه لحبيبته، شأن قيس، تقابلها شواهد أخرى على اختلائه المتكرر ببثينة بعد زواجها، ومن ثم تعلقه بالنساء على نحو عام، إضافة إلى تباهيه بوسامته وشجاعته وجنوحه إلى المغامرة، حتى لو قاده ذلك إلى النفي أو أودى بحياته. فقد رُوي أن جميلاً انتحل في إحدى زياراته لبثينة صفة مسكين جائع، وأنها أحرقت ثيابها عامدة لتستحث قومها على مساعدتها، حتى إذا قاموا بالمهمة وعادوا إلى مضاربهم، أرسلت جاريتها في طلب جميل، فلما حضر «حبسته عندها ثلاث ليال».

وفي حادثة أخرى مماثلة، لا تتوانى بثينة في غياب زوجها عن أن تُضجِع جميلاً إلى جوارها طيلة الليل، حتى إذا نقل أحد عبيدها الخبر إلى زوجها وذويها، وهرعوا إلى المكان شاهرين سيوفهم، أصر جميل على مواجهتهم جميعاً، لولا أن بثينة دعته إلى التواري عن الأنظار؛ درءاً للفضيحة، طالبةً من أختها «أم الحسين» الاضطجاع في سريرها؛ للخروج من المأزق. ومع اقتحام جميل المتكرر لمنزل بثينة الزوجي، فإن من الصعب على المرء، ومهما بلغ به حسن الظن، أن يصدق اكتفاء الطرفين باستلقاء أحدهما البريء إلى جانب الآخر، خصوصاً أن كليهما كان يعيش آنذاك اندفاعة الصبا واحتداماته المؤرقة.

من يتتبع سيرة جميل في عشقه بثينة، فلا بد أن يلاحظ حرص الطرفين على إلباس علاقتهما لَبوس الطهر وإبعادها عن جموح الغريزة وشهوات الجسد

وإذ لا يتردد الأصفهاني (ومن بعده طه حسين وصادق جلال العظم) في إبداء شكوكه حول الطبيعة العفيفة للعلاقة بين الطرفين، ينقل عن والد جميل قوله له: «يا بني، حتى متى أنت عمِهٌ في ضلالك، لا تأنف من التعلق بذات بعل يخلو بها ثم تقوم من بعده إليك، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة؟!». ومع أن جميلاً لا ينفي أو يؤكد المرامي الضمنية التي يشير إليها أبوه، غير أن ما ينفيه هو قدرته على الابتعاد عن بثينة، التي اعتبر حبه لها «بلاءً ابتُلي به» ولا يملك له دفعاً.

ويتضح من سيرة جميل أنه كان معجباً أيما إعجاب بشعر عمر بن أبي ربيعة وشخصيته، وهو الذي كان يشاركه الوسامة، وطول القامة، والرغبة في إغواء النساء. وكانت «أم الحسين» إحدى الفتيات اللواتي استهوينه وشبَّب بهن قبل تُعرفه إلى أختها بثينة. كما يتشاطر جميل مع عمر شجاعته الفائقة إلى حد التهور، وهو الذي لم يتوانَ عن انتضاء سيفه في وجه أبيها وأخيها، حين داهماهما ذات لقاء، مما اضطرهما إلى الفرار والانكفاء عن مواجهته طلباً للنجاة. ومع أن اسمي عمر وجميل قد ارتبطا عبر الزمن بشكلين متعارضين من أشكال الحب، فقد بدا الأول وكأنه الضمير المستتر للثاني، الذي كان يشاركه في قرارته بالانتماء إلى المجرى الموحد للأنوثة الكونية، كما يظهر في قوله:

يقولون جاهد يا جميل بغزوةٍ وأيَّ جهادٍ غيرهنّ أريدُ

لكل حديثٍ بينهن بشاشةٌ وكلُّ قتيلٍ دونهنّ شهيدُ

وإذ يعُد عمر نفسه معنياً بالجمال الأنثوي أينما كان، وهو القائل: «إني امرؤ موكَلٌ بالحسن أتبعه»، يكرر جميل المعنى نفسه عبر قوله:

يقولون صبٌّ بالغواني موكّلٌ وهل ذاك من فعل الرجال بديعُ

وقالوا رعيتَ اللهوَ والمالُ ضائعٌ فكالناس فيهم صالحٌ ومضيعُ

كما يرى جميل أن العلاقة بين العاشق والمعشوق لا بد أن تتعرض للضمور والتلف، ما لم يعمد الطرفان إلى تجديدها، وتوثيق أواصرها، عبر إدارة التناوب المستمر بين الوصال والنأي، أو بين الحضور والغياب. ولعله الوحيد بين شعراء بني عذرة الذي امتلك الجرأة على الاعتراف بأن النأي المتقطع بين المحبين هو الشرط الأهم لبقاء الحب في حالة اشتعال. وعن ذلك يقول قاصداً بثينة:

يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ويحيا إذا فارقتها فيعودُ

لكن من موجبات الإنصاف الإقرار بأن صراع الخيارات المتعارضة، الذي كان قلب جميل وعقله مسرحاً له، لم يستطع أن يخفف من تعلقه المرَضي ببثينة، بدليل أن الأثمان التي دفعها كانت من الفداحة بحيث أهدر السلطان دمه غير مرة، فبات طريدها الأبدي، وعمد إلى الهرب تارة إلى اليمن، وطوراً إلى الشام، وطوراً ثالثاً إلى مصر، حيث قضى نحبه هناك. ويروي الأصمعي أن جميلاً حين أحس بدنو الأجل، استدعى رجلاً من معارفه، وقدم له كل ما يملك مقابل أن ينقل إلى بثينة أبياتاً يرثي بها نفسه قائلاً:

صدُع النعيُّ وما كنى بجميلِ وثوى بمصرَ ثواءَ غيرِ قَفولِ

ولقد أجرّ الذيلَ في وادي القرى نشوانَ بين مَزارعٍ ونخيلِ

قومي بثينةُ واندبي بعويلِ وابكي خليلكِ دون كلّ خليلِ

وقد وقع الخبر على بثينة وقوع الصاعقة، وبخاصة بعد أن تيقنت من صحته، وأخرج الرسول القادم من مصر حلة جميل، والرقعة التي تحمل أبياته، فبكت وأبكت معها نساء الحي، ثم وقعت مغشياً عليها، حتى إذا استيقظت نهضت وهي تردد هذين البيتين اللذين لم ينقل الرواة عنها سواهما أبداً:

وإنّ سُلُوّي عن جميلٍ لساعةٌ من الدهر ما حانت ولا حان حينُها

سواء علينا يا جميل بن معْمَرٍ إذا متَّ بأساءُ الحياة ولينُها


مقالات ذات صلة

مصر تحتفي بـ«اليوم العالمي للغة العربية» بندوات وأمسيات شعرية

يوميات الشرق جانب من احتفال المجلس الأعلى للثقافة باليوم العالمي للغة العربية (وزارة الثقافة المصرية)

مصر تحتفي بـ«اليوم العالمي للغة العربية» بندوات وأمسيات شعرية

احتفت مصر باليوم العالمي للغة العربية الذي يحل في 18 ديسمبر (كانون الأول) بتنظيم ندوات وأمسيات شعرية.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)

قافلة من الشعراء تشعل ليالي الكويت الباردة في «دورة البابطين» الثقافية

أشعلت كتيبة من الشعراء، تقاطروا من كل أرجاء العالم العربي، لياليّ الكويت الباردة بالدفء والمشاعر الصاخبة، في توليفة من العشق والغزل والحنين والافتجاع.

ميرزا الخويلدي (الكويت)
يوميات الشرق حمل سعيد عقل في قلبه وعقله روح لبنان الخالدة (فيلوكاليا)

لبنان سعيد عقل... أملٌ بين الركام

في كل مرة تنظّم «فيلوكاليا» أمسية، تنهمك رئيستها الأخت مارانا سعد بتتبُّع التفاصيل والحرص على الأناقة. تقول لـ«الشرق الأوسط» إنّ حجم الحضور بدا مفاجئاً...

فاطمة عبد الله (بيروت)
تكنولوجيا غالبية القُرَّاء يرون أن الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد شعر أفضل من البشر (رويترز)

دراسة: الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد أفضل من البشر

أكدت دراسة جديدة أن قصائد الشعر التي تكتب بواسطة أنظمة الذكاء الاصطناعي أفضل من تلك التي يكتبها البشر.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.