جدار عازل يقسم الثقافة إلى ثقافتين والقص إلى قصين

أسامة المسلم ونظراؤه من هامش الأدب إلى متن الدراما والسينما السعودية

أسامة المسلم
أسامة المسلم
TT

جدار عازل يقسم الثقافة إلى ثقافتين والقص إلى قصين

أسامة المسلم
أسامة المسلم

عندما طلب الشاعر فهد عافت، من متصل مشارك في برنامج المسابقات «الجمل بما حمل» الذي قدّمَه في رمضان الماضي، أن يجيب عن أحد أسئلة الاختيار المتعدد بتحديد رواية الكاتب أسامة المسلم من بين الروايات الأربع المعروضة عناوينها على الشاشة، تحولتُ على الفور إلى مشاركٍ منافسٍ للمتصل، فسبقته إلى الإجابة الصحيحة بدون تلقي أي مساعدة من مُقَدِّم البرنامج الذي كان، أحياناً، يبسط الطريق سهلةً أمام المشاركين إلى الإجابات الصحيحة. كان المقدم الشاعر كريماً في شهر كريم وكانوا «يستاهلون»؛ وكانت رواية «بساتين عربستان» الاختيار الصحيح.

إجابتي الصحيحة عن السؤال لا تعني إطلاقاً أنني من قُرّاء روايات المسلم؛ ولو أن برنامج «الجمل بما حمل» عُرِضَ في شهر غير رمضان، في شعبان مثلاً، أو في رجب، ما استطعت الإجابة عن سؤال الشاعر عافت. ففي شعبان لم أكن أعرف أن المسلم أصدر ما يزيد على 20 رواية ابتداءً من عام 2015. لم أكن أعرف من رواياته قبل رمضان سوى روايته الأولى «خوف»، بالتحديد الجزء الأول من السلسلة - المسلم صاحب سلاسل من الروايات.

كانت «خوف» المسلم ولا تزال تشغل، ولبضع سنوات، حيزاً على أحد الرفوف فيما أسميها «مكتبتي». كلما امتدت إليها يدي عازماً على «المغامرة» بقراءتها، أعدتها إلى مكانها مؤجلاً ذلك إلى أجل غير مسمى، لأسباب ثلاثة: إمّا لكوني غير جاهز للقيام بتلك «المغامرة» التي ليس لدي أقل تصور مسبق أو توقع لنتائجها، أو بسبب المتبقي في داخلي من الجدار، أو ببساطة لأنها تخفق في منافسة الروايات والكتب الأخرى على قائمة قراءاتي، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة. تكرر امتداد يدي إليها بمرور الأيام، وتكررت إعادتها إلى مكانها. وظلت «خوف» بجزئها الأول رواية المسلم الوحيدة التي أعرف إلى شهر رمضان الماضي.

كان رمضان شهر ما يمكن أن أسميها «مغامرة» الدخول في عوالم المسلم السردية بعد اتخاذ القرار بشراء وقراءة أربع من رواياته الصادرة في 2022: رواية طويلة بعنوان «هذا ما حدث معي»، وثلاث روايات قصيرة (نوفيلات): «جحيم العابرين»، و«أرض القرابين» و«شبكة العنكبوت». كنت قد تزودت قبل شرائها بمعلومات عن سيرة وإصدارات المسلم من الموسوعة الإلكترونية «ويكيبيديا».

فما الذي حدث؟ ما الذي جعلني أتغلب على ترددي عن قراءة رواية واحدة، إلى اقتناء أربعٍ من روايات المسلم، والعزم على قراءتها؟ الإجابة تبدأ من معرض المنطقة الشرقية للكتاب، من ذلك المساء الذي شكّل فيه قُرّاء المسلم طابوراً طويلاً، كل قارئ يتنظر الحصول على توقيعه على الرواية التي يحملها. بسبب الذهول من مرأى الحشد الكبير في المساحة أمام «مسرح إثراء»، حيث تقام الفعاليات الثقافية والأدبية، لم أهتم بمعرفة الرواية أو الروايات التي سيحضر المسلم لتوقيعها. ولم يكن ذلك مهماً. كان المهم معرفة الأسباب التي تدفع ذلك الحشد للوقوف لوقت غير قصير في انتظاره. هذا التزاحم في انتظار وصول المسلم إلى منصة التوقيع يتناقض تناقضاً صارخاً مع العدد الصغير لحضور الفعاليات الثقافية في المسرح. ما الذي يجعل هؤلاء يأتون مجموعات وفرادى للحصول على توقيعه؟ ما الذي يجذبهم إلى شراء وقراءة أعماله وأعمال نظرائه؟ عن أي شيء يبحثون فيها؟ أي تجربة قرائية توفرها لهم؟

كان البحث عن إجابة عن تلك الأسئلة السابقة الدافع الأول لإقبالي على الحصول على رواياته تلك، أما الدافع الآخر فكان الرغبة في هدم المتبقي من الجدار في وعيي، وفي داخلي: الجدار الذي يقسم الثقافة إلى ثقافتين، عليا ودنيا، والقص إلى قصين «قص أدبي» أحد معطيات وعناصر الثقافة العليا و«قص شعبي» منتمٍ إلى الثقافة الدنيا، أو ما يعرف بالقص التجاري أو «genre fiction». إن عزوفي الواضح في إرجائي قراءة «خوف» المسلم هو بلا شك بسبب المتبقي من الجدار الفاصل بين النوعين من القص. وجود ذلك الجدار، أو ما تبقى منه، مؤشر على تناقض، أو التناقض في داخلي.

عزوفي عن قراءة رواية المسلم ونظيراتها من الروايات المحلية والعربية هو الدليل الملموس على ذلك التناقض. فلماذا أرى عزوفي كاشفاً لواحدٍ من تناقضاتي، أقول تناقضاتي لأنني لست متأكداً من عدم وجود تناقضات غيره؟ لإيضاح هذه النقطة، إنني لا أتردد عن قراءة رواية من القص الشعبي (popular fiction) البريطاني والأمريكي على وجه التحديد، ومن أي «نوع/genre» تكون: رومانس، وخيال علمي، وبوليسية، وأكشن، ورعب، وإثارة. وعلى نحو متقطع، تتوازى قراءتي للقص الشعبي أو الرائج أو القص التشويقي كما يسميه آخرون أيضاً، مع قراءتي ودراستي للقص الأدبي. ولا أكتفي بقراءة النصوص فقط، بل يمتد اهتمامي إلى ما يقع في متناول يدي من قراءات نقدية ودراسات أدبية عن القص الشعبي، خصوصاً في العقدين الأخيرين. فابتداء من تسعينات القرن الماضي، تسارعت وتيرة التغير في الموقف من القص الشعبي على صعيد النقد والتنظير والدراسات الأدبية، وازداد الإقبال على نقده ودراسته زخماً بمرور الأيام. لم يعد يُنظرُ إليه باستعلاء واستهانة معاً، وأنه لا يستحق التفات النقد أو الناقد إليه. لقد أطاح النقد بالجدار الفاصل لقرون بين القصين، وانفتح على ما كان مهمشاً ومهملاً. بالإضافة لذلك، انفتح المنهج الدراسي في الثانوية والدراسة الجامعية بمستوياتها المختلفة لتدريس القص الشعبي في المملكة المتحدة وآيرلندا والولايات المتحدة، وفي أنحاء أخرى من العالم، حسب ما تذكره بيرنيس ميرفي وستيفن ماتِرسَن في مقدمة الكتاب الذي جمعا وحررا المقالات التي يحتويها وصدر عن مطبعة جامعة أدنبرة بالعنوان «القص الشعبي في القرن الواحد والعشرين، 2018».

وكما انفتح المنهج الدراسي للأدب القصصي الشعبي، مُهِدَّت الطريق أمامه بشكل غير مسبوق إلى الجوائز الأدبية المرموقة. ففي عام 2017، فازت الرواية «السكة الحديدية تحت الأرض» لكولسون وايتهيد بجائزة «بوليتزر»، ووصلت إلى القائمة القصيرة أيضاً لجائزة آرثر سي كلارك البريطانية للخيال العلمي. ورشحت رواية جيليان فلين «الفتاة المفقودة/ Gone Girl» لجائزة «بيلي» للقص النسائي البريطانية 2013.

لم تفز رواية جيليان بأي جائزة لكنها حققت رواجاً كبيراً وحظيت باهتمام نقدي لافت، وعدها البعض إضافة متميزة إلى أدب الجريمة والإثارة الذي أطلقت عليه الروائية جوليا كرواتش مصطلح «Domestic Noir». تشرح كراوتش أن هذا النوع من رواية الإثارة تقع أحداثه في المنازل وأماكن العمل، ويهتم بشكل كبير بالتجربة الأنثوية، منطلقاً من رؤية نسوية واسعة بأن الفضاء المنزلي قد يمثل تحدياً وأحياناً مصدر خطر لسكانه.

الملايين من الناس عبر العالم لا يقرأون الروايات الشعبية لأنها من أدب الثقافة الدنيا، لكنهم يشاهدون المئات من الأفلام والمسلسلات المستوحاة منها

ويلفت الفيلم «الفتاة المفقودة» بتقنيته السردية انتباه الناقد وارِن بَكْلاند فيختاره إلى جانب «غوراسيك بارك» موضوعاً للفصل الثالث (السرد/Narration) من كتابه «Narrative and Narration». يركز بكلاند في هذا الفصل على تفحص وشرح عنصرين أساسين من عناصر السرد السينمائي: 1- التقنيات التي تنظم وتتلاعب في تقديم المعلومات السردية لمشاهد الفيلم؛ 2- الفواعل السردية. ويعود بكلاند إلى الفيلم نفسه ومعه فيلم آخر «أورلاندو» ليجعلهما موضوعاً لتنظيره وتحليله في الفصل الخامس من الكتاب المعنون بــ«النسوية والسرد والتأليف».

قد لا يتحقق للقص الشعبي الذي يؤلفه المسلم وآخرون في المملكة ما تحقق للأدب الشعبي أو الرائج أو التشويقي في ثقافات أخرى من اهتمام نقدي وتنظيري أو إلحاق بالمنهج الدراسي، أو يسقط الجدار العازل القديم بسرعة. لكن أتوقع أن وصول مؤلفاتهم إلى الشاشة الكبيرة أو الصغيرة سيكون أسرع على الأقل في الداخل. في الأمس القريب، الأحد 3 سبتمبر (أيلول)، عُرض فيلم «القاتل» في مهرجان البندقية السينمائي الدولي (80). الفيلم إخراج ديفيد فينتشر، مخرج «الفتاة المفقودة»، ومبني على الرواية المصورة للفرنسي ألكسيس نولنت.

لم أقرأ الرواية، ولن أقرأها، لكن سأشاهد الفيلم «القاتل» عند عرضه عبر إحدى منصات البث التدفقي في نوفمبر (تشرين الثاني). هذا ما يحدث طوال الوقت، هذا ما يفعله الملايين من الناس عبر العالم. قد لا يقرأون الروايات الشعبية لأنها من أدب الثقافة الدنيا، ولكنهم يشاهدون المئات من الأفلام والمسلسلات المستوحاة منها. لكن على المسلم أن ينظر بعين ناقدة إلى ما يكتبه وكيف يكتبه و«كمية» ما يكتبه.

- ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

ثقافة وفنون الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

لو وُجِد دوستويفسكي أو تولستوي أو ملفيل أو ستاندال أو جين أوستن في عصرنا هذا فهل كانوا سيكتبون روائعهم الروائية بالطريقة ذاتها التي جعلت منها كلاسيكيات عظيمة؟

لطفية الدليمي
ثقافة وفنون وليم جيمس مدافعاً عن الفلسفة

وليم جيمس مدافعاً عن الفلسفة

عن دار «أقلام عربية» في القاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «بعض مشكلات الفلسفة» للمفكر وعالم النفس الأمريكي الشهير وليم جيمس (1842 – 1910)

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «فتنة الأطياف»... عن أفلام ومهرجانات ومجانين السينما

«فتنة الأطياف»... عن أفلام ومهرجانات ومجانين السينما

عن «دار صفصافة» بالقاهرة (2025)، صدر حديثاً كتاب «فتنة الأطياف... أفلام ومهرجانات» للكاتب والروائي المصري سعد القرش، الذي جاء في تقديمه: وضعت البشرية ملامح…

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون أسامة منزلجي

أسامة منزلجي... مبدع كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري.

فخري كريم
ثقافة وفنون «مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

«مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

يعبر ديوان «مزرعة السلاحف» للشاعر المصري عيد عبد الحليم، الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر فصحى في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، عن حالة شعورية واحدة

عمر شهريار

أسامة منزلجي... مبدع كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

أسامة منزلجي
أسامة منزلجي
TT

أسامة منزلجي... مبدع كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

أسامة منزلجي
أسامة منزلجي

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري. ورغم اعتذاراتي التي لم تتوقف حتى آخر اتصال بيننا، ظل يوحي كما لو أنه لا يعرف سبب الاعتذار، مُضمراً هو الآخر أسفاً على تسرّعٍ في التباسٍ عابر.

وهكذا بدأت رحلة تعاون لم تنقطع على مدى أكثر من عقدين من الزمن. كان أسامة منزلجي* لا يفارق مكتبه في غرفته المسوّرة بالصمت والعزلة الإبداعية، حيث العوالم الافتراضية بأبطالها وحكاياتها وأحداثها تُغني عزلته وتبهره بقيمها الجمالية، وترتقي به إلى حيث يتجاوز الواقع التافه والمتداعي واللامجدي.

لم يكن بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبداً، لكنها عاشت فيه.

كانت الترجمة بالنسبة له أكثر من مجرد عمل، بل كانت وسيلته السرية للتمرد، وطريقه الوحيد لملامسة الحافة الخطرة التي لم يقترب منها في واقعه اليومي.

من «الإغواء الأخير»، أول منجز نشره مع «المدى»، تابعت حيويته ونشاطه وثراء معرفته وتفاصيل ما يعيد خلقه وهو يترجم عيون الأدب العالمي، وفقاً لرؤية صادمة ومحاكاة لما كان يتوق إليه من حياة يتطلع إليها، قد تكون نقيضاً لواقعه المعيش. وحتى آخر عمل خطته يداه، كانت كل ترجمة يخوضها نوعاً من العيش البديل. لم يكن مجرد ناقل للأدب، بل كان كائناً يعيش داخل النصوص، يتماهى مع شخصياتها، ويعيد خلقها بلغته، مانحاً إياها بُعده الخاص. كانت كل كلمة يخطها طريقاً إلى الحياة التي لم يعشها، وكل جملةٍ مغامرةً لم يختبرها إلا عبر الصفحات. وبهذا الشغف العشقي، تكاملت أدوات أسامة منزلجي، وقد كان من بين أغلب مترجمي «المدى» هو من ينتقي الأعمال التي يتولى ترجمتها، واختياراته كلها تعكس سويته وتنبض بحساسيته ورهافة مشاعره الكامنة، بينما تثير الكثير من الأعمال المنتقاة المنشورة تساؤلاً لافتاً: لماذا كانت أبرز تلك الأعمال نقيض حياته الشخصية؟ فأُسامة العصامي، المفتون بالاكتفاء ربما على كل صعيد، المنعزل عن صخب الحياة وضجيجها، المتصوف «المترهبن» رغم اعتراضه على التوصيف، مستعيضاً عنه بالقول «أسلوب حياة محسوب بدقة» كما يذكر صديقه الكاتب والمترجم زياد عبد الله، يجد شغفه في اختيار أعمال تضج بكل ما هو ضد وصادم، كل ما هو منشغل بالمتع والملذات ومتجاوز لكل تحريم. لماذا اختار عملي هنري ميللر «ثلاثية الصلب الوردي» و«مدار السرطان» التي حاولت صديقته الوفية أناييس نن نشرها في الولايات المتحدة ولم تجد إلى ذلك سبيلاً، فطُبعت في باريس عام 1934، ولتتفنن بعدئذٍ في تهريب نسخ منها إلى الولايات المتحدة، بينما لم يجد عزرا باوند وهو يقرض الرواية سوى القول: «هاكم كتاب قذر يستحق القراءة!»، ولم يجاهر ت. إس. إليوت بإعجابه الشديد بها، مكتفياً بتوجيه رسالة إلى ميللر يثني عليها.

لم يكن اختياره عملي هنري ميللر «مدار السرطان» و«ثلاثية الصلب الوردي» اعتباطياً، بل كان انعكاساً لرغبة دفينة في استكشاف النقيض المطلق لحياته. كان أسامة العصامي، المنعزل، المتقشف، الذي يقضي أيامه في صمت مدروس، ينتقي أعمالاً تضج بالحياة الصاخبة، المغامرة، الجنس، التمرد، وكأنه يعيد تشكيل عالم لم يُكتب له أن يكون جزءاً منه. كان يعيش حياة المؤلفين الذين ترجمهم دون أن يغادر غرفته، يرافقهم في تيههم بين القارات، يتنقل معهم بين فنادق رخيصة وكهوف مظلمة، يشرب معهم في حانات باريس، ويشقى معهم في فقرهم المدقع.

لم يكن أسامة بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبداً

لماذا كان هذا الانجذاب إلى حياة لم يعشها؟ هل كان يحاول موازنة عزلته؟ أم كان يرى في الترجمة نوعاً من «الحياة البديلة» التي اختبرها دون أن يدفع ثمنها؟ مهما كان الجواب، فقد كان أسامة مترجماً لا يُشبه غيره. لم يكن مجرد ناقل للنصوص، بل كان صانعها الجديد، يبث فيها روحه، يذيب شخصيته في شخصياتها، حتى تكاد تلمح صوته بين الأسطر.

لم يكن من أولئك الذين يتباهون بأعمالهم، ولا من أولئك الذين يلهثون خلف الأضواء. كان مترجماً يعيش في الظل، تماماً كما كان يعيش في الحياة. اختار أن يترجم أدب المغامرة دون أن يغامر، أدب التهتك دون أن ينغمس فيه، أدب الفوضى وهو في عز انضباطه.

رحل أسامة في غمضة عين، مستريحاً وهو نائم إلى حيث النوم الأبدي. وكأن كل تلك الحيوات التي عاشها بين الكلمات قد استنزفت طاقته على الحياة. لكنه ترك خلفه إرثاً من الترجمة لم يكن مجرد نقل للمعنى، بل كان استنساخاً لروح النص، ومرآةً تعكس روحه هو، تلك الروح التي ظلَّت تبحث عن حيواتٍ لم تكن لها، حتى صارت جزءاً منها. لقد عوض نمط حياته الهادئ بترجمة المغامرين والمتمردين والمتهتكين وكأن الترجمة كانت طريقه الوحيد لخوض الحياة التي لم يعشها. نوع من الاغتراب العكسي، حيث لم يكن بحاجة إلى السفر الجسدي لأنه سافر عبر النصوص، وعاش حيوات بديلة من خلال الكلمات التي كان ينقلها.

* المترجم السوري الذي رحل في السابع من هذا الشهر، مخلفاً وراءه أكثر من ستين كتاباً مترجماً من أمهات الأدب العالمي.